بلاد المسلمين تضج بالظلم (خلافاً للعدل) والإساءة والإهمال (خلافاً للإحسان) وذلك نتيجة عوامل عديدة يقع في طليعتها وجود خلل في تثقيف الأمة بشكل عام وفي المناهج الدراسية بشكل خاص، والطريق إلى تثقيف الأمة يمرّ عبر مآت الألوف من المؤتمرات والندوات وورش العمل.. التي تتمحور حول العدل والإحسان...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
والبحث في هذه الآية الكريمة وعلى ضوئها يقع في فصول:
المحتملات الأربع في المراد بـ(يَأْمُرُ)
الفصل الأول: ان (يَأمُرُ) ظاهر في الوجوب إن لم نقل بانه نص فيه، فتكون الآية الكريمة من الأدلة التي قد يستدل بها على وجوب الإحسان مطلقاً إلا ما خرج بالدليل، أو على وجوبه في الجملة في رأي آخر، وقد سبق ذلك بتفصيل وإسهاب.
ونضيف: ان الأمر في المراد من (يَأمُرُ) يدور بين أربع خيارات ومحتملات على سبيل البدل:
الأول: ان يكون المراد به والمستعمل فيه(2) هو مطلق الطلب الأعم من الوجوب والاستحباب فيتمصدق لدى تعلقه بمثل العدل في الوجوب ولدى تعلقه بمثل الإحسان في الندب.
الثاني: ان يكون المراد به والمستعمل فيه هو الوجوب، وهو المطلوب، وهو الذي يتعين مع إقامة الدليل على إنتفاء سائر الخيارات.
الثالث: ان يكون المراد به والمستعمل فيه هو الندب.
الرابع: ان يكون المراد به والمستعمل فيه الوجوب تارة، وذلك باعتبار تعلقه بالعدل، والندب أخرى باعتبار تعلقه بالإحسان.
لكن الوجه الأخير، خلاف الظاهر جداً إذ من غير المتفاهم عرفاً ان يكون معنى هذه الجملة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (ان الله يأمركم أمراً وجوبياً بالعدل وأمراً استحبابياً بالإحسان) مع عدم تكرر لفظة يأمر، وذلك حتى إن لم نقل باستحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
وأما الوجه الثالث، فانه خلاف ظاهر صيغة الأمر فكيف بمادته، على انه لا يعقل ان يراد بـ(يَأْمُرُ) في الآية الندب مع كون أحد متعلَّقيه العدل الذي لا يشك ان الأمر به للوجوب.
وأما الوجه الأول، فانه وإن لم يكن محالاً، لكنه خلاف مسلك المشهور من ظهور الأمر بمادته وصيغته في الوجوب كما انه خلاف المفهوم عرفاً من الأمر فإن المولى إذا قال: آمرك بكذا كان ظاهراً في الوجوب لا مطلق الرجحان.
فلم يبق إلا الوجه الثاني، وليس وقوع الإحسان أحدَ متعلَّقيه دليلاً على صَرْفِ يأمر عن ظهوره في الوجوب، لمعارضته أولاً بوقوع العدل متعلَّقاً له المؤكِّد لكون (يَأْمُرُ) للوجوب، ولأولوية ان يكون ظهور يأمر في الوجوب قرينةً على إرادة الحصة الواجبة من الإحسان أو على وجوبه في الجملة أو على وجوبه مطلقاً فيخرج ما خرج بالدليل فلا يصلح خروجه نقضاً إذ ما من عام إلا وقد خص وما من مطلق إلا وقد قيّد، من(3) العكس.
الإحسان صِنو العدل وليس بديلاً له
الفصل الثاني: ان الإحسان صِنو للعدل وليس ضداً له، وهو مكمِّل له من دون ان يحتل موقعه، وهو عديل وليس بديلاً، وذلك يعني ان الإحسان لا يجلس على كرسيِّ العدل ولا يحلّ محلّه بل يجلس على كرسي آخر مجاور له فهو صِنو العدل نظير قولهم ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيه))(4) أي مثله وليس بديلاً عنه ولا حالّاً محله مزاحماً له ولا هو مناقض أو مضاد له.
فموقع الإحسان يتحدد في كونه اليد اليمنى للعدل والصاحب والمعين والمآزر، أما إذا احتل الإحسان موقع العدل فانه ينقلب ظلماً، وذلك يعني انه لدى التزاحم بين العدل والإحسان، فيما لو دار الأمر بينهما، فان العدل هو المقدم دون شك، ويمكننا توضيح كلا طرفي المعادلة بالمثالين التاليين:
1- أما الإحسان بما صنو ومكمِّل، فذلك كما لو اعطيت للموظف لديك الذي يستحق ألف درهم، ألف ومأتي درهم، فان إعطاء الألف هو مقتضى العدل وإعطاء المأتين فوقها هو مقتضى الإحسان.
2- وأما الإحسان بما هو بديل ومحتل ومضاد للعدل، فذلك كما لو دفعت مبلغ النفقة الواجب عليك لزوجتك وأولادك، وانت لا تملك غيره، لجارك أو للغريب، فان الإنفاق على واجبي النفقة واجب وهو عَدْلٌ وإهمالهم ظلم محرم، وأما الإحسان على الجار أو الفقير الغريب فهو بما هو هو مستحب، وإذا دار الأمر بين هذا وذاك رجح العدل من دون شك على الإحسان، ولذلك ورد في الحديث ((لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ))(5) وهي قاعدة عامة فإن الفرائض واجبة وملاكها شديد أكيد والنوافل مستحبة وملاكها ضعيف، ولذلك فإن النوافل إذا أضّرت بالفرائض فانها لا تكون مقرِّبة إلى الله تعالى بل تكون مبغوضة، محرمة.
وقد استنبط الفقهاء من هذه الرواية العديد من المسائل الفقهية ومنها ان الفقهاء ارتأوا بطلان الصوم المندوب ممن كان بذمته قضاء صوم واجب مطلقاً أو في الجملة، وفي العروة الوثقى (مسألة 3: يشترط في صحة الصوم المندوب مضافاً إلى ما ذكر أن لا يكون عليه صوم واجب من قضاء أو نذر(6) أو كفّارة أو نحوها مع التمكّن من أدائه وأمّا مع عدم التمكّن منه كما إذا كان مسافراً وقلنا بجواز الصوم المندوب في السفر أو كان في المدينة وأراد صيام ثلاثة أيام للحاجة فالأقوى صحته(7) وكذا إذا نسي الواجب وأتى بالمندوب فإن الأقوى صحته(8) إذا تذكّر بعد الفراغ وأمّا إذا تذكّر في الأثناء قطع ويجوز تجديد النيّة حينئذ للواجب مع بقاء محلّها كما إذا كان قبل الزوال ولو نذر التطوُّع على الإطلاق صحّ(9))(10).
المفاضلة بين العدل والجود
وبذلك كله ظهر الجواب عن الإشكال على حسن الإحسان بالرواية الواردة عن الإمام علي (عليه السلام) إذ ((سُئِلَ (عليه السلام) أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الْعَدْلُ أَوِ الْجُودُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَالْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَالْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ، فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا))(11).
وذلك أولاً: لأن الرواية في المفاضلة بين العدل والجود وليست في المفاضلة بين العدل والإحسان، والفرق: ان الجود نوع من أنواع الإحسان، بل قد لا يكون الجود حسناً وإحساناً أصلاً، كما لو كان إسرافاً وتبذيراً وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)(12) ومن أمثلته: انّ التاجر أو شيخ العشيرة أو صاحب المضيف قد يحلّ عليه ضيف فيذبح له ناقة أو جملاً أو خروفاً أو شاةً مع طعام كثيرة ثم يرمي الباقي في القمامة أو المزبلة فإن هذا وإن سمي جوداً لكنه قبيح نعم لو أرسل الفائض إلى الفقراء لكان حسناً.
وثانياً: يحتمل ان تكون هذه الرواية في سياق الرد على ما يسمى بالجود الذي جرت عادة الأمراء والولاة، على التسلح به لتكريس دعائم حكمهم عبر الإنفاق من بيت المال على الوجهاء والمتملقين تاركين عامة رعيتهم تتضور جوعاً.
وثالثاً: لأن ذلك في المفاضلة بينهما فيما إذا وقع التزاحم بينهما دون ما إذا كان الجود مكملاً للعدل وعضيداً له وسنداً، ولذلك نجده (عليه السلام) يقول: ((الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا)) فإن ذلك هو مقتضى الحكمة النظرية التي تُترجم على مستوى العقل العملي بالعدل، أما ((وَالْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا))، فذلك كما في الاعطيات المذهلة التي كان يبذلها الحكام، من بني أمية والعباس وأمثالهم، على الشعراء المتملقين الذين جهروا بالباطل لمجرد التقرب إلى الحاكم أو لنيل امارة أو الاستحواذ على مال وافر فمثلاً وكما نقل المسعودي في كتابه (مروج الذهب) أن عبد الله بن مازن دخل على يزيد بعد وفاة معاوية وهو ينشد:
الله أعطاك التي لا فوقها-----وقد أراد الملحدون عوقها
عنك فيأبى الله إلا سوقها-----إليك حتى قلدوك طوقها
وقول جرير لعبد الملك زاعماً أن الله تعالى منحه الخلافة لأنه أحق بها وأجدر:
الله طوقك الخلافة والهدى-----والله ليس لما قضى تبديل
ولي الخلافة والكرامة أهلها-----فالملك أفيح والعطاء جزيل
وابن هانئ الأندلسي يقول للخليفة العباسي المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار-----فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد-----وكأنما أنصارك الأنصار!
ويقول أيضًا:
ندعوك منتقمًا عزيزًا قادرًا-----غفار مُوبِقة الذنوب صَفوحًا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة----- لدُعيت من بعد المسيح مسيحًا
فالاعطيات لمثل هؤلاء هو الذي يخرج الأمور من جهتها التي وضعت لها.
((وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ)) لأن العدل يسع الجميع و((الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ)) لأنه لا يمكن ان يسع إلا القليل بل الأقل من القليل، وقد أوضحنا في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) ان حكمة الله تعالى جرت، على خلاف النظرية التشاؤمية المالثوسية، بان تكفي الأرض وثرواتها لسكانها حتى وقد بلغوا عتبة الثمانية مليارات أو زادوا على ذلك كثيراً وان الفقر والجوع والحرمان هي ولائد سوء التوزيع وان الأرض بما فيها وما عليها من الثروات لو قسّمت بالعدل على البشرية لما بقي على وجه الأرض فقير قط، ولذلك نجد ان دول العالم تتلف سنوياً أطناناً لا محدودة من مختلف أصناف الحبوب والأغذية، والتي قد تؤمّن الطعام لمئات الملايين من الناس، لمجرد المحافظة على سقف سعر معيّن يكفل لهم المزيد من الأرباح، وقد ورد في الحديث ((فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِك))(13) وقد فصّلنا في ذلك الكتاب البحث عن ذلك من وجهة نظر علمية – اقتصادية إضافة إلى الأدلة النقلية من آيات كريمة وروايات شريفة.
أما الجود فانه عارض خاص؛ إذ من البديهي ان بذل الأموال بأرقام خيالية، أو بأرقام كبيرة جداً، لا يمكن ان يسع إلا أعداداً محدودة فقط، إذ لا يكفي الذهب والفضة ولا النقود الورقية المطبوعة مع توفر غطاء لها، ولا سائر الثروات لإعطائها ببذخ وبدون حساب إلا لأعداد محدودة.
بين العدل في الأسرة والإحسان للأصحاب والـجِيرة
وعلى مستوى الإحسان يمكننا ان نستحضر المثال التربوي – المبتلى به الآتي، فان كثيراً من الآباء والأزواج يفرطون بحق أبنائهم وزوجاتهم، لمجرد رغبتهم في الإحسان إلى أصدقائهم أو في الترفيه عن أنفسهم، وقد تجد الكثير منهم يقضي الساعات الطوال خارج المنزل في جلسات مسامرة مع أصدقائه بينما يهمل زوجته وأولاده، وذلك محرم إذا أضر بحق الزوجة في العِشرة بالمعروف حسب قوله تعالى: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(14) أو أضر بقدرته على وقاية أهله من النار لصريح قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ ناراً)(15) فإذا تزاحم الإحسان إلى الأصدقاء (بضيافتهم أو الجلوس معهم جلسات مطولة حتى مع افتراض خلوها عن الحرام) مع وقاية الأهل ناراً وقودها الناس والحجارة، حَرُمَ الإحسان إلى الأصدقاء من دون ريب، وذلك لأن وقاية الأهل من النار تستدعي كثيراً ما تخصيص وقت جيد لهم، لتربيتهم وتزكيتهم وللجواب عن شبهاتهم أو تمهيد السبل لهم ليتواصلوا مع من يجيب عنها، أو حلّ مشاكلهم التي لولاها لتورطوا في المحرمات كارتكاب الفاحشة مثلاً.
بل لو تزاحمت وقاية الأهل من النار مع وقاية الجار منها، وكلاهما واجب، لتقدمت وقاية الأهل من دون شك، فكيف إذا تزاحمت وقاية الأهل من النار مع مجرد الانشغال بعمل غير واجب مما لا يضطر إليه أو مع الترفيه عن النفس أو حتى مع الدراسة التفاخرية أو الجمالية أو شبه ذلك.
مأساتنا تكمن في إهمال مواعظ الله تعالى
الفصل الثالث: ان مأساة المسلمين الكبرى تكمن في إهمالهم مواعظ الله تعالى في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والآية مورد البحث صريحة في انه تعالى يعظ الناس بذلك، وقد تكررت مفردة (يَعِظُكُمْ) في القرآن الكريم أربع مرات فقط، وهي:
1- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(16).
2- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَميعاً بَصيراً)(17).
3- (وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)(18).
4- (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ)(19).
ومن الواضح ان أهمية الموعظة وموقعها في مصفوفة القِيَم، تتحدد أولاً: بالواعظ نفسه ومن هو؟ هل هو الصديق؟ أو الأخ؟ أو الوالد؟ أو المرجع؟ أو الإمام المعصوم؟ فكيف إذا كان هو الله تعالى جل اسمه؟، وهذه المواعظ المصرح بها في الآيات الأربع الماضية هي مواعظ إلهية مباشرة، كما ان موقعها وأهميتها تتحدد ثانياً: بمدى خصوص الخطاب أو عمومه فإذا كانت الموعظة عامة شاملة لكل البشرية، وكانت صادرة من رب الخلائق كلها، وكانت، إضافة إلى ذلك متحددة بعناوين محدودة فقط، دلّ ذلك، على انها أهم المواعظ في حقلها على الإطلاق.
العدل والإحسان في المناهج الدراسية وعلى مستوى الإعلام
وحيث ان هذه المواعظ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) هي أهم المواعظ الإلهية الواردة بصيغة الموعظة، كان من الواجب على المسؤولين والحكام والعلماء والأساتذة والمربين وعلى كل مسلم، ان يسعوا لكي يدرجوا كافة ما وعظَنَا الله تعالى به (من العدل والإحسان و...) في المناهج الدراسية منذ الابتدائية وحتى الجامعة، وذلك كي يتربى الطلاب على منهج العدل والإحسان وكي يتعرفوا على مصاديق كل منهما وآثاره وبركاته وأضرار تركه وأخطار إهماله، وعلى آليات تحقيقه والموانع وكيفية مواجهتها وغير ذلك.
ولا شك ان بلاد المسلمين تضج بالظلم (خلافاً للعدل) والإساءة والإهمال (خلافاً للإحسان) وذلك نتيجة عوامل عديدة يقع في طليعتها وجود خلل في تثقيف الأمة بشكل عام وفي المناهج الدراسية بشكل خاص، والطريق إلى تثقيف الأمة يمرّ عبر مآت الألوف من المؤتمرات والندوات وورش العمل.. التي تتمحور حول العدل والإحسان، كمفهوم وكمصاديق وكتشخيصات موضوعية عبر دراسات علمية وميدانية، مع وضع النقاط على الحروف.
وعلى سبيل المثال فان منح المناقصات للأقرباء والأصدقاء لا شك في انه مجانب للعدالة إذا كان الآخرون أكثر كفاءة وخبروية، ومع ذلك تجد ذلك ظاهرة عامة في البلاد الإسلامية بل وحتى البلاد الديمقراطية ولكن بطرق أكثر ذكاء والتواءً، ولكنّك لا تجد في المدارس تثقيفاً على ذلك أبداً، بل ان منح المناقصات للأقرباء والأصدقاء وإن كانوا يتميزون بنفس كفاءة الآخرين، فإنها محاباة يجب ان تكون ممنوعة قانوناً لأن مقتضى القاعدة هي القرعة حينئذٍ(20)، وليس ترجيح أحد المتنافسين على الآخر لمجرد انه صديق للمسؤول أو قريب له، ولكن هل تجد في المناهج الدراسية تثقيفاً على ذلك! بل هل تشاهد زخماً جيداً من المؤتمرات والندوات والدراسات، التي تتكفل بالبحث عن ذلك وتسليط الأضواء عليه لتكوين وعي جماهيري عام وموقف مضاد شامل، إلا النزر القليل؟ وهل تجد الصحف وسائر وسائل الإعلام تقوم بدورها الأساس في رصد الخلل في أداء الحكام وشتى قراراتهم ومواقفهم؟
إذا فعلنا كل ذلك وغيره مما سيأتي فإننا نكون قد اتعظنا بمواعظ الله تعالى حيث يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
اضف تعليق