بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)
بصائر النور في آية الرحمة واللين
إن (اللين) في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) ذو تجليات عديدة على مستويات مختلفة، كما انه يستبطن الأنواع التالية: اللين على المستوى الشخصي، وعلى مستوى التقنين والتشريع، وعلى مستوى الولاية والقيادة والحكومة.
والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة كبير والنسبة بينها هي العموم من وجه إذ قد يكون الشخص ليّناً على المستوى الشخصي وفي تعامله مع الآخرين كصديق أو زميل أو غير ذلك لكنه يكون صارماً في تطبيق القوانين غير متسامح بل قاسياً عنيفاً مع من يخالف اللوائح: فإذا خالف أحدهم قوانين الشركة مثلاً مرةً وبّخه، أو مرتين قطع راتبه، أو ثلاث مرات فَصَلَه! ومثل هذا الشخص قد لا تجد للعفو في قائمته عيناً ولا أثراً، وقد يكون الأمر بالعكس تماماً فبينما تراه عنيفاً في تعامله الشخصي مع الآخرين، تجده متسامحاً بل متساهلاً في تطبيق القوانين.
وكذلك الأمر على مستوى القيادة والزعامة والرئاسة فقد يكون القائد في بعده الشخصي ودوداً من أصدقائه وجيرانه أو حتى مع أعدائه لكنه يكون في البعد القيادي عنيفاً خشناً داخلياً هجومياً خارجياً، وقد يكون بالعكس من ذلك تماماً. هذا من جهة.
النسبة بين الرفق والعنف
ومن جهة أخرى: فإن النسبة بين الرفق والعنف هي نسبة الضدين اللذين لهما ثالث فإن الشخص قد يكون رفيقاً بأبنائه أو أعضاء منظمته ليِّناً معهم، وقد يكون عنيفاً فظاً قاسياً خشناً، وقد يكون بين ذلك فلا هو بالفظ الغليظ ولا هو باللين الرفيق.. وكل ذلك مما يتموج على أداء الإنسان في تلك المستويات الثلاث بدرجة وأخرى..
ومن جهة ثالثة: فإن هنالك درجات كثيرة للرفق ودرجات كثيرة للّين ومراتب كثيرة في المراحل المتوسطة بينهما.
وأما رسول الله المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) فلقد تجلت رحمة الله تعالى في وجوده المبارك على كافة المستويات: على المستوى الشخصي وفي البعد الولائي (الولوي) وعلى مستوى التقنين والتشريع أيضاً وبأعلى الدرجات فيها جميعاً.
أولاً: اللين على مستوى التشريع والتقنين
من المعروف أن الله تعالى فوّض بعض أمر التشريع إلى رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله) فقد ورد "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَّبَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله)، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَهُ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(2) فَفَوَّضَ إِلَيْهِ دِينَهُ"(3).
وقد ورد التعبير في الروايات عما شرّعه الرسول (صلى الله عليه وآله) بـ(سنة الرسول) وعما شرّعه الله تعالى مباشرة بـ(فرض الله) فالركعتان الأوليان من الرباعيتين هما من فرض الله والأخيرتان هما من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولذا دخلتها أحكام الشك دون الأوليين بل كان الشك في الأوليين من الرباعيتين مبطلاً.
وقد تجلى اللين النبوي بشفاعته للأمة حتى في مرحلة التشريع الإلهي إذ توسّط رسول الله (صلى الله عليه وآله) لدى رب العالمين مراراً عديدة للتخفيف من بعض الأحكام الإلهية.
ومن ذلك ما ورد من أن الله تعالى شرّع في البداية خمسين صلاةً في اليوم الواحد ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) توسط لدى الله مراراً عديدة حتى أوصلها إلى خمس صلوات فقط (ومع ذلك نجد أن الكثير من الناس لا يلتزم بها!!).
والسرّ واضح في كلتا الجهتين: أ- إما تشريع الخمسين فلأنه كانت فيها المصلحة الواقعية للعباد ولأنهم خلق الله ولو أنهم عبدوا الله تعالى ليل نهار لما أدّوا عُشر معشار حقه عليهم! بل كلما عبدوه بشيء استحق عليهم شكرهم له وعبادته إياه لتوفيقه لهم لعبادته!
