إن فهم هذه الصلة قد يرشدنا إلى كيفية إيجاد حلول تساعد الناس على التعافي، ماديًّا وجسديًّا. ففي نهاية المطاف، يمكن للألم الجسدي أن يحد من قدرة الشخص على الاحتفاظ بعملٍ منتظم، أو حتى يقضي عليها تمامًا، ومن ثَم يؤدي إلى المزيد من المشاكل المادية. والتوصل إلى كيفية التدخل لحل هذه المشكلة...
لقد أدى الركود الاقتصادي إلى زيادة هائلة في عدد الأمريكيين الذين يعيشون حياتهم اليومية في حالة من عدم الأمان الاقتصادي. فوفقًا لاستقصاء إدراك المخاطر الاقتصادية وعدم الأمان، فإن 93 بالمئة من العائلات الأمريكية عانت من تدهور ثرواتها بين عامي 2008 و2009. وتشير دراسة أحدث أجراها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أن عدم الأمان المالي منتشر إلى حدٍّ ما. فعلى سبيل المثال، أفاد 47 بالمئة ممن شاركوا في الاستقصاء بأنهم سيجدون صعوبةً في تغطية أي نفقاتٍ طارئةٍ قدرُها 400 دولار.
وقد صاحب عدمَ الأمان المالي المتزايد مؤشِّرٌ آخر، وهو زيادة عدد الأمريكيين الذين أفادوا بتَعَرُّضِهم لآلام جسدية؛ إذ يشير الاستقصاء الوطني حول الصحة واستخدام الدواء، إلى أن الاعتماد على المسكنات ارتفع بنسبة 50% بين عامي 2006 و2012. وفي عام 2008، فاق تقدير التكلفة الاقتصادية للألم تكلفةَ السرطان وأمراض القلب ومرض السكري مجتمعةً.
وضع فريق بحثي بقيادة إيلين تشو -أستاذة السياسات العامة بجامعة فرجينيا- افتراضًا بأن اجتماع هذين المؤشرين معًا –أي تزايد غياب الأمان المالي وازدياد الألم الجسدي– قد لا يكون مجرد صدفة. وقد نشرت تشو وزملاؤها ورقة بحثية في دورية "سايكولوجيكال ساينس" Psychological Science تلخص سِتَّ دراساتٍ توضح العلاقة المباشرة بين غياب الأمان المالي والشعور بآلام جسدية.
في الدراسة الأولى، التي أُجريت على عينة متنوعة تضم 33720 عائلة أمريكية، اتضح أن العائلات التي يكون فيها واحد أو أكثر من الأشخاص البالغين عاطلًا، تُنفق مبالغ أكثر على شراء المسكنات. وقد ظلت هذه النتيجة قائمة حتى بعد أن وضع الباحثون في الحسبان إحصائيًّا العوامل الأخرى التي يمكن أن يكون لها صلة بشراء الأدوية المسكنة، مثل عدد الأفراد المقيمين في المنزل، وإجمالي دخل الأسرة، واستهلاك أدوية البرد والإنفلونزا. ورغم دلالة هذه النتائج، فإنها لا تثبت أن غياب الأمان المادي يسبب مزيدًا من الألم. ومن ثَم، لاختبار صحة فرضيتهم، صمم الباحثون تجارب تتيح لهم التحكم في شعور الناس بعدم الأمان الاقتصادي.
وفي إحدى هذه الدراسات، لجأ الباحثون إلى مشاركين عبر الإنترنت، ثم اختاروا نِصفَهم بشكل عشوائي وكلفوهم بالكتابة عن وقتٍ ما في حياتهم كانوا يشعرون فيه بغياب الثقة بمستقبلهم الاقتصادي، على سبيل المثال، بسبب عدم الاستقرار الوظيفي. أما النصف الآخر من المشاركين فقد طُلِبَ منهم أن يكتبوا عن أوقاتٍ كانوا يشعرون فيها بالأمان والثقة بمستقبلهم الاقتصادي. وبعد ذلك طُلِبَ من جميع المشاركين استكمال استقصاء قصير عن مقدار ما يشعرون به من ألم في الرأس أو الصدر أو المعدة في ذلك الوقت. وقد وجدت تشو وزملاؤها أن المشاركين الذين كتبوا عن أوقات عدم الأمان المادي سجلوا شعورًا بالألم يعادل تقريبًا ضعف الألم الذي سجله المشاركون الذين كتبوا عن لحظات الأمان المادي. من المهم الإشارة هنا إلى أن الباحثين اعتمدوا على المشاعر الذاتية للمشاركين المتعلقة بعدم الأمان المالي، وليس موقفهم المالي الحقيقي. لذا فإن شعور الناس حيال موقفهم المالي -بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي الفعلي- قد تكون له عواقب خطيرة على الصحة الجسدية.
ولكن تُرى لماذا يؤدي الشعور بعدم الأمان المادي إلى الإحساس بالألم الجسدي؟ أثبتت عدة دراسات سابقة أن الألم النفسي والألم الجسدي يشتركان في المسارات العصبية بالدماغ، وهو ما قد يفسر لماذا يقلل تناول المسكنات كُلًّا من الألم الجسدي والألم العاطفي. إضافة إلى ذلك، افترضت تشو وزملاؤها أن عدم الأمان المالي قد يؤدي بالناس إلى الشعور بعدم القدرة على التحكم في حياتهم، وهو ما يؤدي بدوره إلى ازدياد الشعور بالألم، ويستند هذا الافتراض إلى أبحاث سابقة أظهرت أن الأشخاص الذين يشعرون بأنهم لا يتحكمون تمامًا في حياتهم يكونون أكثر عرضة لخطر المشكلات الصحية.
ولاختبار هذه الفرضية، أجرى الباحثون دراسة اعتمدوا فيها على التحكم في مشاعر الناس الخاصة بالسيطرة على حياتهم. وباستخدام مشاركين عبر الإنترنت أيضًا، كلفوا نصف المشاركين بالكتابة عن وقت في حياتهم كانوا يشعرون فيه بفقدان السيطرة على مقاليد الأمور، وجرى تكليفُ النصف الآخر من المشاركين بالكتابة عن واقعة في حياتهم شعروا خلالها وكأنهم في كامل السيطرة على ما يحدث لهم. وبعد تمرين الكتابة هذا، طُلِبَ من المشاركين تسجيل ما كانوا يشعرون به من ألم في تلك اللحظة تحديدًا. وقد وجد الباحثون أن الأشخاص الذين كتبوا عن الوقت الذي شعروا فيه بفقدان السيطرة على حياتهم سجلوا معدَّلًا من الألم الجسدي يفوق ضِعْفَ ما سجله أولئك الذين كتبوا عن الواقعة التي شعروا فيها بالسيطرة التامة على مقاليد الأمور. وقد تفسر مشاعر التحكم هذه -جزئيًّا على الأقل- كيف يؤدي عدم الأمان الاقتصادي إلى الشعور بالمزيد من الألم الجسدي.
ورغم ما يحمله البحث الذي قدمته تشو وزملاؤها من دلالات، فإنه ليس إلا خطوة مبكرة للغاية. وعلى الأرجح فإن العوامل المؤثرة معقدة، فالقلق والاكتئاب، على سبيل المثال، مرتبطان أيضًا بالتعرض لألم جسدي، وبينما تنشأ هاتان الحالتان من غياب الشعور بالسيطرة على الحياة، فإنهما كثيرًا ما تكونان مصحوبتين بانخفاض مستوى الاعتداد بالنفس.
ورغم ذلك، فإن البحث الذي أجرته تشو يقدم منظورًا مهمًّا لفهم الكيفية التي يؤثر بها عدم الأمان الاقتصادي مباشرة على مدى تمتع البشر بالصحة الجسدية.
إن فهم هذه الصلة قد يرشدنا إلى كيفية إيجاد حلول تساعد الناس على التعافي، ماديًّا وجسديًّا. ففي نهاية المطاف، يمكن للألم الجسدي أن يحد من قدرة الشخص على الاحتفاظ بعملٍ منتظم، أو حتى يقضي عليها تمامًا، ومن ثَم يؤدي إلى المزيد من المشاكل المادية. والتوصل إلى كيفية التدخل لحل هذه المشكلة، ربما عبر إيجاد طرق لمساعدة الأشخاص على استعادة الشعور بالسيطرة على مقاليد الأمور، قد يقلل من الألم الجسدي، كما يوفر فرصًا أفضل لمساعدة الناس على استعادة مركزهم المالي.
اضف تعليق