حلم الحياة الأبدية الذي لا يزال يراود الملايين في شتى أنحاء العالم، قد يتحول إلى حقيقة، وفق ما يعتقده فريق من العلماء في معهد البيولوجيا الجزيئية، بعدما قطعوا شوطًا كبيرًا باتجاه تعرُّف آلية بلوغ الجسم مرحلة الشيخوخة وكيفية علاج هذه المرحلة أو تعطيلها، عن طريق الفهم الدقيق لعملية الالتهام الذاتي للخلايا...
دراسة حديثة تسعى لإيقاف زحف الشيخوخة وعلاج أمراض خطيرة مرتبطة بها، مثل السرطان وألزهايمر والشلل الرعاش، عن طريق التحكم في عملية الالتهام الذاتي للخلايا.
في عام 2009، حصلت إليزابيث بلاكبيرن -أستاذ علم الأحياء بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو- على جائزة نوبل للطب مشاركةً مع كارول جريدر وجاك زوستاك؛ لاكتشافهم إنزيم التيلوميريز، وهو الاكتشاف الذي وصفه البعض بثورة علمية، من شأنها أن تكون مفتاحًا للحياة الأبدية، في ظل ما يوفره من فهم لأسباب الشيخوخة والأمراض الوراثية. السيناريو ذاته تكرر مع حصول العالِم الياباني يوشينوري أوسومي على جائزة نوبل للطب عام 2016؛ لنجاحه في تحديد الجينات المسؤولة عن تنظيم عملية «الالتهام الذاتي للخلايا».
حلم الحياة الأبدية الذي لا يزال يراود الملايين في شتى أنحاء العالم، قد يتحول إلى حقيقة، وفق ما يعتقده فريق من العلماء في معهد «البيولوجيا الجزيئية» بمدينة ماينز الألمانية، بعدما قطعوا شوطًا كبيرًا باتجاه تعرُّف آلية بلوغ الجسم مرحلة الشيخوخة وكيفية علاج هذه المرحلة أو تعطيلها، عن طريق الفهم الدقيق لعملية الالتهام الذاتي للخلايا.
ووفقًا للدراسة، التي نشرتها دورية «جينز أند دفلوبمنت»، تمكَّن فريق البحث من إطالة عمر نوع من الديدان يسمى «الربداء الرشيقة C. elegans» بنسبة 50% عن طريق ما يُعرَف بالتعطيل العصبي لعملية الالتهام الذاتي، بل وتعزيز حالتها الصحية والجسدية إلى درجة "دراماتيكية".
توصلت الدراسة التي أُجريت حتى الآن على الديدان فقط، إلى أن ثمة جينات متصلة بالالتهام الذاتي -كالجين المعروف باسم pha-4، الذي يُعَد مسؤولاً عن تقييد استهلاك السعرات في الجسم- تعزِّز الحالة الصحية والبدنية في الديدان الصغيرة، لكنها مسؤولة في الوقت ذاته عن عملية تقدُّم العمر.
تدهور ما بعد الإنجاب
تنقل دورية «جينز أند دفلوبمنت» عن الباحث الرئيسي هولجر ريتشلين قوله: "كان الهدف الأسمى هو تعرُّف آلية بلوغ الجسم مرحلة الشيخوخة، وكيفية علاج هذه المرحلة أو تعطيلها، وتوصلنا إلى سلسلة من الجينات المعنية بتنظيم الالتهام الذاتي، الذي يُسهِم بدوره في تسريع عملية الشيخوخة"، موضحاً أنه "نظرًا لظهور تدهور طبيعي في عملية الالتهام الذاتي في الديدان كبيرة السن، وهي النتيجة ذاتها التي تطرأ على الإنسان، جرى تعطيل جينات رئيسية في بداية العملية، ما سمح للديدان بالعيش مدةً أطول، مقارنةً بحال تركها لتصل إلى حالة التدهور الطبيعية".
يضيف: "من خلال مسحة صغيرة نسبيًّا، وجدنا عددًا كبيرًا من الجينات تعمل بطريقة متضادة، فالجينات التي تشجع الشيخوخة هي ذاتها المهمة في عملية النمو والتطور، ولكن هذه الجينات البالغ عددها ٣٠ تمثل أولى الجينات التي جرى اكتشافها، وهي تحفز حدوث الشيخوخة في الديدان المسنَّة، وعند الأخذ بعين الاعتبار أننا اختبرنا 0.05% فقط من جميع الجينات الموجودة في الدودة، فإن هذا يعني أنه قد توجد جينات أكثر يمكن اكتشافها".
يوضح ريتشلين أن عملية الالتهام تعمل بطريقة جيدة للغاية في مرحلة الشباب، وهي ضرورية لبلوغ مرحلة النضوج، لكن بعد الإنجاب، تبدأ في الضعف، ما يؤدي إلى التقدم في العمر، وهذه النتائج توضح لنا بالفعل أن عملية الالتهام الذاتي هي بمنزلة عملية إعادة تدوير حساسة ومهمة لعيش حياة طبيعية كاملة، لكنها تصبح متدهورة بالكامل عند الديدان المسنَّة، وقد يجبرنا ذلك على إعادة النظر في أفكارنا حول إحدى أهم العمليات الأساسية الموجودة في الخلية؛ فعملية الالتهام الذاتي مفيدة دائمًا، حتى حينما لا تعمل، أو تعمل جزئيًّا. لكن بالمقابل، تكون هناك عواقب سلبية سيئة بعد الإنجاب؛ إذ يصبح الالتهام الذاتي مسؤولاً عن عملية الشيخوخة.
ويشير إلى أنه وفريقه تمكنوا من تتبُّع مصدر الإشارات التي تزيد طول العمر لنسيج معين، ومصدرها الخلايا العصبية، مضيفًا: "عن طريق تثبيط الالتهام الذاتي في الخلايا العصبية للديدان، لم ننجح بإطالة عمرها فقط، بل استطعنا تحسين صحتها بشكل كبير، لقد كانت الخلايا العصبية أكثر صحةً في الديدان التي خضعت للعلاج، ونعتقد أن هذا ما أبقى على باقي الجسم في حالة جيدة، والنتيجة النهائية كانت إطالة عمر الديدان بنسبة 50%".
نقطة تحول
يذهب محمد مدحت -أستاذ البيولوجيا الجزيئية بجامعة زويل للعلوم والتكنولوجيا- إلى أن الهاجس الأكبر يكمن في مدى إمكانية إجراء التجربة على الكائنات الحية الأعلى مرتبةً، وصولًا إلى الإنسان.
يقول مدحت -في تصريحات لـ"للعلم"-: "نحن العلماء بحاجة إلى العثور على الصلة بين الجينات البشرية المرتبطة ببعض الأمراض في مرحلة الشيخوخة ومن ثَمَّ التفكير في وسائل العلاج الممكنة ومخاطرها حال تطبيقها على الإنسان، والتجربة بمنزلة دليل ممتاز لدور عملية الالتهام الذاتي في تقدُّم العمر، ونتائجها مذهلة، لكنها لا تزال في مرحلة البحوث الأولية وهي الديدان"، مضيفًا أنه يمكن تطبيق التجربة على البشر، وإجراء دراسات جينية واسعة لاكتشاف علاقة بعض الأمراض ببعض الجينات في مرحلتي الشباب والشيخوخة.
بدوره، يشدد عمرو عبد المنعم -أستاذ الأورام بكلية الطب في جامعة كفر الشيخ- على أن نتائج الدراسة "تدفعنا إلى الاستمرار في إجراء تجارب تعديل جينات الالتهام الذاتي؛ للوصول بها إلى أقصى استفادة عند تطبيقها على الكائنات الحية، وعلى رأسها الإنسان".
ومن الناحية النظرية، يؤكد عبد المنعم في حديثه لـ"للعلم" أنه يمكن تعطيل الجينات والأنسجة المرتبطة بالالتهام الذاتي، ما يسمح بإطالة عمر كائن حي وتعزيز حالته الجسدية والصحية، لا سيما عند تحديد تلك الجينات المسؤولة عن إنتاج بروتينات متعلقة بالشيخوخة.
مجرد ورقة بحثية
هل يمكننا الاعتداد بورقة بحثية واحدة في علاج قضايا مصيرية لحياة الإنسان؟ تساؤل أثارته مها محمد راتب -أستاذ علم الأنسجة بكلية الطب بجامعة كفر الشيخ- مجيبةً دون تردد بـأنها "مجرد ورقة بحثية واحدة، ولم يطبَّق الجزء العملي فيها على عددٍ كافٍ من الكائنات في هذه المرتبة، فكيف إذًا يمكننا الاعتماد عليها أو الخروج بنظريات عن إطالة عمر كائن حي، بدايةً من الديدان وصولًا للإنسان".
وأوضحت "راتب" لـ"للعلم" أن "القول بأن تعطيل جين محدد يطيل عمر كائن حي، حتى إن كان دودة، يحتاج لمزيد من الأبحاث والدراسات".
من جهته، يرى توماس ويلهام -الباحث المشارك في الدراسة- أن "فهم جينات الالتهام الذاتي لا يقف عند الإسهام في إطالة عمر الكائن الحي فقط، بل يتعدى إلى إمكانية تقديم وسائل جيدة للبشرية للحفاظ على سلامة ترابُط الخلايا العصبية، وعلاج أمراض خطيرة مرتبطة بالشيخوخة، مثل السرطان وألزهايمر والشلل الرعاش واضطراب الأعصاب الوراثي".
اضف تعليق