ب- وأما التخفيف فلمصلحة التسهيل على العباد وأنه (صلى الله عليه وآله) كان كما قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) فقد زاحمت مصلحةُ التسهيل المصلحةَ الواقعية فانتجت التخفيف!
ثم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) حاول الجمع بين الحقين بإضافته ركعات (إذ كانت الصلوات الخمس تتكون من عشر ركعات فأضاف (صلى الله عليه وآله) سبعة فصارت سبع عشرة ركعة) وجوباً ثم أضاف أربعاً وثلاثين ركعة استحباباً فبلغت (51) ركعة بين واجب ومستحب بعد أن كانت مائة ركعة موزعة على خمسين صلاة كلها واجبة!
وتلك الشفاعة النبوية هي مجلى من مجالي تأديبه تعالى له إذ عرَّفه ملاكات الأحكام والمصالح والمفاسد وتزاحماتها جميعاً، وما يحبه تعالى وما يريده وقد كان منه هو مما قرره الله تعالى بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)(4).
وقد فصلنا البحث عن ذلك في كتاب (فقه المعاريض والتورية) وغيره فراجع.
ثانياً: اللين على المستوى الولوي والقيادي
فقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) في قيادته للأمة وفي إعماله ولايته عليهم في منتهى اللطف والرفق والمدارات ولذا نجده (صلى الله عليه وآله) قد عفى عن المنافقين ولم يؤاخذ المتآمرين حتى أولئك الذين سعوا لقيادة انقلاب عسكري عليه وخططوا لاغتياله وكادوا ينجحون في ذلك لولا إحباط المؤامرة في اللحظات الأخيرة وذلك في مواطن عديدة ومنها في قضية الدباب التي دحرجوها في ثَنِيّة الجبل في ظلام الليل.
"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَا حُذَيْفَةُ إِذَا كَانَ اللَّهُ يُثَبِّتُ مُحَمَّداً لَمْ يَقْدِرْ هَؤُلَاءِ وَلَا الْخَلْقُ أَجْمَعُونَ أَنْ يُزِيلُوهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالِغٌ فِي مُحَمَّدٍ أَمْرَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ثُمَّ قَالَ يَا حُذَيْفَةُ فَانْهَضْ بِنَا أَنْتَ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارٌ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فَإِذَا جُزْنَا الثَّنِيَّةَ الصَّعْبَةَ فَأْذَنُوا لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّبِعُونَا فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَحُذَيْفَةُ وَسَلْمَانُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ يَقُودُهَا وَالْآخَرُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا وَعَمَّارٌ إِلَى جَانِبِهَا وَالْقَوْمُ عَلَى جِمَالِهِمْ وَرَجَّالَتُهُمْ مُنْبَثُّونَ حَوَالَيِ الثَّنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَقَدْ جَعَلَ الَّذِينَ فَوْقَ الطَّرِيقِ حِجَارَةً فِي دِبَابٍ فَدَحْرَجُوهَا مِنْ فَوْقٍ لِيُنَفِّرُوا النَّاقَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِتَقَعَ فِي الْمَهْوَى الَّذِي يَهُولُ النَّاظِرَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ بُعْدِهِ فَلَمَّا قَرُبَتِ الدِّبَابُ مِنْ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا فَارْتَفَعَتْ ارْتِفَاعاً عَظِيماً فَجَاوَزَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ سَقَطَتْ فِي جَانِبِ الْمَهْوَى وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا صَارَ كَذَلِكَ وَنَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَأَنَّهَا لَا تُحِسُّ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْقَعْقَعَاتِ الَّتِي كَانَتْ لِلدِّبَابِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِعَمَّارٍ اصْعَدِ الْجَبَلَ فَاضْرِبْ بِعَصَاكَ هَذِهِ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَارْمِ بِهَا..."(5)
والكلام في هذا الحقل أيضاً طويل يحتاج، كسابقه، إلى كتابة مجلد ضخم.
ثالثاً: اللين على المستوى الشخصي
ولقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعامله الشخصي مع الناس في منتهى اللطف والرفق واللين معهم وكان يعاملهم كأخ شفيق وأب رفيق بل كأفضل أب وأخ عرفهما العالم كله.
وهذه بعض المشاهد المشرقة التي تزيح الستار عن جانب من تلكم الجوانب الرائعة:
عن الإمام الصادق "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقْسِمُ لَحَظَاتِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَنْظُرُ إِلَى ذَا وَيَنْظُرُ إِلَى ذَا بِالسَّوِيَّة"(6).
ولعل ذلك يعد من أصعب الأمور على القائد الجماهيري فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يعيش في بحر من الناس، وكان يخرج إليهم على امتداد ساعات اليوم: ففي أوقات الصلوات كان في متناول أيديهم وفي أوقات النوافل أيضاً كان كذلك إذ كان يصلي نوافله في المسجد، كما أنه كان وهو في داخل المدينة يعيش كأحد الناس ويمشي بلا حراس وكان يحلب بنفسه عنز أهله وكان في الحروب أيضاً في متناول أيدي أصحابه.
وقد كان (صلى الله عليه وآله) كثير الجلوس مع أصحابه ولعله جلس معهم طوال عشر سنوات في المدينة عشرات الألوف من الجلسات..
ومن هنا ندرك مدى صعوبة أن يقسم لحظاته بين أصحابه بالسوية فإن الإنسان العادي يصعب عليه أن يقسم لحظاته بين أصحابه بالسوّية لضرورات التواصل عادة ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله) رغم اختلاف مستويات الحضور، بين عالم وجاهل وتاجر ومعدم ومؤمن ومنافق، كان يقسم لحظاته بينهم بالسوية!
وورد "وَإِنْ كَانَ لَيُصَافِحُهُ الرَّجُلُ فَمَا يَتْرُكُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ التَّارِكَ، فَلَمَّا فَطَنُوا لِذَلِكَ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا صَافَحَهُ مَالَ بِيَدِهِ فَنَزَعَهَا مِنْ يَدِهِ"(7) وذلك من الصعب حقاً على كل من ازدحم جدول أعماله بالنشاطات والمسؤوليات إذ أن الكثير من الناس يطيلون المصافحة ولا يكادون يتركون يدك إلا بعد فترة قد يكون ذلك صعباً على أي شخص، فكيف بنبي وقائد وموّجه ورائد على مستوى الأمة، مضطلعٍ بمسؤوليات وأدوار تنوء بحملها الجبال الراوسي!
وكان من نتائج ذلك كله (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)(8) بينما نرى العكس من ذلك تماماً الآن وذلك يعود، بدرجة أساسية، إلى أن المعادلات الثلاث (اللين على المستوى الشخصي والولوي والتقنيني) قد انقلبت إلى الضد تماماً!
وورد عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا رَآهُ مَغْمُوماً بِالْمُدَاعَبَةِ وكان (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُعَبِّسَ فِي وَجْهِ إِخْوَانِهِ"(9) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يُدَاعِبُ الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ"(10) وذلك مما يكشف عن عمق الأبعاد الإنسانية في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث أنه لم يكن يترك الرجل مغموماً بل كان يحاول أن يسره بالمزاح والمداعبة رغم أن أكثر القادة يرون المزاح، خاصة مع عامة الناس، سبباً لكسر حاجز الهيبة بينهم وبينهم بل سبباً لفقد الوجاهة والتميز الاجتماعي الذين يتخيلونه! ورغم أن غالب أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا من الفقراء والبسطاء والمستضعفين، ومع ذلك كان (صلى الله عليه وآله) لا يترك رجلاً يراه مغموماً إلا حاول أن يسره بمداعبته!.
وورد في الغرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ينبغي للعاقل إذا عَلِم أنْ لا يُعنِّف و إذا عُلِّم أن لا يأنَف"(11)
والمقصود من إذا عَلِم: إذا علم بصدور خطأ من غيره أو معصية أو شبه ذلك؛ وذلك لأن الأصل هو (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(12) والاستثناء هو ما إذا تعذر التأثير على العاصي أو المخطئ بمجرد ذلك فانه حينئذٍ فقط ينتقل إلى المراتب اللاحقة من مراتب الأمر بالمعروف.
كما أن اللازم أن يكون العاقل ممن (إذا علِّم أن لا يأنف) فإن من طبع الإنسان أن يكره الإقرار بالجهل والإقرار بتفوق الغير عليه خاصة إذا كان يرى ذلك الغير أدون منه مستوىً فكيف يقر له بأنه يعلم مسألة لا يعلمها هو؟ لذا نجد العالم كثيراً ما يأنف من أن يتعلم المسألة من غيره ظناً منه بأن ذلك يخل بمكانته ويقلل من وجاهته ويزهّد الناس فيه! مع أن الأمر، لدى التدبر، على العكس من ذلك تماماً.
مقاصد الشريعة تحدد مسار الفكر والتفقه واتجاه القيادة والإدارة
لقد مضى الحديث عن مجموعة من العوامل التي تكشف مدى أهمية البحث المستوعب عن مقاصد الشريعة، ونضيف:
إن من جهات أهمية البحث المستوعب والشمولي والدقيق عن مقاصد الشريعة هو انها تضطلع بتحديد المسار العام لعملية الاستنباط الفقهي والاتجاه العام للتفكير والتوجه العام للقائد والقيادة على أي مستوى كانت...
ويمكننا أن نستعرض ذلك على مستويين: مستوى علم النفس، ومستوى علم الفقه.
التفكير الشمولي والتجزيئي في منظار علم النفس
أما على مستوى علم النفس، فقد أثبتت الدراسات المستفيضة في علم النفس والأعصاب المخ، ودلّت التجارب الميدانية على أن الناس يفكرون بطريقتين وأن التفكير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول التفكير الشمولي والقسم الثاني: التفكير التجزيئي.
القسم الأول: التفكير الشمولي، وهو التفكير الذي يضع المفردات سواء أكانت هامة أم هامشية، في سياقاتها العامة فينظر إلى الصورة العامة والسياق العام والنسق العام ويدرس القضية أو الحادثة أو المسألة أو المعادلة في ضمن الإطار العام والصورة الأكبر.
القسم الثاني: التفكير التجزيئي، وهو التفكير الذي يقوم بعزل القضايا المفردة عن جوِّها العام وسياقها الطبيعي ويركز العدسات على المفردة بذاتها وبما لها من الخصوصيات.
ومن الواضح أن السياق العام والإطار الكلي (قد) يغير من دلالات القضية والحادثة أو المفردة والنص، والتعبير بـ(قد) دقيق لأنه لا إطلاق لذلك بل قد تعصى بعض النصوص أو الحوادث عن أن يؤثر فيها السياق أو الإطار العام، كما فصلناه في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية اللغة والحقيقة والمعرفة) وكتاب (نسبية النصوص والمعرفة: الممكن والممتنع).
وقد أجرى علماء النفس تجارب كثيرة في هذا المضمار، نشير ههنا إلى تجربتين منها:
مراقبة حركة الأعين تكشف نوعية المفكر!
الأولى: أعطى الباحثون صوراً عديدة تتضمن مشاهد معينة لأشخاص مختلفين من بلاد الشرق والغرب، ثم ركزوا على تتبع حركة أعين الأفراد ونقطة تركيزهم وههنا اكتشفوا أن الأشخاص ذوي التفكير الشمولي يركزون على خلفية الصورة والمشاهد الخلفية التي احتضنتها بدل التركيز – أو بنفس درجة التركيز - على محور الصورة الذي التقطت الصورة لأجله.
أما الأفراد ذوي التفكير التجزيئي فانهم يركزون على المحور الذي التقطت الصورة لأجله، بالأساس.
ولنتصور أن المصور التقط صورة لصائد يصيد سمكة، فالمفكر التجزيئي تكون محطة تركيزه الصائد والسمكة والصنارة، أما الشمولي فانه يركز أكثر – أو بدرجة مساوية - على الخلفية العامة للمشهد كالبحر الهادئ أو الهائج وأمواجه المتكسرة والغيوم المتجمعة في كبد السماء في الأفق البعيد وشبه ذلك.
ومن الواضح أن هذه كلها مؤشرات على نمط وشاكلة تفكير الإنسان، وهي – كما نؤكد دائماً - بنحو المقتضي وليست بنحو العلة التامة.
انتخاب المفردات مرآة لنوع التفكير
الثانية: أعطى الباحثون قصاصات تحتوي على ثلاث كلمات مثل (قطار، سيارة، مسار) وطلبوا من أشخاص مختلفين انتخاب كلمتين فقط، وكانت النتيجة أن ذوي التفكير التجزيئي اختاروا كلمة قطار وسيارة، لأنهما كمفردتين تشكلان قيمة كبيرة لهم أما ذووا التفكير الشمولي فاختاروا (قطار – مسار) أو (سيارة – مسار) إذ كان وعيهم الباطن يدفعهم لتكوين صورة أوسع وهي (قطار في مسار مثلاً).
ويمكنكم أيضاً تجربة كلمات ثلاث أخرى مثل (علم، عمل، هدف) فالتجزيئي يختار مفردتي (علم – عمل) لما لهما من الأهمية، أما الشمولي فيختار (علم – هدف) أو (عمل – هدف) إذ انه يرى العلم بلا هدف بلا معنى فإن العلم الهادف هو النافع والمطلوب لا غير فيكون قد وضع الكلمتين في سياق عام مفهوم.
التفكير الشمولي ومقاصد الشريعة في عملية الاستنباط الفقهي
وأما على المستوى الفقهي، فلنضرب لذلك مثلاً هاماً من كتاب الحج في إحدى أهم مسائله التي يبتلى بها الناس عادة.
والمسألة هي: أن أعمال الحج متسلسلة متعاقبة حسب جدول زمني وترتيب خاص بينها(13): فيجب مثلاً الوقوف بعرفات ثم بالمشعر ثم أداء مناسك منى الثلاث ثم طواف الزيارة وركعتاه والسعي وطواف النساء وركعتاه، ولا يجوز ولا يصح تقديم الطوافين والسعي على الوقوفين من غير عذر حسب المشهور الذي كاد أن يكون إجماعياً.
ولكن ذهب إلى خلاف ذلك جمع قليل جداً فقالوا بأنه يجوز حتى اختياراً ومن غير عذر تقديم الطوافين على الوقوفين وأعمال منى.
والسبب في الاختلاف وجود طائفتين من الروايات تبدوان متعارضتين.
وننقل هنا كلام السيد الوالد رضوان الله عليه في الفقه أولاً ثم نتوقف لاستكشاف كيفية مدخلية فقه المقاصد في ترجيح هذه الطائفة على تلك أو العكس.
قال السيد في الفقه (الحج): ((مسألة 33): المشهور أنه يجب على المتمتع تأخير الطواف والسعي للحج حتى يقف بالموقفين ويأتي بمناسك منى.
قال في الجواهر: بلا خلاف محقق معتد به أجده، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منها مستفيض أو متواتر، بل في محكي المعتبر والمنتهى والتذكرة نسبته إلى إجماع العلماء كافة(14).
خلافاً للمحكي عن ظاهر الخلاف والتذكرة ومحتمل التحرير وجماعة من متأخري المتأخرين فقالوا بجواز التقديم اختياراً.
وإنما وقع الاختلاف لوجود طائفتين من الأخبار تدل على كلا القولين.
أما القول الأول: فقد استدل عليه بخبر أبي بصير، قلت: رجل كان متمتعاً فأهلّ بالحج، قال (عليه السلام): "لا يطوف بالبيت حتى يأتي عرفات، فإن هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علة فلا يعتد بذلك الطواف"(15)... )(16).
و(أما القول الثاني: فقد استدل بجملة أخرى من الروايات، مما توجب الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على خلاف الأفضل، كموثقة إسحاق، عن رجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خالياً فيطوف قبل أن يخرج، عليه شيء، قال: "لا"(17).
وصحيحة علي بن يقطين، عن الرجل المتمتع يهلّ بالحج ثم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى، قال: "لا بأس"(18)...)(19).
الجمع الدلالي بين الطائفتين من الروايات
ثم قال: (والجمع الدلالي بين الطائفتين بعد إسقاط ضعيف الدلالة منهما يقتضي جواز التقديم.
وهذا هو الذي يقتضيه الاعتبار، فإن كثرة الحجاج يقتضي أن يجوز ذلك لئلا يقعوا في العسر بلزوم طوافهم وسعيهم كلهم مرة واحدة بعد الحج، خصوصاً عند من يرى أن وقتهما إلى ثلاثة أيام بعد العيد)(20).
وتوضیحه: أن قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) يكشف عن واحد من (أهم) مقاصد الشريعة، ولكن حيث أن من الواضح أنها(21) تشكل إحدى الملاكات ولذا لا يمكن استنباط الحكم منها مباشرة إذ لا يعلم لعل هناك ملاكاً آخر أقوى مزاحِماً لملاك التيسير كما في الجهاد والخمس والزكاة والحج وغيرها.
ولكن ومع ذلك، وفي الاتجاه المقابل، فإن مقاصد الشريعة، كدليل اليسر، يمكن أن تعتبر مرجحاً في باب تعارض الأخبار بناء على التعدي من العلل المنصوصة إلى غيرها حسب ما ذهب إليه الشيخ والعلل المنصوصة مثل ما ورد في مرفوعة العلامة عن زرارة: "خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَ دَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ فَقَالَ (عليه السلام): خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ فَقَالَ (عليه السلام): انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ قُلْتُ رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ (عليه السلام): إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ"(22) ومثل ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة "الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَر"(23) بناء على شمول ذلك للأخبار وعدم اختصاصه بباب القضاء.
وأما دليل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ) فانه ليس من المرجحات المنصوصة في باب تعارض الأخبار، ولكنّ من يرى التعدي عن المنصوصة إلى غيرها لقرائن ذكرها الشيخ وغيره (وقد فصلناها في بعض الكتب(24)) فأن له أن يرجح روايات صحة تقديم الطوافين على الوقوفين، استناداً إلى قاعدة التيسير، وذلك كان توضيحاً للمبنى الذي رجّح به السيد الوالد طائفة اخبار جواز التقديم، مما يكشف عن أهمية مقاصد الشريعة في معادلة الاستنباط لو كان نظر الفقيه إيجابياً تجاهها ولكن – وبلا شك - في ضمن ضوابط الاستنباط.
نعم قال بعد ذلك (كما أن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهما بعد منى يؤيد قول المشهور، لكن موافقة الأخبار الأولة للمشهور وموافقة الأخبار الثانية للعامة كما قيل، يوجب عدم إمكان الفتوى بجواز التقديم، فالاحتياط بالتأخير لغير المضطر لا بد من رعايته، وإن كان قُربُ اتحاد حكمي التمتع والمفرد(25) مع جواز التقديم في المفرد يقوي جواز التقديم في التمتع أيضاً)(26).
لكنه – حسبما نُقل عنه مكرراً – فانه في أواخر عمره المبارك يبدو أن مقصد التيسير تقوّى في نظره أكثر فرفع يده عن الاحتياط الوجوبي أيضاً وأجاز – حسب المنقول – تقديم الطوافين على الوقوفين للمختار من غير عذر.
وأخيراً: يمكن إلقاء الضوء على مدى أهمية الإطار العام ومدخلية السياق في التغيير الشامل أو النسبي(27) لاتجاه دلالة المفردة أو النص أو في كيفية التأثير في عملية الاستنباط، بالشجرة في الغابة فإن الغابة لها هيئة اجتماعية خاصة وقد يعبر عنها بالعلة الصورية، ولهذه الهيئة آثار على البيئة وغيرها ولكن الأشجار لو انفصلت عن بعضها البعض فكان الفاصل بين كل شجرة وأخرى كيلو متراً مثلاً فإن هذه الأشجار لا تمتلك حينئذٍ التأثير على البيئة ولا تكون حينئذٍ مأوى للحيوانات ولا تصلح محلاً للارتياد والنزهة أو شبه ذلك(28) وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق