وشهر رمضان يشكّل جسراً رابطاً بين الوعي الظاهر والباطن وحلقة وصل بين القوى المتعقلة والمتخيلة والمتوهمة وبين المشاعر النفسية والحواس الجسمانية حيث انه يغذي تلك الأبعاد كلها في مزيد فريد وكما سبق فقد تكفل شهر رمضان المبارك بالهداية بمعانيها الأربعة الأولى وبالهداية للقوى المتعقلة، المتخيلة والمتوهمة والحس المشترك...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبيلاً)[1]
والبحث يدور في ضمن مطالب:
ما هي الشاكلة وما هو دورها في تقرير مصير الإنسان؟
المطلب الأول: حول الشاكلة الإنسانية، وقد مضى في بحث سابق البحث عنها ونقتبس ههنا بعض ما ذكرناه (تعريف الشاكلة: (الشاكلة) مأخوذة من الشَّكل بالفتح أو من الشِّكل بالكسر والشَّكل بالفتح له معنيان:
المعنى الأول: التقييد، يقال مثلاً: شَكَلتُ الدابةَ أي قيّدتها وربطت رجلها مثلاً، كما يقال شكلت الكتابَ أي أعجمته أي قيدته بالإعراب ووضعت عليه الحركات (كي لا يسترسل الجاهل فيقرأه كما شاء) والشِّكال بالكسر هو عِقال الدابة وشدّ قوائمها بالحبل.
والشاكلة بهذا المعنى تعني: الكوابح والقيود الداخلية التي تمنع الإنسان من ان يقول شيئاً أو يمارس فعلاً أو يتخذ موقفاً أو يعتنق مذهباً أو غير ذلك.
فهل الآية الشريفة تعني ذلك؟ أي تعني انّ كل شخص يعمل على حسب شاكلته النفسية وكوابحه الداخلية، وانّ الحواجز والقيود والموانع الذاتية هي التي توجّه حركته واعماله فيسير في طريق معيّن مرسوم سلفاً وهو ذلك الطريق المشرَع أمام النفس مقابل البدائل الأخرى المغلقة في وجهه...).
(كما يحتمل في الشاكلة ان تكون مأخوذة من الشِّكل بالكسر، وهذه هو المعنى الثالث:
فان الشكل يعني الهيئة، وعليه: فان (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) يعني على حسب هيئته النفسية، أي على حسب صورته المتخيلة أو المتوهمة.
وعلى ذلك كله فان (الشاكلة) تستبطن المعاني الآتية: الطبيعة، الخليقة، السَجِيّة، المَلكَة، الحالات النفسية، المزاج، البنية، المذهب والطريقة، ولذا يقال: طريق ذو شواكل أي تتشعب منه عدة طرق، والشواكل من الطرق ما انشعب من الطريق الأعظم...).
تعريفات علماء النفس للشاكلة
وقد يقال: ان (الشاكلة) هي نفس (الشخصية) بالمعنى العرفي وبشكل أكثر دقة هي نفس (الشخصية) حسب مصطلح علماء النفس.
وقد عرّفها علماء النفس بأكثر من أربعين تعريفاً ننتخب منها:
أولاً: (الشخصية: هي مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية الموروثة والمكتسبة ومجموعة من القيم والتقاليد والعواطف)
و(القيم) مثل قيمة العدالة والرحمة والإحسان وغيرها، فَمَن شاكلتُهُ النفسية الرحمةُ والإنسانية فان تعامله مع الفقراء والمساكين والأيتام والضعفاء بشكل عام يكون على نحو مختلف تماماً عمّن تُشكِّل القسوة والظلم شاكلَتَهُ النفسية، ولذا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) المظهر الأسمى للشاكلة الإنسانية النموذجية حيث تكشف عن ذلك الألوف من كلماته ومواقفه التي تفيض إنسانية ونبلاً ورحمة ولطفاً...).
(ثالثاً: الشخصية: هي مجموع المفاتيح التي تقرر متى يستجيب الفرد وكيف يستجيب ونوع الاستجابة)
رابعاً: (الشخصية: هي تلك السمات والانساق الفردية الثابتة نسبياً والتي تبلورت عبر الزمان على شكل نمط يميز الفرد عن غيره)[2]، ونضيف هنا:
انّه يمكن القول بأنّ من مصاديق (الشاكلة) ومفرداتها أو مظاهرها، الوعي الباطن، وهو الذي غفل عنه المفسّرون عادة.. نعم أقرب شيء إليه هو (النية) التي فسّر بها بعضهم الشاكلة.. لكنّ النيّة تنصرف عادةً إلى المتصورة والملتفت إليها.. أما اللاوعي أو الوعي الباطن فإنه مغفول عنه عادةً إضافة إلى انه أعمق وأوسع وأكثر امتداداً كما سيظهر من البحث الآتي.
هل للإنسان مخّان متدافعان؟
المطلب الثاني: انه قد يقال بانه يوجد داخل رأس الإنسان مخّان متدافعان غير ما هو المعروف من أنّه توجد داخل جمجمة الإنسان ثلاثة أمور: المخ، المخيخ، وجذع الدماغ، وأنّ المخّ وحده يتشكل من أربعة فصوص: الفص الأمامي، والفص القذالي أو القفوي أو القحفي، والفص الجداري، والفص الصُّدغي.
ولكنّ ليس الكلام عن ذلك أبداً بل عن تركيبة أخرى للمخّ، وهي في الواقع تعبير رمزي وليس بيولوجياً، وهو أن هنالك في داخل مخ الإنسان وعيان أو عقلان أحدهما يسمى: الوعي الباطن، أو اللاوعي، أو العقل الباطن أو العقل العميق، العقل التلقائي، أو عقل الظل، وقد يسميها بعضهم بالبرمجة الذهنية المختزنة، والآخر هو: العقل والوعي الظاهر.
انّ الوعي الباطن، يشكّل في الواقع الأرشيف أو المخزون القابع في أعماق المخ، والذي لا يبرز إلى السطح ولا يتذكره الإنسان عادة، بل لعل ما يبرز منه إلى السطح، عند حدوث صدمة نفسية أو عند تجدد أجواء معينة لا يبلغ حتى واحداً بالألف من ذلك المخزون، بل وأقل من ذلك بكثير.
وقد ثبت علمياً انّ كل ما تقع عين الإنسان عليه، ينطبع في أعماق المخ ومنطقة اللاوعي فوراً، وإن لم يدرك الوعي الظاهر منه شيئاً فلو أنك ألقيت نظرة ولو لجزء من الثانية على صفحةٍ من كتاب أو على غابة كبيرة أو على سحب السماء ونجومها.. فإنها بجميع تفاصيلها تنطبع في الذهن، وكأنه جهاز تصوير حديث متطور لا يفوته شيء أبداً مهما كان صغيراً، لكنّ المرء لا يشعر به على مستوى العقل الظاهر.
لكلٍّ منّا جندي مجهول وعدو داخلي
المطلب الثالث: انّه من هنا يمكن لنا أن نقول: انّ لكل إنسان في داخله جندياً مجهولاً يعمل لصالحه من جهة كما له عدو مجهول يعمل ضده ليل نهار من جهة، وكلاهما يتكوّن من الأرشيف الضخم للوعي الباطن، فكلما أمتلأ الوعي الباطن بالصور الإيجابية – الإيمانية كصورة الوالدين والزوجة الصالحة والمساجد والحسينيات والمشاهد المشرفة كمكة والمدينة وكربلاء والنجف و...، تغذّى وعيه الباطن بمحفزاتِ خيرٍ خفية تزيده شوقاً وحنيناً إلى الله تعالى وإلى أعمال البر والصالحات.
وكذلك: كلما امتلأ سمعه، وإن كان لا يستمع أو كان طفلاً صغيراً أو حتى جنيناً، بتلاوة عطرة لآيات الذكر الحكيم أو بمناجاة السحر أو بصوت الأدعية أو بقراءة نهج البلاغة والصحيفة السجادية أو المدائح الدينية والمراثي الحسينية.
وكذلك لو استخدم قوى اللامسة والشامة والذائقة في كل ما ينشأ منه الخير وما يثير فيه نوازع الخير، كتقبيل القرآن الكريم والأضرحة المقدسة والتربة الحسينية ويد الوالدين والعلماء ومصافحة المؤمنين.. وهكذا فإن كل ذلك يرسل إشارات كهربية – كيماوية إلى منطقة اللاوعي (إضافة إلى ما تشهده منطقة الوعي أيضاً) فيُسجَّل فيها ولا ينمحي حتى لو نسيه الإنسان تماماً.
وعلى العكس من ذلك تماماً أرشيف الوعي الباطن الذي يتشكل من النظر، لا سمح الله، إلى النساء الأجنبيات وإلى مشاهد الفساد والخمور واللهو والمجون وشبهها أو إلى ما يسمعه من أصوات الغناء والفحش والخنا والسباب والغيبة والنميمة وغيرها أو إلى ما يلمسه من المحرمات كمصافحة الأجنبيات أو ما يشمه من عطورهنّ.. إلى غير ذلك.. فإنّ كل ذلك مما يغذي الوعي الباطن دون انقطاع.
وبذلك تشكل المجموعة الأولى من الصور الإيمانية والأصوات الروحانيةُ...، الجندي الإيماني المجهول الذي يؤازر الإنسان كلما وقف عقله الظاهر أمام خيارين: خيرٍ وشرٍ، أي كلما كان في موقع اتخاذ القرار بعمل صالح أو طالح، وبالعكس: تشكِّل المجموعة الثانية الشيطانية العدو المجهول الذي يدفع المرء للأعمال الطالحة في كل موقف ومنعطف.
فإذا وقع المرء في محطة امتحان أن يرابي، يرتشي، يسرق، ينظر للأجنبية، يظلم زوجته وأولاده.. إلخ فإنّ كلّاً من الأرشيفين يدفع، بشكل خفي، باتجاه طرف من الطرفين.. وهكذا نجد أنّ هنالك مخين متدافعين، أو مركزي توجيه متضادين أحدهما يدفع نحو الشر والآخر نحو الخير.
ويمكن تشبيه الأدوار المتقابلة التي يقوم بها الوعيان الباطن والظاهر، فيما إذا تخالفا وتعاكسا، بمن يدفع بيد سيارته العاطلة، ولكنه يمسك بها بقوة باليد الأخرى، أو بمن يدفع بيدٍ صخرةً ويجذبها إليه بقوة في الوقت نفسه بيده الأخرى، أو بشخصين يدفع أحدهما السيارة إلى الأمام بينما يقوم الآخر بدفعها إلى الخلف.. وهكذا يفعل الوعي الباطن لو كان مليئاً بصور شيطانية أو إيحاءات سلبية أو مخاوف دفينة، في مواجهة العقل الظاهر الذي قد يدفع باتجاه اتخاذ القرار السليم.
وفي قوله تعالى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)[3] دلالة وأبلغ الدلالة على المفعول المتعاكس للتوجيه الرباني وللوسواس الشيطاني، إلا أن الفرق أن وساوس الشيطان تدخل إلى نفوسنا قهراً، أما الوعي الباطن، فإن الكثير مما يغذيه ويملأه يقع تحت سيطرتنا تماماً.
بينما لو تعاضد اللاوعي مع الوعي، عبر تغذية كل منهما ببواعث الخير والهداية والرشاد، لأمكن للإنسان، والأسرة، والمجتمع، أن ينطلق بقوة أكبر وبسلاسة أكثر نحو بناء أسرة / مجتمع / وطن صالح، يسير نحو التقدم والازدهار بخطى ثابتة.
لكنّ الأمر كله اختياري
المطلب الرابع: ان الأمر لا يخرج عن دائرة الاختيار فإن القرار يبقى مع ذلك اختيارياً تماماً، فإضافة إلى أن تغذية اللاوعي بهذه المجموعة أو تلك هو غالباً تحت سيطرة الإنسان، فإنه يبقى الإنسان هو صاحب القرار ذا حرية واختيار ولا يفقد إرادته أبداً.. إلا أن تلك محرضات ومخذلات ومشوقات.
تأثير اللاوعي على النطفة وفي حالة الاحتضار
المطلب الخامس: يتجلى التأثير الكبير والخطير للأرشيف الذهني القابع في أعماق الوعي الباطن في مواطن عديدة من أهمها: حين انعقاد النطفة وحالة الاحتضار:
فإنّ الأرشيف الذهني الممتلئ بصور نساء أجنبيات، لا شك أنه يؤثر، بنحو وآخر، على النطفة، ومن هنا قد يولد الصبي وهو ميّال إلى الفسوق والفجور وبالعكس مما لو كان الأرشيف مشحوناً بصور ربانية تذكر بالله تعالى ورسله وأنبيائه وبالأعمال الصالحة، فإن ذلك يترك تأثيره على الوليد أيضاً فيولد ميالاً إلى الصلاة والصوم والأعمال الصالحات.
بل: قد تترك حتى الصورة الواحدة أثرها على النطفة أيضاً خاصة إذا هزّت حينها الإنسان فتركت في نفسه أثراً عميقاً.
والأدهى من ذلك حالة الاحتضار: فإنّ الإنسان في هذه الحالة يكون في أضعف حالاته بينما يكون الشيطان في أشد حالات شيطنته، أما الإنسان فلأنّ هذه اللحظات هي لحظات خَور قواه وضعفه الشديد وربما تشكّل لحظات عدم إدراكه بوضوح لما يدور من حوله، فقد تهزّه حينئذٍ كلمة أو تهيجه صورة تبرز فجأة من باطن عقله، أو يذكره الشيطان بها أو يجسدها له فترجح بذلك كفة نطقه بكلمة الكفر، كما أنّ الشيطان حينئذٍ في أشد حالات إستذءابه إذ انه أقسم بـ (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ)[4]، وهو يعلم ان هذه هي فرصته الأخيرة للانتقام من آدم وبنيه فإنه إن أمكنه أن يغويه في لحظة الاحتضار كان هو المنتصر النهائي وإلا كان هو المهزوم شر هزيمة.. ومن هنا فإن إبليس ومعه عفاريته وشياطينه يجنّد كل قواه لإغواء هذا المسكين وإضلاله.. وهنا يبرز الدور الخطير للأرشيف الذهني إذ يستعين الشيطان، في جملة أسلحته، بهذا المخزن الكبير الواسع الشامل لاضلال المحتضر وإغوائه..
ولا يقتصر الأمر في لحظات الاحتضار على بروز صور النساء الأجنبيات والقضايا الجنسية من منطقة اللاوعي فقط.. بل يتعداه إلى كلّ ما يشكل خطورة على إيمان المرء، من حب الرياسة وحب الشهرة وحب المدح والذكر وحب المال والماديات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنينَ وَالْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[5]، فكلما كان تعلق الإنسان بالأموال أو الشهرة أو الرياسة.. إلخ أكثر ازدادت خطورة أن ينتصر الشيطان عليه في لحظات الاحتضار المصيرية متسلحاً برغبات هذا المحتضر الدفينة وعبر استخراج اللذات الكامنة المدفونة في أعماقه والتي مرت عليه كلما حصل على مال أو أحس بلذة مدح أو رياسة أو غير ذلك..
اللاوعي يتعلم من التكرار
المطلب السادس: انّ الوعي الباطن يتعلم من التكرار، سلباً وإيجاباً، وذلك يعد من حِكَم التكرار في القرآن الكريم، على انه لدى التدبر ليس تكراراً بل في كل مرة هناك وجه جديد أو نكتة جديدة أو بطن آخر أو مِعراض أو غير ذلك، فإن التكرار، أو ما بدا انه تكرار يؤثر على منطقة اللاوعي بشكل كبير.. بل نجد ان تكرار المقولات الباطلة أيضاً يؤدي إلى خداع العقل الباطن بالتدريج فيتصدى لمقاومة العقل الظاهر ومن هنا ظهرت المقولة المعروفة (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس).
والحاصل: ان الوعي الباطن يتعلم من خلال التكرار، لا من خلال المنطق، فإذا أصاب أجاد وأفاد وأوصل إلى المراد وإلا أضلّ المرء وهوى به في الحضيض.
ومن هنا فإن علينا، عند تربية أبنائنا وبناتنا وتلامذتنا وأصدقائنا وجمهورنا، أن لا نيأس أبداً من الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن وجدنا في البداية رفضاً قاطعاً.. فإن التكرار، بلطفٍ وحِكمةٍ ومن زوايا مختلفة وفي حالات مختلفة، يؤثر على وعيه الباطن فيكسر مقاومته فيستجيب حينئذٍ للموعظة الحسنة وللمنطق بإذن الله تعالى.
وتسيطر عليه المشاعر والأحاسيس
المطلب السابع: انّ الوعي الباطن تسيطر عليه المشاعر والأحاسيس المختلفة، فالخوف قد يسيطر على أعماق الإنسان فيشل اتخاذه للقرارات التي تحتاج إلى نوع من الشجاعة رغم ان عقله الظاهر، وكذا الاستشارات، تدفعه نحو الإقدام، لكنّ الوعي الباطن قد يكبّله بإحكام.
وكذلك الحب، وقديماً قيل الحب يعمي ويصم، وكذا البغض وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ)[6].
والحب والبغض الكامنان في الإنسان، هما اللذان يوجهانه إلى حد بعيد في تقييمه للآخرين من أصدقاء وأعداء، ومن مذاهب وأديان أخرى، ومن حزبه أو عشيرته أو جماعته والأحزاب والعشائر والجماعات الأخرى، ومن هنا فإن من أراد أن يكون منصفاً فإن عليه أن يتجرد عن الحب والبغض ليمكنه أن يزن الأمور بميزانها الصحيح وليكون عادلاً في حكمه.
ومن هنا نجد انه وعلى مر التاريخ انتقل إلى التشيع الملايين من المذاهب والأديان الأخرى، رغم أن المغريات كلها كانت في الجانب الآخر من أموال وثروات وفرص ومناصب وغيرها، إذ كانت الحكومات عموماً بيد المخالفين، بل ورغم أن السوط والسيف والسجن والتعذيب والنفي والتشريد كانت مسلطة، في فترات كثيرة جداً، على رقاب الشيعي فكيف بمن يتشيع.. ولا ريب أن ذلك كان وليد قوة البراهين التي تسلح بها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فمع تجريد الشخص نفسه من الكراهية المسبقة أو الخوف الكامن من الانتقال من مذهب إلى آخر أو من دين إلى آخر، يكون الانتقال والتحول سهلاً.
كيف تندمج في شهر رمضان جميع محفزِّات الوعي الباطن والظاهر؟
وشهر رمضان يشكّل جسراً رابطاً بين الوعي الظاهر والباطن وحلقة وصل بين القوى المتعقلة والمتخيلة والمتوهمة وبين المشاعر النفسية والحواس الجسمانية حيث انه يغذي تلك الأبعاد كلها في مزيد فريد وكما سبق فقد تكفل شهر رمضان المبارك بالهداية بمعانيها الأربعة الأولى وبالهداية للقوى المتعقلة، المتخيلة والمتوهمة والحس المشترك أيضاً.. وذلك عبر مزيج رائع متكامل مما يغطي كافة المناحي السابقة:
فأجواء شهر رمضان تملأ العقل والخيال والمشاعر والأحاسيس.. وتغذّي حاجات الإنسان الروحية – النفسية – الفكرية والجسدية أيضاً، بما تستبطنه من مراسم وبرامج وطقوس متنوعة:
فهناك الأجواء القرآنية التي تملأ الآفاق..
وهناك الأدعية الرمضانية: دعاء الافتتاح.. دعاء السحر و...
وهناك أيضاً المجالس الحسينية والشعائر المختلفة الدينية او الشعبية، المباحة أصلاً والمحبذة بعنوانها الثانوي.
فهناك: الفوانيس التي تعلّق على الأبواب وفي السكك والأزقة في العديد من البلاد..
وهناك الاحتفال البهيج المسمى شعبياً بـ (ما جينا.. ما جينا.. لولا الحسن ما جينا) ليلة ميلاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)..
وهناك السحور بعبقه الفريد.. والإفطار بنكهته المميزة..
وهناك التزاور بين الأرحام وبين الأحباب والأصدقاء..
وهناك الهدايا.. وهنالك زكاة الفطرة..
وهنالك الوجبات الرمضانية التي يرسلها المؤمنون إلى العوائل المحتاجة، بالعشرات أو بالمآت.. وقد يرسلها صديق إلى صديقه..
وهنالك ألف شيء وشيء.. وهذه كلها تشكل مزيجاً فريداً يستحثّ قوى الإنسان الخمسة الظاهرة.. وقواه الخمسة الباطنة.. وروحه ونفسه وعقله وأفكاره.. لكي يعيش أجواءً سماويةً – روحانيةً في تجربة فريدة لا نجد لها في التاريخ مثيلاً.
فلنعرف قيمة هذا الشهر الفضيل، ولنحاول أن نستثمره أكثر فأكثر في التكامل الذاتي وفي إصلاح أنفسنا وأهلينا وجيراننا ومجتمعنا، وفي العطاء العلمي والمالي والأخلاقي والعملي.. فالعطاء ثم العطاء.. أكثر فأكثر فأكثر.. وبذلك نضمن لأنفسنا الحياة السعيدة في الدنيا والفلاح في الآخرة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)[7].)[8]
وبكلمة: فإن شهر رمضان يغذّي العقل والفكر بآيات الذكر الحكيم وأدعية الليل والنهار.
ويغذي القوة المتخيلة والقوى الباصرة والسامعة.. بالمظاهر الرمضانية التي تملأ أطراف البيوت والسكك.. والآيات والأدعية التي تصدح بها المآذن ومكبرات الصوت.. وبالروائح الزكية التي يشمها الصائم قبيل الإفطار فتكون له فرحتان كما في الحديث (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)[9].. وبمجاميع الشبيبة الذين يجوبون الأزقة والشوارع قبيل السحر وهم يدقون الطبول يستحثون النائم على القيام والقائم على الاستعداد للسحور والصيام...
من الأدعية المجرّبة
ختاماً: ان مما يغذّي الوعي الظاهر والباطن معاً وفي الوقت نفسه، تكرار الإحراز والأدعية والعوذات التي تحيي في الإنسان ذكر الله تعالى وتعمّق فيه حالة اللجوء إليه والاعتماد عليه.. ومن تلك الأدعية حرز السيدة خديجة (عليها السلام)، والمسمى أيضاً بحرز السيدة الزهراء (عليها السلام)، ولعله منسوب إلى الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أيضاً، وهو بالأصل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا مانعة جمع إذ المعلم الأعظم هو الرسول الأعظم ثم فاض العلم منه على عترته الطاهرة (عليهم السلام) فَعِلمُهُم بعضهم يورّثه إلى البعض الآخر.. والحرز كما ورد في مهج الدعوات هو: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ اسْتَغْنَيْتُ فَأَغِثْنِي وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)[10].
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق