فالذي يعتقد أنّ الله سبحانه هو (رب العالمين) وأنّه (لا ربَّ سواه) سوف يتّجه إلى الله سبحانه في كلّ شيء، ولا يركن لأيّة جهة أُخرى باعتقاد أنّها تجلب له النفع أو تدفع عنه الضرّ، وحتّى عندما يتوسَّل بالأسباب الطبيعية للوصول إلى مقاصده، فإنّه يعلم أنّ سببّية هذه...

حينما ابتعد الإنسان عن هدى السماء غرق خلال مسيرته الطويلة في متاهات فكرية قاتلة، وابتلي بألوان متعدّدة من الانحرافات العقائدية، خاصّة فيما يرتبط بقضية (التوحيد).

فالثنوية اعتقدوا بوجود (إلهين) يدبّران شؤون هذا العالم، أحدُهما (إله النور) خالق كلّ خير في هذا الكون، والثاني (إله الظلمة) وهو خالق كلّ شر في هذا العالم!.

فالعالم في زعمهم مركّب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وهما أزليّان، ولم يزالا قويّين حسّاسين سميعين بصيرين، وهما متضادان في النفس والصورة والفعل والتدبير.

فجوهر النور: حَسَنٌ فاضل كريم، نقي طيِّب الريح حسن المنظر!

وجوهر الظلمة: قبيح ناقص لئيم، كدر خبيث، منتن الريح قبيح المنظر!

ونفس النور: خيّرة كريمة، حكيمة ناعمة عالمة.

ونفس الظلمة: شرّيرة لئيمة، سفيهة ضارّة جاهلة.

وفعل النور: الخير والصلاح، والنفع والسرور، والترتيب والنظام والاتّفاق.

وفعل الظلمة: الشرُّ والفساد، والضرُّ والغمُّ، والتشويش والتبتير والاختلاف. الخ(1).

واليونانيون كانوا يعبدون اثنتي عشرة إلهة وضعوها على قمّة (أولمب)، وكل واحدة منها تمثّل جانباً من صفات البشر!(2).

والكلدانيون اعتقدوا بإله للماء وإله للقمر وإله للشمس وإله للزهرة، وأطلقوا على كل واحد منها اسماً معيّناً، واتخذوا فوق ذلك (مردوخ) إلهاً أكبر لهم.

والروم تعدّدت آلهتهم أيضاً، وراج سوق الشرك عندهم، فقد قسّموا الآلهة إلى مجموعتين: آلهة الأُسرة وآلهة الحكومة، ولم يكونوا يكنّون ولاءاً لآلهة الحكومة (لتناقضهم مع حكومتهم).

وقد ورد في التاريخ: أنهم اتّخذوا لهم ثلاثين ألف إله، لكلّ مظهر من مظاهر الكون المشهودة إله، مثل إله الزراعة، وإله المطبخ، وإله مستودع الطعام، وإله البيت، وإله النار، وإله الفاكهة، وإله الحصاد وإله الغابة، وإله الحرق، وإله بوابة روما، وإله بيت النار(3).

وكانت للعرب أصنام كثيرة يعبدونها من دون الله، وكانوا قد نصبوا أصنافاً متعدّدة في الكعبة كسَّرها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) حين فتح مكة(4).

وحين يكرّر المسلم كلَّ يوم {الحمد لله ربِّ العالمين} فإنّه يستذكر هذه الحقيقة، حقيقة اختصاص الربوبية بالله سبحانه، وعدم مشاركة غيره له فيها.

تنبيه

وهنا نقطة هامّة ينبغي الالتفات إليها، وهي: أنّ اختصاص الربوبية بالله سبحانه لا ينافي أن يمنح الله سبحانه تدبير بعض الأُمور إلى غيره.

ولتوضيح هذه النقطة نقول: إنّ تدبير الآخرين لبعض الشؤون الكونية يمكن أن يفرض على نحوين:

النحو الأوّل: (التدبير العَرْضي) بأن تكون هناك آلهة تدير بعض الشؤون بشكل مستقل، وبعيداً عن هيمنة الله سبحانه وتعالى.

النحو الثاني: (التدبير الطَولي) بأن يمنح الله سبحانه تدبير بعض الشؤون إلى ملك من ملائكته أو وليّ من أوليائه، بحيث تكون قدرته مستندة إلى القدرة الإلهية، وتصرُّفه تابعاً للإرادة الربّانية.

وهذا النحو الثاني لا مانع منه عقلاً، فهو ممكن بـ(الإمكان الذاتي) و(الإمكان الوقوعي)(5)، وقد دلّ القرآن الكريم على (وقوعه) في الخارج.

يقول الله سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}(6). فهنالك ملائكة تدبّر جوانب من شؤون هذا الكون بإذن الله سبحانه وتعالى.

وبهذا نستطيع أن نحلَّ التناقض الموهوم بين بعض الآيات القرآنية، فالله سبحانه عندما يقول: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(7). فإن ذلك لا يناقض قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}(8)؛ لأنّ الرسل عندما تتوفّى الأنفس فإنّها تتوفّاها تبعاً للإذن والقدرة التي منحها الله سبحانه لها؛ ولذا تصحّ نسبة العمل إلى الله تعالى، كما تصحُّ نسبته إلى الملائكة، والفارق بين النسبتين أنَّ النسبة الأُولى (ذاتية) بينما النسبة الثانية (تبعية) فهو كما تقول أنت مرّة: (أبصرت الظاهرة الفلانية) وتقول مرّة أُخرى: (أبصرتْ عيني الظاهرة الفلانية) دون أن يكون هنالك تناقض بين النسبتين إطلاقاً. وكذا عندما تقول: (فتح الملك المدينة الفلانية) ونقول في الوقت ذاته (فتحت الجيوش المدينة الفلانية).

وبهذا التقرير يمكن أن نثبت الشفاعة لغير الله سبحانه، ولكن، بإذن الله سبحانه، فلا تنافي بين قوله سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}(9). وقوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}(10). أو قوله جلّ وعلا: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(11)؛ إذ شفاعة الآخرين ـ كالأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ـ بإذن الله وبرضاه، فلا يعني ذلك خروج أمر الشفاعة من بين يديه سبحانه.

وقد روي أنّ أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق (عليه السلام) فلمّا رفع (عليه السلام) يده من أكله، قال: «الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمَّ إنَّ هذا منك ومن رسولك» فقال أبو حنيفة: (يا أبا عبد الله، أجعلت مع الله شريكاً؟ فقال له: ويلك، إنّ الله تعالى يقول في كتابه: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}(12).

ويقول في موضع آخر: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}(13).

فقال أبو حنيفة: والله لكأنّي ما قرأتهما قط من كتاب الله، ولا سمعتهما إلاّ في هذا الوقت!

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : بلى، قد قرأتهما وسمعتهما، ولكنّ الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(14) وقال {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(15)»(16).

الآثار التربوية للإعتقاد بالربوبية الإلهية

ولا يخفى ما للاعتقاد بالربوبية الإلهية من الآثار التربوية في حياة الإنسان، فالذي يعتقد أنّ الله سبحانه هو (رب العالمين) وأنّه (لا ربَّ سواه) سوف يتّجه إلى الله سبحانه في كلّ شيء، ولا يركن لأيّة جهة أُخرى باعتقاد أنّها تجلب له النفع أو تدفع عنه الضرّ، وحتّى عندما يتوسَّل بالأسباب الطبيعية للوصول إلى مقاصده، فإنّه يعلم أنّ سببّية هذه الأسباب منوطة بإذن الله، ولو لم يأذن لها في التأثير فلن تؤثّر الأثر المترقَّب منها إطلاقاً.

وقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما أُجْلِسَ إبراهيم (عليه السلام) في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا إبراهيم ورحمة الله وبركاته، ألَكَ حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا.

فلمّا طرحوه [في النار] ودعا الله فقال: يا ألله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

فحُسِرَت النار عنه وأنه لمُحتبٍ ومعه جبرئيل، وهما يتحدَّثان في روضةٍ خضراء(17).

وروي عن الحسين بن علوان، قال: كنّا في مجلس يُطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: مَنْ تؤمّلُ لِما قد نزل بك؟.

فقالَ: فلاناً!

فقال: إذاً والله لا تُسعَف بحاجتك، ولا يبلغك أملُك، ولا تنجح طلبتك!.

قلت: وما علّمك رحمك الله؟.

قال: إنّ أبا عبد الله [الصادق (عليه السلام)] حدَّثني أنه قرأ في بعض الكتب أنّ الله تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي، ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤِّمل من الناس أمّل غيري بالياس، وَلأَكسُوَنَّه ثوب المذّلة عند الناس، ولأُنجِينَّهُ من قربي، ولأُبعِدَنَّهُ من وصلي.

أيؤمُّل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي؟ ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلَّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ فمن ذا الذي أملّني لنوائبه فقطعته دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاه منِّي؟ جَعلتُ آمالَ عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سمواتي ممَّن لا يملُّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يُغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي!

ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري ـ إلاّ من بعد إذني؟ فما لي أراه لاهياً عنّي؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألْني ردَّه، وسأل غيري.

أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة ثم أُسْألُ فلا أُجيب سائلي؟ أبخيلٌ أنا فيبّخلُني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محلُّ الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤمِّلون أن يؤمِّلوا غيري؟ فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً ثمّ أعطيت كلَّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيّمه، فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني(18).

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

 .................................................

(1) راجع: دائرة معارف القرن العشرين 2: 770.

(2) الأمثل 1: 36، نقلاً عن أعلام قرآن: 202.

(3) الأمثل 1: 36، عن تاريخ (آلبرماله) 1: الفصل الرابع.

(4) سفينة البحار 2: 30.

(5) (الإمكان الذاتي) عبارة عن تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم، بحيث لا يقتضي بذاته أحدهما، وهو في قبال (الامتناع الذاتي) الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاءاً حتمياً، ويحكم العقل بمجرّد تصوره أنه ممتنع الوجود، كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. والإمكان الوقوعي عبارة عن كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده ولا عدمه محذوراً عقلياً. وهو في قبال الإمتناع الوقوعي الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال، وإن لم يكن بمحال ذاتاً.

(6) النازعات: 5.

(7) الأنعام: 61.

(8) الزمر: 42.

(9) الزمر: 44.

(10) يونس: 3.

(11) الأنبياء: 28.

(12) التوبة: 74.

(13) التوبة: 59.

(14) محمد: 24.

(15) المطففين: 14.

(16) بحار الأنوار 47: 240.

(1) بحار الأنوار 12: 24. ولعله يمكن توجيه هذا الحديث بأن الله سبحانه جعل أسباباً للوصول إلى الغايات، بعضها طبيعي، وبعضها غيبي، وأمرنا بأن نسلك هذه الأسباب للوصول إلى تلك الغايات فجعل الدواء سبباً للشفاء وأمر بالتداوي. فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) : «تداووا فإن الله عزَّ وجل لم ينزل داءاً إلاّ وأنزل له شفاءاً». بحار الأنوار 59: 66. وجعل التوسل بالأنبياء (عليهم السلام) سبباً للقرب إليه تعالى وأمر بذلك حيث قال سبحانه:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}.

ويظهر من هذه الرواية أن التوسل بجبرئيل (عليه السلام) لم يكن الطريق الأمثل لخلاص إبراهيم (عليه السلام) من النار، وإنّما كان الأفضل له (عليه السلام) الالتجاء المباشر إلى الواحد الأحد، فتأمّل.

(18) بحار الأنوار 68: 130-131.

اضف تعليق