الالفاظ – المصطلحات المفتاحية
يتحول المعنى في علم الدلالة الى نظام مفاهيمي يتكون في شبكة معقدة ومركبة من جملة من السياقات النصية واللغوية والكلامية، ويبدأ يحيل اليه الالفاظ في النص التي تشكل مصطلحات مفاتيحية، ولعل القرآن الكريم هو النص الاكثر اسهاما في صناعة نظام مفاهيمي أحالت اليه كلماته والفاظه، واستطاع بانغراسه او بانغراس نظامه المفاهيمي في الذات الاسلامية ان يصنع المعنى الجديد في حياة الانسان المؤمن، وان يستقطب اهتمام علم الدلالة الحديث، ولذلك حاز اهتمام كاتب متخصص في علم الدلالة هو الياباني توشيهيكو إيزوتسو وكان كتابه "الله والانسان في القرآن" إنموذجا في تطبيقات علم الدلالة على القرآن، وكشفا عن الدلالة الرؤيوية في القرآن الكريم عن العالم، او بشكل أوضح عن معنى العالم أو المعنى في العالم في القرآن الكريم، ويستند المعنى في العالم في القرآن دينيا – اسلاميا الى تفسير الغاية التي صنع أو خلق من أجلها العالم.
ويركز علم الدلالة على السياقات النصية في القرآن التي ترد فيها الالفاظ او تتداخل فيها الايات، وبالمقارنة مع السياقات اللغوية التي ترد فيها ذات الالفاظ والسابقة عليها في الجاهلية، وبالمقارنة ايضا مع السياقات الكلامية التي تستعمل فيها هذه الالفاظ باعتبار الكلامية اوسع امتدادا من اللغوية، وما يمكن ان تحمله من مشاعر وأفكار تحيط باللفظ وتكون المعنى فيه، اذا فعلم الدلالة لا يركز على الالفاظ بمفردها او بحدود الآيات التي ترد فيها وهو منهج المفسرين المسلمين القدامى، وبنفس الوقت فان علم الدلالة يعتمد السياقات التاريخية والاجتماعية بالمقارنة في مجال تزحزح المعنى القديم في اللفظ لصالح المعنى الجديد.
وبذلك فان علم الدلالة يستند الى السياقات النصية، وسياقات التحولات التاريخية والاجتماعية التي تمنح الالفاظ في تراكيب السياقات النصية أبعادا متمكنة وفاصلة في المعنى الجديد، وذروة التحول في هذه الالفاظ عندما تتحول الى مصطلحات مفاتيحية تقود الى نظام مفاهيمي جديد، وهو نصا مقترح الياباني إيزتسو في دراسة الرؤية القرآنية للعالم أو المعنى الجديد الذي أسبغه القرآن على العالم، ويعنى إيزتسو جدا بالتحولات التي شهدتها ألفاظ ومفاهيم كانت سائدة في الجاهلية الى المعاني والمفاهيم التي بدأت تتشكل في عصر الوحي، وبعده الذي شهد وبتأثير هذه المصطلحات المفتاحية الكثير من التحولات لأنها افتتحت أفاقا في المعنى الجديد مست صميم البنية الاجتماعية العربية.
الالفاظ والتحولات في المعنى
الالفاظ ليست بمفردها هي المسؤولة عن هذه التحولات في المعاني، أو بسسبب استعمالها المستمر في الجاهلية وفي الاسلام، بل بسبب انتمائها الى شبكة من المفاهيم الجديدة واقترانها بعلاقة جديدة وتكميلية على مستوى المعنى الديني مع ألفاظ وعبارات أخرى لم يكن لها ذلك الفضاء من الاستعمال اللفظي ذي الدلالة والمعنى الديني في الجزيرة العربية.
إن لفظ الجلالة "الله" لم يكن غريبا على العرب في الجاهلية، وأنهم يعرفونه بصفاته في الخلق والربوبية، لكنهم يرجعون بهذه المعاني الى شبكة من الالفاظ والعبارات والمفاهيم الوثنية واللاتوحيدية، فهو الله تعالى بالنسبة لهم مقرونا دائما بآلهتهم كما أخبرنا القرآن بذلك.
لكن في عصر الوحي توضحت أبعاد شبكة جديدة في المعنى الديني محورها أو مركزها لفظ الجلالة "الله"، لكن هذه المرة تتألف من المفاهيم المتعلقة بالالوهية الاحدية ونبذ الشركية، وتضمن لفظ الجلالة "الله" شبكة لفظية أخرى هي بوضوح أدق جملة التوحيد "لا إله الا الله " أو لنقل أن لفظ الجلالة "الله" تموضع في سياق النص الاسلامي في شبكة لفظية جديدة هي عبارة "أشهد أن لا اله الا الله" واختيارنا هذا النص في سياقه الاسلامي لأنه يقترن يسياقات التحولات التاريخية والاجتماعية التي نشأت في أعقاب إزاحته أو تسببه في إزاحته للإيمان الجاهلي بالشركية الالوهية.
ولم تكن الدلالة في هذا التحول في هذا المعنى التوحيدي لتكتفي بحدود الانتقال من الايمان بالله تعالى ضمن ديانة وثنية شركية الى الايمان بالله تعالى ضمن ديانة توحيدية، بل ان الدلالة فيها اتسعت في المعاني المتوفرة والناتجة عنها، فقد تشكلت رؤية للعالم والكون والوجود لم تكن معهودة في الجاهلية، بل ان هذه الرؤية في تطوراتها شملت تصورات الانسان حول ذاته في كينونته وفلسفة وجوده بعد أن اتضحت صورة الله تعالى أمامه نقية من أفكار الجاهلية.
ويذكر إيزتسو، أن الله تعالى كان في التصور الجاهلي ضمن تراتبية تعده الاله الاعلى في جدول الالوهية، وأن الالهة الصغار هم وسائل الوصول اليه او القرب منه، وكانت تلك الالهة تشاركه في أشياء كثيرة تتصل بحياة البشر وبالأحداث التي تمر على البشر، فجاء الوحي- القرآن معبرا عن رفضه لهذه التراتبية وإلغائه لهذا الجدول من الالهة الوسطاء، ليفهم الجاهليون وفق إيزتسو أن الله تعالى له سمو ذاتي لا يمكن أن يدانيه شيء في طبيعة هذا السمو، وأن رقي المضمون التوحيدي وطبيعته في القرآن لا يمكن مقارنته بهذه الشركية الوثنية، فالوثن الاله الجاهلي ليس له حقيقة في الوجود، فهي مجرد أسماء بلا مسميات وجودية، بلا إلوهية حقيقية، إنما هي إلوهية وهمية صنعتها أوهامكم، إنما الالوهية الحقيقية لله تعالى الذي تعرفونه اسما ولفظا لكنكم لا تدركون المسمى الذاتي الحقيقي المعبر عنه بالمعنى التوحيدي.
آثار التحولات الدلالية
حين آمن العرب الوثنيون بالله الواحد الاحد، وشهدت ديانتهم وأفكارهم تحولا على صعيد البنية اللفظية وبنية المعنى الذي تشكل في سياقات لفظية ونصية جديدة، كانت تتجلى آثار هذا التحول في السياقات الاجتماعية بعد ان شهدت تحولا في السياقات الرؤيوية للعالم والكون والانسان بتأثير الوحي–القرآن ودلالاته الجديدة.
فلو أخذنا ظاهرة اجتماعية كانت سائدة في الجاهلية وهي العبودية، التي تسحق كرامة الانسان حين يكون المجتمع كله مسحوقا أمام وثن أمام حجر فاقد الحياة، حينها تفقد الحياة مركزية القيم او مركزية القيمة في هذا المجتمع، فتتعزز ظاهرة العبودية باعتبارها سحقا للحياة، وتنشأ عنها القسوة التي تبيح لهم وأد طفلة وقبرها. فسجود الانسان الحي للوثن "الحجر- الموات" تنازل عن قيمة الحياة لصالح "الموات – الحجر". ولعل غياب مفهوم الروح عن العرب بدلالة سؤالهم النبي محمد (ص) عن الروح فأنزل الله تعالى قوله "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" هو الذي يفسر تنازلهم عن قيمة الحياة ويفسر ظاهرة العبودية ( لقد كان البيض العنصريون في الولايات المتحدة الاميركية يعتقدون ان العبيد لا ارواح لهم) وظاهرة أخرى هي قتل الموؤدة كذلك يفسر عدم سعيهم الى بناء الحياة، فكان قتل الموؤدة تعبيرا عن توقف مشاعرهم تجاه الحياة.
إنهم لم يدركوا ذلك الروح في الحياة، لكن حين بث الله تعالى الحياة في ذلك الانسان المسلم من خلال "الروح – القرآن" الذي هو روحا في وصف القرآن لذاته وهويته، وأدرك هذا الانسان قيمة الحياة بعد ان تحولت اسلاميا الى روح في مفهومها، وشهد المعنى فيها تحولا آخر نحو صيغة الهبة التي يكون الطرف المتمم لها في ثنائية الوجود الديني وفق الرؤية القرآنية هو الشكر، وكانت الرؤية القرآنية هي التي أرست هذه الثنائية في وجود الانسان المسلم، والشكر باختصار العبارة فيه هو العبادة عند فقهاء ومفسري الاسلام.
وبهذا تطورت لديه رؤية ومفهوم "الحياة–الهبة" مما حدا به أيضا الى إعادة النظر في ظاهرة العبودية وظاهرة الوأد للصغيرات التي تدخل في سلوك قبلي "قديم- حديث" يمتهن استعباد المرأة وحرمانها من ممارسة الحياة، وهي كلها تعبيرات عن إرادة جاهلية في سحق الحياة التي أحياها "الوحي – القرآن" من خلال مفهوم الروح والذي منحها حالة الخلود عند الله تعالى. فالموت انتقال الحياة الى الخلود في العالم الاخر، ومفهوم الخلود عند الله تعالى يقابله مفهوم "الحياة–الهبة" عند الانسان الذي أوجب الله تعالى على الانسان حفظ هذه الهبة وصيانتها.
وفي آثار هذا التحول في مفهوم رؤية الحياة نتجت المساواة بين الحر والعبد، والرجل والمرأة، لأنهم متساوون في توزيع هبة الله تعالى عليهم التي هي الحياة، فصار "العبد-المؤمن" يكافئ "الحر–المؤمن" في دلالات سياقات "النص–القرآن" وعلى مستوى الايمان، وصارت المرأة المؤمنة تكافئ الرجل المؤمن في ذات السياقات على مستوى الايمان الذي هو الدالة الكبرى والاصل في القرآن. وحرم وأد وقتل الصغيرات بعد ان شهدت فكرة الرزق تحولا في مفهومها ودلالتها نحو الله تعالى باعتباره هو الرزاق الذي "رزق – وهب" الحياة للإنسان وتكفل فضلا منه بحفظها وصيانتها وخلودها، وقد تركت آثار هذا التحول الدلالي في الحياة وفق الرؤية القرآنية بصمتها في حياة الانسان "العربي–المسلم" الذي خرج من بداوته وصحرائه ليدخل صلب الحياة والحضارة، ويؤسس دولته ومجتمعه وفق معطيات ودلالات مفهوم الحضارة، هذا المفهوم النابض والمتقوم بالحياة.
اضف تعليق