ظهر فن الخداع البصري لأول مرة في منتصف عشرينيات القرن الماضي، حين قام مجموعة من المعماريين المنتمين لمدرسة «الباوهاوس» الألمانية –والتي كانت تسعى لخلق تناغم بين الشكل والطبيعة- بتصميم مجموعة من الأشكال التي تستطيع خداع الناظر بسهولة اعتمادًا على قوانين البصريات وزوايا سقوط الضوء...
بقلم: محمد منصور
العين وظيفتها الرؤية، أما العقل فيبحث عن المعنى ويحاول تفسير الصور الواردة عبر العصب البصري، بل ويعقد المقارنات بين لون الجسم المنظور وألوان البيئة المحيطة به، مما يُسهل الوقوع في فخ الخداع البصري!
نشر عالم النفس الياباني <أكيوشي كيتاوكا> صورة على صفحته الشخصية بموقع فيسبوك، الصورة تحتوي على خطوط رمادية متقاطعة، تُشكل شبكة هندسية تسمى بمربع الألوان المتباينة، وتتألق في داخل المربع اثنتا عشرة نقطة سوداء. حصل المنشور على الكثير من المشاركات والتعليقات، فالمتابعون لم يتمكنوا من رصد جميع النقاط في آن واحد، ما يجعل تلك الصورة مثالاً صارخًا للخداع البصري. ويبقى السؤال: ما السبب العلمي لتلك الظاهرة؟
ظهر فن الخداع البصري لأول مرة في منتصف عشرينيات القرن الماضي، حين قام مجموعة من المعماريين المنتمين لمدرسة «الباوهاوس» الألمانية –والتي كانت تسعى لخلق تناغم بين الشكل والطبيعة- بتصميم مجموعة من الأشكال التي تستطيع خداع الناظر بسهولة اعتمادًا على قوانين البصريات وزوايا سقوط الضوء.
وفي منتصف الثلاثينيات، تمكن فنان الجرافيتي «فيكتور فازريلي» من ابتكار أول عمل تم تصنيفه كلون من ألوان الخداع البصري؛ إذ صمم لوحة فنية مؤلفة من خطوط متموجة سوداء وبيضاء، ووضع داخلها حمارًا وحشيًّا تصعب ملاحظته دون تدقيق.
ويُعرف الخداع البصري بأنه رؤية خادعة أو مضللة، تُصور للناظر مرئيات على غير حقيقتها؛ إذ ترى العين الصورة أو الشيء على خلاف الحقيقة، نتيجة مُعالجة خاطئة للدماغ. ويعتمد فن الخداع البصري –في الغالب- على مجموعة من القوانين الرياضية والفيزيائية لتشكيل لوحات تخدع الدماغ البشري، وتُعطي الناظر مجموعة من الانطباعات مغايرة للحقيقة.
مهمة مستحيلة
ويُعَد مربع الألوان المتباينة الذي نشره كيتاوكا على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، أحد أمثلة الخدع البصرية، فالمشاهد لا يستطيع إحصاء عدد النقاط السوداء في ذلك المربع؛ إذ تغدو تلك النقاط بيضاء مباشرة بمجرد أن ننقل بصرنا إلى نقطة أخرى في المربع، وبالتالي يستحيل تعدادها في الآن ذاته.
ووفق دراسة نشرتها <إسراء حامد> الباحثة بكلية التربية الفنية في جامعة أسيوط المصرية، فإن التفسير العلمي لذلك أنّ هذه النقاط السوداء لا وجود لها أساسًا داخل المربع، مشيرةً إلى أن التأكد من صحة تلك الفرضية يتم عبر تغطية أحد الأشرطة السوداء باليد. ويمكن تفسير ذلك باعتبار أن العين البشرية عاجزة عن التنقل بين لونين متعاكسين بسبب التباين الشديد بينهما، «خُدعت أبصارنا من جرّاء هذا التباين الشديد بين اللونيين» وفق الدراسة المنشورة قبل نحو عام.
يرى الدكتور <أحمد سعيد إبراهيم>، الباحث في مجال طب العيون بالمركز القومي للبحوث، أن المشاهدة الخادعة للنقاط السوداء في مربع الألوان المتباينة تعود إلى عدم قدرة العقل على تمييز كل ما تقع عليه العين مرة واحدة وفي الوقت ذاته، إذ إن القشرة المخية في الدماغ هي المسؤولة عن تفسير الصور التي ينقلها مركز الإبصار في الشبكية، مشيرًا إلى أن الخطوط المائلة المتقاطعة تجذب التركيز أكثر من الخطوط العمودية أو الأفقية، قائلاً في تصريح لـ«للعلم»: «إن العقل لا يستطيع استيعاب ذلك كله، وبالتالي ينتبه للنقطة الموجه إليها مركز الإبصار أولًا، ويتجاهل النقاط الأخرى، وبالعكس مع كل حركة لمركز الإبصار تجاه هذه النقاط».
صورة مربع الألوان المتباينة ليست الوحيدة التي أثارت الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، فقبل أكثر من عام، نشرت إحدى الفتيات صورة لفستان على موقع Tumblr، أثار لونه حالة من الجدل حول العالم، فالبعض أكد كونه أزرق اللون، فيما أصر البعض على أن لونه ذهبي، فكيف اختلفت الآراء حول لون فستان يراه الجميع بوضوح على شاشة الحواسيب والأجهزة اللوحية؟
لقد سبب انعكاس الضوء الصناعي على الفستان إرباكًا للدماغ، ظهر بوضوح حين اجتاحت الصورة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ظهر الفرق واضحًا وجليًّا بين المشاهدين مع كثرة أعدادهم؛ إذ إن المساحات العصبية الموجودة في مؤخرة العين -والمعروفة باسم المخاريط العصبية- والتي تلتقط الألوان الرئيسية وتدمجها لتكوِّن صورة واضحة، تختلف اختلافًا طفيفًا بين الأشخاص، إلا أن ذلك الاختلاف الطفيف تضخم وزاد بسبب الإرباك الذي سببه الضوء الصناعي، وفق إبراهيم.
إدراك حسي متكامل
تعمل العين على رؤية الأشياء المحيطة بنا بآلية يعرفها العلماء منذ قرون، فالضوء يدخل عبر العدسة مصطدمًا بالشبكية الواقعة في الجزء الخلفي من العين، والتي تنقله بدورها عبر العصب البصري إلى القشرة الدماغية البصرية، وهو الجزء المسؤول عن تفسير المرئيات في الدماغ. ويبدأ الإدراك البصري بامتصاص الضوء -أو بشكل أكثر دقة بامتصاص مجموعات صغيرة منفصلة من الطاقة تسمى الفوتونات أو وحدات الكم الضوئي- بواسطة ما يُعرَف بالمخاريط والنبابيت الواقعة في الشبكية. تُستخدم المخاريط للرؤية النهارية، أما النبابيت فهي مسؤولة عن الرؤية الليلية. ويستجيب مخروط المستقبل الضوئي بحسب عدد وحدات الطاقة الضوئية التي يأسرها، وتنتقل استجابته إلى نوعين مختلفين من العصبونات مسؤولين عن بدء الاستثارة العصبية ووقفها. وبدورها تزود هذه العصبونات نوعًا آخر من الخلايا مزودة بحقل استقبال، بحيث تعطي استجابات متفاوتة عندما يقع النظر على جسم ما، اعتمادًا على كمية الضوء النسبي في مركز الحقل وفي المنطقة المحيطة بالجسم.
وتشير دراسة سابقة أجريت على الألوان الخادعة للبصر إلى أن معالجة الألوان في الدماغ تحدث جنبًا إلى جنب مع معالجة خواص الأشياء الأخرى، مثل الأشكال والحدود. ويُعتقد أن حوالي 40% من الدماغ البشري -أو أكثر- يُستخدم في عملية الإبصار. وتنتظم العصبونات في المناطق التي يتم تنبيهها مبكرًا في أثناء المعالجة الإبصارية في خرائط توفر تمثيلًا لمجال الإبصار من نقطة إلى نقطة. ومن هنالك تنتشر الإشارات البصرية إلى أكثر من 30 منطقة مختلفة، متصلة معًا بواسطة أكثر من 300 دائرة. ولكل منطقة من هذه المناطق وظائف متخصصة، مثل معالجة الألوان والحركة والعمق والشكل. وفي النهاية، تتجمع كل هذه المعلومات من قبل كل هذه المناطق المختلفة في الدماغ بطريقة ما في إدراك حسي متكامل للشيء ذي الشكل الخاص واللون الخاص، أي يكتمل معنى الشئ داخل الدماغ. وتخلص الدراسة إلى أن الفهم الحالي للدماغ لا يستطيع تفسير جميع الأمور التي تحدث في ظواهر الخداع البصري، وأن الأمر قد يكون نتاج محاولة الدماغ للتوفيق بين الإشارات المتباينة الواردة من العديد من المسارات المتخصصة.
إزعاج الدماغ
والخداع البصري ليس عرضًا سيكولوجيًّا مرتبطًا بمشكلة فسيولوجية، وفق الدكتور <جمال فرويز>؛ أستاذ الطب النفسي واستشاري المخ والأعصاب، والذي يقول في تصريحات لـ«للعلم»: إن الخدع البصرية تُسبب نوعًا من «الإزعاج» للدماغ، إلا أن «أثرها يزول بشكل مباشر بمجرد إبعاد النظر عن المسبب» على حد قوله. ويشير الطبيب النفسي، المتخصص في الأمراض النفسية التي لها جذور فسيولوجية وعضوية، إلى أن الخداع البصري يختلف تمامًا عن الهلاوس الدماغية، فالأول له مُسبِّب، ويحدث على نطاق واسع بين البشر من مختلِف الأعمار، فيما تأتي الهلاوس الدماغية دون مُسبِّبات واضحة، وتنجم عن فقدان السيطرة على القدرات الإدراكية؛ بسبب تلف ما في الخلايا الدماغية أو الهرمونات.
ويؤكد «فرويز» أن الدماغ البشري لا يكتفي بالرؤية فقط، فتلك هي وظيفة العيون، لكنه دائما يبحث عن المعنى، ويحاول استنتاج الصور الواردة له عبر العصب البصري وتفسيرها، ويميل الدماغ إلى عقد المقارنات بين لون الجسم المنظور وألوان البيئة المحيطة، ما يُسهل من عملية الخداع القائمة على التباين اللوني، وهو ما يجعل النقاط السوداء –غير الموجودة فعليًّا- في مربع الألوان المتباينة، تختفي بمجرد إبعاد النظر عنها.
الخدع البصرية ليست كلها متعلقة بالألوان، فهناك خدع هندسية، كمثلث «بانروز» الذي صممه عالم الفيزياء الإنجليزي الشهير«روجر بانروز»، وهو أحد الأشكال الهندسية التي لا يمكن تحقيقها إلاّ عن طريق الرسم على الورق ببُعدين هندسين اثنين، ويستحيل تجسيده في الواقع بثلاثة أبعاد، علاوة على خدع متعلقة بالأحجام والأطوال، وخدع الصور المتحركة، وخدع المنظور، وغيرها الكثير والكثير! ويأتي هذا الفن ليؤكد أن الحواس من السهل خداعها، وهذا الخداع لديه قدرة حقيقية على إرباك الدماغ!
اضف تعليق