يراقبك فيسبوك حتى يعرف ما يعجبك وما يغضبك، ثم يستخدم تلك المعلومات كي يبيع مساحات الإعلانات -بأعلى سعر- للشركات التي ترغب في الوصول إلى مستهلكين لديهم ملامح ملفك الشخصي تحديدًا، كما أنه يراقب ما يعجب الجميع، ثم يعرض لك المزيد من كل ما هو أكثر جاذبيةً في ذلك اليوم...
إذا استبعدت صور الرضع والصور المتحركة للقطط (GIF) ودعوات اجتماع لم الشمل التي تبعثها المدارس الثانوية، فستجد أن ما يكمن وراء التغذية الإخبارية على صفحتك الرئيسية على فيسبوك هو منصة من أكثر منصات الدعاية الموجهة فاعليةً في التاريخ.
يراقبك فيسبوك حتى يعرف ما يعجبك وما يغضبك، ثم يستخدم تلك المعلومات كي يبيع مساحات الإعلانات -بأعلى سعر- للشركات التي ترغب في الوصول إلى مستهلكين لديهم ملامح ملفك الشخصي تحديدًا، كما أنه يراقب ما يعجب الجميع، ثم يعرض لك المزيد من كل ما هو أكثر جاذبيةً في ذلك اليوم؛ إذ يستحسن تشجيعك على مواصلة التصفح حتى تلقى المزيد من الإعلانات.
وإذا تصادف أن "كل ما هو أكثر جاذبية" رسمٌ معادٍ للإسلام ينشره المتصيدون (trolls) ممن ترعاهم الدولة في روسيا ويقول: "اكتب آمين إذا أردت أن تظل تكساس مسيحية"، فسيكون ذلك ما تظهره الخوارزميات. تخيل فيسبوك بوصفه مضخةً للعواطف، فعندما تنتهي من قراءة منشور وقبل أن تتمكن من إغلاق التطبيق أو النقر على علامة تبويب متصفح آخر، تجد نفسك تتصفح المزيد على نحوٍ يكاد يكون استجابةً انعكاسية لا إرادية. في تلك اللحظة، يضخ فيسبوك منشورًا آخرَ مُختارًا بعناية كي يدفعك للضحك أو يثير غضبك وتستمر الدورة. فضلًا عن أن تقسيم المحتوى إلى أقطاب متعارضة يُبقي المضخة دومًا مُعدَّةً للإطلاق عن طريق إثارة أعصاب المستخدمين.
أضحت الآثار الجانبية لهذه الإستراتيجية واضحةً في بلدان مثل ميانمار والفلبين والولايات المتحدة، حيث غذت المعلومات المغلوطة التي تمت مشاركتها على فيسبوك الفرقة والقلاقل الاجتماعية. وخلصت كاثلين هول جيمسون -أستاذ الاتصالات بجامعة بنسلفانيا- في كتابها "الحرب الإلكترونية" (Cyberwar)، إلى أن إعلانات فيسبوك ومنشوراته المقدمة برعاية روسية قد أثرت في نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2016. لم يتوقع أحدٌ من العاملين في فيسبوك تلك التأثيرات، لكنها آثارٌ لا يمكن إخفاؤها ولا يمكن معالجتها من خلال إجراء تعديلات خوارزمية طفيفة، وذلك لأنها تجسد فيسبوك ذاته؛ فمضخة العواطف تقع في صميم نموذج الأعمال الذي يتبناه.
هل ثمة سبل أخرى لتصميم شبكات التواصل الاجتماعي؟ نعم ولا. ظللت أعوامًا أستمتع باستعمال شبكة تواصل اجتماعي تعتمد على استخدام الهاتف الذكي تسمى باث (Path) صممها عام 2010 أحد المديرين السابقين بفيسبوك يدعى ديف مورين، كنوع من المنصات المختلفة تمامًا عن فيسبوك، وكموطن للمجموعات الأصغر (في البداية حددت الشبكة عدد مستخدمي الشبكات بخمسين مستخدمًا فحسب). كان لشبكة باث واجهة تفاعُل ساحرة، ولكنها لم تجد قط مصدرًا ثابتًا للربح وأغلقت عام 2018. أما مشروع دياسبورا (Diaspora) فجمع 200,000 دولار على موقع كيكستارتر (Kickstarter) عام 2010، وكانت رؤيته تنطوي على إنشاء شبكة لامركزية، حيث يدير المستخدمين خوادمهم أو "حجيراتهم" “pods” الخاصة ويتحكمون في بياناتهم عليها.
لا يزال المشروع قائمًا كمشروع مفتوح المصدر، ولكن صعوبة إنشاء حجيرة على شبكة دياسبورا أسهَمَت في أن تظل قاعدةُ المستخدمين بها صغيرة. إن فشل تلك الشبكات صغيرة النطاق لا يبشر بالخير بالنسبة لخطة مارك زوكربيرج، التي أعلن عنها في مارس، وتهدف إلى إعادة تشكيل فيسبوك ليتمحور حول تبادُل الرسائل بين مجموعات صغيرة وخاصة.
دون وجود عائدات من الإعلانات القائمة على ضخ العواطف سيذبل فيسبوك ويضعف، ولا يمكن مطلقًا أن تظهر شركة تكوين شبكات اجتماعية أخرى تبلغ مستوىً عالميًّا مماثلًا لما وصل إليه فيسبوك. لكني أعتقد أن شركات أصغر نطاقًا من فيسبوك ستكون نافعة. ففيسبوك يؤدي جيدًا مهمة واحدة فقط: ألا وهي منع انقطاع الاتصال مع الأشخاص الذين لا يراهم المرء في كثير من الأحيان. وتوجد خدمات على نطاق أصغر تحقق الغاية نفسها، دون المجازفة بنسف نظمنا الديموقراطية.
على سبيل المثال، بعدما قررت أن أهجر فيسبوك، بدأت أسرتي في استخدام جروب مي (GroupMe)، وهو تطبيق مجاني لتبادل الرسائل النصية بين المجموعات مملوك لشركة ميكروسوفت. إنه تطبيق بسيط، لكن أداءه لا بأس به فيما يتعلق بمشاركة الصور والتحديثات التي اعتدنا في السابق مشاركتها على فيسبوك. أما لمشاركة الأخبار مع الأشخاص الذين طلبوا متابعة مشاريع الكتابة أو البودكاست الخاصة بي، فقد لجأت إلى منصات مثل جوجل جروبس (Google Groups) وميل تشيمب (Mailchimp). بل إنني أبعث أحيانًا برسالة بريد إليكتروني شخصية، أو (يا للعجب!) ملحوظة مكتوبة بخط اليد.
لقد أثار اهتمامي كثيرًا ما عرفته عن النتيجة التي توصل إليها روبين دنبار، عالِم النفس التطوري بجامعة أكسفورد، والتي تشير إلى أن فيسبوك لم يعزز فعليًّا من قدراتنا على تكوين الشبكات الاجتماعية. ففي دراسة عام 2016 لألفي مستخدم، أخبر المشاركين دنبار أن 28% فقط من أصدقائهم على فيسبوك يمكن اعتبارهم أصدقاء "حقيقيين" أو مقربين. تتناسب تلك النتيجة مع تجربتي، ولنكن صادقين مع أنفسنا، نسبة 72% المتبقية لا تستحق استثمارًا معرفيًّا كبيرًا، ولم يكونوا ليوجدوا في دوائرنا على الإطلاق لولا أن جعلت التكنولوجيا ذلك أمرًا في غاية السهولة.
في العام الماضي، فقدت صديقين عزيزين من أماكن عمل سابقة. مات الاثنان بعد إصابتهما بأمراض مفاجئة وصادمة دامت لفترة وجيزة. لم أعلم بخبر وفاتهما من التغذية الإخبارية على الصفحة الرئيسية لفيسبوك، بل تواصل معي مباشرةً الأصدقاء والزملاء وأفراد العائلة، وتشاركنا الذكريات والأحزان من خلال رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات والزيارات.
هكذا كان يمارس المجتمع دوره قبل فيسبوك، ويمكن لتلك المهارات أن تطفو على السطح مرةً أخرى، لكن ليس قبل أن نستعيد بعضًا من الطاقة المحتجزة في مضخة العواطف.
اضف تعليق