بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)([1])
كما قال جل اسمه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)([2])
الحديث سوف يدور بإذن الله تعالى حول مفردة من مفردات الآية القرآنية المباركة الأولى وهي كلمة (شَاهِدًا) ومفردة من مفردات الآية الكريمة الثانية وهي (شهداء) وسيكون ضمن عدة بصائر وحقائق، يسبقها مدخل عام وتمهيد هام:
وظيفتان مفروضتان على رجال الدين والمؤمنين
هنالك وظيفتان مفروضتان على رجل دين وعالم بل هما وظيفتان آخذتان بعنق كل مؤمن متدين، الأُولى منهما معروفة مشهورة، اما الثانية فمجهولة مهملة:
1- التبيليغ والدعوة والإرشاد
الاولى: التبليغ والدعوة والارشاد والنصح وما اشبه ذلك قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)([3]) وهذه الوظيفة لا تختص بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السلام والعلماء وحسب بل تعمّ كل مؤمن ومسلم. وهي وظيفة معروفة للجميع وقد وردت بها آيات كثيرة، قال تعالى: (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)([4]).
2- الشهادة على الأفعال والمواقف
الثانية: وظيفة الشهادة، وهي وظيفة مجهولة عادة عند الكثيرين، فان من وظائف الرسول ص والائمة والعلماء، بل عامة الشيعة ايضا: الشهادة قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)([5]) فالعلة الغائية لجعلنا أمة وسطاً هي (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
ومعنى الآية، حسب احدى التفسيرات: ان الله جعلنا امة وسطا بين الافراط والتفريط فلا مادية صِرفة ولا روحانية ورهبانية محضة، بل لا بد من التوازن بين الروح ومقتضياتها والمادة ومستلزماتها؛ فان الإنسان روح وجسد ولكليهما حقوق وعلى كليهما وظائف ومسؤوليات، فهذه الأمة الوسط هي الشاهدة على كافة من يخرج عن الصراط المستقيم والطريقة الوسطى المثلى.
العلة الغائية للأمة: الشهادة
والحاصل: ان العلة من خلقتنا وجعلنا أمةً وسطاً –حسب القراءة المشهورة- هي ان نكون شهداء على الناس، وهذه وظيفة عظيمة بعض مراتبها واجبة وبعضها مستحبة، الا ان الملاحظ بل الغريب ان هذه الوظيفة لا تذكر عادة ولم تسلط عليها الدراسات والبحوث ولا يتناولها الأساتذة والمؤلفون والخطباء عادة.. مع ان مقتضى القاعدة الأكيدة هو ان تبحث هذه المسالة نظراً لوجود آيات عديدة حولها وروايات كثيرة، وذلك بغض النظر عن الرأي الذي يتوصل اليه الفقيه لاحقا من الوجوب او الاستحباب لهذه الوظيفة الالهية العظيمة أو التعميم أو التخصيص.
نطاق الشهادة الواسع على الحكومات والشعوب والجماعات
ونطاق الشهادة واسع له مجالات ومصاديق كثيرة: منها الشهادة على الامة ومنها الشهادة على الحكومة وعلى اداء الوزراء، ومنها الشهادة على اداء الخطباء والاساتذة والتلاميذ والعلماء بل والمراجع العظام، ومنها الشهادة على الجامعات والحوزات العلمية، وهذه كلها مسؤوليات عظيمة يجدر الالتفات اليها والاهتمام بها.
فمثلاً: ان من مهام الاستاذ الجامعي أو الحوزوي الشهادة على الطلاب والتلاميذ: الشهادة على دراستهم وسلوكهم واخلاقياتهم، فقد يشهد على طلابه بالجدية في الدراسة أو التكاسل فيها وقد يشهد عليهم بان الايمان كان متجذراً فيهم أم كانوا –على العكس- ميالين بعض الشيء إلى الظلم والفساد بل وحتى في البعض الى الالحاد لا سمح الله، وهكذا.
كما ان الطلاب ايضا قد يشهدون على الاستاذ: فهل ادى حق الدرس والتدريس؟ ام انه كان يسرق من وقتهم ولا يعطيهم الا القليل من البحث الجاد والنافع؟
وكذلك الحضور في مجالس الوعظ والارشاد او المجالس الحسينية فهم شهداء على الخطيب، وكذلك الخطباء بدورهم ايضا هم شهداء على الحضور فهل استمعوا جيداً وهل التزموا بما حث عليه من مكارم الأخلاق بعد ان استوفى هو شروط الخطابة الفعّالة ام لم يلتزموا؟
هذا عن الشهادة في الدنيا، واما الشهادة في الاخرة فان الرسول (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام) يشهدون -وهو القدر المسلم ويضاف إليهم العلماء ثم الشيعة على حسب ما جاء في بعض الروايات بل والآية الآنفة بنفسها، كما سيأتي- ثم انه تأتي بعد الشهادة مرتبة الشفاعة فحيث شهد ما له وما عليه فانه قد يشفع له.
ولعل الشهادة، في الدنيا، لها جهة الطريقية([6])، واما الشهادة في الآخرة فلها الموضوعية.
هذه -اذن- وظيفة مجهولة –نفسية أو مقدمية- لم تسلط عليها الأضواء وهي التي نتطرق لها في هذا البحث وفي البحوث الاتية ان شاء الله تعالى.
ان كل انسان في مجاله وعمله وفي مناطق تواجده يشهد – بدرجة وأخرى - على مايرى وعلى من حوله ويتعامل معه، الا ان الشهادة الواعية تحتاج الى معرفة واحاطة وخبرة من جهة، والى الانصاف من جهة أخرى، كما تحتاج إلى ان لا تأخذ الشاهد لومة لائم.
المسائل الأربع في الشهادة
ولكي نضع هذه المسالة: الشهادة على الأفراد والتجمعات وعلى الحكومات والشعوب والأمم، في إطار كلامي – فقهي أوسع نقول:
هناك مسائل عديدة طرحت في الفقه لها اهميتها الكبيرة، الا انها تتعلق بـ(فقه الاحكام والاحوال الشخصية) وهي تدور في هذا الاطار وقد ذكرها الفقهاء في كتاب (الشهادات) عادة، وهنا نذكر ثلاث مسائل منها، ونضيف لها امرا رابعا لا يقل عنها نفعاً بل لعله أعم منها فائدة، كما لا يقل عنها حاجة وأهمية بل لعله يزيد عليها ومع ذلك فانه لا يطرح عادة ولذلك نجد الأكثر غافلاً عنه:
المسألة الأولى: تحمُّل الشهادة:
وهي من المسائل التي تطرح في كتاب الشهادات في الفقه، بمعنى انه لو دعي شخص الى تحمّل الشهادة فهل يجب عليه ان يشهد؟ ام يستحب؟ ام لا هذا ولا ذاك؟
حسب الرأي المشهور شهرة عظيمة فان تحمل الشهادة إذا دعي إليها، واجب "وهو إن من دعي إلى تحمل الشهادة فتحملها وجب عليه إقامتها"([7]). ويدل على ذلك الآية القرآنية (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)([8]) وفي الآية تفسيران احدهما وجوب تحمل الشهادة إذا دعي إليها كما ذهب اليه في الجواهر، والاخر: انها ناظرة الى الأعم من الدعوة والاداء بمعنى: لا يأبى الشهداء من تحمل الشهادة ولا من ادائها كما ذهب اليه جمع اخر من العلماء([9]).
المسألة الثانية: اداء الشهادة
أداء الشهادة: وهي مرحلة اخرى متأخرة عن تحمل الشهادة، ولئن كان المشهور شهرة عظيمة وجوب تحمل الشهادة فان ادائها مما قام عليه الاجماع، أي يجب على الانسان اذا ما دعي لأداء الشهادة لدى الحاكم الشرعي ان يستجيب وان يذهب الى الحاكم العادل ويشهد عنده ولا يأنف من ذلك ولا يتكبر ولا يتكاسل أو يتقاعس.
المسألة الثالثة: الاشهاد
الاشهاد والاستشهاد: وهو طلب الشهادة من الاخر على أمر من الأمور([10]) قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)([11]) وقد ذكر الوالد قدس سره في فقه الواجبات([12]) ان الاستشهاد منه واجب ومنه مستحب والاول كالوديعة([13]) والثانية كالنكاح كما قد يكون الأمر للارشاد.
المسألة الرابعة: الشهادة على اعمال الناس ومواقفهم
الشهادة على اعمال الناس: وهذه الشهادة هي مورد البحث، وهي لا تختص بالقضايا الجنائية كما سبق بل هي امر عام لا تختص بالشهادة في المحاكم الشرعية او غيرها بل ولا في الدنيا فقط او في الاخرة فقط بل هي شهادة مطلقة على اعمال الناس عند الله في الآخرة، وفي الحياة الدنيا.
ثم ان الشهادة نوعان: شهادة له وشهادة عليه، شهادة حق وانصاف لا لبس ولا غش فيها، خالصة لله تعالى.
فالناس يشهد بعضهم على بعض: المرضى على الاطباء والمحكومين على الحاكمين والطلاب على الأساتذة والفقراء على الاغنياء والجهال على العلماء، وبالعكس ايضا، فيشهد الكل على الكل لهم فتُسجّل بذلك الوقائع وتظهر الحقائق والله من وراء ذلك على كل شيء شهيد.
الشهادة لا تختص بعالم الاخرة
وقد يتصور البعض ان هذه الشهادة تخص الاخرة فقط الا ان الظاهر شمولها للدنيا ايضا، ومما يدل على ذلك قوله تعالى على لسان عيسى (عليه السلام): (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ([14]) وهي صريحة بان عيسى (عليه السلام) كان شهيدا على قومه في عالم الدنيا (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) وهي احدى وظائفه الكبرى اضافة الى التبليغ والارشاد واداء الرسالة وستأتي اشارات أخرى لذلك أيضاً.
النبي الاكرم: شاهدا ومبشرا ونذيرا
بعد هذا التمهيد العام والهام ننطلق إلى الكلام عن نبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله) انطلاقاً من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)([15]) وههنا عدة حقائق:
1- ترابط العوالم
تشير الآية أو تستبطن فيما تستبطن حقيقة هامة هي حقيقة ترابط العوالم، فمن الصحيح اننا نعلم ان الله تعالى ما خلقنا الا لنعبده كما نص على ذلك القران الكريم في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) الا ان من الامور الاخرى التي قلما تطرح: انَ الله تعالى جاء بنا الى هذا العالم لكي يحتج علينا باحتجاج جديد، وقد كان من ضرورة الاحتجاج ان يستشهد علينا بما لا يدع مجالاً لمكابر ان يكابر:
توضيحه: ان الامتحان الجوهري الحقيقي لكل البشرية قد مضى في عالم الذر، وقد شمل الجميع فالامام الحسين (عليه السلام) في هذا العالم هو الامام الحسين (عليه السلام) في العالم السابق، والشمر هو الشمر في ذلك العالم، والله تعالى بخلقنا في هذا العالم من جديد([16]) انما اراد اتمام الحجة على الجاحدين والمارقين والمقصرين، بل وأيضاً واعطاء فرصة جديدة لمن فشل في ذلك الامتحان([17])، لئلا يكون للناس على الله من حجة.
ان الدنيا ليست كما نتصورها عالماً منفصلاً عما سبق وعما هو آت بل هي عالم مترابط مع عدة عوالم اخر سبقت وأخرى ستلحق، وهذا ما يستفاد من الآيات والروايات وهو مما لاشك فيه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) وقد فصلنا الكلام عن الآية الكريمة في موضع آخر.
ثم ان من الواضح ان الله تعالى هو الشهيد وكفى به شهيدا الا انه تعالى جرت مقاديره ان تكون هنالك أسباب ظاهرية إذ "أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبا..."([18]) فهذه الأسباب هي علل معدة في سلسلة العلل والاسباب التي لا يعلم قدرها الا الله تعالى كما هو الحال في الموت الموكل به عزرائيل والرزق المكلف به ميكائيل والوحي الملقى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) عبر جبرائيل ونفخ الصور عبر إسرافيل وهكذا حيث وكل الله تعالى في جميع تلك الامور ملائكة شداداً ولهم ادوار ووظائف لا يتعدونها.
ومن تلك الأدوار والوظائف (الشهادة) ففي يوم القيامة تحضر جميع الامم السابقة واللاحقة فيكون الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) هو الشاهد الأكبر (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)([19])، وكل هذا في الاخرة لكن ماهو حال الدنيا؟ هذا ماسنذكره في اللفتة الثانية:
2- إحاطة الرسول (صلى الله عليه وآله) بكافة العوالم
ان المستفاد من الآية الشريفة ان الرسول (صلى الله عليه وآله) له إحاطة علمية كاملة شاملة بكافة ما تصنعه الخلائق الى يوم القيامة، وهذه الإحاطة تشمل كل ما نصنعه بجوارحنا كما تعم ما نُكنّه بجوانحنا والا كيف يمكنه ان يكون شهيدا على الجميع؟ ذلك ان الشاهد والشهيد لا يصحّ ان يشهد عند الحاكم والقاضي الا بما رأى وشاهد بعينه أو سمع بأذنه والا سيكون ذلك خلاف الانصاف وخلاف العلة الغائية من الشهادة فان الشهادة عليهم هي لإتمام الحجة عليهم، فكيف يستشهد الله عليهم بمن لم يرَ ولم يسمع مباشرة!
فان قال قائل: ان الله تعالى يوم القيامة يلهم رسوله الاكرم (صلى الله عليه وآله) علم ما كان في الدنيا فيشهد على الناس فلا يدل قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) على انه يشهد الان وفي عالم الدنيا أعمالهم؟
قلنا: ان العلة الغائية من اشهاده عليهم هو إتمام الحجة عليهم، ولو اكتفى الله بالالهام لكان لهم ان يحتجوا – ولو مكابرين – بأن هذا هو ما علّمته إياه، ولكان يكفي ان يشهد الله عليهم مباشرة حينئذٍ، انما الذي تكون حجيته عليهم أتم وأقوى ان يرى النبي أعمالهم وكافة الخلائق ويشهد على ما قاموا به من نجاحات او تقصير أو غير ذلك، فلا يبقى مجال لأي احتجاج أو انكار.
والذي يدل على ان شهادته (صلى الله عليه وآله) عامة لكافة الخلائق وليست خاصة بالموجودين في زمنه أو حتى في الذين رآهم (صلى الله عليه وآله) وعاصرهم فقط: ان رسالة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) ليست محدودة بزمنه فقط فانها ان كان كذلك فينبغي ان تكون هدايته وتبليغه وارشاده محدود بزمنه خاصة. لكن من الواضح ان رسالته تمتد الى اخر الزمن فان كل الامور الخمسة المذكورة في الآية الشريفة تمتد الى اخر الزمن (انا ارسلناك 1- شاهداً 2- ومبشرا 3- ونذيرا 4- وداعيا إلى الله باذنه 5- وسراجا منيرا) ففي كل حركة وكل سكنه تصدر منا هناك رقابة بل وشهود وشهادة في اعلى مراتبها من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والحاصل: ان شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) على الناس مما لاشك فيها، ونحن في غنى عن الاستدلال على ذلك، الا ان البعض قد يشكك ويقول كيف يمكن للنبي ان يشهد جميع الأمكنة والأزمنة ويرى جميع الامم والجماعات في آن واحد؟
ولدفع الاستغراب يكفي ان نمثل بمثالٍ: فقد صنعوا مؤخرا جهاز كمبيوتر يُجري في الثانية الواحدة (2) ترليون عملية رياضية وقيل ان الصين صنعت جهازاً يجري (4) ترليون عملية رياضية في الثانية! وليس هذا إلا جهازاً صنعه عقل بشري يعد واحداً من الترليونات من مخلوقات الله تعالى فكيف بالله تعالى؟ ألا يستطيع ان يخلق خلقاً يدرك الحقائق كلها على ما هي عليه ويشهدها جميعاً؟ وقد علمنا وآمنّا جميعاً بان رسول الله (صلى الله عليه وآله) افضل واشرف خلائق الله على الاطلاق؟.
من الفوائد التربوية للعلم بشهادة الرسول (صلى الله عليه وآله)
ثم ان هنالك فوائد تربوية ومعنوية كبرى في معرفة هذه الحقيقة العظيمة واستحضارها في البال دائماً فمثلا لو كنت في مجلس أُنس وطاب لك ان تغتاب صديقاً أو منافساً أو ان تستمع إلى غيبة أو لو مرت فتاة اجنبية من امامك أو لو أردت إيذاء شخص قريب أو بعيد بغير وجه حق، ثم استحضرت في نفس اللحظة ان النبي (صلى الله عليه وآله) على عظمته يراك على هذه الحال المزرية مباشرة وسيشهد عليك.. وكذلك الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) والإمامان الحسن والحسين والامام المهدي (عليهم السلام) كلهم يرونك ويشهدون عليك.. ألا يكون ذلك اكبر رادع اخلاقي ومعنوي عن اجتراح هذه المعصية؟ وألا يتحول من يستحضر هذا المعنى شيئا فشيئا الى انسان متقي يتحلى بإيمان راسخ وعميق؟.
ماذا لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفا عند الباب؟!
وهنا ننقل قصة تتضمن عبرة بالغة عن الشيخ الفلسفي وهو احد أشهر خطباء ايران، وقد كان يخطب في الناس في زمن الشاه المعروف بطاغوتيته، وكان للشاه جهاز يسمى بــ(السافاك) وهو جهاز مخيف ومرعب، فكان الشيخ اذا دعي الى القاء محاضراته في المجالس الحسينية المعهودة أو في الفواتح يسأل عن صاحب المجلس فإذا علم انه مرتبط بالسافاك أو بالبلاط فانه كان يرفض المجلس ولا يلبي الدعوة.
وفي احدى الايام دعي كما هي العادة الى احدى مجالس الفاتحة الا ان الوسيط لم يخبر الشيخ بان صاحب المجلس مرتبط بالبلاط الملكي فقبل الشيخ الدعوة ثم اكتشف لاحقا ان المتوفى شخصية كبيرة مرتبطة بالبلاط الشاهنشاهي وسيحضر جمع من مسؤولي الدولة ولا بد حينئذ حسب الرسوم الدارجة من الدعاء للشاه، ولكن كيف يدعو له وهو طاغية ومستبد؟ فتحير الشيخ الفلسفي في الامر ورأى نفسه في مرحلة الدوران بين المحذورين حيث لا يستطيع ان يرفض الدعوة الآن بعد ان قَبِلها كما انه لو ذهب فإن لم يَدْعُ للشاه تعرض لخطر جسيم وان دعا له كان من أعوان الظلمة؟ فقرر ان يذهب الى المرجع الشهير الزاهد الورع التقي السيد احمد الخونساري رحمه الله، فذهب إليه واخبره بالموقف المحرج الذي صار فيه واستشاره ما الذي يصنع؟
قال له السيد الخونساري: انا اقول لك كلمة واحدة: اذهب وتوكل على الله والقِ محاضرتك ولكن عندما تصل الى نهاية المحاضرة حيث موقع الدعاء فإذا نظرت الى زبانية الشاه ينظرون اليك شزرا ليزلقونك بابصارهم مهددين متوعدين إن لم تَدْعُ له وإذا رأيت ان قلبك قد ضعف الى الدرجة التي تكاد ان تستسلم لهم فيها وتدعو للطاغية فحينئذٍ تصوّر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقف عند الباب وهو قابض على شيبته المقدسة ويقول لك: اغاي فلسفي إياك ان تريق ماء وجهي!!.
اقول: وذلك لان العمامة التي نرتديها تمثل الدين وما دمنا كذلك فلا ينبغي لنا ان ندعو لأعداء الدين ففي ذلك هتك للعمامة وإذلال للمتدينين كما انه يمنحهم شرعية هم بأمس الحاجة إليها للاستمرار في ظلم الناس وهتك الحرمات بل والازدياد فيها أيضاً.
يقول الشيخ الفلسفي ذهبت الى المجلس وصعدت المنبر وشرعت بالمحاضرة وكلما اقتربت من النهايات رأيت الوجوه الشريرة ترقبني بغيظ وحنق ثم بدأت الاشارات التهديدية تتجه إليَّ، يقول: وبالفعل كما تنبأ السيد الخونساري بدأ قلبي يضعف بل واصطفت في ذهني عناوين التقية والتهلكة وما اشبه لاتخذها ذريعة للركون إلى الظالم ولو بقدر الدعاء الشكلي، فبينما أنا كذلك تذكرت وصية السيد الخونساري وتصورت في مخيلتي صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفاً على الباب قابضاً على لحيته الشريفة وهو يقول لي: آقاي فلسفي إياك ان تريق ماء وجهي! وهنا قويت عزيمتي وربط الله على قلبي وقررت ان لا اذكر اسم ذلك الطاغية على منبر الامام الحسين (عليه السلام) مهما كلف الأمر لكنني قلت للرسول (صلى الله عليه وآله) لكنني اطمع بحمايتك يا رسول الله لأنني سأخاطر بمستقبلي.. وعندما نزلت من المنبر توعدني بعضهم بالشر، الا ان الله حفظني من كيدهم وشرورهم.
وبهذا الموقف المشرف فان الشيخ الفلسفي أضاف صفحة مشرقة إلى صفحات التاريخ المشرِّف عن رجل الدين العالم المتقي الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.
وهكذا الحال عند كل موقف وفي كل منعطف وعند كل معصية علينا ان نستحضر وجود رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورقابته وشهادته - وسائر المعصومين الأطهار (عليهم السلام) وصولاً لخاتم الأوصياء المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف - على كل قراراتنا وحركاتنا وسكناتنا وكلماتنا ونظراتنا وغيرها.
بحث تفسيري عن الآية (أُمَّةً وَسَطًا) والقراءة الثانية
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)([20]) وهذه هي القراءة المشهورة والموجودة في القران المعهودة المتداول المشهور وهي واضحة الدلالة على كون الرسول (صلى الله عليه وآله) شهيداً علينا وعلى كون أمتنا شهداء على الآخرين.
لكن هناك قراءة اخرى وقد وردت بها روايات متعددة، ولا يستشكل على من يلتزم بصحة هذه الروايات انه ممن يقول بتحريف القرآن وذلك لانها لا تزيد على قراءة من القراءات ومشهور علماء العامة ككثير من علماء الخاصة قالوا بتعدد القراءات ولم يروا فيها تحريفاً، واما من لا يقول بتعدد القراءات بل يلتزم بان القرآن (نزل من عند الواحد على حرف واحد) فانه يمكن ان يلتزم بالقراءة المشهورة إلى جوار هذه القراءة نظراً لأن الأئمة (عليهم السلام) امضوا القراءة المشهورة –في عالم الإثبات وإن لم تكن في عالم الثبوت- على ما ذكره الشيخ الطوسي وغيره، وقد بحثناه في احدى الدروس الماضية من مباحث الخارج.
والقراءة الثانية هي: (وكذلك جعلناكم أئمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس...)
وعلى هذه القراءة يكون الخطاب موجها الى الرسول (صلى الله عليه وآله) والائمة الأطهار سلام الله وصلواته عليهم فهم الشهداء على الناس فضلا عن شهادة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله).
لكن هل ينقطع بالالتزام بهذه القراءة، طريق الاستدلال على ان الشهادة مطلوبة منا ايضا: ان نشهد على الناس؟
الجواب: كلا، أولاً: لما سبق من امضاء القراءة المشهورة من قبل الأئمة (عليهم السلام) فانها وإن كانت ثبوتاً واحدة إلا انها اثباتاً متعددة فهي نظير الأحكام الظاهرية. فتأمل.
ثانياً: لوجود روايات عديدة تؤكد مسؤوليتنا في اداء الشهادة يوم القيامة فتكون هي المكملة للمستفاد من الآية الكريمة:
شهادة الشيعة على الناس
وهنا نذكر احدى الروايات ففي حديث مفصل عن ليلة القدر عن الامام الباقر عليه الصلاة والسلام "ليشهد محمد علينا"([21]) أي يشهد الرسول (صلى الله عليه وآله) على الائمة انهم ادوا الامانة بأعلى مستوياتها "وَلِنَشْهَدَ عَلَى شِيعَتِنَا وَلِتَشْهَدَ شِيعَتُنَا عَلَى النَّاسِ"([22])
الشهادة متوقفة على المعرفة فالشيعة اذن من العلل الغائية لهم ان يشهدوا على الناس.
ولكن هل تصح الشهادة على الناس، بل هل تمكن من غير معرفة بأوضاعهم وخبرة بأحوالهم؟ ان من الطبيعي ان تتوقف الشهادة على الناس على ان نكون بينهم وعلى ان نتعرف على اوضاعهم فكيف لنا ان نشهد ونحن لا نعرف ماذا يجري وما يفعل الرئيس أو الوزير أو النائب مثلاً، أو العالم والمرجع والأستاذ والخطيب؟ أو الطبيب والمهندس والمحامي؟ أو المزارع والفلاح والعامل؟
ان هذه المعرفة ومن ثمّ الشهادة بين واجبة ومستحبة اما مقدمياً أو نفسياً، وقد ورد في الحديث "وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِس"([23]).
كما ورد في حديث الامام علي (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ..."([24]) وهل يمكن للطبيب أن يعالج المريض ويطبّبه بدون ان يعرف الداء ويشخصه؟ أفلا ينبغي لنا ان نتأسى به (صلى الله عليه وآله)؟
ان علينا ان نستطلع أحوال المهجرين في بلادنا والمهاجرين إلى غير بلادنا، وأحوال الأرامل والأيتام وعوائل الشهداء، كما علينا ان نعرف ما هو سبب وصول الارهاب الى ما وصل اليه من القوة والتوسع والعنف والضراوة، وعلينا ان نعرف أسباب وصول تلك الجماعة الى الحكم في مصر وأسرار سقوطها السريع؟ وكيف وصلت تلك الجماعة الى الحكم في تركيا([25]) وسيطرت على ذلك البلد الكبير ثم أصبحت هي الدينامو الذي يغذي الإرهاب في المنطقة؟ وما هي اسباب سقوط الموصل بيد الدواعش؟ وما هو سر التفصيلي لقوة الدواعش والأدلة والوثائق، وما هي المقدمات التي طويت طوال سنين طويلة حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟.
غِبنا عن الشهادة فغبنا عن القيادة
وحيث اننا غالباً لا نعرف إلا السطح والظواهر فان المآسي تتكرر في بلادنا، ويبقى البلاء رائحا وجائيا بل ومخيّماً في مواطن كثيرة.
ان الكثير منا لا يعرف ما يجري حقيقة لأننا لسنا شهداء بحقيقة المعنى، وحيث غبنا عن الشهادة فقد غبنا عن القيادة وذهبت أزمة الأمور ومقاليدها الى ائمة الضلال؛ فان من أشد ما يؤسف له ان الغرب يعرف احوالنا وأوضاعنا: حكومات وجماعاتٍ وشعوباً أكثر مما نعرفه نحن عن بلادنا: عن اقتصادنا وسياستنا واجتماعنا... الخ([26])
بينما اكثرنا لا يعرف أكثر ذلك فنحن لسنا شهداء على العصر بل نحن غائبون عن العصر وهم –ويا للأسف، على باطلهم- الشهداء، وهم الذين يخططون للمستقبل القريب والبعيد ولذلك فانهم هم الذين يجنون نتائج معرفتهم وشهادتهم وتخطيطهم.
ان لهم الكثير من مراكز الدراسات المدعومة بمليارات الدولارات والمتغذية بألوف المفكرين والمخططين الاستراتيجيين والخبراء ونظرائهم، كما لهم الكثير جداً من اوكار التجسس في بلادنا وغير بلادنا، ولهم، للأسف الشديد أيضاً، الكثير من العملاء من المسلمين أو – على أفضل الفروض – من المتعاونين معهم ممن يتصورون انهم اخذوا الكثير، مع انهم اعطوا الكثير جداً ولم يأخذوا إلا الفتات!!.
ان الغرب يصوّر كل شئ ويسجل كل شيء ويراقب كل شيء حتى الصحاري والفيافي والغابات الخارجية والفضاء الوسيع فضلا عن محطات القطارات ومطارات الطائرات ومآرب السيارات والملاعب والمقاهي والمحلات والعمارات وغير ذلك، فهم بالفعل الحكام (بالباطل) على العصر لأنهم الشهداء عليه، بينما نحن غائبون عن الساحة.
ولا حل إلا بالعودة إلى القرآن الكريم ودساتيره وقوانينه وأوامره ونواهيه والعمل بها مسترشدين بهدي الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.
اضف تعليق