الإيمان العلمي بالله ورسوله، يشكل قاعدة نفسية صالحة، فيؤمن جانبه الداخلي. والإيمان العملي، يشكل مسلكية صالحة، فيؤمن جانبه الخارجي. وبهما معاً يكمل الإيمان. وأما الإيمان العلمي، المنطوي في داخل الفرد، من دون أن يطبع مسلكيته، فهو ادعاء يشكك في صدقه. لأن مسلكية الفرد، ليست إلا ظاهرة...
(.... فآمنوا بالله، ورسوله: النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته. واتبعوه، لعلكم تهتدون)
سورة الأعراف: الآية 158
(ف) يا أيها الناس! (آمنوا بالله) إيمان القلب واللسان والجوارح.
(و) آمنوا بـ: (رسوله). فالإيمان بالله لا يمكن أن ينفصل عن الإيمان بما قال الله، والرسول في مقدمة ما قال الله، باعتباره الوسيط المساوي، والحلقة التي تربط البشر بالله. فالإنسان الذي ليس في مستوى الاتصال بالسماء، لا يستطيع استقبال كلمات الله إلا عبر رسوله.
وهذا الرسول الذي أمر الله بالإيمان به، رسول لا يحتاج الاقتناع برسالته إلى كثير من الجهد والاستدلال، لان واقعه يثبت رسالته، فهو ذلك (النبي الأمي) الذي لم يتتلمذ على بشر، وأنبأ عن السماء بقرآن يعجز عن مثله البشر. ومن عاش أمياً، وأتى بثقافة فوق مستوى البشر، فهو رسول ينهل عن مصدر غير مصادر البشر.
وهذا الرسول، ليست رسالته مناورة سياسية يستخدمها للسيطرة والاستعلاء، ولا لعبة تجارية يطرحها لكسب الشهرة والمال، وإنما هي رسالة واقعية، تفاعل معها الرسول –ذاته– قبل أن يدعو إليها غيره، فهو (الذي يؤمن بالله وكلماته)، ولا يوجد أصدق دعوة ممن آمن بشيء ثم دعا الآخرين إلى الإيمان به.
وفي هذه اللفتة..، توجيه تربوي إلى أن الداعي لا بد أن يكون مؤمناً بدعوته، حتى يكون صادقاً ومندفعاً. والصدق والاندفاع، صفتان ترفضان التكلف، فلهما أمارات كثيرة يصعب وصفها، ولكن يسهل الإحساس بها. فيبقى الصادق المندفع، أقوى تأثيراً ممن يتكلفهما.
والإيمان بالله ورسوله، ليس كل ما يريده الله من عباده، فالإيمان الكامل هو: (التجاوب مع عقيدة ماورائية، تجاوباً يسربل المؤمن).
والإنسان له جانبان: جانب داخلي، وجانب خارجي. والتجاوب لا يسربل الفرد، إلا إذا احتواه كلياً، وغطى جانبيه معاً.
والإيمان العلمي بالله ورسوله، يشكل قاعدة نفسية صالحة، فيؤمن جانبه الداخلي.
والإيمان العملي، يشكل مسلكية صالحة، فيؤمن جانبه الخارجي. وبهما – معاً – يكمل الإيمان.
وأما الإيمان العلمي، المنطوي في داخل الفرد، من دون أن يطبع مسلكيته، فهو ادعاء يشكك في صدقه. لأن مسلكية الفرد، ليست إلا ظاهرة طبيعية لقناعاته الداخلية: فالإناء يطفح إذا امتلأ، والظاهر عنوان الباطن.
والمسلكية الصالحة، ليست كلمة تقال، ومحاضرة تلقى. وإنما هي سيرة تحتذى، وسنة تتبع.
فالرسول الأكرم (ص) كانت مسلكيته إيماناً عملياً يتطابق مع إيمانه العلمي، فانظروا إليه، (واتبعوه)، في محاولة لانتهاج المسلكية الصالحة. حاولوا أن تكرسوا الرسول في أنفسكم، وأن تتطابقوا معه في إيمانه العلمي وفي إيمانه العملي. وإذا قمتم بهذه المحاولة، فليس من المؤكد أن تنجحوا فيها، فربما نجحتم، وربما فشلتم، ولكنكم – في الحالتين – سائرون على الخط المستقيم.
ولا تلقنوا أنفسكم احتمال الفشل، ولا تقولوا: (إننا لا نملك ذاتية الرسول، فلا نستطيع التطابق معه). ولا تقولوا: (إن روحه خلق من نور الله، ولا نعرف أرواحنا مم خلقت؟) لا تلقوا بينكم وبينه حجاباً من المستحيل، ولا تكوّموا المعوقات أمامكم، ولا تحقنوا أفكاركم بالسلبيات، ولا تكفنوا مواهبكم باليأس. فلا توجد محاولة محتومة النجاح، ولا توجد محاولة محتومة الفشل، إنما الاحتمالان يتأرجحان أمام كل محاول، والإيجابيون هم الذي يتبعون بارقة النجاح، والسلبيون هم الذين يتهربون من غائلة الفشل.
والنجاح لا يعني الوصول إلى قمة القمم، فأنت لست الشخص الأول في الحياة، ولكن حاول أن لا تكون الشخص الآخر فيها. فالنجاح بقدر، وأي قدر منه خير من عدمه:
فأنت حينما تتعرض للشمس، فهل تتوقع أن تذوّب الشمس في شرايينك؟! كلا إنما تتوقع أن تغذي خلايا جسمك بما يصلحها من أشعة الشمس. وعندما تخرج إلى الهواء الطلق، فهل تريد أن تلتهم الفضاء؟! أبداً.. أقصى ما تريد، أن تستنشق من الأوكسجين أكثر مما تستطيع استنشاقه في الأماكن المقفلة. وإذا خرجت إلى السوق للتجارة، فهل تعنى بتجميع أموال الدنيا بين يديك؟! وإذا نزلت إلى معترك السياسية، فهل تهدف إلى استقطاب الناس أجمعين؟!...
إنك –في أي مجال تجول– لا تستطيع أن تنال إلا بقدرك. وقدر الناس يختلف بمقتضى اختلاف الاستعدادات، والظروف، ونوعية المناهج التي ينتهجونها، وكمية الطاقات التي يوظفونها، وعوامل أخر كثيرة، قد تخدم فرداً وتعاكس آخر. وفي نهاية المطاف: يبقى النجاح – مهما كان محدوداً – خيراً من عدمه. ومفتاح النجاح، هو: المحاولة.
وفي مجال محاولة التطابق مع الرسول الأكرم (ص)، حاول أن تتطابق معه. ولكني أؤكد لك بأنك لن تستطيع التطابق الكلي معه، ولن تستطيع التطابق معه بمقدار أوصيائه. ولكن حاول، فلعلك تستطيع التطابق معه بمقدار بعض أصحابه. فإنه لا يمكنك أن تكون علياً، أو الزهراء، أو الحسن (ع)، أو الحسين (ع). فلعلك تكون مقداداً، أو سلمان، أو أبا ذر، أو عماراً..
فإذا علمت بأنك لن تستطيع التطابق الكبير والكثير: مع الرسول (ص)، فلا يعني ذلك الاستسلام لليأس وإلغاء المحاولة، إنما يعني أن الفاصل بينك وبينه كبير. حاول أن تحلق في مستوى الرسول (ص) ولن تلحق به، حتى ولو ارتفعت أسرع من الضوء. ولكنك إذا قفزت لتحلق في مستواه، فإنك انفصلت عن الأرض وصرت في جملة المحلقين، وهذا.. مكسب كبير.
والذي يقفز بأقصى قوته ليلحق بالرسول، لن يلحق به، ولكنه يصبح فوق الآخرين، وهذا.. مكسب أكبر. ثم مهما ارتفعت، فهو خير. إنما المهم –في هذا المجال– أن تغدو على خط الرسول (ص) فهو الخط الصحيح الذي ليست فيه مطبات، ثم لا يهم ما بقي من فاصل بينك وبينه، ولو قيس بمليارات السنين الضوئية.
فاتبعوا الرسول، وعلّقوا آمالكم على احتمال النجاح –مهما كانت نسبته–، (لعلكم تهتدون*). كيفما كانت تلك (الهداية)، فهي – في جميع الحالات – (هداية)، والهداية هدف مقدس.
مباحث
س:- إن الإيمان هو: (التجاوب مع عقيدة ما ورائية، تجاوباً يسربل المؤمن). والتجاوب مع (عقيدة الألوهية) مظهر واضح لمفهوم الإيمان، ولكن التجاوب مع الرسول أقرب إلى مفهوم التصديق والاتباع من مفهوم الإيمان، فكيف أطلق الإيمان على التجاوب مع الرسول؟
ج:- للرسول (ص) جانبان، يمكن التعامل معه على أساسهما واتخاذ الموقف منه على ضوئهما:
أ ـ جانبه البشري كإنسان متفوق يلزم اتباعه. وإذا تعاملنا معه على هذا الأساس، لا يصح اتخاذ موقف المؤمن تجاهه، وإنما يصح اتخاذ موقف التابع من متبوعه، باعتباره قائداً أو قدوة.
ب ـ جانبه الإلهي كرسول (ص) يتلقى إرادة الله، للتعبير عنها تبليغاً أو تنفيذاً. وإذا تعاملنا معه على هذا الأساس، يلزم اتخاذ موقف المؤمن منه. لأن الرسولية معنى ما ورائي، لا يمكن التجاوب معه إلا من الموقع الإيماني. فالاعتراف بشخص من البشر، رسولاً من قبل الله، من الشؤون الإلهية، التي لا يمكن تناولها إلا من المنطلقات الإيمانية.
س:- إن الاعتراف بالله إلهاً، يختلف كثيراً عن الاعتراف بمحمد بن عبد الله (ص) رسولاً. فكيف عبر القرآن عن هذا الاعتراف.. وذاك.. بكلمة: (الإيمان) في إطلاقة واحدة: (فآمنوا بالله ورسوله)؟ ولو تكررت كلمة الإيمان، فقال مثلاً: (فآمنوا بالله وآمنوا برسوله)، لأمكن القول بأن الإيمانين يختلفان، وكلمة الإيمان مشتركة بين معان عديدة، وتدل على كل واحد منها بقرينة، وهي في الإطلاقة الأولى تعني شيئاً وفي الثانية تعني شيئاً آخر.
ج:- الإيمان هو: (التجاوب مع عقيدة ما ورائية...)، وهذا المعنى شامل للاعتراف: بالله إلهاً، وبعدد من الأنبياء رسلاً، وبالكتب المقدسة وحياً، وبالملائكة عباداً مكرمين.. لا فرق، لتوفر طبيعة الإيمان في كل هذه الاعترافات على حد سواء. واختلاف متعلق الإيمان –أهمية وجلالاً– لا يعني اختلاف طبيعة الإيمان.
س:- يستوحى من كلمة: (الإيمان) أنه تجاوب الأدنى مع عقيدة عليا، كما توحي كلمة: (المؤمن) بنوع رفيع من الخشوع تجاه ما يؤمن به. فكيف أطلق الإيمان على اعتراف الرسول الأعظم بسائر الرسل والملائكة: (الذي يؤمن بالله وكلماته) مع أنه أعظم من جميع الرسل والملائكة؟
ج:- صحيح أن الإيمان يستوحى منه أنه تجاوب الأدنى مع عقيدة عليا، وصحيح أن الرسول الأكرم (ص) أعظم من جميع الرسل والملائكة، ولكن يمكن النظر إلى الرسل والملائكة من زاويتين:
الأولى:- ذواتهم كرسل وملائكة. ولا شك أن سيدهم –جميعاً– هو النبي محمد بن عبد الله (ص).
الثانية:- ذواتهم في مراتبهم التي رتبهم الله فيها. وهم –بهذه الصفة– يجسدون إرادة الله في خلقه، وإرادة الله بغضّ النظر عما تجسدت فيه – من الشؤون الإلهية، وعلى النبي الأعظم أن يؤمن بكل ما أراد الله:
مثلاً: رئيس الوزراء أكبر من جميع الوزراء والموظفين في حكومته، وقد تكون له صلاحيات تخوله نقل وفصل الموظفين، ولكن لا يحق له عدم الاعتراف بأدنى موظف في وظيفته. لأن الموظف –كموظف– شيء، والموظف في وظيفته شيء آخر، فالثاني يمثل النظام، وإنكاره إنكار للنظام.
مثلاً: الرسول الأكرم –باعتباره خيرة الله– أفضل من جميع خلق الله. ومع هذه الصفة، فهو لا يغمط أدنى خلق الله أقل حق من حقوقه، لا لأن صاحب هذا الحق أفضل من النبي، وإنما لأن الله أراد الحقوق، فغمطها خلاف لما أراده الله.
فالرسل والملائكة –في مراتبهم التي رتبهم الله فيها– من توابع مقام الربوبية، والنبي الأكرم أكمل الخلق إيماناً بمقام الربوبية وبكل توابعه.
اضف تعليق