تتضمن الآيات الاربع والعشرين الاولى من سورة الحج محوري الخلق والبعث، وتبدأ بإنذار الناس من الساعة والتحذير من الريب فيها، وتوكيد الساعة بما لاريب فيها، وان الله يبعث من في القبور.
والخطاب في هذه الآيات الاربع والعشرين عام الى كل الناس، لاسيما وان العرب في الجاهلية كانت لا تعرف او لا تؤمن بشيء من المعاد رغم ايمانها بالله إلها وخالقا ومُبديء، لكنه ليس معيدا، ولذلك شدّد القرآن على عقيدتين نفي الشرك وتوكيد المعاد والبعث، وقد كان نفي المعاد والبعث وتوكيد الشرك هما محوري ديانة العرب المشركين في الجاهلية، ويؤكد نولدكه الالماني على ان محور خطاب القرآن هو المعاد في بيئة لم تكن تعرف أو تؤمن بالمعاد. وضمن تلك الآيات ينتقل القرآن الى تخصيص خطابه بفئة من هؤلاء الناس وتبدأ من الآية " 3 " وتشمل الآية " 4 " حيث تبدأ بقوله تعالى "ومن الناس" وهم فئة تجادل جدل الخصومة وليس جدل الاقناع لأنها لا تستند الى علم بل الى التقليد والاتّباع، لذلك لا يجادلهم القرآن بل يعود في الآية "5" الى خطاب الناس عامة حيث يبدأ بقوله تعالى "يا أيها الناس" مستدلا على البعث والمعاد بالنشأة الاولى للإنسان من التراب، ثم بالنشأة الثانية له في الارحام، ثم في الاجل المسمى له، ويقرن تلك المسيرة في الخلق بإحياء الارض بعد موتها بإنزال الماء عليها فتهتز وتربو.
وفي الآية السادسة يربط بين الحياة بعد الموت أو البعث بصفة أو اسم الحق لله تعالى وأنه يحيي الموتى لانه سبحانه وتعالى هو الحق وفي الآية السابعة يؤكد أمر الساعة ويقرنه بالبعث من القبور لكنه يعود في الآية "8" الى الآية "13" بتخصيص الخطاب الى فئة أخرى من الناس، وهي فئة أصابها الغرور بما اعتقدت وبما كسبت من الدنيا، وهي تجادل الله في الخلق والبعث والمعاد وجدلهم هذا لا يستند الى علم او هدى او كتاب منير كما يصف القرآن أحوالهم تلك. ويرى المفسرون أن هذه الفئة تختلف عن الاولى في الآية "3" بأنهم هم رؤساؤهم بينما الفئة الاولى هم أتباعهم لقوله تعالى في وصفهم "ويتبع كل شيطان مريد".
وقد دأب العرب المشركون في محاججتهم للنبي الكريم "صلى الله عليه واله وسلم" والقرآن العظيم على عدم الاستناد الى علم او هدى أو كتاب منير، لأنهم أميون لم يقرأوا كتابا ولم يستنيروا بنور العلم الا علم الكهانة الذي ضعفت حجته أمام القرآن وأما البلاغة فإنها لم تكن لهم علم وإنما سليقة فُطروا عليها ولذلك لم يحاججوا القرآن في بلاغته، وقد فعلها من بعدهم أقوام في تاريخ الاسلام ممن أطلق عليهم الزنادقة بعد ان صارت البلاغة علم واللغة قواعد وقد دُحضت حجتهم.
واذا كان القرآن يحاجج الناس عامة بالخلق في الآية "5" من أجل توكيد البعث والمعاد، فانه لايحاجج هذه الفئة من الناس التي أصابها غرور الكسب ورغد العيش وعبر عنها بإثناء العطف وهو التبختر في قوله "ثاني عطفه" بل شرع القرآن في الآيات من "14" الى "24" في توكيد المعاد والبعث والجنة والنار كحقائق في الكون، وخاتمة آية "14" التي تبدأ بالتوكيد تؤكد هذا في قوله "إن الله يفعل ما يريد" فالبعث والمعاد والجنة والنار يدخل في إرادة الله تعالى، وهي لذلك حقائق في الكون لأنها من الخلق بالحق وتوكيد من خلال البعث والمعاد على أن خلق السماوات والارض لم يكن لهوا ولم يكن باطلا بل هو الخلق الحق الذي يترتب عليه وينشأ عنه الحق في الثواب والعقاب في البعث والمعاد.
فالبعث والمعاد يؤكد ذلك الحق في الكون والخلق، ولذا فهما من حقائق الكون ومن الحق في الخلق يقول الله تعالى "وما خلقنا السموات والارض ومابينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " سورة الدخان آية، 39، والآية في ضميمتها الحق في البعث والمعاد وقوله "وما خلقنا السموات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا" سورة ص، آية 27، وعندما يظن المشركون بباطل الخلق وعدم الحق في الكون فانهم لا يظنون بالبعث والمعاد والحساب وتلك جزء من عقيدة مشركي العرب قبل الاسلام، وهكذا، فالبعث والمعاد من حقائق الكون ومن الحق في الخلق.
وعلى مستوى تلك الحقائق الكونية، ويضاف اليها التشريعية يكون الحج، فالآيات من " 24 " الى " 37 " التي أعقبت آيات الخلق والبعث والمعاد تكون هذه الآيات في الحج وهي بذلك تنتظم في سياق الحقائق الكونية، لكن يضاف اليها التشريعية، فمن وسائل وآليات القرآن هو إنتظام الموضوعات في سياق واحد ولو من طرف خفي رغم اختلافها في موادها وقضياها.
- البيت الحرام المناط والمركز الإلهي
اذا كانت الآيات الأربع والعشرين تتنقل من تعميم الخطاب الى تخصيصه بفئة من الناس، فان الآية " 25 " تخصص الخطاب الى فئة أخص وهي فئة الكافرين والوعيد لهم على أمرين: أولهما الصد عن سبيل الله عامة والثاني الصد عن المسجد الحرام خاصة، وتكشف هذه الآية عن موازاة حرمة ومكانة المسجد الحرام لعامة سبيل الله، وهي تؤكد بذلك عظمة أمر المسجد الحرام، وبالضميمة نكتشف حرمة المؤمن التي هي عند الله أعظم حرمة من البيت الحرام في الزمن الحرام، كما أخبرنا النبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" ثم نكتشف أمرا آخر هو أن البيت الحرام مناط بمركزه الإلهي بالناس عامة فالآية تقول "والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد " وتستمر الآيات اللاحقة في تعميم الخطاب الى الناس عامة فالآية " 27 " تكشف عن توجيه من الله تعالى الى النبي إبراهيم بالآذان في الناس كافة بالحج يأتون وعلى كل ضامر من كل فج عميق.
وقد سعى بعض المفسرين الى تخصيص الخطاب، لكن الآيات ظاهرة بتعميم الخطاب الى الناس كافة، لاسيما وأن مفتتح سورة الحج هو الخطاب الى الناس عامة وكافة، ويؤكد ذلك أن الرواية الإسلامية أشارت الى إجابة النطف وهي في الارحام الى نداء النبي إبراهيم وهي لم تكن قد آمنت بعد، بل أن ألله تعالى أخبر عن أول بيت وضع للناس كافة دون تخصيصه بفئة دون أخرى في قوله "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا" آل عمران آية "96" مما يؤكد على شمولية مركزه الإلهي للناس كافة وفي الآيات "12" البقية في سورة الحج من آية "28" الى آية "37" لم يخصص الله تعالى خطابه للمؤمنين من أهل الاسلام، كما دأبت آيات القرآن في الفرائض والاحكام على تخصيص المؤمنين بالذكر، بل انها في سورة الحج ظلت تعمم الخطاب الى الناس كافة وعامة في أمر الحج وحكمه، لكن وصفتهم بالمخبتين وبالمحسنين في الآية "34" والآية "37" وقد اشترطت أن يكونوا حنفاء لله غير مشركين في الآية "31" وقبلها في الآية "30" يصف الله تعالى أحوال هؤلاء الحنفاء بتعظيم حرمات الله وحليّة الانعام لهم إلا ما يتلى عليهم في الحرمة منها واجتنابهم الرجس ومنها الاوثان، واجتنابهم قول الزور، وإفراد قول الزور بالذكر وإقترانه في الذكر بالأوثان يكشف عن مقت الله تعالى له وخطر إثمه وذنبه، ولعل القصد هو قول العرب المشركين في أوثانهم التي كانت تدنس البيت الحرام ولأنها دنس وُصفت في الآية بالرجس سواء الاوثان أو قول الزور وهو يشمل كل قول زور.
وفي الخطاب الى الناس كافة في أمر البيت والحج نجد أن الله تعالى حين أوجب الحج قال تعالى "ولله على الناس حج البيت من إستطاع اليه سبيلا" سورة آل عمران آية "97" بينما نجد في أحكام الصلاة والصوم وباقي الفرائض في آيات القرآن أنه تعالى يحيلها الى المخاطبين من المؤمنين ما خلا الحج فانه يحيل الخطاب فيه الى الناس كافة، ثم يحيل وجوبه وحقه ومرجعيته وعائديته الى ذاته المقدسة سبحانه وتعالى فيقول "ولله على الناس حج البيت" وقد ذهبت بعض أراء الفقهاء المسلمين الى مشاعية السكن والاقامة في البلد الحرام الذي يضم المسجد الحرام لقوله تعالى "والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" ولم يروا جواز أخذ الاجرة عن السكن في مكة بل قالوا بحرمة كراء الدور وبيعها في مكة واحتجوا بهذه الآية وبالخبر عن النبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" وفيه يقول "مكة مباح لمن سبق اليها" وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ويروى عن ابن عباس، وهي رواية المفسر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، وخالفهم آخرون فاقتصروا بالسبق على المسجد الحرام دون البلد الحرام.
وتحمل دلالة ختام القرآن العظيم في الحج في حجة الوداع ونزول الوحي بإكمال الدين وإتمام النعمة في هذا الحج الأخير للنبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" تحمل وتؤشر رمزية ذلك المركز الإلهي للبيت الحرام الذي بِدأ نزول القرآن وختامه فيه، ومركزية الحج وأهميته في تشريعات الله تعالى للناس كافة لاسيما وأن الله تعالى يقول في الآية " 34 " من هذه السورة المباركة قوله "ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ليذكروا اسم الله ".
اضف تعليق