بعد أن نظم الله الكون بهذا النظام، أطلق فيه أيدي الناس، حتى يعبر كل عن ذاتياته، ويربي مؤهلاته فالكافر إذا أحسن استخدام هذا النظام، يسيطر عليه. والمؤمن إذا أساء استخدام هذا النظام، أزيج إلى المجاهل لأن الله لا يريد إلغاء هذا النظام، وإلا بطل أن يكون الكون حقل تجارب...
{وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ}. (سورة آل عمران: الآية 178)
بما أن الله ـ تعالى ـ أراد الكون حقل تجارب لذاتيات الإنسان، جعله مسخراً بنظام الأسباب والمسببات. فالمقدمات الطبيعية تؤدي نتيجتها الطبيعية، والمقدمات غير الطبيعية تؤدي نتيجة غير طبيعية: فالاحتكاك يولد الحرارة، وتكتل المواد الكثيفة يؤدي إلى جاذبية، وجاذبية الكتلة الأكبر أقوى، وامتزاج الأوكسجين والهيدروجين ـ بنسبة معينة ـ يكون الماء... ولا يمكن أن نطلب الحرارة بلا احتكاك، ولا أن نطلب الجاذبية بلا تكتل مواد كثيفة... وإذ طلبنا ذلك تكون محاولتنا فاشلة.
وبعد أن نظم الله الكون بهذا النظام، أطلق فيه أيدي الناس، حتى يعبر كل عن ذاتياته، ويربي مؤهلاته: فالكافر إذا أحسن استخدام هذا النظام، يسيطر عليه. والمؤمن إذا أساء استخدام هذا النظام، أزيج إلى المجاهل. لأن الله لا يريد إلغاء هذا النظام، وإلا بطل أن يكون الكون حقل تجارب.
وكثير أولئك المؤمنون الذين يسيئون فهم معنى (التوكل على الله)، فيتصورنه: (الاتكال على الله)، وعدم الانسياق مع نظام الكون للتغلب عليه، ظانين أن الله يتدخل لهم على حساب الكافرين، فيلغي نظام الكون ليجعل المؤمنين به أسياداً على الكافرين، كما يعمل لإثبات نبوة الأنبياء.
ولذلك: لا يحركون الطاقات التي خزنها الله فيهم، وأمرهم باستنفادها كما فعل الأنبياء، بينما الكافرون يستنفدون طاقاتهم دون انتظار أمر من الله. فيناقض المؤمنون سنة الله في الكون. مبررين موقفهم الخامل بالتوكل على الله، متجاهلين قول الله لهم:
{لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} النساء: آية 123.
ولذلك: يخسرون فرصاً كثيرة، ويهدرون طاقات وفيرة، ثم يحزنون، ولكنهم يسلون أنفسهم بأنها لم تكن خسارتهم، وإنما كانت خسارة إيمانهم، وأن الله سيعوضهم عنها أضعافاً مضاعفة في الآخرة، متناسين أن الله يعوض خسارة العمل، ويعاتب على خسارة الكسل، كما قال:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} النساء: آية 97.
بينما ينتهز الكافرون كل الفرص المتاحة، ويستغلون كل الطاقات الممكنة، ثم يفرحون، ويفسرون مكاسبهم بأنها لم تكن مكاسبهم، وإنما كانت مكاسب الكفر بالله، فيشنون الغارة على المؤمنين بأن الهكم لو كان صدقاً ـ كما تقولون ـ لنصركم علينا، ولم يدعنا ننتصر عليكم.
وهكذا.. يخسر المؤمنون موقفين:ـ
1ـ موقفاً مادياً، نتيجة الكسل.
2ـ موقفاً معنوياً، نتيجة خسارة الموقف المادي.
فيما يربح الكافرون الموقفين معاً.
وبعض الكافرين يفسرون مكاسبهم بأن الله يحبهم، بدليل أنه وفقهم، ولو لم يكن يحبهم لما وفقهم. ومن هذا المنطلق يكرون على المؤمنين، بأنكم مخطئون في فهم الله ونحن مصيبون، بدليل أن ينصرنا عليكم في كل المباريات.
وهنا.. يتدخل القرآن ليلقي الضوء على الموقفين:ـ
1ـ فالمؤمنون مخطئون في اتكالهم على الله، وسوء فهمهم لمعنى التوكل على الله. لأن الله أمرهم بالعمل، ونهاهم عن الكسل، وهيأ لهم الاستفادة من الفرص والطاقات، فأهملوها، فخسروا وغلبوا.
والله يعوض خسارة العمل، ويعاتب على خسارة الكسل:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...}(35).
2ـ والكافرون مخطئون. فالله ـ تعالى ـ عندما أطلق أيديهم في الكون، لم يطلقها حباً لهم أو تصديقاً لفهمهم الله، وإنما أطلقها ليجربهم. ولم تكن تجربتهم ليعرف الله واقعهم، حتى يغل أيديهم فور ما يسيئون، وإنما تجربتهم تعني تربية ذاتياتهم، حتى يبلغوا قممهم وتتفتح صفاتهم الغمضة، التي هي النار أو تلتقي مع النار. ولا يمكن أن يبلغ الكافر مداه، إلا إذا بقيت الفرص مفتوحة أمامه، وإلا تصبح صفاته مكبوتة فلا تتفتح.
فالله يمهله، حتى تسول له نفسه أن الله يملي عليه السيئات، ويشجعه على الكفر. ولكن من دون أن تختلط لديه الحقيقة، لأن الله يوضحها له بحججه وآياته، وإلا لبقي قاصراً لا يصح عقابه.
ولكن: كما كسل المؤمنون فبرروا كسلهم بالإيمان، من غير أن ترتبك عندهم الحقيقة، كذلك: ينحرف الكافرون فيبررون انحرافهم بنفي الله، وبأن الله يحب خط الانحراف، من دون أن تختلط أمامهم الحقيقة.
وكما أشار القرآن إلى نقطة الضعف لدى المؤمنين، حتى لا يظلوا مخطئين، فقال:
{إن الذين توفاهم الملائكة...}، هكذا.. يشير القرآن إلى نقطة الضعف لدى الكافرين، حتى لا يظلوا مخطئين، فيقول:
{ولا يحسبن الذين كفروا: أن ما نملي لهم} من إطلاق أيديهم في الكون رغم معرفتنا بهم؛ لا يحسبوا أنما نملي لهم {خير لأنفسهم}، فهم على صواب في كفرهم، أو على صدق في فهمهم المنحرف لله؛ و{إنما نملي لهم}، ونتركهم يتحركون بلا قيود تكوينية، ليكشفوا هوياتهم كشفاً كاملاً لا مهرب فيه: {ليزدادوا إثماً} حتى لا تبقى لهم حجة على الله، فلا يستطيعوا أن يقولوا لماذا يعذبنا الله؟ فقد أثبتوا أنهم أهل للعذاب. فإننا نعلن ـ من الآن ـ وهم لا يزالون في الدنيا، ولا يزالون قادرين على تغيير خطهم؛ نعلن لهم: أن هذا الإملاء إنما هو لكشفهم، {ولهم} بكفرهم وانحرافهم {عذاب مهين}.
فلا كل إمهال تقرير، ولا كل باب مفتوح يصح اقتحامه. ومن يكفر بالله إنما يطوق نفسه، ومن يقترف السيئات إنما يستهلك ذاته.
وقديماً: ـ يوم كان الناس يزنون البضائع بقطع من الطين ـ ذهب رجل يشتري السكر، فوضع البائع قطعة من الطين في الميزان وذهب ليأتي بالسكر، فاستغل المشتري غياب البائع، فسرق شيئاً من الطين الوزنة، وأكله ـ لأنه كان مصاباً بحب أكل الطين ـ، ورمقه البائع بطرفه، فأكثر من الذهاب والإياب، ليوفر للمشتري فرصة استراق أجزاء من الطين، لأنه يخفف الوزن، فيدفع سكراً أقل ويستوفي الثمن الكامل. والذي استرق الطين، أضر بنفسه من أكل الطين، وأخذ سكراً أقل من حقه.
وهكذا.. يكون الذي يغترون بإمهال الله لهم، فيغترفون السيئات؛ يضرون بأنفسهم، ويفوتون فرصهم: فالزاني ـ مثلاً ـ يدفع تكاليف الزنا من أعصابه وماله، ويفوت على نفسه فرصة استغلال طاقته الجنسية في الطريق المطمئن. والذي يأخذ الربا، يدفع ثمن ضعضعة الاقتصاد والصراع الطبقي، ويفوت فرصة استغلاله في التجارة. والذي يكفر بالله، يتحمل مردود الإلحاد، ويفوت فرصة الاستفادة من عقيدته في الشجاعة والاستقرار.
اضف تعليق