تمنحنا هذه الدراسة رؤيةً متعددةً ومتعمقةً عن الوعي والإبداع، والأهم من ذلك هو أن هذه الدراسة من نوعية الدراسات التي يُمكِنك تجربتها بنفسك في المنزل، عليك الإمساك بجسم معدني ثم الاستلقاء والتركيز بشدة على مسألة إبداعية ما، بعدها ما عليك سوى انتظار لحظات...
بقلم برت ستيتكا
اشتهر توماس إديسون بمُعاداته للنوم، ففي مقابلة أجرتها معه دورية «ساينتفك أمريكان» Scientific American في عام 1889، ذكر هذا المخترع المجتهد الذي قدم لنا المصباح الكهربائي أنه لا ينام أكثر من أربع ساعات في الليلة، معللًا ذلك بأنه يرى النوم مضيعةً للوقت.
ولكن الدلائل تشير إلى أن إديسون ربما يكون قد اتخذ النعاس وسيلةً لتحفيز قدراته الإبداعية، يُقال إن هذا المخترع كان يغفو ممسكًا بكُرة في كل يد، على افتراض أنه عندما يغط في النوم ستسقط الكرتان على الأرض وتوقظانه، وبهذا يصبح قادرًا على تذكُّر الأفكار التي تراودنا ونحن على أبواب النوم، والتي لا نتذكرها في كثير من الأحيان.
الآن يعتقد الباحثون في مجال النوم أن هذا الأسلوب الذي اتبعه إديسون كشف لنا عن الكثير؛ فقد أوضحت دراسة جديدة نُشِرَت مؤخرًا في مجلة «ساينس أدفانسيز» Science Advances أننا نمر بفترة وجيزة من الإبداع ونفاذ البصيرة في أثناء مرورنا بحالة شبه الصَّحْو التي تحدث قبل أن ننجرف إلى النوم، والتي تمثل مرحلة النوم المسماة N1 أو مرحلة النوم1 التي لا تتحرك خلالها العين حركةً سريعة، وتشير نتائج الدراسة إلى أن تلك الحالة المغشَّاة التي تقع بين النوم واليقظة -والمعروفة باسم حالة الهلوسة التنويمية- قد تفيدنا في استحضار أفكارنا المبدعة بسهولة أكبر.
وقد أجرت دلفين أودييت وزملاؤها في معهد باريس لدراسات الدماغ تجربةً استلهمت إديسون، إذ عرضوا على 103 من المشاركين في التجربة مسائل في الرياضيات تعتمد على قاعدة خفية تساعد على سرعة حلها، وقد استبعدت الدراسة الأشخاص الستة عشر الذين توصلوا إلى مفتاح الحل فورًا، ثم مُنِحَ باقي المشاركين استراحةً مدتها 20 دقيقة وطُلب منهم في أثنائها الاسترخاء في وضع الاتكاء وهم ممسكون بجسمٍ ما في أيديهم اليمنى، وفي حالة سقوط الجسم الذي يمسكونه كان عليهم الإبلاغ عما كانوا يفكرون فيه قبل لحظة سقوط ذلك الجسم من أيديهم.
وقد أُجري على المشاركين في الدراسة على مدار فترة الاستراحة اختبار قياس تخطيط النوم، وهو تقنية تستخدم في تتبُّع نشاط الدماغ والعين والعضلات بهدف تقييم حالة اليقظة لدى الأشخاص، وقد ساعد هذا الاختبار في تحديد المشاركين الذين كانوا مستيقظين، أي لم يكونوا في المرحلة N1 أو- N2 وهي مرحلة النوم التَّالية والأعمق قليلًا- وذلك بناءً على نشاط موجات الدماغ التي سجلها الجهاز.
وبعد انتهاء الاستراحة، عُرِضَت مسائل الرياضيات مرةً أخرى على المشاركين في الدراسة، فوُجد أن أولئك الذين وصلوا إلى مرحلة N1 من النوم كانوا أكثر قدرةً بحوالي ثلاث مرات على التوصل إلى مفتاح الحل، مقارنةً بالآخرين الذين ظلوا مستيقظين طوال التجربة، كما كانوا أكثر قدرةً من الأشخاص الذين وصلوا إلى المرحلة N2 بست مرات، لم تحدث لحظة الاكتشاف تلك -التي أطلق عليها مؤلفو البحث عبارة "لحظة اليوريكا"- فورًا، بل جاءت بعد عدة محاولات لحل مسألة الرياضيات، وهو ما يتوافق مع جاءت به الدراسات السابقة حول تجارب نفاذ البصيرة والنوم.
أما الأسلوب الذي اتبعه إديسون، والمتمثل في الإمساك بالكرات، فقد ارتأت هذه الدراسة الجديدة أنه غير مقنع بالدرجة الكافية، ولهذا فقد أمسك المشاركون في الدراسة بأكواب زجاجية صغيرة بدلًا من الكُرات، وقد وجدت الدراسة أن 63 مشاركًا أسقطوا الكوب عند إخلادهم إلى النوم، منهم 26 شخصًا أسقطوا الكوب بعد مرورهم بمرحلة النوم N1، فعل 26 شخصًا ذلك بعد أن اجتازوا مرحلة N1 خلال نومهم، ومع ذلك تشير النتائج إلى أننا نمر بالفعل بفترة إبداعية وجيزة قبل الخلود إلى النوم مباشرة.
تقول أودييت إن تجربتها الشخصية مع النوم، مثل تجربة إديسون، كانت وراء إجراء الدراسة، إذ صرحت قائلة: "لقد مررت بالكثير من تجارب الهلوسة التنويمية، ولطالما فتنتني تلك اللحظات التي تشبه الحلم ... وقد كانت مفاجأةً بالنسبة لي أنه ما من دراسات أُجريت خلال العقدين الماضيين حول هذه المراحل من النوم".
وكانت دراسة منشورة في عام 2018 قد توصلت إلى أن فترة وجيزة من "الهُجُوع المُسْتَفِيق"، أو الرقود في هدوء، يمكن أن تعزز احتمالات اكتشاف القاعدة الرياضية نفسها المُستَخدَمة في تجربة أودييت، وكذلك تشير أخصائية علم النفس بيني لويس من جامعة كارديف في ويلز إلى أن حالتَي النوم المنطوي على حركة العين السريعة (REM) -أي المرحلة التي تتحرك فيها أعيننا حركةً سريعةً ذهابًا وإيابًا وتحدث خلالها معظم الأحلام- والنوم المنطوي على حركة العين غير السريعة (nnon-REM) تعملان معًا لتحفيز قدرتنا على حل المسائل الرياضية.
ولكن بصفة عامة، لم تجد أودييت حتى الآن أيَّ أبحاث أخرى قامت تحديدًا بدراسة تأثير مراحل بداية النوم على القدرات الإبداعية، ومع ذلك، فهي تذكر الكثير من الوقائع التاريخية الدالة على هذه الظاهرة.
تقول أودييت: "إنه من المُحتَمَل أن يكون الإسكندر الأكبر و [ألبرت] أينشتاين قد استخدما أسلوب إديسون، أو على الأقل هذا هو الاعتقاد الشائع"، وتضيف قائلة: "إن بعض الأحلام التي أدت إلى اكتشافات عظيمة ربما جاءت نتيجةً لتجارب هلوسة تنْويمِيَّة وليست لأحلام ليلية، ولدينا أحد الأمثلة الشهيرة على ذلك في الاكتشاف الذي حققه الكيميائي أوجست كيكوليه، الذي توصل إلى الهيكل الحلقي للبنزين بعد رؤيته لثعبان يعض ذيله عندما كان كيكوليه يمر بمرحلة "شبه النوم" في أثناء عمله في وقت متأخر"، أما الرسام السريالي سلفادور دالي فقد استخدم تنويعًا على أسلوب إديسون، إذ كان يمسك بمفتاح ويضع تحته صحنًا معدنيًّا عند ذهابه للنوم، وعندما كان المفتاح يقع من يده، كان يصدر صوت ارتطام يتسبب في إيقاظه من النوم، وهو ما كان يحفز خياله الإبداعي على ما يبدو.
يقول آدم هار هورُفيتز، من المختبر الإعلامي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، والذي ابتكر تقنيةً تتداخل مع مراحل الهلوسة التَّنْويمِيَّة، لكنه لم يعمل مع فريق أودييت: "تمنحنا هذه الدراسة رؤيةً متعددةً ومتعمقةً عن الوعي والإبداع"، مضيفًا: "والأهم من ذلك هو أن هذه الدراسة من نوعية الدراسات التي يُمكِنك تجربتها بنفسك في المنزل، عليك الإمساك بجسم معدني ثم الاستلقاء والتركيز بشدة على مسألة إبداعية ما، بعدها ما عليك سوى انتظار لحظات اليوريكا التي تأتيك".
أما بالنسبة لجوناثان سكولر -اختصاصي علم النفس بجامعة كاليفورنيا في مدينة سانتا باربارا الأمريكية، والذي لم يشارك أيضًا في البحث- فهو يرى أن الدراسة لا تثبت بالضرورة أن أي شخص قادر على استدعاء قدراته الإبداعية خلال هذه المرحلة المبكرة من النُّعاس، ولكنه يعتقد أن "مجرد المرور بتلك ’المنطقة البهيجة‘ ربما يكون ببساطة قد تسبَّب في بث النشاط والانتعاش في المشاركين في الدراسة، مما سهَّل عليهم حل المسألة لاحقًا"، لكن سكولر يقرّ مع ذلك بأن بعض نتائج الدراسة قد تكون قويةً وسليمة، إذ يصرح قائلًا: "تشير النتائج الجديدة إلى أننا نمر في أثناء النوم بفترة إبداعية بهيجة نصل فيها إلى عمقٍ ما من النوم يتيح لنا التواصل مع بعض الأمور التي يتعذر الوصول إليها في أوقات أخرى، ولكننا في الوقت ذاته لا نكون قد وصلنا إلى مرحلة النوم العميق الذي يجعلنا ننسى ما نمر به".
وعلى الرغم مما يشيع من أن النوم ما هو إلا فترة "انقطاع عمل" الدماغ، فإن النوم من الناحية العصبية عملية تعج بالنشاط، إذ تتقد مليارات من خلايا الدماغ، وتعمل على تنشيط الذكريات وتخزينها، وكذلك تمكِّننا فيما يبدو من استحضار قدراتنا الذهنية على الإبداع.
لا تكتفي أودييت بطموحها في متابعة إجراء الأبحاث حتى تستطيع تأكيد الاستنتاجات التي توصلت إليها حتى الآن، ولكنها تأمل أيضًا اكتشاف ما إذا كان التركيز على حالة الهلوسة التَّنْويمِيَّة قد يساعد في حل بعض المعضلات وتيسير بعض المهمات على أرض الواقع، من خلال الاستفادة من القدرة الإبداعية المتولدة في أثناء الفترة الزمنية الواقعة بين النوم واليقظة، بالإضافة إلى ذلك، تدرس أودييت مع فريق العمل الإمكانيات التي تتيحها واجهات الاتصال بين الدماغ والحاسوب، والتي يمكن أن تساعدنا على تحديد أنماط موجات الدماغ المختلفة المرتبطة ببدء النوم تحديدًا دقيقًا، مما يتيح التوصل بدقة إلى الوقت الذي يجب أن نوقظ فيه الأشخاص خلال لحظات نفاذ البصيرة.
تتصور أودييت "أننا قد نتمكن من تدريب الأشخاص على كيفية الوصول إلى هذه الحالة الإبداعية بإرادتهم"، مضيفة: "تخيل أننا يمكن أن نشغّل أصواتًا معينة عندما يصل الأشخاص إلى الحالة الصحيحة وأصوات أخرى عندما يستغرقون في النوم العميق، قد تساعدهم هذه الطريقة في تمييز الحالة الإبداعية وكيفية الوصول إليها".
اضف تعليق