بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([1])
وقال جل اسمه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([2])
بمناسبة المولد الميمون المبارك لأمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المواليد المباركة في هذا الشهر العظيم وفي شهر شعبان المعظم، نتوقف في هذا الأسبوع والأسابيع القادمة عند هاتين الآيتين المباركتين، ومن ثم نكمل الحديث عن البحوث والمطالب المتعلقة بآية الوحدة بعدئذٍ بإذن الله تعالى.
ان التدبر في الآيتين المباركتين يوصلنا إلى عدة بصائر وحقائق:
البصيرة الأولى: العموم في الآيتين الكريمتين
إن قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ) وكذا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يحتوي على عموم واطلاقات ثلاثة:
أ: فأما العموم في قوله تعالى (وَلِيُّكُمْ) فهو واضح لا غبار عليه وهو بلحاظ الخطاب والمخاطب والمولى عليهم، فلا استثناء في المخاطب ولا تخصيص في توجيه الخطاب، بل الولاية المجعولة من قبل الله تعالى بشقيها، أي الولاية التكوينية والتشريعية، عامة سارية على جميع البشر والخلائق والانس والجن والملك، وليست خاصة بالمسلمين أو المؤمنين أو بشريحة خاصة في المجتمع، بل ان هذه الولاية سارية حتى على الكفار، بمعنييها التكوين والتشريعي والتي تعني إضافة للهيمنة التكوينية: سلطة انشاء الاحكام المولوية طبقاً للمصالح الواقعية التي منح الله معرفتها للإمام (عليه السلام) والولي.
ولعل قائلاً يقول: إن الخطاب الموجود في الآية موجّه الى المسلمين بلحاظ ضمير (كُم) وقد تكون هذه قرينة على تخصيص ولاية الولي بهم، فلا عموم مستفاد من الآية؟
الا انه مردود لأن (الاتيان) بضمير (كُم) إنما هو لجهة ان الخطاب يحتاج الى مخاطب، حيث لا يتحقق من دون اشارة الى مخاطب معين.
وان شئت فقل: انه بلحاظ المقام وهو مقام جعل الولاية فانه يراد من (كُم) جميع المكلفين لوضوح ان ولاية الله تعالى ثابتة على جميع المكلفين فكذا ولاية رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة...، وتحقيقاً للخطاب ذكر ضمير المخاطب راجعاً إلى من يتميز بالتقبّل وإن عم غيره حكماً وواقعاً.
أما عمومية آية (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) فمستفادة من حذف المتعلق فانه دال على العموم عند العلماء إن لم تكن هناك قرينة على الخلاف، وذلك من حيث ان الآية تتطرق الى ذكر المولى عليهم، فلم تقل: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) على اهل العراق او مصر او البلاد الغربية مثلاً، بل سرحت اللفظ وأطلقته من دون تخصيص بمجموعة معينة بشرية او اسلامية فتكون الولاية الالهية المجعولة عامة شاملة للجميع بلا استثناء.
البصيرة الثانية: الإطلاقات الثلاث في الآيتين الكريمتين
أما الاطلاقات الثلاثة الموجودة في الآيتين فهي:
1- الاطلاق الزماني:
فان ولاية من جعلت له الولاية في الآية ليست محدودة بزمن معين دون زمن، كما هو الحال في ولاية رؤساء الجمهورية المحدودة بزمن معين (كأربع سنوات مثلاً)، وكذا الأمر فيما لو جعلت ولاية المتولي على الوقف محدودة ومقيدة، إلا ان ولاية الائمة الاطهار (عليهم السلام) ولاية الهية عابرة للحدود الزمانية، ومهيمنة عليها، فعلي امير المؤمنين (عليه السلام) وليٌ لجميع الخلائق والكائنات اجمعين، على امتداد التاريخ، سواء في حياته الطاهرة أم بعد مماته، والدليل على ذلك هو الآية بنفسها إذ يقول تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([3]) فان ولاية الله جل علا والتي هي المنبع لولايتهم (عليهم السلام)، عامة تامة شاملة فهل يعقل ان يقال: ولايته تعالى على خلقه مخصوصة بزمن دون زمن؟ كلا، فالولاية الممنوحة لهم من قبله تعالى والمجعولة كذلك لا يحدها زمان إذ جعل تعالى الولاية لرسوله (صلى الله عليه وآله) وللأئمة (عليهم السلام) بعد ولايته مباشرة وبدون تقييد.
2- الاطلاق المكاني:
وكالإطلاق الزماني للولاية الالهية المجعولة، هناك إطلاق مكاني لها، إذ لا تقتصر ولايتهم على اماكن خاصة كأماكن تواجدهم ولا على الكرة الأرضية ولا على المنظومة الشمسية أو على مجرة درب التبانة مثلاً بل ولا على ظاهر عالم الدنيا فحسب، بل هي ولاية نافذة في جميع الاماكن: ما ظهر منها وما بطن وما يرى وما لا يُرى.
3- الاطلاق الأحوالي:
وكذلك الامر في ولايتهم (عليهم السلام) وامامتهم من حيث الشمول والعموم بالنسبة الى الاحوال المتنوعة والحالات المختلفة فان "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ إِمَامَانِ قَامَا أَوْ قَعَدَا"([4]) فهي غير منوطة بحالة معينة من القعود او القيام، او القدرة الظاهرية او العجز الظاهري، أو حالة الحرب أو السلم أو الحضور والغيبة.
هذا بلحاظ الولي، وكذا الولاية غير منوطة بحالات المولى عليهم، فمهما بلغ الناس من العلم أو القدرة أو التطور الحضاري والتقدم فانه تبقى ولايتهم (عليهم السلام) على الناس أجمعين، ثابتة غير متزلزله، كولاية الله تعالى عليهم.
والحاصل: ان البشر وغيرهم من خلائق الله، جميعاً مأمومون لهم، مهما بلغ الامر بهم من التطور والتقدم العلمي والحضاري والنظامي والعسكري.
وهذا خلافا للولايات الاخرى التي جعلها الله لأصناف خاصة وفي حالات معينة، كالفقهاء والاب والجد، فإنها ولاية اخذ بالاعتبار فيها حالات معينة وأزمنة محددة – كزمن حياتهم مثلاً.
البصيرة الثالثة: الولاية والامامة المطلقة تستلزم العصمة التامة
إن هذه الامامة والولاية العامة المطلقة بإطلاقاتها الثلاثة حيث انها غير مقيدة بشيء، تستلزم ثبوت العصمة لهم في مرتبة سابقة، وذلك بلحاظ دليل الحكمة، إذ لا يعقل أن يجعل الله تبارك وتعالى أشخاصا أئمة وأولياء لكافة الخلائق وعلى امتداد التاريخ ومن دون أي قيد زماني ومكاني واحوالي، مع احتمال ان تصدر منهم المعصية أو السهو أو الغلط أو الخطأ، ومع كونهم ممن تتحكم بهم القوى الشهوية والغضبية ولو في بعض الحالات أو الأزمنة.
فالإطلاقات الثلاث بحد ذاتها كاشفة عن وجود صفة العصمة فيهم وثبوتها لهم، وإن كان الاطلاق الزماني بوحده كافيا في الكشف عن ذلك ببيان أدق، الا ان الامر في دلالة الإطلاق الأحوالي على العصمة لهم، بديهي واضح.
فهم (عليهم السلام) في كل حالاتهم ولاة واولياء على جميع الكائنات.
وبتعبير آخر نقول: إن المحتملات هنا ثلاثة لا سبيل الى اثنين منها، فيبقى واحد منها هو المتعين:
الاول: ان يصار الى انه لا ولاية لهم في حالات معينة كالغضب أو العصيان، وهذا كما عرفت خلاف الإطلاق الأحوالي المستحكم
الثاني: أن يصار الى ان لهم الولاية حتى في مثل تلك الحالات من الخطأ والنسيان والغضب، وهذا أيضا لا يمكن تبنّيه، لأنه خلاف حكمة الله تعالى فهل يعقل أن يأمر الله تعالى باتباع من اخطأ في الحق في حالة الغضب في خطأه؟ أو ان يأمر باتباع من يعصيه في معصيته؟ وهذا منفي بدلالة الاقتضاء وهي ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه.
الثالث: أن يقال ان مثل هذه الحالات والنواقص البشرية منتفية في حق من جعلهم الله تعالى ائمة وأولياء وباعتبار انتفائها في حقهم منحهم الله هذه المرتبة العظيمة فهي سالبة بانتفاء الموضوع، وهذا هو الاحتمال المتعين.
البصيرة الرابعة: الامامة من الصفات الحقيقية ذات الاضافة
ان الامامة والولاية هي من الصفات الحقيقة ذات الاضافة المتقومة بالطرفين فانه لا يتحقق جعل الامامة والولاية لطرف، من دون أن تجعل المأمومية([5]) للطرف الآخر.
والحاصل: ان جعله إماما يعني جعلي مأموما، إذ لا يعقل التفكيك بين الامرين.
من هنا يتضح ان جعلهم أئمةً بصورة مطلقة وفي جميع الحالات، يعني جعلنا مأمومين لهم في مختلف حالاتنا وفي شتى الازمنة والامكنة والاوضاع.
كما ان جعلهم أولياء وولاة بقول مطلق يعني اننا مولى عليهم بقول مطلق أيضاً.
ومما يوضح المقصود بجلاء التمثيل ببعض المفاهيم ذات الاضافة المتقومة بالطرفين مثل (الفوقية) و(الموازاة) في الامور الانتزاعية و(المالكية) في الامور الاعتبارية.
فلو قيل: ان هذا السقف فوق، فلا شك ان بإزاء تحقق هذا المفهوم، يتحقق المفهوم الاخر وهو ان ارضه تحت، وكما يتلازم هذان المفهومان وجوداً، كذلك يتطابق المفهومان في حدودهما وسعتهما وضيقهما، فإذا كان السقف فوقاً بمساحة (5) أمتار فلا بد ان تكون الأرض تحتاً بذلك المقدار، لا أزيد ولا انقص.
وكذلك الحال في الخطين المتوازيين، فإذا كان هذا الخط موازياً لذاك، فمعناه أن ذلك الخط موازٍ له أيضاً، فلو نقص الخط الآخر بمقدار مليمتر أو نانومتر لأختل مفهوم الموازاة فلا يكونان خطين متوازيين، هذا خلفٌ.
واما في دائرة الاعتباريات: فكالمالكية فانه إذا تحققت مالكية الشخص لشيء ما، فلا جرم كان ذلك الشيء مملوكاً له، فإذا ملكت ألف متر من الأرض، فهي –على هذا- كلها مملوكة لي لا ينقص منها شيء لأنه إن زيد أو نقص، فانه خلاف فرض أنه مالك لألف فقط.
الإمامة المطلقة تستلزم المأمومية المطلقة
إذن كونهم أئمة (عليهم السلام) بقول مطلق وبالجعل الالهي كما هو مفاد الآية الكريمة، يعني أننا مأمومون لهم بجعل الهي بقول مطلق: في مختلف الأماكن والأزمان والحالات، إذ جعل ذاك مطلقاً شاملاً يستلزم جعل هذا مطلقاً شاملاً.
نعم يبقى السؤال عن أن هذا الجعل -في مرتبة المولى عليه والمأموم- جعل بسيط أم جعل مركب؟؟ أو هل هو جعل أصيل أم جعل تبعي، - وهو بحث قد نتطرق له في البصائر اللاحقة الآتية بإذن الله تعالى.
هذا إن ذهبنا الى وجود جعل آخر، ويمكن أن يقال: أنه هو هو فجعله جعله، على تفصيل آتٍ بإذن الله تعالى.
التسليم المطلق للأولياء طريق لامتثال هذا الامر الالهي
بعد أن عرفنا أننا مأمومون ومولى عليهم، بشكل مطلق، وأن للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) علينا ولايةً مطلقةً وإمامةً عامةً، فلا طريق لنا لإحراز رضا الله تعالى إلا عبر الوصول إلى مقام التسليم المطلق والامتثال الشامل العام لجميع أوامرهم ونواهيهم وأقوالهم.
إننا إذا آمنا وأذعنا أنهم الأئمة علينا وأنهم أولياء أمورنا، فلا محيص ولا مخرج ولا مفر ولا طريق إلا أن نؤمن كما قال تعالى. (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)([6]) فهذه الآية المباركة تكمل المستفاد من آية (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...) فيما يتعلق بتكليفنا كمأمومين في مقام الامتحان والامتثال، فكم نحن مسلّمون لهم؟
وعليه: فحتى لو شكّ الانسان أو ظن بخلاف ما يفعله أو يقوله أو يقرره الإمام (عليه السلام)، فلا بد أن يلغي شكه وظنه ولا يعير له بالاً وذلك لأنهم (عليهم السلام) الأئمة والأولياء شئنا أو أبينا (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)([7]).
بل لا بد أن يرتقي التسليم لهم، إلى دائرة الجوانح والنية والذهن والقلب أيضاً فلا يكفي - في تحقيق الدائرة العليا للإيمان والتسليم- أن يمتثل الإنسان خارجاً لما يقوله الامام، بل عليه مع ذلك أن لا يجد في نفسه وذهنه وعقله وقلبه حرجاً أو أدنى ضيق مما حكم به الإمام، ذلك انه قد يمتثل الانسان أمر أبيه أو أمه، مثلاُ، لكنه يكون في نفسه شيء من الضيق والحرج، أن مثل هذا العمل والأداء، ليس هو الوجه الأحسن ولا الأمثل، والأمر في شأن الإمام كذلك بل هو أولى، فلا يتحقق الإيمان الكامل بمجرد الالتزام العملي والأداء للأوامر والنواهي والإرشادات، بل لا بد أن يكون ذلك عن طيب النفس وبدون أي شائبة من الحرج النفسي.
ولذا ورد في شأن نصرة الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) "طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ، فِي الصَّفِّ الَّذِي نَعَتَّ أَهْلَهُ فِي كِتَابِكَ"([8]) و"وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِه"([9]) وهذه مرتبة عظيمة، وبمقدار عظمتها وأهميتها، فإنها خطيرة، إذ قد يظن الإنسان نفسه من المسلّمين لهم ومن الراضين بفعلهم، لكن المواقف المختلفة التي تمر على الإنسان، قد تجعله يكتشف انه ليس كذلك.
بين المشاهد العظيمة لبطل من الأبطال وبين المشهد الأخير
وهنا نتوقف قليلاً عند مجموعة من المشاهد المعبرة التي تتعلق ببطل من الأبطال الذين تحلقوا حول يعسوب الدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في إطار هذا البحث (مقام التسليم المطلق) النابع من الإذعان بإمامتهم المطلقة ومأموميتنا الشاملة، وهي مشاهد تحتوي على عبرة لنا ولغيرنا حيث إن كل حادثة فيها، ذات فائدة ترتبط ببحث الإمام والمأموم والمولى والمولى عليه، ونسرد هنا مشاهد سبعة مع مشهد أخير به تكمل العبرة ويتم الاعتبار، والذي هو مربط الفرس في هذا البحث، للبطل العملاق (قيس بن سعد بن عبادة)([10]).
قيس بن سعد بن عبادة البطل النموذجي:
ووالد قيس معروف فانه سيد الخزرج، وكان قيس من أدهى دهاة العرب حتى عدّوه ضمن الخمسة المعروفين([11])، وقد اعتبره العلامة الأميني (قدس سره) (في الغدير) أدهاهم لشواهد وقرائن، ومع ما كان عليه من الدهاء والذكاء والقوة، إلا أنه انضوى تحت راية الإمام الحق وسار في ركابه مطيعاً ممتثلاً، فمع أن الإمام الحق صارم لا يجامل يريد الواقع ولا يداهن: ولذا يبتعد عن قواعد الغاية تبرر الوسيلة وعن مختلف صنوف الحيل لأنها لا تنسجم مع الواقع والحق، إلا أن قيساً مشى في ركب الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن (عليهما السلام) مبتعداً عن استعمال الحيل خاضعاً لمرّ الحق، بما يكشف عن أنه كان ذا نفسية عالية رفيعة نجح في امتحان تفضيل الحق والواقع على الالتواء والحيل.
وكان معاوية يحسب له ألف حساب، فبعد أن التحق بمعركة صفين، غضب معاوية غضباً شديداً، وكتب إلى واليه على المدينة موبخاً: (بأن تهيجك قيساً لكي يلتحق بجيش علي (عليه السلام) أشد عليّ من مائة ألف سيف!، ولم يكن يغيظنا أن تمد علياً بمائة ألف مقاتل كما أغاظني إمداده بقيس) ونص عبارته (فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيَّظ عليهما ويقول: أمددتما عليّاً بقيس بن سعد ورأيه ومكايدته، فوالله لو انَّكما أمددتماه بمأة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ إليَّ من إخراجكما قيس بن سعد إلى عليّ (تاريخ الطبري 6 ص53) )([12]).
والسر في غيظ معاوية إن مثل حضور قيس في ساحة الحرب التي تعتمد على الخدعة والحيل، كان معونة كبيرة عظيمة لأي جيش، فالساحة العسكرية من جهة تعتمد على البطولة ومن جهة أخرى هي أكبر وأعظم تعتمد على المقدرات الذهنية للقادة العسكريين، فمثله وهو من أدهى العرب كان يشكل خطراً عظيماً على جيش معاوية إذ انه يكتشف مختلف ألوان دهائه –أي دهاء معاوية– مسبقاً ويحبط مخططاته المبنية على صنوف الاحتيال مبكراً.
المشهد الأول: قائد شرطة ورافع لواء
وكانت مكانته الرفيعة بحيث جعل بمنزلة قائد للشَرَطَة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان موقعاً حساساً جداً- كما يقوله الاميني في الغدير-، وقد استعمله الرسول (صلى الله عليه وآله) مسؤولاً على (الصدقة)، ما ينبئ عن مدى وثاقته عند الرسول، كما ان الرسول أعطى في بعض الغزوات، راية الأنصار بيده.
المشهد الثاني: الإنفاق في سبيل الإسلام
وتفصح عن نفسيته الرفيعة وكرمه العظيم، ما تميز به قيس من الإنفاق في سبيل الدين والاسلام في جيش العسرة، حيث كان يعاني الجيش الاسلامي من ضائقة مالية كبيرة جداً حتى ان الله تعالى قال: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([13])، فأتى قيس بكل ما يملك من قطيع اغنام وغيرها، فذبحها ووزعها على الجيش، حتى نفد كل ما كان يملكه، فبدأ يستدين ويزود الجيش بالطعام.
فشكاه بعض أفراد قبيلته من أنفاقه هذا، فرفع الخبر إلى رسول الله فقال (صلى الله عليه وآله): (الجود من شيمة أهل ذلك البيت).
كما جاء في التاريخ: (قال جابر: خرجنا في بعثٍ كان عليهم قيس بن سعد ونحر لهم تسع ركائب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله ذكروا له من أمر قيس فقال: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، ولما ارتحل من العراق نحو المدينة ومضى بأصحابه جعل ينحر لهم كل يوم جزورا حتى بلغ)([14])
وهكذا نجد انه كان متسماً مضافاً الى شجاعته وذكائه بصفة الكرم الذي لا يضارع، لا تصنعاً كما يفعله البعض، بل صدقاً وحقاً.
المشهد الثالث: المبدئية
وذات يوم، وبعد انتهاء قضايا السقيفة، جرى ذكر فضيلة للإمام علي (عليه السلام) على لسان والده (سعد بن عبادة) فسمعها قيس فانفجر غضباً وقال لأبيه: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول هذا الكلام في علي (عليه السلام) ثم تطلب الخلافة وتقولون: منا أمير ومنكم أمير" والله لا كلمتك من رأسي بعد هذا كلمة أبداً).
فمع أن المجتمع آنذلك كان مجتمعاً عشائرياً ومن المعروف ان الجميع خاضع لرئيس العشيرة تماماً، إلا أن قيساً لم يترك الجهر بكلمة الحق أمام أبيه وهو رئيس العشيرة خوفاً وحذراً من فقدان المصالح أو الاعتبار أو ماء الوجه بل انه اتخذ موقفاً صارماً منه وقال ما قال وألفت أباه إلى أن الحق ما دام مع علي (عليه السلام) فلا يجوز لك أن ترفع راية مقابل رايته، وهكذا نجده في هذا المستوى العالي من الانتصار للحق ولعلي (عليه السلام).
المشهد الرابع: قيس ينصح مالك الاشتر بنصيحة ذهبية!
وفي موقف مفتاحي مصيري أسدى قيس إلى مالك الأشتر نصيحةً رائعة تدل على حكمته وعقله ومعرفته العميقة بإمام زمانه واستقامة رأيه وقوة إيمانه، وتعبده بالإمام، يقول العلامة الأميني في المجلد الثاني من الغدير([15]): (وكلامه لمالك الأشتر ينم عن غزارة علمه وحسن تدبيره واستقامة رأيه وقوة إيمانه وهو من غرر الحكم ودرر الحكم رواه شيخ الطائفة في أماليه في حديث طويل: فقال الأشتر لعلي (عليه السلام): (دعني يا أمير المؤمنين أن أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك، فقال علي (عليه السلام): كفّ عني) فانصرف الأشتر وهو مغضب)
أقول: كان مغضباً لا من علي (عليه السلام) وحاشاه وهو الرجل الذي قال عنه علي (عليه السلام): (كان مالك لي كما كنت للرسول) بل لما كان يراه من وضع أولئك الجاحدين المتخلفين عن راية الحق والهداية: راية علي (عليه السلام).
(ثم ان قيس بن سعد لقي مالكاً في نفر من المهاجرين والأنصار فقال له: ( يا مالك كلما ضاق صدرك بشيء أخرجته! وكلما استبطأت أمراً استعجلته! إن ادب الصبر التسليم، وادب العجلة الاناة، وان شرَّ القول ما ضاهى العيب، وشر الرأي ما ضاهى التهمة، فإذا ابتليت فاصبر، وإذا أمرت فأطع، ولا تسئل قبل البلاء، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر، فإن في أنفسنا ما في نفسك فلاتشق على صاحبك...) إلى آخر كلامه، فمن خلال هذه الكلمات الرائعة، والنصيحة الأخوية التي منحها لمالك، نعرف عظمة هذا الرجل، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن، والمأموم لولي مثل علي (عليه السلام).
المشهد الخامس: الإقتدار في إدارة الحكومة بكفاءة ومواجهة الأزمات بحنكة
وفي مشهد آخر يظهر لنا وجه آخر من وجوه عظمة قيس، وكفائته العالية، ومواهبه المتعددة وذلك حينما ولاّه علي (عليه السلام) مصراً عام 36 للهجرة، فاستلم الامر بالتولية من علي (عليه السلام) في شهر صفر ووصل مصر وتولى الولاية في شهر الربيع، وبقي فيها حاكماً لمدة أربعة أشهر وخمسة أيام إلى أن عزل في بداية رجب، وأحل الإمام محله محمد بن أبي بكر.
المهم أن مصر كانت ثائرة ضد الإمام علي (عليه السلام) بتحريك من معاوية، حيث طبق جلاوزته الأجواء كلها على علي (عليه السلام) بشتى الوسائل والطرق والأكاذيب، فانجرف الكثير منهم وثاروا ضد علي (عليه السلام)، لكن قيساً عندما وصل إلى مصر تمكن من تهدئة الوضع، واحتواء الإثارات وإخماد الحرائق، خلال فترة وجيزة، ومن دون أن يريق دماً أو أن يسجن سجيناً.
والشاهد ان قدرته الكبيرة على احتواء تلك الازمة الخطيرة وتفكيكها، وارجاع الامور الى مجاريها الطبيعية في فترة قياسية مؤشر آخر على كفاءته وحكمته وقدراته الاستثنائية.
المشهد السادس: قيادة جيش منهزم وتحقيق الانتصار
من مشاهده المشرفة أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)، ننتقل إلى مشهد آخر من بطولات قيس بن سعد وهو في صحبة أمام آخر من أئمة الحق، وهو الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وذلك حينما كان الإمام الحسن (عليه السلام) في مواجه عسكرية مع معاوية، وكان من القادة على جناح من أجنحة جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، عبيد الله بن عباس، وتحت إمرته إثنا عشر ألف مقاتل، مع عدد من قراء مصر، وقد أمره الإمام أن يستشير قيساً في تحركاته وخططه كما أمره أن لا يعدو رأيه([16])، لكن رسالة واحدة قلبت وضع الجيش، وأحدثت في صفوفه ارباكاً واضطراباً وذلك حين بعث معاوية رسالة إلى عبيد الله، مصحوبة بوعد بأموال وقصور وما أشبهها، فأغرته المغريات، فأنسل تحت جنح الظلام وقبل حلول الفجر إلى معاوية، تاركاً وراءه طاعة إمامه، ولما جاء الفجر واستيقظ الجنود وإذا بهم يصدمون بواقع قائدهم الفار من ساحة المعركة، بإزاء ذلك بدأ جواسيس معاوية وعملائه بحرب نفسية واسعة النطاق موجهة للجنود عبر شائعات وأخبار مضخّمة عن وضع الجيش وانهياره وانكساره ومن هنا بدأ التفكك يسري شيئا فشيئاً في افراد الجيش، وهنا وجد قيس بن سعد بن عبادة الجيشَ على وشك السقوط والانهيار والانهزام فنهض فوراً وألقى خطبة عصماء وبث المعنويات من جديد في نفوسهم، وجعلهم يقفون مرة أخرى بعد أن أصابهم الوهن، جاء فيها (أيُّها النَّاس، لا يهولنَّكم ولا يَعظُمَنَّ عليكم ما صنع هذا الرَّجل الوله الوَرع([17])، وإنّ هذا ولّاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على اليمن فهرب من بسر بن أرطأة وترك ولده حتى قُتِلُوا، وصنع الآن هذا الذي صنع.
فتنادى الناس: الحمد لله الذي أخرجه من بيننا، أمضِ بنا إلى عدوِّنا، فنهض بهم، وخرج إليهم بسر بن أرطأة في عشرين ألفاً، فصاحوا بهم: هذا أميركم قد بايع، وهذا الحسن قد صالح، فعلام تقتلون أنفسكم؟ فقال لهم قيس: اختاروا إمّا القتال من غير إمام أو تبايعون بيعة ضلال، فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا وضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافّهم.
وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنّيه، فكتب إليه قيس: لا والله لا تلقاني أبداً وإلا وبيني وبينك الرمح، فكتب إليه معاوية، أما بعد، فإنّما أنت يهوديّ ابن يهودي، تُشقِي نفسك وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر أحبُّ الفريقين إليك نبذك وعزلك، وإن ظهر أبغضهما إليك نكَّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، وأكثر الحزّ وأخطأ المفصل، فخذله قومُهُ وأدركه يومهُ، فمات بحوران طريداً غريباً، والسلام.
فكتب إليه قيس بن سعد: إنّما أنت وثن ابن وثن من هذه الأوثان، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت عليه فَرَقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم تتقدّم بإسلامك ولم يَحدُث نفاقك، ولم تزل حرباً لله ورسوله وحزباً من أحزاب المشركين، فأنت عدوّ الله ورسوله والمؤمنين من عباده. وذكرت أبي، ولعمري ما أوتر إلّا قوسه، ولا رمى إلّا غرضه. وزعمت أنّي يهودي ابن يهودي، ولقد علمت وعلمنا أن أبي من أنصار الدِّين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام)([18]).
ان هذه الوقائع تكشف عن مدى تفانيه في سبيل نصرة الحق وعن مدى تحمله للمسؤولية، وعن تصديه الموفق لأزمة كبرى. وحيلولته دون ان يصاب جيش الإمام بهزيمة كبرى.
المشهد السابع: الحفاظ على العزة رغم استعلاء الخصم
وبعد واقعة صلح الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) مع معاوية، الصلح الذي دعت إليه الضرورة والاضطرار والخيانات المتكررة، أقبل قيس إلى الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) حينما دعاه الى البيعة أي حين دعى معاوية قيساً للبيعة، سائلاً: (انا في حل من بيعتك) ولعله أراد البيعة من الناحية الظاهرية فأذن له الإمام: فقال: نعم. فجاء في المجلس الذي عقد لأجل أخذ البيعة لمعاوية، وفي المجلس معاوية نفسه والأمام وقيس وآخرون، فقال معاوية له: هل تبايع؟ فقال قيس: نعم
وهنا كان من المفترض أن يقوم قيس من كرسيه ويأتي إلى معاوية للبيعة، لكنه أبى ذلك. مع انه كان في موقف ضعف وفي موقف لا يرتضيه أبداً، إلا أن الضرورة هي التي أجبرته وغيره لذلك إلا أنه مع ذلك حافظ على كرامته وحافظ على عزته فلم يقم من كرسيه ليبايع معاوية الحاكم الإمبراطور الداهية الجبار الطاغوت المنتصر ظاهرياً في الحرب، بل أجبر معاوية لكي ينزل من سرير ملكه المغصوب، ليأتي الى سعد وهو جالس واضعاً يده على فخذه فمسح معاوية يده على يده علامة للبيعة!
ولاحظ نص التاريخ: (وفي رواية أخرى لأبي الفرج: أنّ معاوية أرسل إلى قيس يدعوه إلى البيعة، فأُتي به – قال: وكان رجلاً طويلاً يركب الفرس ورجلاه تخطّان في الأرض، وما في وجهه طاقة شعر – فلمّا أرادوا بأن يُدخلوه إليه قال: إنّي حلفت أن لا ألقاه إلّا وبيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف فوضع بينه وبينه ليبرَّ يمينه، فأقبل قيس على الحسن فقال: أنا في حِلٍّ من بيعتك؟ قال: نعم، فأُلقِيَ لقيس كرسيّ وجلس معاوية على سريره، فقال له معاية: هل تبايع؟ قال: نعم، فوضع يده على فخذه ولم يمدَّها إلى معاوية، فجاء معاوية عن سريره وأَكَبَّ على قيس حتَّى مسح يده على يده، فما رفع قيس إليه يده)([19]).
فنرى كيف تعامل في هذا الموقف الصعب ولم يرتض إلا العزة في بطن وضع الذل العام حتى أصبح معاوية كالمستجدي الذليل.
المشاهد السبعة في كلمة
لقد كان قيس بن سعد بن عبادة - معتمد النبي (صلى الله عليه وآله) والأمير (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام)، وتميز بالكرم والجود، وبالشجاعة والبطولة، وبالتعقل والحكمة، وبالانتصار للحق في أي ظرف، وبعدم التواني عن تحمل المسؤوليات الجسام.
وتلك كانت عيّنات من قصصه وحكاياته، وله الكثير من المواقف والقصص في نصرة الحق وأهله وقد أثنى عليه علماء الرجال، وكم من المؤسف أن ترى أن مثل هؤلاء وحياتهم وقصصهم التربوية الرائعة، لا تطرح على الساحة بل بقوا وبقيت مواقفهم مغمورة مجهولة عند المعظم.
ولنَر اننا كم نمتلك من أمثال هؤلاء الأشخاص حالياً في المجتمعات الشيعية: رجل بهذه الكفاءة وبهذا المستوى من العظمة؟!
المشهد الأخير: الحرج النفسي في امتحان الرئاسة!
لكن رجلاً عظيماً مثل قيس بن سعد وهو بهذه المكانة العالية الشامخة ابتلي بموقف لم ينجح فيه ولعله كان السبب في أن لا يرتقي إلى دائرة الحواريين، حيث خرج، في امتحان صعب، من دائرة التسليم المطلق للإمام الحق في مشهد واحد عسير جداً.
وذلك حينما وصلته رسالة العزل بيد محمد بن أبي بكر حيث نصبه الإمام حاكماً لمصر بعده، وكان قيس زوج عمة محمد بن أبي بكر([20])، فقد غضب قيس عندما بلغه عزله وقال: (ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيرّه؟ هل دخل بيني وبينه أحد؟)
وهكذا تصور قيس أن هناك من نمّ عليه عند الإمام وان هناك من وشى به لديه، فقال محمد له تهدئة له: (لا، وهذا السلطان سلطانك) فقال قيس غاضباً: (لا والله لا أقيم معك ساعةٌ واحدةٌ) وخرج شبه غاضب، لأن الامام عزله ولم يبين له سبب عزله، فجاء الى المدينة على حالته تلك.
واما السبب في عزله فله موقع آخر وله أسبابه الوجيهة.
إلا أن بعضاً من العامة عزا ذلك إلى دهاء معاوية وأنه تمكن معاوية من الإيقاع بقيس، إلا أنه لدى التتبع والتحقيق رأيت أن الأمر بعيد كل البعد عن دهاء معاوية، وإنما الامر كان نتاج سلسلة من المعادلات الاجتماعية والسياسية في مصر والمدينة والكوفة، بموجبها عزله الأمير(عليه السلام) من ولاية مصر في تفصيل لا علينا به، وبعده بفترة بعثه الإمام (عليه السلام) إلى أذربيجان وجعله والياً عليها.
وموطن الشاهد هو: ان هذا الموقف الواحد الذي آل إلى عدم التسليم المطلق لحكم الإمام وإن كان لفترة محدودة، ورغم انه لم يُغيِّر على الإمام بفعل أو قول إلا ما كان منه مما نقلناه، لكنه سبّب أن لا يرتقي إلى تلك المراتب العليا من المقامات، نعم لاشك ولا شبهة أن قيس كان رجلاً عظيماً جداً وكان في قمة القمة، خرج فائزا وعالي الرأس في امتحانات عديدة ربما يسقط الكثير منّا في عُشر معشارها، فقد عاصر ثلاثة من المعصومين (عليهم السلام) ولم يتوان عن نصرتهم أبداً، إلا أنه لم يرتقِ إلى مرتبة الحواريين كما كان سلمان ومن ماثله إذ كانوا قد وصلوا إلى مقام التسليم المطلق للأئمة الطاهرين وقد ورد في الزيارة: "أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ وَ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ وَ عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاكُمْ وَ وَلِيٌّ لِمَنْ وَالاكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة"([21])
إذا أردنا أن نكون علويين
إننا إذا اردنا أن نكون علويين حتماً ومؤمنين صدقأ، فعلينا أن ننمي في أنفسنا ملكة (التسليم المطلق) (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فإذا عرضت مسألة عقدية يصعب على الكثير الإذعان بها، فعلينا الاذعان بها والتسليم لها، ما دامت جاءت على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
وتتجلى صعوبة ذلك بوضوح في عصرنا الحالي عصر الفتن والشبهات الفكرية والعقدية والإيمانية، حيث أن بعضاً من الأحكام الشرعية الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد يكون الجو العالمي ضاغطاً معارضاً لها، فحينئذٍ ما هو موقف النفس من هذه الأحكام؟؟
- وهل نجد في أنفسنا حرجاً منها؟
- وهل نروّض انفسنا على قبول تلك الأحكام، التعبد بها، والتسليم لها؟؟ مع ان الكثير من الناس قد انجرف مع ضغط الجو العالمي المهيمن، فبين منكر وبين من تزلزل إيمانه شيئا ما، وبين حائر تائه على وجهه، أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.
والحاصل: على الانسان أن يكون مأموماً بقول مطلق كما أن الله تعالى جعل الأئمة الطاهرين أئمة بقول مطلق، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)، وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
ملحق البحث: الموجز في أسطر
1- الآيتان دالتان على عموم الولاية افراديا لكل مكلف، كما لها إطلاقات عديدة: بلحاظ الزمان والمكان والأحوال.
2- ان الولاية المطلقة الالهية للأئمة الطاهرين، تستلزم في رتبة سابقة ثبوت صفة العصمة لهم.
3- ان الولاية والامامة من المعاني الاضافية، فيقدر سعتها وحدودها، يكون المأموم والمولى عليهم أيضاً بذلك المقدار محكومين ومهيمناً ومولّى عليهم.
4- الإمامة المطلقة لهم، تستلزم المأمومية المطلقة تجاهم والخضوع المطلق لهم.
5- التسليم المطلق للأئمة والحجج (عليهم السلام)، لهو مرتبة سامية عالية، يجب تزكية النفس وتهذيبها بشكل حثيث متواصل حتى تصل هذا المقام بإذن الله تعالى وبلطف سادات الكون صلوات الله عليهم أجمعين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق