ان اهم ما يميز الوحي–القرآن عن تلك الفضاءات الدينية والثقافية الجاهلية وينفرد عنها بمستوى من التعالق مع الوجود الكوني والانساني، هو تأسيسه لرؤية انطولوجيا تسهم في تكوين تناسق عام بين الوجود الكوني العام والوجود الانساني الشخصاني، فتبدو الاشياء والعالم من وجهة نظر القرآن الكريم متداخلة في تحقيق المعنى الالهي الذي يكسب من خلاله الانسان – الفرد تصوراً دقيقاً وتفصيلياً حول المعنى الذي يعد رسالة اطمئنان يبعثها الخالق/الى الانسان حين يؤمن بالوحي–القرآن.
فالعالم او الوجود يبدو ذو معنى فيما يرسيه القرآن من رؤية انطولوجية، وإدراك المعنى هو مفتاح بوابة ولوج هذا العالم. وهو يفسر تلك النقلة النوعية في حياة انسان الجزيرة العربية الى عوالم الثقافة المتفتحة والحضارة.
بينما كان المسؤول الى حد كبير عن انغلاقه وسكونه ومفارقته للروح الحضاري هو ما تشيعه تلك الفضاءات الثقافية الجاهلية وعناصرها، الكهانة، والسحر، والشعر، واقتصار مداها على حدود اليومي والمعاش. فالعالم يبدو ساكناً من وجهة نظر هذا الانسان ولا يحرك تصوراته وافكاره، بل وفعله، الا كاهن او ساحر، وبذلك فهو عالم وهم وعالم غير واقعي. وهكذا يبدو العالم ايضاً من وجهة نظر انطولوجيا الفلسفات التجريدية والميتافيزيقة، لكن انطولوجيا القرآن تقيمه ( اي العالم) على ارضية عيانية من الكينونة والوجودية وفق ما يذهب اليه الكاتب الياباني – ايزوتسو- في كتابه --الله والانسان في القرآن، ص33 – والذي يعتمد منهجياً في علم الدلالة على دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية في القرآن الكريم والتي من خلالها يشرع في دراسة المفاهيم الثقافية التي ارساها القرآن الكريم في امة المسلمين. ويعتمد ايضاً دور اللغة في انتاج هذه المفاهيم.
ومن اجل نسقية الرؤية الكونية الواضحة فان ايزوتسو يقترح مفهمة المعاني من خلال شبكة من نظام علاقات محكم بين تلك الكلمات او المفاهيم، والتي تتحول الى مصطلحات مفتاحية في القرآن الكريم، وتكون تلك المصطلحات هي مفاتيح علم الوجود او معرفة هذا الوجود أو أدوات فهم كينونة الوجود. والخطوة الاولى هو ان تتشكل تلك الكلمات او المفاهيم ضمن مجموعات صغيرة او كبيرة، ثم تتكون مجموعات اخرى اكبر واوسع عبر ترابط هذه المجموعات الاصغر من الكلمات والمفاهيم، ثم ينتهي بمستوى ثالث واعلى من التشكلات التي ترسم نظاماً كلياً ومعقداً من التراكيب والتداعيات المفهومية- م ن، ص34.
ومجال التركيب هو النص، اما مجال التداعيات المفهومية فهو المتلقي، الذي يدخل هو ايضاً في التركيب المتعمد والمستنبط من النص، أي عبر التداخل بين وعي المتلقي وتفاصيل النص، او مركباته المتعمدة والمعتمدة بالنسبة للمتلقي والمنظومة المفاهيمية التي تتشكل عبر السياقات والنظم القرآنية التي تدخل فيها المفردة، او اللفظ، ضمن تركيبة جديدة من المفاهيم او المفهوم انما تتخلى جزئياً او كلياً عن مضمونها بينما تحافظ على صورة الشكل اللفظي.
من هنا اخترع المسلمون الاوائل مفاهيم او مصطلحات المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي وشملت مفاهيم مهمة مثل الصلاة والصيام والجهاد والزكاة التي تلاشت معانيها اللغوية الاولى وتضامنت او تضاممت مع المعنى الاصطلاحي. ويؤكد ايزوتسو ان الصياغات اللغوية الجديدة للكلمات العربية الجاهلية التي تبناها الوحي -القرآن واكسبها نظاماً من الفهم الجديد، يعود الى السياق العام الذي تجلت فيه المعاني الجديدة عبر استخدام المفردة او اللفظة القديمة والمتداولة، ومن وجهة نظره هي التي صدمت المشركين لكون هذا النظام من المعاني الجديدة للألفاظ القديمة (غاية من الغرابة وغير المألوف ومن ثم غير مقبول وليست الكلمات او المفاهيم المستقلة) م ن ص34-
التحولات المفاهيمية
ان التحولات المفاهيمية التي اسست لها لغة جديدة في شكلها ومضمونها في القرآن الكريم ادت الى انفتاحات جديدة في آفاق المعنى الذي اطلت به الرؤية الكونية للقرآن الكريم او انطولوجيا القرآن، واكسبت العالم والوجود الانساني وصولاً الى الشخصي منه معنى لم يكن يدخل في حيز النظرة الانطولوجية للإنسان الجاهلي، وقد ادى هذا التحول وفق ايزوتسو الى تبدل جوهري في قيم دينية واخلاقية غيرت بشكل اساسي من تصور العرب للعالم والوجود الانساني، وهي نقطة تحول مهم في تاريخ الافكار من وجهة نظر علم الدلالة. ولعل محاججة القرآن الكريم وتحديه المشركين من العرب ان يأتوا بسورة من مثله او بعشر آيات فقط منه، انما يعود الى طبيعة السياقات القرآنية الجديدة للكلمات العربية والالفاظ الجاهلية المتداولة والتأثير الكبير على بنيتها اللغوية عبر ادماجها في بنية لغوية دينية ساحرة يتكون الوعي اللغوي والذهني الديني بها.
وتكوينات المعنى الجديد ضمن هذه السياقات والبنى اللغوية والرؤيوية الجديدة هو الذي اوقف النزق الجاهلي في معارضة القرآن او محاججته لغة او بياناً، فالعبرة في مواجهة القرآن الكريم هو في هذه البنى اللغوية والرؤيوية التي كسبت رهانات التحدي في المعنى وعلاقته باللفظ والعنصر الساحر في هذه العلاقة، وأوقفت القريحة العربية في سجع الكهانة وسحر الشعر عن ان تأتي بمثل هذا القرآن الكريم في نظمه ومعناه.
ان مفهوم الالوهة الوثنية كان يحيل موقع الله تعالى الى الهامش في المنظومة الدينية الوثنية ويحيل الوثن- الوهم الى المركز بشكل عملي، وهذا الوهم وصناعته هو جزء من الوظيفة اللغوية وادواتها في السجع للكهانة، وللدلالة على انها تدخل في عداد الوظيفة اللغوية الكهنوتية التي تنطلق من خط الشروع في الوهم، وان القرآن الكريم عبّر عنها او حصر دلاتها في الوثن- الوهم في الاسماء دون المسمى حقيقة، والاسم في اللغة هو علامة على شيء، والمعنى هو المسمى، وحين لا يكون هناك معنى فهو الوهم، ولذلك اضاف القرآن الكريم في الآية 6 من سورة يوسف في توصيف الآلهة – الوهم (ان هي الا اسماء سميتموها انتم وابائكم) وعليه فهذا الوثن – الوهم فاقد المعنى، لكن الوثن الحرفي انما هو في منظومته الدينية العامة والتي تتشكل عملياً عبر العبادة له، ولذلك كان يتقدم على ذكر الاسماء - الوهم ذكر العبادة امام هذه الاسماء التي يغيب عنها المسمى وهي فاقدة المعنى بهذا في قوله تعالى في الاية 6 من سورة يوسف (ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وابائكم ما انزل الله بها من سلطان) وحين انهار الوثن – الوهم، ولأنه وهم انهارت معه كل منظومته الدينية والقيمية.
وكان فعل القرآن العظيم انه اعاد موقع الله تعالى الى المركز في الحياة الدينية في الجزيرة العربية، ومن ثم تمت اعادة توزيع كل العناصر التكوينية والقيمية للثقافة الجاهلية وشمل ذلك مواقع الملك او الملائكة والجن والشياطين وحتى موقع الانسان، الذي صار مركزياً في المنظومة القيمية الاسلامية الجديدة بموازاة او بالتوازي مع مركزية الله تعالى في الرؤية الانطولوجية "الوجودية" والكونية وهي أهم التحولات المفاهيمية التي أنتجتها المصطلحات المفتاحية في القرآن الكريم بعد ان ادرك الانسان المسلم في الجزيرة العربية مفهوم الخلافة الكونية للإنسان التي منحها الله تعالى لهذا الانسان والعهد الذي عهده اليه بحمل الامانة واداء حق الخلافة، فصار سيدا في الكون وهو معنى الخلافة، لكنه حين طغى وأستكبر صار سيدا على الكون وأضاع مفاتيح فهم الوجود ومعرفته وأدراكه فكان ظلوما جهولا...
اضف تعليق