q

أراد المشككون من الفلاسفة أن يباعدوا بين مسمى المراتب الوجودية للكائنات وبين إخراجها من العدم ولذا أقدم هؤلاء على إعطاء الموجودات بعض الأوصاف التي لا تتناسب مع المبادئ الأولية التي تساعد في إيجادها ونقلها من القوة إلى الفعل، ومن هنا فقد عمد أولئك إلى التفريق بين المخلوقات التي يصدق عليها الوجود الفعلي وبين المخلوقات التي لم تدخل حيز الوجود، ولهذه الأسباب ظهر لديهم مصطلح العدم المطلق دون إضافة التعريف المائز بين ما ذهبوا إليه وبين ماهية الأشياء، وعند مجانبة هذا الواقع نرى أن الأبعاد المثالية لمسمى الكائنات التي شاء بعض الفلاسفة أن يسيرها بين الناس قد اتخذت الاتجاه المعاكس الذي يثبت لها المعنى المعبر عن صحة إيجادها دون المجازفة المؤدية إلى حتمية عدمها، وهذا ما ذكره تعالى في أصل الأشياء الذي جعله ثابتاً ثم بين القدرة على التصرف في فروعه، أو من خلال الطرق المختلفة التي تشارك في انتفاء العدم المطلق بعد أن علمت أسباب وجوده في علم الله تعالى دون التفريق بين واقع الأشياء اللاحق وبين أصلها الثابت كما بينا.

وتأسيساً على ما تقدم نرى أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذا المعنى في كثير من متفرقاته، كما في قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين... على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون) الواقعة 60- 61. وكذا قوله: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً) النساء 133. وقوله: (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) إبراهيم 19. وكذلك قوله: (في أي صورة ما شاء ركبك) الانفطار 8. وقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1. والنكتة ظاهرة في إضافة قوله: (مذكوراً) إلى قوله: (لم يكن شيئاً) حيث إن النفي وقع على الذكر دون الأصل الثابت لأن القرآن منزه عن الزيادة فتأمل ذلك بلطف ثم انظر إلى الآيات آنفة الذكر وستجد أن بينها مشتركات فعلية تدلل على ما ذهبنا إليه.

من هنا يظهر أن الصور الملازمة للمواد الأولية للخلق لا يمكن أن تكون مسبوقة بمثال يمهد لمقدماتها الهيئة التي تبدأ منها أو تنتهي إليها، وذلك كون الله تعالى هو المبدع وهو المصور والخالق الذي لا حدود لقدرته، واعتماداً على هذا السرد نلاحظ أن الإيجاد الأول المستطرد في إخراج الأشياء من العدم لا يخضع للزمان أو المكان وإنما يخضع للوجود بمحض الإرادة التكوينية، علماً أن الفلسفة التصويرية تطابق هذا النهج مع التسليم بأن أصل الأشياء يرجع إلى الابتكار المسبق الذي لا يعتمد على مثال سابق كما ذكرنا، وسيمر عليك تفصيل هذا المعنى في تفسير آية البحث وسترى أن كل الأشياء تحدث بمحض إرادته سبحانه دون تدخل العوامل التي تساعد على الإيجاد كالروية أو البديهة، فالأمر ليس أمراً لفظياً بل هو خاضع للإرادة التكوينية، ولأجل التقريب فإن الإنسان لا يأمر عينه لترى أو أذنه لتسمع وإنما القصد يحدد المراد، وإن كان في المثال قياس مع الفارق وإن شئت فاحكم بانتفاء القياس نظراً للتباين بين الخالق والمخلوق.

وبناء على ما تقدم نعلم أن جميع الموجودات خاضعة لأمر الله تعالى سواء كانت حاضرة في عالم التكوين أو عالم المشيئة، وفي كلتا الحالتين هي واقعة تحت قيمومة الحق سبحانه دون أن يخفى عليه أصلها أو الوجهة التي ستصير إليها، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء... هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران 5- 6.

تفسير آية البحث:

قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) البقرة 117. الإبداع إنشاء صنعة على غير مثال سابق، وقوله سبحانه في آية البحث: (بديع السماوات والأرض) أي هو جلت قدرته قد أبدع في خلق سماواته وأرضه، والمبدع هو المحدث للشيء على صورته التي لم يسبقه إلى إيجادها أحد، ولذا سمي المبتدع في الدين بهذا الاسم لإحداثه فيه ما لم يكن قد اشتهر في الأصل، ومن هنا فقد ذم تعالى الذين شرعوا لأنفسهم الرهبانية ولم يحافظوا عليها، علماً أنها كانت مرضية عنده جل شأنه إلا أن الذم وقع عليهم بسبب عدم تشريعه سبحانه لها، وهذا الفعل أقرب إلى من يشرع لنفسه ما يشاء من الأعمال التي يظن أنها تقربه إلى الله زلفى إلا أن حقيقة تلك الأعمال لا تنسجم مع الشرع الإلهي وإن كان ظاهرها يوحي بالملازمة النسبية للدين، وقياساً إلى هذا الوجه تظهر النكتة في قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) الحديد 27.

قوله تعالى: (وإذا قضى أمراً) من آية البحث. أي أتم الأمر وأتقنه على صورته التي ينتهي إليها، والأصل في قضى يرجع إلى انقطاع الشيء، وهو من المشتركات التي يجمعها معنى الفراغ من العمل، وقد ورد هذا المفهوم في كثير من الآيات إلا أن المصاديق اختلفت نظراً للقرينة المصاحبة للسياق، كما في قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً) الإسراء 4. أي أخبرناهم بذلك، ومنه قوله سبحانه: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) الإسراء 23. أي أمر وشرع ألا تعبدوا... إلخ. وقد يأتي قضى بمعنى الوفاء بالدين، كما في قوله: (فلما قضى موسى الأجل) القصص 29. ويأتي بمعنى الخلق كما في آية البحث، وكما في قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات) فصلت 12. وهنالك آيات أخرى.

أما الأمر فهو كلمة الإيجاد التي يتم بواسطتها الخلق دفعة واحدة وإن كان الجامع يشتمل على مصاديق متعددة ولهذا اختلف المعنى بين الخلق والأمر من الناحية الابتدائية دون النتيجة، وبذلك يظهر السر في قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف 54. والآية تشير إلى المدة التي تم فيها الخلق واستقر على صورته النهائية دون الإضافات المرادة من قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون... والأرض فرشناها فنعم الماهدون) الذاريات 47- 48.

وهذا هو المعنى المراد من الخلق أي ضم الأجزاء بعضها إلى بعض حتى تصل إلى مرحلة الإيجاد التي أطلق عليها سبحانه مصطلح الأمر وبهذا يظهر سبب عطفه على الخلق، وقد يتجلى هذا المعنى بأبهى صورة في خلق الإنسان نظراً للمراحل المتعددة التي يمر بها حتى يصل إلى مرحلة نفخ الروح، وقد بين سبحانه هذه المراحل بقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين... ثم جعلناه نطفة في قرار مكين... ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون 12- 14.

ومجموع الآيات يبين أن الخلق المادي انتقل إلى مرحلة الإنشاء التي تدل على وصول الإنسان من الخلق إلى الأمر المتمثل بنفخ الروح، وكما ترى فإن الخلق لا يتطابق مع الأمر في المراحل الأولى دون النتيجة التي أظهرت القدرة على الإيجاد المصاحب للشعور، وهذا نظير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران 59.

من هنا يظهر أن الخلق هو ضم الأجزاء بعضها إلى بعض بلحاظ إرجاعها إلى توسط الأسباب الطبيعية وإن شئت فقل توسط الأسباب الكونية الخاضعة لقانون العلية، أما الأمر فهو وجود الشيء دون تدخل تلك الأسباب، وهذا هو المعنى المراد من آية سورة آل عمران آنفة الذكر التي أشارت إلى خلق آدم من تراب ثم انتقلت إلى مرحلة نفخ الروح، التي عبر عنها تعالى بقوله: (ثم قال له كن فيكون) وهذا المفهوم يتطابق مع آيات سورة قد أفلح... فتأمل ذلك بلطف.

* من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق