التعارض بين العقل والنقل، كثيراً ما يبتني في مرحلة سابقة، على المنظومة المعرفية القيمية التي ينطلق منها المفكر أو الشخص في تقييم وجود حالة التعارض من عدمها، وعلى النظرة الكلية العامة التي يحملها والتي ينظر من خلالها إلى الأفكار والرؤى والقيم والشرائع والدساتير والقوانين.. على المنطق الأساس الذي...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
في البحث عن التفسير العقلي للقرآن الكريم لا بد أن نتناول، إضافة إلى ما سبق، قضية تعارض العقل والنقل، بشكل معمِّق، وذلك لأن العديد من الحداثويين وبعض الفلاسفة، رجّحوا بل قدّموا ما ارتأوا كونه حكم العقل أو دليله على الظاهر بل على النص القرآني، فاولّوه بما يتناغم مع أدلتهم العقلية، بل طوّعوه لأحكامهم العقلية، وذلك في مثل مسألة علاقة القديم بالحادث وقدم العالم الذي استدلوا عليه وعلى دوام الفيض بأدلة اعتبروها برهانية رغم مخالفتها لصريح النص القرآني، وفي مثل إعادة المعدوم، ومثل امتناع إدراك العقل للجزئيات وامتناع إدراكه تعالى لها، وأيضاً في مثل تعارض أحكام العقل، كما يرى بعض الحداثويين، في الحرية وحقوق الإنسان ونظائرها مع صريح الشرع والنقل في الكثير من التشريعات والقوانين، وذلك ضمن فصول:
الصور الأربع لتعارض العقل والنقل
الفصل الأول: انّ الصُّوَرَ المتصورة في تعارض العقل والنقل، تعود إلى أربع صور:
1- تعارض العقل القطعي مع النقل القطعي
الصورة الأولى: ان يتعارض العقل القطعي مع النقل القطعي، ولكن هذه الصورة ممتنعة أي انها لا يعقل أن تتحقق، كما قال به جمع من علماء الكلام والفلسفة والتفسير إذ يمتنع اجتماع قطعين متضادين على أمرين متضادين أو متناقضين في وقت واحد. وعليه: فهناك خلل ما في أحد الطرفين: فإما أن يكون هناك خلل في بعض مقدمات الدليل العقلي أو علته المادية أو الصورية، وأما أن لا يكون الظاهر القرآني مراداً بالإرادة الجدية فلا بد ن يؤول.
أقول: ذلك وإن صحّ، إلا أن من يقول بتعارض العقل القطعي مع النقل القطعي، لا يقول باجتماع قطعين فعليين كي يجاب بالامتناع، بل يقول: (ويكفي أن يكون له أن يقول) بتعارض الدليل العقلي القطعي لولا النقل المضاد له، مع الدليل النقلي القطعي لولا العقل المضاد له فيقع البحث عندئذٍ انه ما الحكم حينئذٍ؟
وبعبارة أخرى: الصورة الأولى هي: ان يتعارض الدليل العقلي المورث للقطع اقتضاءً (لولا المانع) مع الدليل النقلي المورث للقطع اقتضاءً (لولا المانع).
بعبارة ثالثة: إذا وَجَدَ المفّكر، ومطلق الإنسان، أمامه برهاناً من شأنه أن يورث القطع ووجد في مقابله دليلاً نقلياً من شأنه أن يورث القطع، فأيهما المقدّم؟
بعبارة رابعة: (القطعي) فيما لو انفرد، لو تعارض مع (القطعي) الآخر فيما لو انفرد، أما لو اجتمعا فان الفرد يتحير حينئذٍ بينهما فما الحكم وما التكليف وما الأرجح منهما؟
2- تعارض العقل الظني مع النقل الظني
الصورة الثانية: ان يتعارض العقل الظني مع النقل الظني، وهنا قال جمع، ومنهم الاخباريون، بتقدم النقل على العقل، وقال الحداثويون بتقدم العقل على النقل، لكنّ الصحيح التفصيل وهو أن النقل الظني تارة يكون معتبراً وأخرى لا، والعقل الظني تارة يكون معتبراً وأخرى لا، ولكنّ هذا كله مبنيّ على أن للأحكام أحكاماً ظنية إذ انكر ذلك مشهور الفلاسفة قائلين بأن أحكام العقل كلها قطعية لأنه محيط بجهات أحكامه، فان لم يحط بجهات مسألة ما فانه لا يحكم أبداً، فأمره دائر بين إصدار حكمٍ قطعي وعدمه، ولا مجال للظنون في أحكام العقل.. ولكننا فصّلنا في بحث سابق الكلام عن ثبوت أحكام عقلية ظنية كثيرة، ولو بنظر قومٍ وجمعٍ، وذلك كالقياس والاستحسان، بل فصّلنا وجود أحكام ظنية عقلية من دائرة الحجج.. وعلى أية حال فانه:
أ- إذا تعارض حكم نقلي ظني بالظن المعتبر مع حكم عقلي ظني غير معتبر، ترجّح عليه قهراً لفرض كون الأول معتبراً والثاني غير معتبر.
ب- وكذا حكم العكس: الحكم الظني العقلي المعتبر يترجّح على الظني النقلي غير المعتبر، وذلك ظاهر.
ج- وإذا تعارض ظني عقلي غير معتبر مع ظني نقلي غير معتبر، فلا شيء منها بحجة كي يقال بالتعارض أي انه سالبة بانتفاء الموضوع إذ الكلام عن تعارض الحجتين أما غير الحجة فليس معتبراً أصلاً فكيف يتعارض مع غيره.
د- وعليه: يبقى الكلام في تعارض العقلي الظني المعتبر مع النقلي الظني المعتبر. وسيأتي.
3-4- تعارض قطعي أحدهما مع ظني الآخر
الصورة الثالثة: أن يتعارض الحكم (أو الدليل) العقلي القطعي مع الحكم أو الدليل النقلي الظني (بالظن المعتبر فرضاً).
الصورة الرابعة: عكس الصورة السابقة: أن يتعارض الحكم (أو الدليل) النقلي القطعي مع الحكم أو الدليل العقلي الظني (بالظن المعتبر فرضاً).
ولا شك في هاتين الصورتين في تقديم القطعي على الظني، وأما دليل اعتبار الظني فانه منصرف وغير شامل بالأساس للظني المخالف للقطعي، وذلك لأن القطع حجيته، بمعنى لزوم إتباعه وبمعنى منجزيته ومعذريته وبمعنى صحة الاحتجاج به، ذاتية له، عكس الظني، نعم لو فسرت الحجية بالكاشفية فان القطع ليس بكاشف عن الواقع لأنه أعم من الجهل المركب، فيقع البحث بنحو القضية الحقيقية عن صورة التعارض (تعارض قطعيِّ أحدهما مع ظنِّيِّ الآخر بالظن المعتبر – لولا الانصراف) لكنه، بنحو القضية الخارجية لا وجود لهذه الصورة إذ حتى مع تفسير الحجية بالكاشفية فان الفرض ان القاطع (بحكم عقلي أو نقلي – لا فرق) يرى قطعه كاشفاً عن الواقع فلا يبقى معه مجال لنشوء ظن من الطرف الآخر بل ولا نشوء شك بل ولا تولد احتمال لفرض ان القطع بهذا الطرف لا يجتمع حتى مع احتمال الخلاف وإلا لما كان قاطعاً = هذا خلف، نعم مع تفسير أحدهما بالشأني، يمكن أن يتصور التعارض أي تعارض ما شأنه أن يورث القطع للنوع مع ما أورث الظن الفعلي على خلافه، وهكذا عكسه.
الفصل الثاني: العلاقة بين العقل والنقل
انّ العلاقة بين العقل والنقل، ضبابية في بعض حدودها، أو معقدة أو مبهمة أو متشابكة، ولكن في الجملة لا بالجملة:
مساحات العقل والنقل
* فهنالك مساحات يتفرد بها النقل من دون أن يكون للعقل مدخل إليها أو مجال فيها، وهذه المساحة هي التي أشار إليها صاحب الحدائق في أوائل كتابه على ما نقله الشيخ الانصاري عنه في فرائد الأصول، قال: (لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها، ولا سبيل إليها إلا السماع عن المعصوم (عليه السلام)، لقصور العقل المذكور عن الاطلاع عليها)(1) وذلك باعتبارها أحكاماً تعبدية، وقد فصّل علماؤنا الكلام عن هذه المساحة ولأجلها رفضوا العمل بالقياس والاستحسان وسد الذرائع وشبهها، ولكنّ المشهور فرّقوا بين العبادات والمعاملات فالأولى توقيفية عبادية، والثانية عقلائية – عرفية إلا فيما تصرف الشارع فيه.
* وهنالك مساحات يتفرد العقل بها ولا مجال للنقل فيها وهي ما أشار إليه أيضاً بقوله: (نعم، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف على التوقيف، فنقول: إن كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة - مثل: الواحد نصف الاثنين - فلا ريب في صحة العمل به)(2).
ولكن توجد مساحات أخرى هي التي وقعت مورد الكلام ومحطة للنقض والإبرام، على مرّ التاريخ، بين علماء الكلام والأصول من عامة وخاصة ومن اخباري وأصولي، والأمر كذلك لدى سائر الملل والنحل..
ومن المفيد ان نواصل مع المحدث المذكور استعراضه لسائر المساحات والصور.. ثم ننقل مناقشات الشيخ الانصاري (قدس سره) معه، ثم ننصرف إلى تسليط الأضواء على بعض مناقشاتنا مع الشيخ الانصاري (قدس سره).. فيكون هذا البحث كله شاهد صدق واضح على اختلاف العقول الكبرى، كعقلي الشيخين الانصاري والبحراني، في المنطقة التي عبرنا عنها بالمنطقة الضبابية أو المختلف فيها، إذ قد لا يراها هذا الطرف ضبابية ولا ذاك بل يحكم فيها كل طرف بحكم معاكس لحكم الآخر، قاطعاً به.
رأي المحدِّث البحراني
قال في الحدائق: (وإلا:
فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك.
وإن عارضه دليل عقلي آخر: فإن تأيد أحدهما بنقلي كان الترجيح له، وإلا فإشكال.
وإن عارضه دليل نقلي: فإن تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي - إلا أن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات - وإلا فالترجيح للنقلي، وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره، وخلافا للأكثر.
هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق، أما لو أريد به المعنى الأخص، وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام - وإن شذ وجوده في الأنام - ففي ترجيح النقلي عليه إشكال، انتهى)(3).
وأما نص كتاب الحدائق: (الى غير ذلك من الأخبار- المتواترة معنى- الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شيء من أحكامها بوجه. نعم عليه القبول والانقياد والتسليم لما يراد. وهو أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المعترض، إلا انه يبقى الكلام بالنسبة الى ما يتوقف على التوقيف.
فنقول: ان كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم: الواحد نصف الاثنين، فلا ريب في صحة العمل به، والا فان لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك، وان عارضه دليل عقلي آخر، فإن تأيد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي وإلا فإشكال، وان عارضه دليل نقلي، فإن تأيد ذلك العقلي ايضا بنقلي كان الترجيح للعقلي إلا ان هذا في الحقيقة تعارض في النقليات، والا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره وخلافاً للأكثر. هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق.
اما لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام وان شذ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال)(4).
الصور الثمانية لعلاقة العقل بالنقل
وملخص الصور: 1- التعبديات 2- البديهيات، وقد سبق الكلام عنهما، وأما غيرهما؛ أي ما إذا ورد حكم عقلي في غير التعبديات ومن غير دائرة البديهيات فانه يتصور على الأنحاء التالية:
3- الحكم العقلي من دون أن يوجد معارض له، لا من عقل ولا من نقل، فهو حجة.
4- الحكم العقلي مع وجود معارض عقلي له (أي تعارض دليلان عقليان) فإذا وجد دليل نقلي آخر عضد أحد الدليلين العقليين المتعارضين، فان الحجة هو ذلك العقلي المتأيد بالنقل.. وتوضيحه بالمثال: اننا لو وجدنا دليلين عقليين متعارضين أحدهما يقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي والآخر يقول بإمكانه(5) فإذا أمكننا فرضاً أن نسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) او الإمام المعصوم (عليه السلام) مثلاً (أو ورد خبر متواتر نص في دلالاته ومسلّم في جهته) فإذا ايّد أحد الطرفين كان هو الحجة دون ريب، وذلك لفرض تسليمنا ان عقله (صلى الله عليه وآله) أكمل وأتم.
5- الصورة الرابعة نفسها أي وجود معارض عقلي للدليل العقلي، مما يعني تعارضها، ولكن لم يوجد دليل نقلي مؤيد لأحدهما (فإشكال) كما قال، والظاهر انه (قدس سره) يقصد التوقف حينئذٍ لأن الـحَيرة تكون لا محالة هي الحاكمة حينئذٍ، وعند الحيرة يُتوقف (وعلى راي آخر يتساقطان وسيأتي).
6- الحكم العقلي مع وجود معارض نقلي للدليل العقلي، فاللازم حينئذٍ أن نستنطق سائر الأدلة النقلية، فإن وجد دليل نقلي ايّد العقلي اي ايّد حكم العقل (أو دليله) كان هو الحجة، وفي الواقع يرجع هذا إلى تعارض النقليات على ما قال.
7- الصورة السابقة ولكن مع وجود دليل نقلي آخر ايّد الدليل النقلي، فانه يكون هو الحجة أي النقلي الأول المعارض للعقلي.
8- ويحتمل أن يكون مقصوده، بدلاً عن الصورة السابعة أو معها لإطلاق كلامه(6)، أن يعارض النقلي العقلي من دون مرجح لأحدهما.
ووجه الصورتين (السادسة والسابعة) يظهر بالمثال: فلو تعارض حكم عقلي مع حكم نقلي أي مثلاً مع قولٍ وصلنا من الإمام الباقر (عليه السلام) مثلاً وكان كل منهما قطعياً(7) فان الحل هو أن نرجع للإمام الصادق (عليه السلام) فأيّ طرف ايّده كان هو الحجة، أو في مثال آخر لو تعارض عقلي قطعي مع قول قطعي ورد من الإمام علي (عليه السلام) فإن علينا الرجوع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأن نسلم الأمر له (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً) (سورة النساء: الآية 65).
9- والصورة التاسعة، حكم فيها بالإشكال وضبابية الرؤية (أما لو أريد به المعنى الأخص...).
مناقشات الانصاري لرأي البحراني
ولكنّ آراء المحدِّث البحراني (قدس سره) اثارت استغراب الشيخ الانصاري (قدس سره) فقال: (ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظرية مقدما على ما هو في البداهة من قبيل "الواحد نصف الاثنين"، مع أن ضروريات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك؟!
والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل، كيف يتصور الترجيح في القطعيين، وأي دليل على الترجيح المذكور؟!
وأعجب من ذلك: الاستشكال في تعارض العقليين من دون ترجيح، مع أنه لا إشكال في تساقطهما، وفي تقديم العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي، مع أن العلم بوجود الصانع جل ذكره إما أن يحصل من هذا العقل الفطري، أو مما دونه من العقليات البديهية، بل النظريات المنتهية إلى البداهة)(8)
مناقشاتنا مع الشيخ الانصاري انتصاراً للبحراني
أقول: ولكنّ استغرابه (قدس سره) ليس كما ينبغي، والظاهر ان الحق في معظم المقاطع السابقة مع المحدث البحراني:
أما قوله: (ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظرية مقدماً على ما هو في البداهة من قبيل "الواحد نصف الاثنين"، مع أن ضروريات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك؟!)(9) والذي هو ردّ على قول البحراني (وإلا فالترجيح للنقلي) أي: ما لو وجد دليل عقلي عارضه نقلي ولم يتأيد العقلي بنقل آخر، ترجح النقلي على العقلي).
فجوابه: انّ المحدث البحراني لم يقدّم النقلي على ما هو في البداهة من قبيل الواحد نصف الإثنين، بل ظاهر كلامه (وإلا فإن لم يعارضه...) انه لو لم يكن الدليل العقلي (بديهياً ظاهر البداهة) بل كان من البراهين أي ما صورته صورة برهان (وهي التي يدور أمرها واقعاً بين أن تكون برهاناً أو مغالطة، لكننا في النظرة البدوية نرى صورة برهان أمامنا)، فان النقل القطعي يتقدم عليه، وجوهر كلامه في واقعه يعود، إلى أن الدليل العقلي يحتمل حينئذٍ وجود خلل في احدى مقدماته وانه مغالطة لا برهان، ومن الطبيعي أن يتقدم عليه النقلي القطعي الذي لم يتسرب احتمال الخلاف لأية جهة من جهاته، وبعبارة أدق: (لم تكن مقدماته كلها بديهية ظاهرة البداهة) أي كانت محتملة للخلاف.
سلّمنا، لكن كلامه يحتمل ذلك فكان الواجب ترديد مراده بين الشقين (الشق الذي استظهره الشيخ منه، والشق الذي استظهرناه أو احتملناه)، وعلى أي فان ما حملنا قول المحدث البحراني عليه محمل صحيح في حد نفسه فان كان (قدس سره) قد أراده كان وجهاً وجيهاً لكلامه، وإلا كان بياناً للصورة الصحيحة واقعاً.
وأما قوله: (والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل، كيف يتصور الترجيح في القطعيين، وأي دليل على الترجيح المذكور؟!)(10) وهو ردّ على (وإن عارضه دليل نقلي...).
فالجواب عنه: انّ الظاهر هو انّ البحراني يتحدث عن الدليلين القطعيين اقتضاءً، لا فعلاً، لبداهة عدم تعقل أن يقول بإيراث الدليلين المتضادين القطع الفعلي بالطرفين! لبداهة ان القطع بأحد الطرفين لا يجتمع مع الظن بخلافه بل ولا الشك بخلافه بل ولا حتى مع احتمال خلافه (وإلا لما كان قطعاً، هذا خلف) فكيف يجتمع مع القطع بخلافه أيضاً!
فمراده: ان الدليل العقلي لولا المعارض (أي الذي لو خلي وطبعه) لو كان يورث القطع، لو تعارض مع دليل نقلي كان يورث، بدوره، القطع لولا المعارض، ففي هذه الصورة، أي ما لو اجتمعا لدى الإنسان، فعلينا اللجوء إلى مرجح إذ يتصور هنا الترجيح بين القطعيين شأناً لأن كلّاً منهما بالفعل ليس مورثاً للقطع بل شأنه ذلك فقط فأمكن الترجيح بينهما بالرجوع إلى دليل ثالث.
وأما قوله: (وأي دليل على الترجيح المذكور) فالجواب هو ان الدليل، على حسب ما صوّرناه (من اجتماع الدليلين العقلي والنقلي المورثين للقطع شأناً واقتضاءً لا فعلاً) واضح، وهو بناء العقلاء على ذلك ولو في الجملة؛ ألا ترى انه لو كان قول هذا الطبيب يورث القطع لو انفرد، وقول ذلك الآخر المعارض له يورث القطع كذلك (أي لو انفرد) فانه إذا تعارضا ولم يكن المريض من أهل التشخيص ليفهم وجه الخلل في استدلال هذا أو ذاك ولا حصل له قطعٌ بالفعل من أحدهما، فانه حينئذٍ يجب أن يرجع إلى طبيب آخر أعلم فأيّ قول من القولين رجّح فهو الحجة في حقه وهو الذي، مطلقاً أو في الجملة، سيورثه القطع.
وفي مثال أصولي: لو رأى الطالب أدلة الشيخ الانصاري على استحالة الترتب، وكان بحيث لو لم يعلم بأن تلميذه المبرّز وهو المجدد الشيرازي معارض له لَقَطَع به، لكنه حيث علم إجمالاً مخالفة المجدد له لم يقطع، وعندما رجع إلى رأي المجدد واستدلاله فرآه بحيث لو انفرد به لقطع، لكنه حيث علم معارضة الشيخ له لم يقطع، فانه حينئذٍ عليه أن يرجع للأعلم منهما، فالدليل على الترجيح كون الثالث أعلم أو كون عقله أقوى، بل قد يقال أن رجوعه إلى ثالث مساوٍ لهما يكفي، ولو في بعض الأفراد، في قطعه بأحد الطرفين، فإن عقل احدهما يعتضد بعقل الآخر، مع بقاء العقل المعارض دون عضيد على الفرض. فتأمل
وأما قوله: (وأعجب من ذلك: الاستشكال في تعارض العقليين من دون ترجيح؛ مع أنّه لا إشكال في تساقطهما)(11).
فقد سبق ان الظاهر ان وجه إشكال البحراني هو انه يرى ان العقل يتحير حينئذٍ ويتوقف، ولا يقول بالتساقط، وقد فصّلنا البحث عن ذلك آخر كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع(12).
وأما قوله: (وفي تقديم العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي، مع أن العلم بوجود الصانع جل ذكره إما أن يحصل من هذا العقل الفطري، أو مما دونه من العقليات البديهية، بل النظريات المنتهية إلى البداهة).
فانه يمكن أن يناقش الشيخ (قدس سره) بانه مما لا شك فيه أن العقل هو أصل الشرع بمعنى انه لولا العقل لما اذعنّا بالشرع فاننا عبر العقل وبدلالته أدركنا كون هذه، كالقرآن الكريم أو شقّ القمر، معجزة ثم ادركنا بدلالته أيضاً أن المعجزة لا يمكن أن يجريها الله تعالى على يد الكاذب في دعواه النبوة.. وهكذا.. بل بالعقل عرفنا أن لنا خالقاً وأن شكر النعمة واجب... إلخ.
ولكنّ الكلام هو: أن العقل بعدما اثبت الشرع(13) وان هذا الشخص نبي من قبل الله تعالى وانه صادق لا يمكن أن يكذب وعالم غير جاهل وانه عارف بالحقائق، فهنا يكون للعقل حكمان: الأول: حكمه بما يستقل به أو فقل: حكمه بصحة أحكامه هو، كما هو مقرر لديه إذ يرى نفسه نوراً ومصباحاً منيراً، والثاني: حكمه بصحة كلام هذا النبي إذا تكلم بكلام ولم يكن مورّياً أو متّقياً أو ممتحناً أو شبه ذلك، أي إذا أحرز العقل انه أراد هذا المعنى ولم تنفك إرادته الجدية عن إرادته الاستعمالية، فحينئذٍ إذا تعارض فرضاً (وإن كان فرضاً لم نجد له مصداقاً أبداً) الحكم العقلي الفطري باستحالة أمر، كاجتماع الأمر والنهي مثلاً مع نص كلام النبي (صلى الله عليه وآله) المقطوع السند والدلالة والجهة، بالإمكان، أو انعكس الأمر بأن قال النبي بالاستحالة ووجدنا فرضاً عقلنا يحكم بالإمكان، فههنا حيث ثبّت العقل حجية قول النبي بنفسه، فانه سيشهد تعارضا بين حكمه المباشر وبين حكمه الآخر الذي كان بالواسطة (أي حيث حكم بكونه نبياً لا يكذب ولا يخطئ فقد حكم بصحة أقواله التي يقصدها حقيقة) فإن التعارض يعود في الواقع حينئذٍ إلى تعارض حكمين للعقل: أحدهما بالمباشرة والآخر بالواسطة، نعم، لا يوجد، وكما سبق، هناك مصداق حقيقي لهذا الفرض، فهو مجرد بحث عقلي علمي فرضي لا غير.
الفصل الثالث: منطلقات التعارض بين العقل والنقل
انّ التعارض بين العقل والنقل، كثيراً ما يبتني في مرحلة سابقة، على المنظومة المعرفية – القيمية التي ينطلق منها المفكر أو الشخص في تقييم وجود حالة التعارض من عدمها، وعلى النظرة الكلية العامة التي يحملها والتي ينظر من خلالها إلى الأفكار والرؤى والقيم والشرائع والدساتير والقوانين وبعبارة أخرى: على المنطق الأساس الذي منه ينطلق في تقييمه للحقائق.
وعندما نتناول بالتحليل المنطلقات الرئيسة التي تقف خلف اختلاف الآراء والأنظار سنكتشف انه قد يجد هذا المفكر تعارضاً في هذه المسألة بين العقل والنقل، ولا يجد المفكر الآخر تعارضاً بل يقدم العقل دون تردد أو يقدم النقل دون تردد، إذ لا يرى كل منهما الطرف الآخر حجة، نجد انها أربعة منطلقات أساسية والتي، بسببها، قد يؤمن مفكر بشيء: حقيقة، فكرة، أو غير ذلك، وقد يؤمن الآخر بنقيضه؛ لكونه ينطلق من منطلق مختلف تماماً عن المنطلق الفكري أو المبدأ أو النظرة العامة، التي انبثقت منها أفكار ورؤى وتقييمات المفكر الآخر. وهذه المنطلقات هي:
المنطلق الليبرالي
المنطلق الأول: المنطلق الليبرالي، الذي يعتبر الحرية الأصل الأصيل والركن الأساس، والذي يقيّم عبره كافة الأنظمة والدساتير والقوانين والأحكام والرؤى، حيث يعتبر كل ما يصطدم بالحرية، بأي نحو من أنحاء تجلياتها، خطأ وباطلاً، ويعتبر كل مبنى أو قانون أو أصل يؤسس لها أو ينطلق عنها أو يتناغم معها، هو الحق الذي لا محيص عنه، وعليه: كثيراً ما يجد تعارضاً بين النقل، بتشريعاته أو أحكامه أو رؤاه ومبانيه، وبين العقل الذي يقصد به الحكم العقلي بالحرية والتحرر أي الحكم الذي اعتبر العقل دالاً عليه وشاهداً به وحاكماً وقاطعاً ومخبِراً عنه أو فقل اعتبره العقل واعتبر العقل ذلك الأصل...
المناقشة: القِيَم الأخرى المنافِسة لقيمة الحرية
وهنا فإن الروح العلمية والموضوعية تستدعي أن نتحاور معه عن مدى صحة هذا المنطلق عقلاً وان نسلط الأضواء على هذا المجلى أو المنطلق العقلي، لنكشف له بالبرهان العقلي عن انه لا يمثل، بكله، تجسيداً للعقل ولا يعدّ ممثلاً أميناً له، بل هو في الجملة كذلك لا بالجملة. أو في المقابل: ليكشف لنا اننا المخطأون وهو المصيب!
وعلى ضوء ذلك نقول: ان (الحرية) تجسّد قيمة من القيم دون شك ولكن لا بد لنا من أن ندرس صورة تزاحمها مع سائر القيم أيضاً أو، بعبارة أخرى: لا بد لنا من أن نقوم بدراسة علاقتها مع سائر القيم التي يعتبرها هذا المفكر نفسه، أو غيره من المفكرين، قيمة أصيلة أيضاً.. وحينئذٍ نجد انه أحياناً ما يقوم بترجيح تلك القيمة على الحرية دون ريب، وأحياناً يعكس مما يعني ان الحرية لديه أيضاً إنما تجسد واحد من القيم، وعليه: فلا بد من إخضاع التقييم السلبي لأي قانون يعارض الحرية المطلقة أو المنفلتة، لمنظار دقيق فاحص يقوم بدراسة مدى اقترابه من القيم المنافسة أو اصطدامه معها.
والقيم الأخرى هي أربع قيم على أقل الفروض:
قيمة الحكمة
القيمة الأولى: (الحكمة) إذ كثيراً ما تصطدم الحرية بالحكمة، والحكمة هي الإطار العام الذي لا بد وأن تتأطر به الحرية، أو على الأقل ينبغي دراسة العلاقة بينهما بحذر دون التسرع في إصدار الحكم بان الحرية هي الأصل مع إهمال الحكمة بقول مطلق.
وعلى سبيل المثال: الـحَجر على ممتلكات السفيه الأموالي، الذي يبذر أمواله بغير الطرق العقلائية، كمن وجدناه إذا أطلقنا له الحرية في ما يملك من مزارع وحقول وبساتين وأموال نقدية وأرصدة مصرفية، انه يتلفها أو يحرقها أو يرميها في البحر دون أي مبرر عقلائي، فانه لا شك في أن الحرية تكون ههنا حرية سلبية حيث اصطدمت بالحكمة ولذا قال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) (سورة النساء: الآية 5)، كما لا شك في ان عقلاء العالم يحجرون على مثل هذا الشخص مما يعني انهم يرون (الحكمة) اسمى من (الحرية) الشخصية بل هي فوقها حاكمة عليها.
ولئن ناقش شخص في هذا المثال فانه لا يمكنه المناقشة في الـحَجْر على من يريد تزويد القَتَلة والمجرمين والسرّاق، بقسط من أمواله الشخصية ليصنعوا منها أسلحة ماضية تستهدف قتل الأبرياء والسطو على البيوت واختطاف الأطفال والفتيات وشبه ذلك.
قيمة المصلحة الشخصية
القيمة الثانية: (المصلحة) فقد تتزاحم حرية الشخص مع مصلحته البالغة أو مع دفع المفسدة الكبيرة، وهنا نجد كل عقلاء العالم يرجّحون، دون شك، بعض أنواع دفع المفسدة على بعض أنواع الحرية، فلو أراد شخص ما أن يقطع أصابع يده عبثاً أو ان يسمل عينه أو ان يصلم اذنه أو ان يجدع أنفه، متذرعاً بانه حرّ في أن يفعل ببدنه ما يشاء، لوجدت عقلاء العالم يجدون كامل الحق في ان يمنعوه من ذلك وان يحدّوا من ولايته متسلحين بشعار (ان حريتك تنتهي عندما تبدأ الإضرار البالغ العنيف بنفسك).
قيمة حرية الآخر
القيمة الثالثة: (حرية الآخرين) إذ ان الحرية الشخصية تنتهي عندما تبدأ مساحة حرية الآخرين، فالقانون الذي ينطلق من الموازنة الدقيقة بين كلتا الحديثين، هو الصحيح وإن أضر بالحرية الشخصية بدرجة أو أخرى، نعم قد يختلف العقلاء في بعض مصاديق ذلك أو حدوده، ولكنه إجمالاً من المسلمات لديهم.
قيمة الـمُثل الأخلاقية
القيمة الرابعة: (الـمُثل الأخلاقية) والإنسانيات، وعلى سبيل المثال فان المرء حر في أن يذهب إلى المسجد ليصلي جماعة فيه أو فرادى، لكنه إذا وجد جماعة مقامة وكانت صلاته فرادى تعدّ هتكاً لإمام الجماعة عرفاً، فانه، كما افتى به بعض العلماء، يحرم عليه ذلك فإما ان يذهب إلى المسجد في وقت آخر، أو ليصلِّ جماعة ولو صوريةً، فهذا مثال فقهي ونظائره كثيرة، وأما الأمثلة العرفية فهي كثيرة أيضاً فان الشخص حرّ مثلاً في أن يقوم لوالديه إذا دخلا المجلس وأن لا يقوم، لكن عدم قيامه لهما، إذا عدّ في عرف ذلك المجتمع إهانة لهما أو كان إيذاء لهما ذمّه العقلاء مما يدل على أن الحرية أضحت مرجوحة حينئذٍ لا راجحة، بل ربما ارأوه مستحقاً للعقاب مما يدل على ان هذا المصداق من الحرية أصبح لديهم محرماً.
وفي مثال آخر أوضح: المرء حرّ في أن لا ينفق أمواله إلا كما يشاء، لكنه ليس حراً في أن يمسك عن سقي عطشان سيموت لو لم يسقيه من ماء الجدول الذي يملكه أو من خزان المياه خاصته.
فهذا بعض الحديث عن المنطلق الأول (الليبرالي) وهنالك ثلاثة منطلقات أخرى أساسية تختلف بحسبها معادلة تعارض العقل والنقل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق