هل تنتقل الصدمة الناجمة عن العنف بالوراثة؟

دراسة عن اللاجئين السوريين تشعل الجدل بين العلماء

كشفت دراسة حديثة عن وجود بصمات فوق جينيّة تشير إلى توارُث الصدمات النفسية المرتبطة بالتعرُّض للعنف عبر ثلاثة أجيال من اللاجئين السوريين. وباحثون ينادون بالتمهُّل وعدم التسرُّع في تفسير النتائج، ويدعون إلى التحقق من صحتها بإجراء دراسات أخرى...

كشفت دراسة حديثة عن وجود بصمات فوق جينيّة تشير إلى توارُث الصدمات النفسية المرتبطة بالتعرُّض للعنف عبر ثلاثة أجيال من اللاجئين السوريين. وباحثون ينادون بالتمهُّل وعدم التسرُّع في تفسير النتائج، ويدعون إلى التحقق من صحتها بإجراء دراسات أخرى.

أجرى فريق من العلماء دراسة على عائلات عايشت الصراعات التي جَرَت على أرض سوريا، وانتهوا من دراستهم إلى أن البصمات الجينية للصدمات النفسية التي تعرَّضوا لها قد انتقلت إلى أبنائهم، ومنهم إلى الأحفاد.

تركِّز الدراسة1 على فكرةٍ طالما اختلف حولها العلماء، تقول بأن الصدمة النفسية قد تترك آثارًا أو علامات فوق جينية (epigenetic marks) على الجينات، وهذه العلامات يمكن أن تورَّث للأجيال التالية. وهي فكرة لا تلقى إجماعًا في صفوف الباحثين ذوي الاختصاص، فمنهم من يستبعد إمكان توريث الصدمات النفسية بهذه الطريقة، ويرى أن الكيفية التي يتم بها هذا التوريث غير معروفة. إلا أن نتائج الدراسة التي بين أيدينا تنسجم مع نتائج دراسات سبق أن أُجريَتْ على ذُرية الناجين من الإبادة الجماعية في رواندا2 والمحرقة النازية3، وخرجت باستنتاجات مماثلة.

تقول رايتشل يهودا، عالِمة الأعصاب بكلية طب آيكان التابعة لمستشفى ماونت سايناي بمدينة نيويورك: "هي محاولة رائعة حقًا لفحص تلك البصمات البيولوجية التي تخلِّفها الصدمة العابرة للأجيال". غير أنها استدركت قائلةً إن الدراسة "ينبغي النظر إليها على أنها مجرد إثبات للفكرة"؛ فهي لا تبتُّ فيما إن كان لهذه العلامات البيولوجية تأثير في الصحة أو السلوك، ولا تشرح كيفية حدوث هذا التأثير.

في هذه الدراسة، المنشورة بدورية «ساينتفيك ريبورتس» Scientific Reports في فبراير الماضي، قارن الباحثون بين بيانات عشر عائلات فرَّت من سوريا على خلفية أحداث العنف التي شهدتها البلاد في ثمانينيات القرن المنصرم، و22 عائلة نزحت في أعقاب انتفاضة عام 2011، وجعلوا مجموعتهم الضابطة (أو مجموعة المقارنة) 16 عائلة سورية لم تتعرض لأي عنف مرتبط بالحروب. ثم كان أن حلَّل الفريق تلك العلامات فوق الجينية — وهي واسمات كيميائية تنطبع فوق تسلسلات الحمض النووي، وقد تنشأ من عوامل بيئية مثل الضغط النفسي — في أكثر من 850 ألف منطقة بالحمض النووي. وهذه العلامات لا تُدخل أي تغيير على بنية الحمض النووي، إلا أنها يمكن أن تؤثر في طريقة عمل الجينات.

وجد الباحثون أن الأشخاص، بالغين كانوا أو أطفالًا، الذين تعرضوا مباشرةً للعنف في ثمانينيات القرن الماضي وبعد عام 2011، يحملون علامات فوق جينية مميّزة في مناطق بعينها من الحمض النووي. وفي حالة امرأة شهدت وقائع عنف في الثمانينيات، لوحظ ظهور الواسمات نفسها في الحمض النووي لابنتها، بل ولدى أحفادها كذلك. وفي المقابل، لم يعثر الباحثون على أيٍّ من هذه العلامات فوق الجينية لدى أفراد المجموعة الضابطة. وقد كان عدد المشاركين الإجمالي 131 شخصًا.

تُعد الدراسة التي بين أيدينا "أول دراسة توثِّق وجود بصمات فوق جينية للصدمات النفسية عبر ثلاثة أجيال من البشر في دراسات منضبطة"، أي تعتمد على المقارنة بمجموعة ضابطة، حسبما ذكرت رنا الدجاني، عالمة البيولوجيا الجزيئية بالجامعة الهاشمية في مدينة الزرقاء الأردنية، وهي من بين المشاركين في إعداد الدراسة. وأضافت: "العبرة في العِلم بالخطوات الصغيرة، وهذه خطوة صغيرة — إلا أنها هائلة — على الطريق نحو فهم الوراثة فوق الجينية".

أربعون عامًا من الصدمة

عاش الشعب السوري حالةً من الصدمة المتصلة تقريبًا على مدى أكثر من أربعين عامًا. ففي يونيو من العام 1979، أطلق الرئيس الأسبق حافظ الأسد حملة أمنية لإجهاض محاولة تمرُّد. وفي عام 1982، قصفت قواته مدينة حماة أيامًا عدة، وراح ضحيَّة القصف نحو 30 ألف شخص.

تشارك في الدراسة سيدةٌ كانت شاهدةَ عيان على تلك الحملة: هي الآن جدّة، وكانت إذ ذاك حاملًا في ابنتها. وضمَّت الدراسة تسع نساء أخريات، كانت أمهاتهن شهودًا على أحداث عنف، وشارك في الدراسة أبناؤهن كذلك.

من بين المشاركين في الدراسة، شهدت 22 أمًّا مع أبنائهن البالغ عددهن 20 شخصًا موجة ثانية من أحداث العنف، هي تلك التي اندلعت في أعقاب الانتفاضة السورية في عام 2011. كان ذلك حين قرَّر الرئيس السابق بشار الأسد، الذي فرَّ من البلاد في ديسمبر الماضي، نشر قوات الجيش والجماعات المسلَّحة الموالية للنظام لصدّ المتظاهرين. يُذكر أن للأمهات المشار إليهن آنفًا من الذرية 19 ابنًا وابنةً آخرين، كان ميلادهم تاليًا لأحداث العنف تلك، وما تمخَّض عنها من صدمات نفسية، وقد شملَتْهم الدراسة أيضًا.

وللنظر فيما إن كانت الصدمات النفسية الناجمة عن أحداث العنف تلك قد خلَّفت علامات فوق جينية، وما إن كانت هذه العلامات تُتوارث عبر الخط التناسلي من الأم إلى أبنائها، ركَّزَتْ الدجاني وفريقها على أنماط بعينها من العملية التي تُعرف بمَثْيَلَة الحمض النووي (DNA methylation)، وهي الآلية البيولوجية فوق الجينية التي تنطوي على وسم الحمض النووي بمجموعات الميثيل. تقول الدجاني إن هذه واحدة من "أكثر [العمليات] التي خضعت للدراسة، ولدينا الآن من الإمكانات التقنية ما يعيننا على [دراستها]".

على مدى خمس سنوات، أخذ الباحثون يفتّشون عن أشخاص يمكن أن يشاركوا في الدراسة من الجالية السورية المقيمة في الأردن. وفي تعريف مفهوم التجربة العنفية التي تُفضي إلى صدمة نفسية، أوضح فريق الباحثين أنهم يقصدون بها التعرُّض للضرب المبرح أو التنكيل على يد قوات الأمن أو الجماعات المسلَّحة، أو رؤية شخص جريح أو ميّت، أو شخص يتعرَّض للضرب أو لإطلاق النار أو للقتل.

حلَّل الباحثون عينات الحمض النووي المأخوذة من المشاركين، من خلايا الوجنة، ووجدوا أن الأمهات والأبناء الذين تعرضوا مباشرةً لتجارب عنف مسبِّبة للصدمات النفسية في ثمانينيات القرن الماضي وبعد أحداث عام 2011 كانوا يحملون واسمات ميثيلية مميَّزة منطبعة على 21 منطقة من مناطق الحمض النووي.

كما كشف التحليل عن وجود الواسمات على 14 منطقة بالحمض النووي لدى الجدّة التي عايشت أحداث العنف بالثمانينيات، وكذا لدى ابنتها وحفيدتها. وعُثر على هذه الواسمات أيضًا لدى بنات السيدات التسع اللاتي شهدن تلك الأحداث، وأحفادهن.

يقول مايكل كوبور، الباحث المتخصص في علم الوراثة فوق الجينية بجامعة كولومبيا البريطانية في مدينة فانكوفر الكندية: "مراقبة [التغيرات] عبر جيلين على الأقل — إن لم يكن ثلاثة أجيال أو ربما حتى أربعة — أمرٌ في غاية الأهمية. وهو ليس بالممارسة الشائعة في الدراسات التي تُجرى على البشر".

إعادة ضبط الذاكرة

يختلف الباحثون حول ما إذا كانت علامات المَثْيَلة المنطبعة على الحمض النووي قابلة للتوريث من جيل إلى جيل. واختلافهم يرجع إلى أنه في أثناء المراحل المبكرة من نمو الثدييات، يخضع الجينوم لما يمكن وصفه بإعادة ضبط الذاكرة (وهي العملية التي يُطلها عليها: إعادة البرمجة فوق الجينية)، وتكون نتيجتها حمضًا نوويًا خاليًا من الواسمات الميثيلية.

يقول كوبور: "تُمحى هذه العلامات، جميعها تقريبًا، عندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة. وكل ما هنالك أنه لا يمكن من الناحية البيولوجية تصوُّر [عمليات] مَثْيَلة الحمض النووي بوصفها وسيطًا لانتقال [السمات] عبر الأجيال".

إلا أن دراسات حديثة4 على الحيوانات أظهرت أن عمليات المَثْيَلة في بعض المواضع من الحمض النووي "يمكن أن تُفلت من إعادة البرمجة"، حسبما تقول الدجاني.

يرى كوبور أنه ربما تكون هناك تفسيرات أخرى — بخلاف التفسير الوراثي — لظهور علامات المَثْيَلة المرتبطة بالصدمة، وعددها 14 علامة، في الحمض النووي للأبناء والأحفاد. يقول: "لا يبعُد أن تكون الصدمة التي تعرضت لها الأم قد انعكست على تربيتها للأبناء، ومن ثم ظهرت هذه العلامات في الجيل التالي".

وثمة احتمال ثان، على حد قول كوبور، هو أن تسلسلات الحمض النووي الموروثة من الأم ربما تتفاعل مع مسبِّبات الضغط النفسي في البيئة المحيطة على نحوٍ مماثل لما حدث في حالة الأم، فتكون النتيجة ظهور الواسمات الميثيلية نفسها.

وفي المقابل، أوضحت الدجاني أن العائلات المشمولة في مجموعة المشاركين الذين تعرضوا للعنف في الثمانينيات لم تكن تربط بينهم صلة دم. وهذا، حسبما ترى، يقلل من احتمال أن يكون عامل مثل التشارُك الجيني أو أسلوب التربية وحده هو الذي يقف وراء ظهور علامات المَثْيَلة نفسها في عائلات المجموعة العشر.

من جهتها، ترى رايتشل يهودا أن "توخّي الحذر واجب؛ بالنظر إلى نوع الأنسجة [المأخوذ منها العيّنات]، وحجم عيّنة الدراسة، وعدم وضوح تطبيقاتها الإكلينيكية". غير أنها تستدرك قائلةً إنها دراسة "طموحة"، مضيفة: "عندما تصل إلى نتائج كهذه، من الضروري أن تحاول [التحقق منها] بإعادة التجربة"، وفي الأثناء، تعتزم رنا الدجاني بحث البصمات فوق الجينية للأحداث المسبِّبة للصدمات النفسية لدى أربعة أجيال من الفلسطينيين.

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 28 مارس 2025.

اضف تعليق