تحت سماء الدهشة، وقفت الجموع مشدوهة الأبصار، يتطلعون بذهول إلى تلك الآلة التي تُحلق في السماء كالعنقاء، ففي عاصمة النور الفرنسية -والتي لم تكن تعرف النور بعد- حلق المنطاد "لو فرانس" الذي يبلغ طوله 52 مترًا، مدعومًا ببطارية تزن نحو 435 كيلوجرامًا وتولد طاقتها من تفاعلات كيميائية بين الزنك والكلور...
بقلم: محمد منصور
تحت سماء الدهشة، وقفت الجموع مشدوهة الأبصار، يتطلعون بذهول إلى تلك الآلة التي تُحلق في السماء كالعنقاء، ففي عاصمة النور الفرنسية -والتي لم تكن تعرف النور بعد- حلق المنطاد "لو فرانس" الذي يبلغ طوله 52 مترًا، مدعومًا ببطارية تزن نحو 435 كيلوجرامًا وتولد طاقتها من تفاعلات كيميائية بين الزنك والكلور، في تلك السنة -1884- كُتب فصلٌ في تاريخ الطيران؛ فالمنطاد كان أول مركبة جوية تكمل رحلةً ذهابًا وإيابًا باستخدام الطاقة الكهربائية، وقتها قال مبتكر المنطاد "تشارلز رينارد": إن الطاقة الكهربائية لا تزال في مهدها، وإن استخدامها في الرحلات الجوية مسألة وقت ومال فقط، كان "رينارد" مُخطئًا؛ فقد مر الزمان، وأنفق الكثير من المال دون أن يتحقق الحلم، حلم الطيران المدعوم بالبطاريات الكهربائية.
فما الذي أخّر تحقيق ذلك الحلم؟ وما العقبات التي تقف في سبيله؟ وهل يُمكن التغلب عليها؟ وهل يُمكن أن نشهد في القريب العاجل رحلةً جويةً مأهولةً بالركاب تمدها البطاريات بالطاقة؟ تعرض ورقة منظور جديدة نُشرت في دورية "نيتشر" بعض الإجابات عن تلك الأسئلة.
تقول الورقة إن هناك اهتمامًا كبيرًا بإحياء الرحلات التي تعمل بالبطارية؛ فوفقًا للتطور المشهود في أداء السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، يُمكن التنبؤ بأن تصميم البطاريات وتكلفتها سيتحسنان بوتيرة سريعة.
ويكمن الدافع وراء الاهتمام بالطائرات التي تستمد طاقتها من البطاريات المتقدمة في كون تحقيق هذا الأمر من شأنه تحسين اقتصاديات الطائرات، أو استخدامات الطائرات الجديدة مثل سيارات الأجرة الطائرة، أو ربما كان الأهم من ذلك، وهو تقليل تأثير الطيران على تغيُّر المناخ عن طريق تقليل انبعاثات الكربون.
توجد أنواع مختلفة من الطائرات، منها تلك التي تعمل دون طيار ويبلغ وزنها بضعة كيلوجرامات وتطير دقائق معدودة، ومنها تلك التي تقطع المحيطات الشاسعة لتصل ما بين القارات، ويمكن لطائرة صغيرة بدون طيار أن تطير بطاقة بعض بطاريات المصباح اليدوي، بينما تحتاج طائرة كبيرة إلى طاقة تستهلكها 30 ألف سيارة تسلا.
إلا أن التحدي الرئيسي لتصنيع الطائرات الكهربائية يكمن في كثافة الطاقة المنخفضة للبطاريات مقارنةً بالوقود السائل؛ فالوقود يستطيع توليد قدرٍ مهولٍ من الطاقة الناجمة من الاحتراق مقارنةً بالبطاريات الكهربائية التي تشغل حجم الوقود نفسه، وبالنسبة للطائرات الأكبر حجمًا، فوزن المحركات الكهربائية مقارنةً بالتوربينات الغازية مهول، كما أن معدَّات تحويل الطاقة الكهربائية لطائرة أثقل بكثير من تلك الموجودة في نظام الدفع بالوقود.
ولكن من المتوقع أن تتحسَّن نسبة الطاقة إلى الوزن بمقدار الضعف خلال العشرين سنة القادمة، وفق ما تقول الورقة البحثية التي تؤكد وجود العديد من التصميمات للطائرات غير التقليدية التي تعتمد على الكهرباء.
تحتفظ الطائرات الحالية بالوقود داخل الأجنحة، وتقول الدراسة إنه إذا ما تعذَّر حمل البطاريات في المكان نفسه فيجب زيادة حجم الطائرة، إذا أردنا الحفاظ على مدى الطيران -المسافة التي تقطعها الطائرات- وساعات الطيران.
التحديات وعنصر الوقت!
في عام 1991 عندما قدمت شركة "سوني" العملاقة لأول مرة بطارية ليثيوم أيون، في البداية تطورت تلك البطاريات ببطء، تم دمجها في الأجهزة المحمولة الصغيرة، وبعد ذلك تم استخدامها في أجهزة الكمبيوتر ثم لتشغيل السيارات، وفي نهاية عام 2020 تم استخدامها في الشاحنات الصغيرة، يقول الباحث في قسم الهندسة الميكانيكية بجامعة كارنيجي ميلون الأمريكية "فينكات فيسواناثان" -وهو المؤلف الرئيسي للدراسة- في تصريحات خاصة لـ"للعلم": إن الطريق لا يزال طويلًا أمام استخدام البطاريات كمصدر طاقة للطائرات الكبيرة، "لكن استخدامها في الطائرات الصغيرة يُمكن أن يتم خلال أعوام قليلة من الآن"، لكن لتحقيق ذلك الأمر يجب التغلُّب على بعض العيوب الموجودة في البطاريات، فالبطارية المستقبلية التي يُمكن أن تُستخدم في تسيير الرحلات الجوية يجب أن تكون أخف وزنًا، وأن تكون قادرةً على تعبئة المزيد من الطاقة، ليس ذلك فحسب؛ فهناك العديد من الأمور التي تختبرها الطائرات بشكل حصري في أثناء الإقلاع والهبوط، من ضمنها درجات الحرارة.
ففي مرحلة الإقلاع ترتفع درجة الحرارة داخل محركات الطائرة وفي أجزائها الميكانيكية بشكل كبير، ثم تنخفض تلك الدرجة بشكل حاد حين تستقر فوق السحب، لا تستطيع البطاريات العمل في ذلك النطاق من درجات الحرارة، وبالتالي تحتاج بطاريات المستقبل إلى العمل في نطاق درجات حرارة آمن وواسع للتشغيل، وأن تتمتع أيضًا بأمان استثنائي وقدرة على الشحن والتفريغ آلاف المرات دون أعطال، كما يجب أن تكون مؤمَّنةً ضد الحرائق التي يُمكن أن تقتل العشرات إذا ما نشبت خلال رحلة ممتلئة بالركاب.
كما يجب أيضًا زيادة قدرة البطاريات؛ فأفضل الأنواع التي تُستخدم اليوم يتراوح إنتاجها ما بين 180 إلى 220 واط/ ساعة لكل كيلوجرام من وزن البطارية، وإذا ما أردنا تشغيل طائرة ركاب صغيرة تحمل 20 مقعدًا فسنحتاج إلى حوالي 5 أضعاف تلك القدرة، "لذا نحتاج إلى قفزة في مجال صناعة البطاريات"، على حد ما يقول "فيسواناثان" في تصريحاته لـ"للعلم".
لكن هل تعني تلك "القفزة" ضرورة التفكير خارج الصندوق وابتكار نوع جديد كُليًّا من البطاريات إذا ما أردنا أن تطير طائرات المستقبل بها؟ يقول "فيسواناثان" إن الإجابة هي "نعم"؛ إذ إن بطاريات الليثيوم الحالية "قد تكون غير مناسبة" بسبب "وزنها مقابل الطاقة التي تخرج منها"، وبالتالي قد نحتاج إلى تطوير نوع جديد من البطاريات ودمجها في الطائرات.
سلامة استخدام البطاريات في الطائرات
تقول الدراسة إن السلامة هي أساس تصميم الطائرات وعملياتها، يعني ارتفاع درجة حرارة البطارية أو دخانها في السيارة "التوقف"، لكن الأمر ليس بهذه السهولة على ارتفاع 12 كم في الهواء.
بموجب القانون، يجب على الشركة المصنِّعة أن تثبت في عملية الاعتماد أن تصميم الطائرة آمن، قد تتطلب هذه الشهادة ميزات تصميم محددة وتشمل التحليل والاختبار، مع التفاصيل المستمدة غالبًا من التجربة، كما أن متطلبات الطائرات المخصصة لنقل الركاب أكثر صرامةً من تلك الخاصة بالطائرات بدون طيار، وفي كلتا الحالتين، تصبح المتطلبات أكثر صرامةً مع زيادة حجم الطائرة.
على سبيل المثال، يجب أن تكون فرصة حدوث عطل كارثي محتمل أقل من ساعة واحدة في المليون ساعة طيران لطائرة ذات مقعدين، ولكنها أقل من ساعة واحدة من كل مليار ساعة طيران في الطائرات التجارية.
تسببت بطاريات الإلكترونيات المحمولة في حدوث مئات من حوادث الحريق، ونظرًا لوجود خبرة قليلة مع البطاريات الأكبر حجمًا اللازمة للدفع، فإن متطلبات الاعتماد عامة وتعتبر هذه الشهادة "حالة خاصة"، لذا يجب فهم أوضاع البطارية وسلوكها وعواقب عطلها جيدًا، وتصميم الطائرة بطريقة تخفف من تلك الأعطال، سواء على الأرض أو في الجو أو في حالة الهبوط الاضطراري.
كما أن هناك العديد من المتطلبات في بطاريات الطائرات، منها كثافة الطاقة والتكلفة والعمر والسلامة، تنعكس هذه المتطلبات على عمليات تصميم خلايا البطارية، في الوقت الحالي يركز كثيرٌ من الأبحاث حول البطاريات وتطويرها على احتياجات النقل البري والإلكترونيات المحمولة وتخزين الشبكة، وتقول الدراسة إن متطلبات الطيران تختلف في بعض المجالات المهمة لتكنولوجيا البطاريات.
وتُعد بيئات تشغيل بطاريات الطيران أيضًا أكثر تطرفًا بشكل عام منها بالنسبة للمركبات الأرضية، على الرغم من أن الظروف المحددة تختلف تبعًا لنوع الطائرة ومهمتها، لتقليل السَّحب، تطير الطائرات والطائرات النفاثة الخاصة عند طبقة "التروبوبوز" أو فوقها، على ارتفاعات 10-15 كم حيث يمكن أن تكون درجة الحرارة والضغط المحيطين منخفضَين للغاية، وهو ما يضع مجموعةً كبيرةً من الإجهادات الكيميائية على البطاريات.
الحلول!
تقول الدراسة إن الحل يكمن في تطوير كيمياء البطارية، وتحديد مجموعة من المواد الآمنة التي يُمكن استخدامها لصناعة بطارية جديدة كثيفة الطاقة وآمنة وذات موثوقية عالية، ويؤكد "فيسواناثان" أن المسار الحالي لتطوير البطاريات "لن يلبي احتياجات الطيران"؛ فمن أجل تحقيق هدف الطائرات الكهربائية "من الضروري البحث عن بطاريات خاصة حصرًا للطائرات وتطويرها".
يقول أستاذ الهندسة الميكانيكية والفضاء المساعد بجامعة كاليفورنيا آرفين "هيثم عزت"، الذي لم يشارك في الدراسة: إن الورقة العلمية تناقش "أحد الموضوعات الساخنة في مجال الطيران"؛ فالعديد من الشركات تستثمر ملايين الدولارات في الأبحاث الخاصة بالطيران بواسطة الكهرباء.
ويرى "عزت" أن ذلك الموضوع يحظى باهتمام بدرجة كبيرة في "التاكسي الطائر" وبدرجة أقل في الطيران التجاري التقليدي، مشيرًا إلى أن التوجهات الحالية تجعل الطيران بالكهرباء "شبه حتمي" و"مسألة وقت" في موضوع التاكسي الطائر، خاصةً أن السعة المطلوبة للبطاريات لتلك الطائرات الصغيرة تبلغ نحو 400 وات. ساعة/كيلوجرام، "وهي السعة التي يعمل عليها الباحثون في الوقت الحالي ضمن مشروع وزارة الطاقة الأمريكية التي تريد الوصول إلى بطارية ذات سعة 500 وات. ساعة/ كيلوجرام".
لكن وحتى مع الوصول إلى تلك السعة، يتبقى أمام العلماء "فجوة كبيرة نسبيًّا" لتشغيل الطائرات الضخمة، يقول "عزت": إن البطارية اللازمة لتشغيل طائرة تحمل 20 راكبًا فقط تبلغ سعتها ما بين 1200 إلى 1800 وات. ساعة/كيلوجرام، "وهو أمرٌ بعيدٌ عن إمكانياتنا الحالية".
اضف تعليق