تكفل شهر رمضان المبارك بالهداية بمعانيها الأربعة الأول وبالهداية للقوى المتعقلة، المتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك أيضاً.. وذلك عبر مزيج رائع متكامل مما يغطي كافة المناحي السابقة فأجواء شهر رمضان تملأ العقل والخيال والمشاعر والأحاسيس.. وتغذي حاجات الإنسان الروحية – النفسية – الفكرية والجسدية أيضاً، بما تستبطنه من مراسم وبرامج وطقوس متنوعة...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)[1].
والحديث يدول بإذن الله تعالى في ضمن بصائر:
أنواع الهداية في القرآن الكريم
البصيرة الأولى: ان الهداية في الآيات القرآنية إضيفت إضافات مختلفة، فتارة للناس وأخرى للمؤمنين وثالثة للمتقين ورابعة للموقنين وخامسة للمحسنين وسادسة لأولي الألباب، فلنلاحظ الآيات التالية:
(هُدىً لِلنَّاسِ) كما في الآية الكريمة السابقة.
(هُدىً لِلْمُتَّقينَ)[2] كما في قوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[3].
(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنين)[4].
(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنينَ)[5].
(هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[6].
(هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)[7].
(هُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون)[8].
فما هو السبب في ذلك؟ وما الذي يحمله ذلك من دلالات ومضامين؟
الجواب عن ذلك تتكفل به البصائر اللاحقة:
مسؤولية الهداية، بأنواعها، عامة للجميع
البصيرة الثانية: انّ مسؤولية الهداية، بأنواعها الماضية والآتية، لا تختص بالخطباء ورجال الدين بل تعمّ المعلِّمين والمربِّين في المدارس والأبوين وكبار الاخوة والأخوات، بل كل مؤمن إذ قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ)[9]، ولنتصور لو أن جميع من ذكرناهم (الخطباء.. الآباء.. إلخ) اضطلعوا بمسؤولية الهداية بأنواعها.. ألم يكن المجتمع يتحول حينئذٍ إلى جنة من الصلاح والإصلاح.. وألم يكن يُغِذّ الخُطى حينئذٍ بأقدام ثابتة بل ومتسارعة نحو التقدم والرقي والازدهار؟
والهداية نحتاجها آناً بآن كما نحتاج الهواء النقي
البصيرة الثالثة: ان هنالك من الأمور ما يحتاجه المرء حيناً دون آخر: ساعةً أو يوماً أو شهراً أو سنة دون أخرى.. وهنالك من الأمور ما يحتاجه الإنسان في كل آن.. ومن هذه الأمور (الهداية) فإن المرء محتاج إلى هداية الله له ولطفه به، بمعانيها القادمة، في كل آن، وإلا فإن لحظة غفلة واحدة تكفي كي تزل قدم الإنسان، لا سمح الله، فيهوي إلى قعر جهنم، كمن تزل قدمه من أعلى الجبل، فإنها لحظة واحدة لكنها تكفي لكي تقضي على حياته أو أن تهشم كل عظامه.
فالهداية للإنسان هي كالهواء والأوكسجين الذي يحتاجه المرء على طول الخط وعلى امتداد مراحل عمره وسنيّه وأشهره وأسابيعه وساعاته ودقائقه بل وثوانيه أيضاً والقرآن الكريم هو هدى للناس على امتدد الأيام والساعات والدقائق والثواني.
وكذلك الفسحة الزمنية الممتدة لـ 30 يوماً أو 29 يوماً، الموسومة بشهر رمضان، فإنها كذلك تماماً.. كل ثانية منها تشكّل منطلق هداية ومبعث لطف وتوفيق ورشاد.. لو كنا لذلك أهلاً.
الهداية نوعان، وأربعة أنواع
البصيرة الرابعة: ان المتكلمين قالوا الهداية نوعان: إراءة الطريق، والإيصال إلى المقصود، فإنك تارة تُرِي ابنَك طريق المدرسة وتارة تأخذه بسيارتك إليها، وتارة يرشد الطبيب المريض إلى الدواء وأخرى يعدّه له ويسقيه منه ريثما يشفى، والآيات السابقة تتوزع على نوعي الهدايتين كما سيظهر.
ولكنّ بعض المحققين قسّم الهداية إلى أربعة أقسام، وإن كان التدبر يقود إلى أنها تدور في فلك المعنيين الأوّلين، لكنه تقسيم نافع يحمل عمقاً وثمرات، قالوا[10]: الهداية أربعة أقسام: وهي الهداية العقلية، والهداية التعبدية أو النقلية، والهداية بمعنى اللطف الخاص والتوفيق، والهداية بمعنى إيجاد العلة المعدة حتى جزئها الأخير الموصل إلى المطلوب الأسمى، والأوّلان مندرجان في أُولّ قسمي الهداية الكلامية والأخيران مندرجان في القسم الثاني، وعلى أية حال فإنّ القرآن الكريم، ومع لحاظ قابلية القابل وخصوصياته التي تجمعها العناوين الستة الماضية، يتكفّل بالأنواع الأربعة كلها، وتوضيح ذلك:
الهداية العقلية على مستوى علم الكلام والاجتماع والسياسة
1- الهداية العقلية، ونعني بذلك: ان القرآن الكريم، وإلى جواره السنة المطهرة، يتكفل بهداية العقول، وتذكيرها بالمستقلات العقلية وبمكارم الأخلاق وببعض المناهج المتطورة، كما سيأتي:
أ- فإنّ العقل البشري قد يضلّ فيتوهم الجبر أو يتوهم التفويض، ولكنّ الآيات والروايات تأتي مرشدة إلى انه (لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ)[11] وإليه يشير قوله تعالى: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى)[12]، فهو إثبات في نفي ونفي في إثبات، فهو إثبات لكونه (صلى الله عليه وآله) قد رمى ولذا اسند الرمي إليه (إِذْ رَمَيْتَ) وهو نفي للتفويض إذ ليس الرامي مفوّضاً إليه بل هو محكوم لإرادة الله تعالى طولياً (وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) إذ أعطاك القوى ولم يمنعك تكويناً من استخدامها حيث تختار وترى.
كما ان العقل قد يتصور ان الله تعالى خلق كل شيء وانتهت الحاجة إليه أو يتصور انه عاجز عن تغيير مسار الكون، لكنّ قوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ)[13] يفنّد الدعويين، وقوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْديهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا)[14] يفنّد الدعوى الثانية.
ب- وهناك مفردات تضم بعضاً من أهم ما يجسد أنواع الهداية المنهجية القرآنية العقلية، للناس، إذ يقول (هُدىً لِلنَّاسِ) وهي مفردات تقع في دائرة علمي الاجتماع والسياسة وهي التي أخذ ببعضها الغرب فتقدم بها عليها وهي التي قال عنها أمير المؤمنين (عليه السلام): (اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ)[15]، إذ من الواضح ان الكافر بما هو كافر لا يعمل بآيات القرآن التعبدية، بل إنما يستضيء، متى استضاء، بآياته الأخرى التي يمكن لعقول البشر أن تدركها بما هي عقول، سواء أكانت مؤمنة أم لا، بل حتى لو كانت جاحدة ومنكرة.
ومن تلك المفردات: الشورى، إذ يقول جل اسمه (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)[16]، ولقد أخذ الغرب بجانب من العمل الشورى فتقدم علينا بذلك، وإن كانت شورى ناقصة عبر ما اسموه بالديمقراطية، ومن وجوه نقصها تضخم أدوار جماعات الضغط وتأثيرها، بل وتلاعب نسبي عبر الضخ الإعلامي الكبير المضلّل وغيره، بآراء الناس.
ومنها: الاخوة الواحدة والأمة الواحدة إذ يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[17]، و(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[18]، ولقد تحولت 28 دولة غربية إلى أمة واحدة، نسبياً، عبر إلغاء الحدود والجوازات، وإقرار العملة الموحدة والمصرف الموحد والبرلمان الأوروبي المشترك وشبه ذلك، بينما نزداد نحن يوماً بعد يوم تشرذماً على تشرذم.
ومنها: التعددية إذ يقول: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)[19]، و(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً)[20]، و(وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)[21].
ومنها: الحريات، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ)[22]، و(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)[23] على بعض التفاسير.
الهداية التعبدية - النقلية
2- الهداية النقلية، وهذه هي التي تعتمد على التعبد وإن كانت لها حِكَم أو علل واقعية قد نصل إلى بعضها بعقولنا وبعلومنا وقد لا نصل، حيث هدانا القرآن الكريم إلى المصالح الملزمة الكامنة في الواجبات، كالصوم والصلاة، والمفاسد الملزمة المستبطنة في المحرمات، كالربا والزنا وأكل المحرمات..
ومن هنا نجم الفرق بين الإضافتين، فإن القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) في إطار الهداية العقلية؛ إذ كل من يمتلك عقلاً ولا يعد مجنوناً، فإن القرآن الكريم خير هادٍ له ومذكّر ومنبّه ومحرّض ومحفّز، إذ لا يتوقف التذكر به على الاعتقاد به بل يكفي أن يكون للإنسان عقل ليدرك حُسْن ما أمر به تعالى أو نهى عنه أو أرشد إليه من دوائر مستقلات العقل ومكارم الأخلاق وما يؤيده الاعتبار من المناهج ونظائرها فلاحظ مثلاً قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)[24]، وقوله (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)[25]، و(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)[26]
والقرآن الكريم هدىً للمؤمنين في دائرة الهداية النقلية فإن غير المؤمن لا يستجيب لهذه البصائر والهدايات إذ انها متوقفة على الإيمان والإذعان والاعتراف، وكيف يتعبّد بما لا يؤمن به، ولذا ورد (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[27].
الهداية بمعنى اللطف الخفي والتوفيق الإلهي
3- الهداية بمعنى اللطف الخفي، بل والجلي أيضاً، والتوفيق، فإن الإنسان إذا سار على الدرب واستضاء بنور الهدى فامتثل لما أُمِر به وانزجر عما نُهِي عنه، أفاض الله تعالى عليه من لطفه الخفي وتوفيقاته ما يزيده هدى على هدى وقد قال تعالى: (وَيَزيدُ اللَّهُ الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً)[28]، فعلى حسب بعض المفسرين فإن المعنى يزيد الله الذين اهتدوا بالهداية العقلية والنقلية، ومشوا على طبقها، هدى بألطافه الخاصة وتوفيقاته.. والمستظهر عدم حصر تفسير الآية بما ذكر وإنما هو مصداق وهو صحيح، ولكن الأظهر الشمول للأعم فإن كل من اهتدى درجة من أي نوع من أنواع الهدايات الأربع زاده الله منها درجة أو أفاض عليه من الدرجة اللاحقة أو السابقة، فتدبر.
ولعل ذلك من وجوه الإضافة إلى المحسنين (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنينَ)[29]، فإن من يحسن إلى فقير، مسكين، يتيم، مريض، شيخ أو شيخة، أب أو ابن أو بنت أو زوجة أو زوج.. إلخ يزيده الله تعالى هدى أي، حسب تفسيره بالمصداق، توفيقاً ولطفاً جلياً وخفياً، وقد يكون ذلك سبباً لتوفيقه إلى طاعات أخرى أو إقلاعه عن معاصي ابتلي بها، حتى يدخل الجنة ببركة تلك الهداية التي أفيضت عليه جزاءً لإحسانه.
هداية القوى المتعقلة والمتخيلة والمتوهمة
وهنالك تقسيم آخر للهداية، بلحاظ متعلقها، وهو:
أ- هداية القوة المتعقلة، نظير ما سبق.
ب- هداية القوة المتخيلة.
ج- هداية القوة المتوهمة..
ذلك أن القوة المتعقلة ليست وحدها الفاعلة والمؤثرة على حياة الإنسان، بل القوتان الاخريان لهما تأثير كبير بل وأحياناً هيمنة على القوة المتعقلة.
هل هو سحر أو جِنّ، أو مجرد أوهام؟
ولنضرب لذلك مثلاً من عالم (السحر والجن)، ذلك أن كثيراً من الناس، وقد أصبحت هذه ظاهرة للأسف، يتوهمون أنّ الجن قد تقمّص شخصياتهم واستوطن أجسادهم أو أن الجن يسرق كذا وكذا منهم أو انه يسكن بيوتهم أو غير ذلك.. فتتحول بذلك حياتهم إلى جحيم وخوف مستمر وقلق دائم.
كما ان كثيراً من الناس يتوهم انه مسحور.. وأن فلاناً سحره، أو ان مجهولاً سحره.. ولذلك تمرّض.. أو تورط.. أو خسر في تجارته.. أو فقد وظيفته.. أو ابغضته زوجته / زوجها أو عشيرته.. إلخ
وان الكثير من الناس جداً يسألونني عن ذلك! لكن الواقع ان ذلك، عادةً، من صناعة القوة المتخيلة لا غير.. فلا جن ولا سحر عادةً.. واننا لا ننكر وجود الجن والسحر.. كيف وقد ورد بهما صريح القرآن الكريم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظيمٍ)[30]، و(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)[31].. إلخ.
ولكن نقول: انّ النادر أو القليل من الناس يبتلى بهما، كما أشارت إليه بعض الروايات أيضاً، أما الغالب فلا يوجد جِنّ حالٌّ فيهم ولا سحرٌ واردٌ عليهم، وإنما هو من باب خلط ما بالعرض بما بالذات أو هي أعراض طبيعية لأمراض سيكولوجية ودماغية نظير الاضطراب ثنائي القطب.
سبب كثرة رؤية الجن في بغداد قديماً!
ومن الطريف أن ننقل هذه الحادثة التاريخية وهي، حسبما ينقله بعض المؤرخين، أنّ الناس في بغداد قبل مائة عام وأكثر كانوا يشاهدون بكثرةٍ الجنَّ في الطرقات والأزقة بُعَيْدَ المغرب بقليل وحتى فترة.. وكانت المشاهدات من الكثرة والتواتر بحيث لا يمكن أن ينكرها إلا مكابر.. إذ كان الألوف من الأشخاص يشاهدون بطرف عينهم شبحاً في آخر الزقاق يختفي بمجرد تركيز النظر نحوه.. ولكن العلم مع تطوره اكتشف أن ذلك لم يكن إلا نتيجة انكسار الضوء في ذلك الوقت.. ذلك ان الأزقة والشوارع كانت تضاء بالقناديل والمصابيح الزيتية وكانت الإضاءة خافتة.. ولذلك كانت هذه الظاهرة، رؤية الشبح بطرف العين الذي لم يكن إلا شبح الضوء أو ظله، منتشرة.. والذي يشهد لذلك أن الأضواء الكهربائية عندما أنارت الشوارع اختفى الجن تماماً![32]
وعلى أي فإن كثيراً من الناس يستشعر أن أحداً يكلّمه بداخله.. ويخوّفه أو يصور له أشياء.. والواقع ليس، عادةً، ذلك، بل هو إما حديث النفس أو هو من الاعيب القوة المتخيلة أو هو نتيجة اختلال في بعض الشحنات الكهربية ونبضاتها في المخ وفي الاشارات التي تنتقل بين خلايا الدماغ والعَصَبونات، نتيجة اضطراب كيمياء المخ أو غيرها.
ومن ذلك مثلاً الاضطراب ثنائي القطب الذي أضحى بدوره ظاهرة حيث يتأرجح المريض بين حالات التشاؤم.. الإحباط.. اليأس.. وصولاً إلى مرحلة الهوس بإيذاء النفس بل وحتى الانتحار[33]، من جهة.. ويتارجح بين حالات من الفرح والابتهاج والسرور المتزايد حتى يخرج عن سلوكه الطبيعي تماماً من جهة أخرى.. وبذلك يشكل الفرد مشكلة لمجتمعه وأسرته بل وحتى في عمله إذ تؤثر هذه الظاهرة بشدة على الإنتاج والإنتاجية.. فكثيراً ما يمنع هذا الاضطراب ثنائي القطب الفرد من الذهاب إلى العمل وكثيراً ما تخفض إنتاجيته وتحوّل أداءه من حَسَنٍ إلى سيّء ومن سيّء إلى أسوأ.
وحسب الإحصاءات فإن الخسائر الناجمة عن الاضطرابات الثنائي القطب وحده في أمريكا وحدها بلغ 45 مليار دولاراً.. وذلك عام 1991م، فما بالك بالخسائر الآن؟
من الأدعية المجربة
ومع ذلك.. ولأن بعض الناس قد لا يقبل ما نقول.. ولأن الأمراض هذه سواء أكان مرجعها إلى الجن أم الحسد أم العين، أم إلى ضغط عصبي واختلال كيماوي أو كهربي أو تلف في بعض خلايا الدماغ، أم كان نتيجة عدم وصول الأوكسجين الكافي إلى المخ أو غير ذلك، فإنّ هنالك بعض الأدعية التي وردت لتعطي الإنسان قوة كبيرة في مكافحة تلك العوامل، غيبية كانت أم مادية، ولا ينفي ذلك ضرورة العلاج الطبي بل يؤكده إذ يكون أحدهما مساعداً للآخر إذ ورد (اعْقِلْ وَ تَوَكَّل)[34].
ومن الأدعية المجربة التي ينبغي أن تقرأ مساءً وفي كل وقت هذا الدعاء:
عن مفضل بن عمر قال: (قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَبِيتَ لَيْلَةً حَتَّى تَعَوَّذَ بِأَحَدَ عَشَرَ حَرْفاً، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا، قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِجَلَالِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِجَمَالِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِدَفْعِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِمَنْعِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِجَمْعِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِمُلْكِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ كُلَّمَا شِئْتَ)[35].
كيف تندمج في شهر رمضان جميع ألوان الهداية السابقة؟
إضافة إلى ذلك كله، فقد تكفل شهر رمضان المبارك بالهداية بمعانيها الأربعة الأول وبالهداية للقوى المتعقلة، المتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك أيضاً.. وذلك عبر مزيج رائع متكامل مما يغطي كافة المناحي السابقة:
فأجواء شهر رمضان تملأ العقل والخيال والمشاعر والأحاسيس.. وتغذي حاجات الإنسان الروحية – النفسية – الفكرية والجسدية أيضاً، بما تستبطنه من مراسم وبرامج وطقوس متنوعة، فهناك الأجواء القرآنية التي تملأ الآفاق.. وهناك الأدعية الرمضانية: دعاء الافتتاح.. دعاء السحر و... وهناك أيضاً المجالس الحسينية والشعائر المختلفة الدينية او الشعبية، المباحة أصلاً والمحبذة بعنوانها الثانوي، فهناك: الفوانيس التي تعلق على الأبواب في العديد من البلاد.. وهناك الاحتفال البهيج المسمى شعبياً بـ (ما جينا.. ما جينا.. لولا الحسن ما جينا) ليلة ميلاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وهناك السحور بعبقه الفريد.. والإفطار بنكهته المميزة.. وهناك التزاور بين الأرحام وبين الأحباب والأصدقاء.. وهناك الهدايا.. وهنالك زكاة الفطرة.. وهنالك الوجبات الرمضانية التي يرسلها الأشخاص إلى العوائل المحتاجة، بالعشرات أو بالمآت.. وقد يرسلها صديق إلى صديقه.. وهنالك ألف شيء وشيء.. وهذه كلها تشكل مزيجاً فريداً يستثمر قوى الإنسان الخمسة الظاهرة.. وقواه الخمسة الباطنة.. وروحه ونفسه و... لكي تعيش أجواءً سماويةً – روحانيةً في تجربة فريدة لا نجد لها في التاريخ مثيلاً.
فلنعرف قيمة هذا الشهر الفضيل، ولنحاول أن نستثمره أكثر فأكثر في التكامل الذاتي وفي إصلاح أنفسنا وأهلينا وجيراننا ومجتمعنا، وفي العطاء العلمي والمالي والأخلاقي والعملي.. فالعطاء ثم العطاء.. أكثر فأكثر فأكثر.. وبذلك نضمن لأنفسنا الحياة السعيدة في الدنيا والفلاح في الآخرة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)[36].
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق