إسلاميات - القرآن الكريم

محاكمة بين الآراء المختلفة في تفسير القرآن بالقرآن

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (17)

جل وعلا صرح بكون القرآن (تبياناً لكل شيء) لكنه تعالى لم يقل (تبياناً لكل شيء لكل أحد) أي لم يحدد انه تبيان لمن؟ فهل هو تبيان للكل لكل شيء أو تبيان للبعض فقط، والوجدان يشهد باننا لا نتبيّن منه كل شيء بل بعضه فقط فيجب ضم سائر المناهج...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (سورة آل عمران: الآية 7).

الأقوال الثلاثة في تفسير القرآن بالقرآن

والأقوال في تفسير القرآن بالقرآن، ثلاثة تتراوح بين مفرِط ومفرّط ومتوسط:

أولاً: فقد قال بعض الاخباريين بأن ظواهر القرآن ليست بحجة إذ اننا لا نفهم منه شيئاً من دون ورود تفسير من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، والظاهر ان مقصودهم من (لا نفهم منه شيئاً) أي من مراداته الجدية لا المرادات الاستعمالية؛ وذلك نظراً لكثرة ورود المخصصات المنفصلة والمقيدات والحواكم (جمع حاكم) وغيرها من الروايات والأخبار، على آيات القرآن فمع ذلك لا يحرز المراد الجدي منها أصلاً، أو لاختصاص الخطاب بالمشافهين، أو لغير ذلك من الأدلة كـ((إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ))(1) وقد تكفّل علماء الأصول الكلام بردّ آرائهم ونقدها بالتفصيل، ولعله يأتي بعض الكلام عن ذلك.

ثانياً: وفي مقابل ذلك ذهب العلامة الطباطبائي في مقدمة الميزان إلى أن القرآن لا يفسر إلا بالقرآن، لأنه نور وهدى وتبيان لكل شيء وكيف لا يكون ما هو تبيان لكل شيء تبياناً لنفسه حتى يحتاج إلى غيره؟ وكيف يكون نوراً وهو محتاج إلى تفسير غيره وشرحه؟ فهو المبيِّن غير المبيَّن وهو الشارح غير المشروح وهو النور غير المتنوّر بشيء، وسيأتي نص كلامه والمناقشات فيه.

ثالثاً: وفيما بين هذين الرأيين هنالك الطريق المعتدل والصراط الوسط الذي سلكه علماؤنا على مر التاريخ، وفي طليعتهم الشيخ الطوسي، حيث ذهبوا إلى، أو بنوا على، أن بعض آيات القرآن الكريم يمكن تفسيرها ببعضها الآخر، لكن بعضاً منها مما لا يمكن تفسيره وفهمه إلا بالرجوع إلى أهل الذكر: الرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام))(2).

والبحث يدور في فصول:

رأي بعض الاخباريين: لا نفهم من القرآن شيئاً!

الفصل الأول: لمحة سريعة عن حقيقة رأي بعض الاخباريين المنسوب إليهم، فإن المعروف عنهم قولهم باننا لا نفهم من القرآن شيئاً، قال الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق في الدّرر النجفية: (لا خلاف بين أصحابنا الاصوليين في العمل بـ(القرآن) في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه، حتى صنّف جملة منهم كتباً في الآيات المتعلّقة بالأحكام الشرعية، وهي خمسمائة آية عندهم.

وأما الأخباريون منهم ـ وهو المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس ‌سره ومن تأخر عنه، فإنه لم يفتح هذا الباب أحد قبله ـ فهم في هذه المسألة ما بين الإفراط والتفريط، فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقاً حتى مثل قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم‌ السلام.

قال الفاضل المحدّث الفاضل السيد نعمة الله الجزائري رحمه ‌الله في بعض رسائله: (إني كنت حاضراً في المسجد الجامع من شيراز، وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني، والشيخ المحدّث صاحب (جوامع الكلم) يتناظران في هذه المسألة فانجر الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟

فقال: نعم، لا نعرف معنى الأحدية، ولا الفرق بين الأحد والواحد، ونحو ذلك إلّا بذلك)(3).

حقيقة رأي الإسترابادي، وخطأ النسبة إليه

أقول: العبارة توهِم أنّ المحدث الأمين الاسترابادي يقول بذلك، لكن الأمين الاسترابادي لا يقول بذلك أبداً بل ان رأيه يقارب رأي المشهور بين الشيعة والسنة مع بعض الاختلاف، والحجة في ذلك تصريحه في الفوائد المدنية قال: (فائدة: الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريّين وطريقتهم، 1- أمّا مذهبهم فهو أنّ كلّ ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتّى أرش الخدش، 2- وأنّ كثيرا ممّا جاء به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)من الأحكام وممّا يتعلّق بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (عليهم السلام) 3- وأنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية، وكذلك كثير من السنن النبوية (صلى الله عليه وآله وسلم). 4- وأنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية(4) إلّا السماع من الصادقين (عليهم السلام). 5- وأنّه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقّف والاحتياط فيهما)(5).

أقول: أ- نجده يقول: (وأنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية) ولا يقول انه بأجمعه ورد على سبيل التعمية وانه لا يفهم منه شيء مطلقاً، نعم قوله: (ان أكثره) مناقش فيه والصحيح (بعضه)، إضافة إلى انه قيّد بـ(التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية) وهم العامة من الناس فان أكثر القرآن مما لا يفهمه عامة الناس ولذا يحتاجون إلى الشرح والتفسير، أي انهم لا يفهمونه إلا بعد التفسير والشرح، ولم يقل: انه ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى العلماء والفقهاء والمفسرين، ومن المستبعد أن يقصد من الرعية ما يشملهم ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ رُوَاةَ الْكِتَابِ كَثِيرٌ وَإِنَّ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَنْصِحٍ لِلْحَدِيثِ مُسْتَغِشُّ لِلْكِتَابِ فَالْعُلَمَاءُ يَحْزُنُهُمْ تَرْكُ الرِّعَايَةِ، وَالْجُهَّالُ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الرِّوَايَةِ، فَرَاعٍ يَرْعَى حَيَاتَهُ وَرَاعٍ يَرْعَى هَلَكَتَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الرَّاعِيَانِ وَتَغَايَرَ الْفَرِيقَانِ))(6).

قال في مجمع البحرين مادة رعا: (وفيه إشعار بأن العالم الحقيقي والٍ على الدين وقيِّم عليه)(7) نعم يحتمل قصده الشمول استناداً إلى مثل ((وَاسْتَرْعاكُمْ أمْرَ خَلْقِهِ))(8) فتأمل(9).

ب- كما يقول: (وأنّه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقّف والاحتياط فيهما) وهو كما ترى خاص بالأحكام النظرية، أي أحكام الشريعة من وجوبٍ وحرمةٍ واستحبابٍ وكراهةٍ وإباحةٍ وكذلك: الملكية والزوجية وشبههما من الأحكام الوضعية، فليس كلامه عن القرآن الكريم كله بما فيه من حكم ومواعظ وقصص وأمثال وعِبَر ومستقلات عقلية، بل كلامه خاص بآيات الأحكام فلا يصح القول انه، ومَن عبّر بمثل تعبيره، يقول بانه لا يُفهم منه شيء مطلقاً، أفترى أنه يقول: (أو أن عبارته تدل) على أننا لا نفهم شيئاً مطلقاً من {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}؟ (سورة المؤمنون: الآية 1) أو لا لهم شيئاً مطلقاً من {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}؟ (سورة الأنبياء: الآية 22).

وكلامه في استنباط الأحكام النظرية من ظواهر الكتاب هو ما يلتزم به عامة علماء الشيعة، لوضوح تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية، بل هو مما يلتزم به، عملاً، الكثير إن لم يكن أكثر علماء العامة أيضاً، بالنسبة إلى المقيدات والمخصصات الواردة في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سنته وفعله.

توضيحه: ان المطلقات والعمومات الواردة في القرآن الكريم، لا شك في وجوب الفحص عن مقيداتها ومخصصاتها أو الحواكم عليها ولا يقول أحد بصحة التمسك بـ{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (سورة المائدة: الآية 1) مثلاً على إطلاقه قبل الفحص عن مقيده من كلام الرسول (عند العامة) وجميع المعصومين (عليهم السلام) (عند الخاصة)، لبداهة أن البيع الضرري والغبني والإكراهي و... لا يجب الوفاء به، وأن الآية مخصصة بها ونظائرها مما جاء على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ‌ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ...))(10) بل وقوله {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (سورة النساء: الآية 29).

فالاسترابادي يقصد من (لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقّف والاحتياط فيهما) أنه لا يجوز التمسك بظواهرها قبل الفحص عن المخصص والمقيد وشبهها حتى تعلم أحوالهما، أي كونها عامة أو مخصصة أو مطلقة أو مقيّدة أو منسوخة أو لا، من أهل الذكر (عليهم السلام).

والسبب العام في ذلك هو أن القرآن الكريم جرى دأبه، وكذا الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم)، على فصل المخصصات والمقيدات عن العمومات والمطلقات، فوجب الفحص في الكتاب أو في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كلامهم عنها لقوله تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (سورة النحل: الآية 44) وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (سورة الحشر: الآية 7) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا))(11) وقوله المتواتر لدى الفريقين ((إِنِّي تَارِك فِيكمْ أَمْرَينِ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا - كتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَهْلَ بَيتِي عِتْرَتِي أَيهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَقَدْ بَلَّغْتُ إِنَّكمْ سَتَرِدُونَ عَلَيّ الْحَوْضَ فَأَسْأَلُكمْ عَمَّا فَعَلْتُمْ فِي الثَّقَلَينِ، وَالثَّقَلَانِ كتَابُ اللَّهِ جَلَّ ذِكرُهُ وَأَهْلُ بَيتِي‏...))(12)

فالتمسك بهما جميعاً يمنحنا الصورة الكلية الشاملة التامة للمرادات المولوية والأحكام الإلهية.

الطباطبائي: كيف يتبين القرآن، بشيء غيره!

الفصل الثاني: دراسة سريعة، مكملة لما مضى، عن رأي العلامة الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن فقد سبق: (ثانياً: وفي مقابل ذلك ذهب العلامة الطباطبائي في مقدمة الميزان إلى أن القرآن لا يفسر إلا بالقرآن، لأنه نور وهدى وتبيان لكل شيء وكيف لا يكون ما هو تبيان لكل شيء تبياناً لنفسه حتى يحتاج إلى غيره؟ وكيف يكون نوراً وهو محتاج إلى تفسير غيره وشرحه فهو المبيِّن غير المبيَّن وهو الشارح غير المشروح وهو النور غير المتنوّر بشيء، وسيأتي نص كلامه والمناقشات فيه)(13) قال في الميزان: (ولم يندب إلا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يترائى منها، وجعله هدى ونوراً وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه!)(14) وقال: (وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (سورة البقرة: الآية 185) وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} (سورة النساء: الآية 174) وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج!)(15).

مقارنة بين رأي الشيخ الطوسي والسيد الطباطبائي

أقول: مضت بعض المناقشات في كلامه وسنضيف مناقشات أخرى، ولكن يجب قبل ذلك أن نشير إلى أمرين:

الأمر الأول: أن السيد الطباطبائي اقتبس، حسب الظاهر، بعض عباراته الآنفة من الشيخ الطوسي في التبيان، ولكن بفارق أن كلام الطوسي دقيق صحيح يسلك فيه الطريق الوسط والجادة المستقيمة حيث تبنى (رأي في الجملة) أما كلام الطباطبائي فغير صحيح إذ سلك فيه منهجاً مفرطاً حيث تبنى (منهج بالجملة)(16) وقد نقلنا عبارة الطباطبائي قبل قليل فلنستعرض، لغرض المقارنة، عبارة الطوسي في التبيان قال: (والذي نقول في ذلك: إنه لا يجوز أن يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (سورة الزخرف: الآية 3) وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (سورة الشعراء: الآية 195) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (سورة إبراهيم: الآية 4) وقال فيه: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (سورة النحل: الآية 89) وقال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (سورة الأنعام: الآية 38)

فكيف يجوز أن يصفه بأنه عربي مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس ولا يفهم بظاهره شيء؟ وهل ذلك إلا وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلا بعد تفسيره وبيانه؟ وذلك منزّه عن القرآن وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (سورة النساء: الآية 83)، وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن، ولم يتفكروا في معانيه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (سورة محمد: الآية 24) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي) فبين أن الكتاب حجة، كما أن العترة حجة. وكيف يكون حجة ما لا يفهم به شيء؟ وروي عنه (عليه السلام) إنه قال: (إذا جاءكم عنّى حديث فأعرضوه على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) وروي مثل ذلك أيضاً عن أئمّتنا (عليهم السلام)، وكيف يكون العرض على كتاب اللّه، وهو لا يفهم به شيء؟)(17).

فلاحظ الفرق الكبير بين المبنيين والتعبيرين، ولإيضاحهما أكثر نقول: فرق كبير بين الإثبات في الجملة وبين الإثبات المطلق كما فرق كبير بين النفي في الجملة وبين النفي المطلق(18)؛ ألا ترى أنه يصح أن تقول (لا أعلم كل شيء) الذي يعني أنك لا تعلم كل علوم الأولين والآخرين لو قصدت ظاهر الكلام (بل نصه) ولا يصح أن تقول (لا أعلم أي شيء) لأنه يعني أنك لا تعلم حتى معلومة واحدة (ككونك موجوداً وأن النهار مضيء وان 1+1=2) وهكذا، وألا ترى أنه يصح أن تقول (أعلم شيئاً أو أشياء) ولا يصح أن تقول (أعلم كل شيء).

وعبارة الطوسي تشير إلى في الجملة أي اننا نعلم شيئاً من القرآن، أما عبارة الطباطبائي فتشير إلى بالجملة أي إلى أننا نعلم كل شيء(19) من القرآن!

فقارن عبارة الطوسي: (وأنه بيان للناس ولا يفهم بظاهره شيء؟) ولم يقل (كل شيء)

وقوله: (وكيف يكون حجة ما لا يفهم به شيء؟) (وكيف يكون العرض على كتاب اللّه، وهو لا يفهم به شيء؟) ولم يقل (وهو لا يفهم منه كل شيء).

وقال: (وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}) فقد مدح أقواماً فقط وليس انه مدح جميع الناس على ذلك.

وقال: (وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن، ولم يتفكروا في معانيه) ولم يقل انه لم يندب إلا إلى التدبر في آياته) وأين إثبات ضرورة التدبر في آياته من نفي غيره وانه الطريق الوحيد وانه الذي به نفهم كل شيء من القرآن الكريم؟

الأمر الثاني: رأي الشيخ البحراني (صاحب الحدائق) في المنهج الذي يقول باننا يمكننا أن نستنبط كل شيء من القرآن الكريم، قال: (ومنهم من جوّز ذلك حتّى كاد يدّعي المشاركة لأهل العصمة (عليهم السلام) في تأويل مشكلاته وحل مبهماته وبيان مجملاته، كما يعطيه كلام المحدّث المحسن الكاشاني في مقدمات تفسيره (الصافي)(20) جرياً على قواعد الصوفية الذين يدّعون مزاحمة الأئمّة (عليهم السلام) في تلك المقامات العلية، كما لا يخفى على من تتبع كلامه في تفسيره المشار إليه)(21).

أقول: هذا الرأي رأي صوفي وليس بالضرورة كون من يقول به صوفياً أو معتقداً بهم، بل إنما وافقهم على هذا الرأي خاصة، وعلى أي فالرأي، كما ظهر مما مضى، ضعيف بل باطل.

دلالة المجملات في القرآن، على رد نظرية (ما بال النور)!

ولنرجع إلى الاستدلال فنقول: يدل على عدم صحة ما ذكره من (ولم يندب إلا إلى التدبر في آياتة، فرفع به أي اختلاف يترائى منها، وجعله هدى ونوراً وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه!) انّ من البديهي أن هناك آيات كثيرة مجملة أو مبهمة لنا وأن هناك ألفاظاً كثيرة في القرآن الكريم مشتركة بين معاني عديدة ولا نجد نحن ما يدلنا على استخراج المعنى المراد من القرآن الكريم نفسه (بل علمه مودع عندهم (عليهم السلام) فقط)، ولذا اختلف كبار المفسرين شيعة وسنة على مرّ التاريخ في معانيها ولم تسعفهم حتى اللغة في حل المعضلة، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

{قَسْوَرَةٍ}

1- قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (سورة المدثر: الآية 50-51) فقد اختلف في أن المراد من الـحُمر: الحمر الأهلية أو الحمر الوحشية (المخططة) وان المراد من {قَسْوَرَةٍ} هل هو الأسد؟ أو هو الرجل الرامي؟ أو هو جماعة من الرجال كما قال بالأخير ابن عباس، ولا نستطيع أن نستنبط المعنى المراد من القرآن الكريم نفسه ومن الطريف ان نتدبر مجمل معنى الآية الكريمة على ضوء الاحتمالات المختلفة فان الحمار الأهلي يخاف من الأسد ويفرّ منه ولكنه لا يخاف من الإنسان حتى وإن أمسك بيده الف سهم وقوس! على العكس من الحمار الوحشي الذي يخاف من الإنسان ويفر منه، ولا يخاف من الأسد في الحالات العادية ولا يفرّ منه.

فهل معنى الآية: (كأنهم حمر أهلية فرّت من الأسد)؟ أو معناها (كأنهم حمر وحشية فرّت من الإنسان الرامي لها) أو معناها (فرّت من جماعة من الرجال)؟

والحاصل: انه هل يستطيع صاحب الميزان أو الصافي أو غيرهما أن يستخرج معنى هذه الآية والآيات الآتية، عبر منهج تفسير القرآن بالقرآن، من سائر آيات الكتاب؟.

{كَالصَّرِيمِ}

2- قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} سورة القلم: الآيتان 19-20) وقد اختلف في الصريم على أقوال:

فهل يراد به: الرماد الأسود (وهي لغة خزيمة)؟ أو يراد به أرض معروفة باليمن لا نبات فيها تدعى صردان كما جاء في مجمع البيان؟ أو يراد به الليل الأسود كما عن ابن عباس؟ وقال الطوسي: (كالليل‌ ‌في‌ سواده‌ لاحتراقها ‌بعد‌ ‌أن‌ كانت‌ كالنهار ‌في‌ بياضها)(22) أو يراد به النهار كما يراد به الليل، لأن كلّاً منهما متصرم؟ وعليه: فمعنى أصبحت كالصريم أي كالليل الأسود (وله وجه) أو كالصريم أي كالنهار المتصرم (وله وجه) لأنها كانت مزرعة نضرة جميلة أخّاذة مضيئة فأصبحت كالنهار المتصرم إذا انتهى.

{فُومِهَا}

3- قوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} (سورة البقرة: الآية 61) فقد اختلفوا في المراد من فومها على أقوال: الفوم هو الثوم، أو هو الحنطة، أو هو الخبز، أو هو جميع الحبوب التي يمكن أن تخبز كالحنطة والشعير والعدس والفول... إلخ أو هو السنبلة.

{حَصُورًا}

4- قوله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (سورة آل عمران: الآية 39) فهل المراد بـ{حَصُورًا} الذي ليست له شهوة النساء؟ أو الذي يمنع نفسه من مطلق الشهوات؟ أو الذي لا يأتي النساء (وإن كانت له شهوة) أو المراد بالحصور: المعصوم من الذنوب؟

{نَهَرٍ}

5- قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (سورة القمر: الآية 54) فهل المراد بالنهَر النهْر؟ قال الطبرسي في مجمع البيان: (أي أنهار يعني أنهار الجنة من الماء والخمر والعسل)(23) أو المراد السعة في الرزق والمعيشة؟ أو المراد الضياء؟ أو المراد مجموع الأخيرين كما جاء في التبيان؟، وهكذا وهلم جرا.

دلالة {الرَّاسِخُونَ} على عدم تيسر علمنا بجميع علوم الكتاب

ومن أوضح الأدلة على أننا لا يمكننا، مهما بلغنا من العلم، أن نصل عبر منهج تفسير القرآن بالقرآن (ولا غيره) إلى جميع ما احتواه القرآن الكريم من علوم وبطون وتأويل وتنزيل وغيرها، خلافاً لما ادعاه في الميزان، قوله تعالى {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }وذلك سواء أقلنا بأن الواو في {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} للعطف كما هو المشهور عند علماء الشيعة، أم قلنا بأنها للاستئناف كما ذهب إليه العلامة الطباطبائي. ومشهور العامة.. توضيح ذلك:

إذا كانت الواو في {وَالرَّاسِخُونَ} للاستئناف

1- ان الواو إذا كانت للاستئناف، أفادت الآية الكريمة حصر علم تأويل الكتاب، بالله تعالى، وهذا يعني انه لا يعلم أي أحد من البشر حتى الراسخون في العلم، بحسب الطباطبائي، علم تأويل الكتاب، فيكون هذا أبلغ رد على دعوى اننا يمكن أن ننال تفسير الكتاب بأكمله بالكتاب وذلك لأن تأويل الكتاب مما ينبغي أن يدل عليه الكتاب لأنه أوله ومرجعه ولأن مآله إليه فلا بد حسب نظرية النور وتبيان كل شيء لكل شخص، أن يكون دالاً عليه إذ يقول تعالى: {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} فالمتشابهات من الكتاب {فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ} فهو تأويل للكتاب أي للمتشابهات منه، ولكن تأويل المتشابهات من القرآن لا يعلمه إلا الله تعالى.

بوجه آخر: استدلاله العقلي يأبى استثناء التأويل إذ يقول: (وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (سورة البقرة: الآية 185) وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} (سورة النساء: الآية 174).

وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج! وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (سورة العنكبوت: الآية 69) وأي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! وأي سبيل أهدى إليه من القرآن! والآيات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في أوائل سورة آل عمران)(24) ويقول: (وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه!)(25).

إذ نقول: كيف يكون الكتاب تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لتأويله؟ وحاشا للنور أن يكون منيراً لكل شيء ولا يكون منيراً لأوله وما يؤول إليه من عاقبة أمره أو مقاصده أو واقعه الخارجي أو غير ذلك مما فسر به التأويل.

إذا كانت الواو للعطف

2- أنّ الواو إذا كانت للعطف، افادت الآية حصر علم تأويل الكتاب بالله والراسخين في العلم، فليس الكتاب إذاً تبياناً لنا لكل شيء لكل شخص، بل للراسخين في العلم فقط.

والحق أن الواو للعطف لأدلة عديدة سبق بعضها ومنها: ما ورد في نهج البلاغة: ((أَیْنَ الَّذِینَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ دُونَنَا کَذِباً وَبَغْیاً عَلَیْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَوَضَعَهُمْ وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ بِنَا یُسْتَعْطَی الْهُدَی وَیُسْتَجْلَی الْعَمَی إِنَّ اَلْأَئِمَّهَ مِنْ قُرَیْشٍ غُرِسُوا فِی هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لاَ تَصْلُحُ عَلَی سِوَاهُمْ وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَهُ مِنْ غَیْرِهِمْ))(26).

3- وإن قلت بأن الواو للاستئناف وهي ساكتة عن حال الراسخين في العلم، وإنما استفدنا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل الكتاب، من الروايات، أجبنا بأن هذا من الاستعانة في فهم الكتاب بالروايات، ومنهج تفسير القرآن بالقرآن يأبى ذلك، بعبارة أخرى: عليك أن تستخرج ذلك من سائر آيات الكتاب، من دون أن تستعين بالروايات وإلا كان ذلك نقضاً للمدعى نفسه هذا.

هل حكم التطبيق غير حكم التفسير؟

ثم انه قد مضى: الجواب عن نظرية كون القرآن تبياناً لكل شيء لكل شخص، بقولنا: انه جل وعلا صرح بكون القرآن (تبياناً لكل شيء) لكنه تعالى لم يقل (تبياناً لكل شيء لكل أحد) أي لم يحدد انه تبيان لمن؟ فهل هو تبيان للكل لكل شيء أو تبيان للبعض فقط، والوجدان يشهد باننا لا نتبيّن منه كل شيء بل بعضه فقط فيجب ضم سائر المناهج التفسيرية، كتفسير القرآن بالروايات، إلى منهج تفسير القرآن بالقرآن.. وقد استدللنا على ذلك بأن تطبيق القرآن على مصاديقه مما لا يمكن لنا في كثير من الأحيان أن نستكشفه من القرآن الكريم، بل علينا الاستعانة بالروايات والتاريخ أو غير ذلك، ومثّلنا لذلك بـ{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} (سورة النمل: الآية 82) فراجع.

وقد أجاب بعض العلماء: بأن التطبيق غير التفسير، والنظرية تقول بأن تفسير القرآن كله يمكن عبر الرجوع إلى القرآن وحده ولا نحتاج فيه (في التفسير) إلى غيره، ولا تقول اننا لا نحتاج في التطبيق إلى غيره؟

والجواب: ان الاستدلال بكونه نوراً مبيناً وكونه تبياناً لكل شيء يأبى ذلك؛ إذ كيف يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لمصاديقه ومفرداته وما تنطبق عليه كلياته أو مفاهيمه أو أحكامه؟ وحاشا للنور أن يكون منيراً لكل شيء ولا ينير مصاديقه هو!!

وبوجه آخر: علم التطبيق (تطبيق كليات القرآن على الجزئيات والمصاديق، وتطبيق مفاهيمه على المفردات) من أهم العلوم على الإطلاق، بل انه لا يقل أهمية عن علم التفسير نفسه (لو اعتبرنا التطبيق غير التفسير) إن لم نقل انه أكثر منه أهمية، فكيف يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لتطبيقاته التي هي أهم من كل شيء؟ وحاشا أن يكون نوراً منيراً لكل شيء ولا ينير مصاديقه ومفرداته؟؛ ألا ترى أن تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (سورة المائدة: الآية 55) لا شك انه مهم في غاية الأهمية بتبيين ان المراد من {وَلِيُّكُمُ} هو مولاكم والمتولي لشؤونكم ومن أمركم بيده، ولكن تطبيق ذلك على المصداق الصحيح الذي أراده الله تعالى لا يقل خطورة عن تفسيره المفهومي، بل لا يجدي تفسيره المفهومي شيئاً إذا طبقنا {وَلِيُّكُمُ} على مثل معاوية والحجاج ويزيد، فكان من الواجب طبقاً لنظرية (التبيان لكل شخص لكل شيء وانه حاشا للنور أن لا ينير...)، ان يكون بمقدورنا استخراج مصاديق الأولياء وأسمائهم وتحديد انهم علي والحسن والحسين... وهكذا من آيات القرآن نفسه.

بعبارة أخرى: يجب أن يكون القرآن، حسب نظرية النور والتبيان، تبياناً، على الأقل، لكل شؤونه من تفسير وتأويل وتطبيق وتنزيل وغير ذلك، وهل يمكن لأحد غير من نزل القرآن في بيوتهم وقد زقوا العلم زقاً أن يدّعي علم ذلك؟ إذاً يكون هذا المدعي مشمولاً بكلام الإمام الصادق (عليه السلام) حيث خاطب أبا حنيفة (يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذي أنزله عليهم).

وخاطب قتادة (ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن من خوطب به)

إضافة إلى ذلك فانه لا شك، عرفاً ودقّةً، ان من أقسام التفسير التفسير بالمصداق، والتطبيق تفسير بالمصداق، خاصة إذا رجعنا إلى تفسير معنى التفسير فانه الإيضاح والتبيين والإبانة وكشف المغطى، كما في كتب اللغة، والإبانة تارة تكون لمفهوم الكلام وأخرى لمصداقه وتطبيقاته، كما تارة يقوم المفسّر بكشف المغطى من المفهوم وأخرى المغطى من التطبيق والمصداق.

والحاصل: ان نظرية تبياناً لكل شيء لكل شخص، لا يمكنها أن تصمد أمام الواقع الخارجي، وانها مما يكذبه الوجدان والعيان إضافة إلى البرهان، وانها تعني بعبارة أخرى مبسطة (حسبنا كتاب الله)!

الروايات المتواترة تفيد حصر علم جميع القرآن، بهم (عليهم السلام)

الفصل الثالث: ان الروايات والأخبار المتواترة تواتراً إجمالياً، بل تواتراً مضمونياً، تدل على حصر علم الكتاب كله (أي العلم به بأكمله)، فيهم صلوات الله عليهم، وقد تجشم صاحب الحدائق مؤونة استعراض فهرس للكثير من الروايات فسنكتفي بما قاله (قدس سره) ولكن مع التنبيه إلى أمر مهم جداً وهو أن الروايات التي ذكرها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ- يدل الكثير منها على أن علم الكتاب كله وبأجمعه وحق معرفته، خاص بهم (عليهم السلام)، مما يعني أن بعضه متاح لنا.

ب- وقد يستدل ببعضها على اننا لا نفهم من القرآن شيئاً، وهذا ما سيأتي الجواب عنه.

ج- وقد يستدل ببعضها على تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية في الكثير من الآيات مما نحتاج فيه إليهم (عليهم السلام)، وهذا صحيح، فهذه طوائف ثلاث، فإذا أراد الشيخ البحراني الاستدلال بكل الأخبار التي ذكرها على خصوص القسم الثاني، فغير صحيح كما سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى، وإن أراد القسم الثالث والأول فكلامه صحيح تام، وهذا استعراض سريع لبعض الروايات الشريفة:

(روى في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل إلّا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلّا علي بن أبي طالب والأئمّة من بعده (عليهم السلام)))(27).

وبإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء))(28).

وفي (الكافي) أيضاً في حديث الباقر (عليه السلام) مع قتادة: ((ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت)).

إلى أن قال (عليه السلام): ((ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن(29) من خوطب به))(30).

وروى في كتاب (العلل) في حديث دخول أبي حنيفة على الصادق (عليه السلام) أنه قال له: ((يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟)).

فقال: نعم. فقال: ((يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل الله ذلك(31) إلّا عند أهل الكتاب الذي أنزله عليهم))(32) الحديث.

وفي جملة من الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا} (سورة فاطر: الآية 32) ـ الآية ـ دلالة على اختصاص ميراث (الكتاب) بهم عليهم ‌السلام.

وفي جملة في تفسير قوله تعالى {بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (سورة العنكبوت: الآية 49) بأن المراد بهم: الأئمّة، صلوات الله عليهم(33).

وفي جملة في تفسير {قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (سورة الرعد: الآية 43) قال: ((إيانا عنى))(34)(35).

ومثل ذلك(36) في تفسير قوله سبحانه {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (سورة الزخرف: الآية 44). وكذا(37) في تفسير قوله {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (سورة آل عمران: الآية 7).

وفي جملة من الأخبار: ((ليس شي‌ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن))(38).

وفي مناظرة الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق عليه ‌السلام المروية في (الكافي)(39) وغيره(40) قال هشام للشامي: فبعد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله من الحجة؟ قال الشامي: (الكتاب) والسنة. قال هشام: فهل ينفعنا (الكتاب) والسنة في دفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم. قال هشام: فلم اختلفت أنا وأنت، وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي، فقال أبو عبد الله عليه ‌السلام: ((مالك لا تتكلم؟)). فقال: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: (الكتاب) والسنة يرفعان عنا الاختلاف أحلت؛ لأنهما يحتملان الوجوه. [وإن قلت: قد اختلفنا، وكل واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن (الكتاب) والسنة].

إلى أن قال الشامي لهشام: والساعة من الحجة؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشدّ إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء، الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة في المطلوب.

وفي رسالة الصادق عليه ‌السلام للشيعة وأمرهم بمدارستها، المروية في روضة (الكافي) بأسانيد ثلاثة ما صورته: ((قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شي‌ء، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم الله من علمه، وخصّهم به، وضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها. وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الامّة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم ـ وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم ـ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق.

وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلّا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلّة، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر، والذين أتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمرهم بسؤالهم))(41) الحديث.

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه‌ السلام المروية في روضة (الكافي) أيضاً: ((فإنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه فعلم بالعلم جهله، وأبصر به عماه، وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات، وحيا به بعد إذ مات، وأثبت عند الله ـ تعالى ذكره ـ به الحسنات، ومحابه السيئات، وأدرك به رضوانا من الله تعالى، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة؛ فإنّهم خاصة نور يستضاء به، وأيمة يهتدى بهم، وهم عيش العلم وموت الجهل))(42) الحديث.

وفي كتاب (المحاسن) في باب (أنزل الله في (القرآن) تبيانا لكلّ شي‌ء): عنه عن أبيه عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه ‌السلام في رسالة: ((وأما ما سألت من القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة ؛ لأن القرآن ليس على ما ذكرت، وكل ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه. وإنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم؛ ولقوم يتلونه حق تلاوته، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه، فأمّا غيرهم، فما أشد استشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم! ولذلك قال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله: انه ليس شي‌ء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن، وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله. وإنما أراد بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والناطقين عن أمره، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم)).

ثم قال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (سورة النساء: الآية 83) فأما غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ولا يوجد، وقد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر؛ إذ لا يجدون من يأتمرون عليه ولا من يبلغونه أمر الله ونهيه، فجعل الله الولاة خواصّ ليقتدي بهم من لم يخصّهم بذلك، فافهم ذلك إن شاء الله.

وإياك وتلاوة القرآن برأيك، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور، ولا قادرين عليه ولا على تأويله، إلّا من حدّه وبابه الذي جعله الله له، فافهم إن شاء الله، واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله))(43)، ولا يخفى ما فيه من الصراحة في الدلالة على المطلوب.

وفي بعض الأخبار قال له السائل: أو ما يكفيهم (القرآن)؟ قال عليه ‌السلام: ((بلى، لو وجدوا له مفسّرا)). قال: وما فسّره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: ((بلى فسّره لرجل، وفسّر للأمّة شأن ذلك الرجل))(44) الحديث.

وروى العياشي في تفسيره عن أبي عبد الله عليه ‌السلام قال: ((من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو أبعد من السماء))(45).

وفي (الكافي) عن الصادق عليه ‌السلام: ((ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر))(46).

وروى الصدوق رحمه ‌الله في (المجالس) بسنده عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌ السلام قال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي))(47) الحديث)(48) – انتهى، وسيأتي الكلام عن فقه الحديث للروايات السابقة بإذن الله تعالى.

وهناك روايات أخرى أيضاً تدل على اختصاص العلم بجميع القرآن بأكمله بهم (عليهم السلام) أي العلم علماً كاملاً شاملاً ففي تفسير الصافي: (وذلك انهم ضربوا بعض القرآن ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا.

واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء من الانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، والمؤكّد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير)(49).

وفي الأمالي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله عز وجل أنزل علي القرآن، وهو الذي من خالفه ضل، ومن ابتغى علمه عند غير علي هلك. أيها الناس، اسمعوا قولي، واعرفوا حق نصيحتي، ولا تخلفوني في أهل بيتي إلا بالذي أمرتم به من حفظهم، فإنهم حامتي(50) وقرابتي وإخوتي وأولادي، وإنكم مجموعون ومساءلون عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. إنهم أهل بيتي، فمن آذاهم آذاني، ومن ظلمهم ظلمني، ومن أذلهم أذلني، ومن أعزهم أعزني، ومن أكرمهم أكرمني، ومن نصرهم نصرني، ومن خذلهم خذلني، ومن طلب الهدى في غيرهم فقد كذبني أيها الناس، اتقوا الله، وانظروا ما أنتم قائلون إذا لقيتموه، فإني خصم لمن آذاهم، ومن كنت خصمه خصمته، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم(51). وصلى الله على رسوله محمد وآله)(52)

وفي الاحتجاج: (لَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَرَّفَنِي الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَنَا أَفْضَيْتُ لِمَا عَلَّمَنِي رَبِّي مِنْ كِتَابِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ إِلَيْهِ مَعَاشِرَ النَّاسِ مَا مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَاهُ اللَّهُ فِيَّ وَكُلُّ عِلْمٍ عَلِمْتُ فَقَدْ أَحْصَيْتُهُ فِي إِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَمَا مِنْ عِلْمٍ إِلَّا عَلَّمْتُهُ عَلِيّاً وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ مَعَاشِرَ النَّاسِ لَا تَضِلُّوا عَنْهُ وَلَا تَنْفِرُوا مِنْهُ وَلَا تَسْتَكْبِرُوا [وَلَا تَسْتَنْكِفُوا] مِنْ وَلَايَتِهِ فَهُوَ الَّذِي‌ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ‌ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيُزْهِقُ الْبَاطِلَ وَيَنْهَى عَنْهُ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ...

مَعَاشِرَ النَّاسِ تَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَافْهَمُوا آيَاتِهِ وَانْظُرُوا إِلَى مُحْكَمَاتِهِ وَلَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهُ فَوَ اللَّهِ لَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ زَوَاجِرَهُ وَلَا يُوَضِّحُ لَكُمْ تَفْسِيرَهُ إِلَّا الَّذِي أَنَا آخِذٌ بِيَدِهِ وَمُصْعِدُهُ إِلَيَّ وَشَائِلٌ بِعَضُدِهِ وَمُعْلِمُكُمْ أَنَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ع أَخِي وَوَصِيِّي وَمُوَالاتُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهَا عَلَيَّ مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ عَلِيّاً وَالطَّيِّبِينَ مِنْ وُلْدِي هُمُ الثَّقَلُ الْأَصْغَرُ وَالْقُرْآنُ الثَّقَلُ الْأَكْبَرُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مُنْبِئٌ عَنْ صَاحِبِهِ وَمُوَافِقٌ لَهُ لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَحُكَمَاؤُهُ فِي أَرْضِهِ أَلَا وَقَدْ أَدَّيْتُ أَلَا وَقَدْ بَلَّغْتُ أَلَا وَقَدْ أَسْمَعْتُ أَلَا وَقَدْ أَوْضَحْتُ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَأَنَا قُلْتُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(53).

(الملحق):

وقد روى حديثَ الثقلين، مسلمُ عن زيد بن الأرقم قال قام رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: “أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي..” [صحيح مسلم / ح 36 – ( 2408 )]

و((قال رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أيها الناس: إني تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لنْ تضلّوا بعدي، أمر بيّن، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لنْ يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض)) الدر المنثور 2|60

و((قال رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السّماء والأرض، أو ما بين السماء الى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))

مسند أحمد 5|181

وروى الحافظ الترمذي عن علي بن المنذر حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن [الصحابي] زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)).

قال [الترمذي] وهذا حديث حسن غريب، [سنن الترمذي / ج 5 / ص 663 /ح 3788 ] وصححه الألباني [صحيح الترمذي – للألباني / ج3/ص 227/ ح 2980]

ورواه الترمذي أيضاً عن نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن [الصحابي] جابر بن عبد الله قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: “يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي”)).

قال (الترمذي) وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه[سنن الترمذي/ج5 /ص 662 /ح 3786]، وصححه الألباني [صحيح الترمذي – للألباني /ج3/ص 226/ح2978]

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

...............................................
(1) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج8 ص312.
(2) الدرس (368).
(3) الشيخ يوسف البحراني، الدّرر النجفيّة، دار المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) لإحياء التراث ـ بيروت، ج2 ص339.
(4) الظاهر انه يقصد من (الأحكام الشرعية النظرية الأصلية) مثل أركان الصلاة ككون الركوع والسجدتين ركناً، ويقصد بالفرعية مثل حكم القنوت وسائر المستحبات أو مثل حكم الشك بين الـ3 والـ4 أو ما أشبه، ولا يقصد من الأصلية أصول الدين، فانها أحكام عقلية وليست شرعية للزوم الدور في بعضها.
(5) محمد أمين الأسترآبادي، الفوائد المدنيّة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ج1 ص104، والترقيم منا، وبحثنا يدور حول النقاط الثلاثة الأخيرة ويمكن دمج النقطة الرابعة والخامسة.
(6) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص49.
(7) فخر الدين الطريحي النجفي، مجمع البحرين، انتشارات مرتضوي، ج1 ص191.
(8) من دعاء الزيارة الجامعة.
(9) إذ كونهم (عليهم السلام) الأولياء والرعاة لا ينفي وجود رعاة وأولياء في طولهم أي منصوبين من قبلهم كما قال (عليه السلام) ((فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً)) (الكافي: ج7 ص412) و((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ)) (الاحتجاج: ج2 ص469).
(10) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص463.
(11) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، ص430.
(12) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص294.
وقد ورد حديث الثقلين في كتب العامة في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن الترمذي وغيرها كما تجده في الملحق ونكتفي هنا بالنص الذي رواه النسائي فقد روى الحافظ النسائي في سننه الكبرى سنن عن محمد بن المثنى قال ثنا يحيى بن حماد قال ثنا أبو عوانة عن سليمان قال ثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن [الصحابي] زيد بن أرقم قال لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله عن حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثم قال: “كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ثم قال إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”. [السنن الكبرى للنسائي /ج 5 / ص 45 /ح 8148.
وقال الطحاوي: (فهذا الحديث صحيح الإسناد، لا طعن لأحد في أحد من رواته). [مشكل الآثار للطحاوي /ج 4 / ص 310 / ح 1765].
كما صححه الالباني، وصرح الترمذي بانه حديث حسن غريب، كما تجده في الملحق (1).
(13) الدرس (368)
(14) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج1 ص6.
(15) المصدر: ص11.
(16) وقد عدل العلامة الطباطبائي عن هذا الرأي، في أجزاء لاحقة من الميزان، كما مضى في الدرس السابق.
(17) الشيخ الطبرسي، التبيان في تفسير القرآن، الأمير للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت: ج1 ص78.
(18) أو: بين مطلق النفي والنفي المطلق.
(19) من القرآن، أو كل شيء على الإطلاق.
(20) التفسير الصافي ١: ٣٥ ـ ٣٦.
(21) الشيخ يوسف البحراني، الدّرر النجفيّة، دار المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)لإحياء التراث ـ بيروت، ج2 ص340.
(22) تفسير التبيان: ج7 ص39.
(23) الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن - ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ج9 ص 325.
(24) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج1 ص11.
(25) المصدر: ص6.
(26) نهج البلاغة: الخطبة 144.
(27) الكافي ١: ٢٢٨ / ١، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة (عليهم السلام)، وفيه: نزله، بدل: أنزل.
(28) الكافي ١: ٢٢٨ / ٢، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة (عليهم السلام).
(29) سيأتي أن المراد: إنما يعرف القرآن بأكمله...
(30) الكافي ٨: ٢٥٩ / ٤٨٥.
(31) أقول: (أي معرفته حق معرفته) لا في الجملة.
(32) علل الشرائع ١: ١١٢ / ب ٨١، ح ٥.
(33) الكافي ١: ٢١٤ / ٢، باب أن الأئمّة عليهم ‌السلام قد أوتوا العلم..
(34) الكافي ٨: ٢٢٩ / ٦، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌ السلام.
(35) فإن علم الكتاب كله لديهم (عليهم السلام).
(36) التفسير الصافي ١: ٣٩٣.
(37) التفسير الصافي ١: ٣١٨ ـ ٣١٩.
(38) تفسير العياشي ١: ٢٣ / ٨، وسائل الشيعة ٢٧: ٢٠٣ ـ ٢٠٤، أبواب صفات القاضي، ب ١٣، ح ٧٣.
(39) الكافي ١: ١٧٢ / ٤، باب الاضطرار إلى الحجّة.
(40) الاحتجاج ٢: ٢٧٧ ـ ٢٨٢ / ٢٤١، بحار الأنوار ٢٣: ٩ ـ ١٣ / ١٢.
(41) الكافي ٨: ٤ ـ ٥.
(42) الكافي ٨: ٣١٩ ـ ٣٢٠ / ٥٨٦.
(43) المحاسن ١: ١٤٧ ـ ١٤٨ / ٩٦٠.
(44) الكافي ١: ٢٥٠ / ٦، باب في شأن {إِنّا أَنْزَلْناهُ}.
(45) تفسير العياشي ١: ٢٩ / ٤.
(46) الكافي ٢: ٦٣٢ ـ ٦٣٣ / ١٧، ٢٥، باب نوادر كتاب فضل القرآن.
(47) الأمالي: ٥٥ / ١٠.
(48) الشيخ يوسف البحراني، الدّرر النجفيّة، دار المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)لإحياء التراث ـ بيروت، ج2 ص340-344.
(49) الفيض الكاشاني، تَفسير الصَّافي، منشورات مؤسسة الأعلامي للمطبوعات ـ بيروت: ج1 ص39.
(50) الحامة: الخاصة من الاهل والولد.
(51) بشارة المصطفى: 16، بحار الانوار 38: 94 / 10.
(52) الشيخ الصدوق، الأمالي، مؤسسة البعثة ـ قم: ص120-121.
(53) أبو منصور الطبرسي، الاحتجاج، نشر مرتضى ـ مشهد المقدسة، ج1 ص60.

اضف تعليق