الناس يتصورون المقتول في سبيل الله خاسراً، فهل يمكن تصور خسارة أكبر من خسارة الحياة إنها خسارة كل شيء ـدفعة واحدة خسارة لا يمكن ملافاتها. فمن قتل: خسر رأس ماله كله، فانتهى، وانتهت محاولاته، وأقفلت الفرص أمامه. ويناقض القرآن هذا التصور بشيء من الاستخفاف فيستخدم...
{وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
(سورة آل عمران: 169 ـ 170)
(1)
الناس يتصورون المقتول في سبيل الله خاسراً، فهل يمكن تصور خسارة أكبر من خسارة الحياة؟! إنها خسارة كل شيء ـ دفعة واحدة ـ خسارة لا يمكن ملافاتها. فمن قتل: خسر رأس ماله كله، فانتهى، وانتهت محاولاته، وأقفلت الفرص أمامه.
ويناقض القرآن هذا التصور بشيء من الاستخفاف، فيستخدم كلمة: (تحسبن) التي تعبر عن رؤية بلا ضوء، التي هي ضرب أخماس بأسداس. وبصيغة المفرد: (لا تحسبن)، لا بصيغة الجمع، وكأنه حسبان فرد لا حسبان جماعة، فهو حسبان معرض لبعد كبير من الواقع.
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله}؛ لا تحسبنهم ـ أيها الإنسان! المسجون في جسم ثقيل، مقفل بالحواس الخمس:
{أمواتاً} معطلين عن الحركة والنشاط. {بل} القتلى في سبيل الله {أحياء}، ولكن لا عندك في حياتك الضعيفة المظلمة، وإنما {عند ربهم} في حياة أرحب وأنور.
وعند ربهم لا عند ربك، وكأنما الآية تربط هذا الحسبان بعدم الإيمان بالله. فأنت ـ عندما تحسب ذلك ـ تعبر عن عدم إيمانك بربك، وقد تكون مؤمناً بالمادة. ولكنهم ـ عندما ضحوا بحياتهم ـ كانوا مؤمنين بربهم، فنقلهم ربهم من عندك إلى عنده. فهم أحياء عنده. ويتمتعون بكل مظاهر الحياة المادية والروحية، فهم:
1ـ {يرزقون} فيتنعمون بأفضل مما كانوا يتنعمون.
2ـ يفرحون، فهم في نشاط روحي، ومغتبطون على عمليتهم الشجاعة التي نقلتهم إلى الأفضل. ويرون المكسب الذي نالوه أكبر من تضحيتهم، فهم لا يرونه جزاءً، وإنما يرونه فضلاً من ربهم بلا استحقاق:
{فرحين بما آتاهم الله من فضله}.
3ـ لا يرون أنفسهم قتلى، ولا يعتبرون أنفسهم منفصلين عن هذا العالم، وإنما يرون أنفسهم متقدمين ويرون أقرباءهم وأصدقاءهم متخلفين، فيبعثون إليهم عواطفهم، ويطمئنونهم على أحوالهم:
{ويستبشرون بالذين} تخلفوا عنهم، و{لم يلحقوا بهم}، وظلوا متخبطين {من خلفهم} في مخاطر الدنيا. فيستبشرون بالمتخلفين {أن} التحقوا، و{لا خوف عليهم} من اختراق جدار الدنيا، ولا خسارة في التسلل منها إلى رحاب الله، {ولا هم يحزنون}، لأنهم لا يخسرون شيئاً، بل هم الرابحون الربح الأكبر فيعاملون أهليهم كما يعامل أهله من انتقل من مجتمع متخلف إلى مجتمع متقدم.
ولكن: ما هي ماهية حياة الشهداء؟ هل هي حياة الروح ـ بعد تعطل الجسد ـ المتوفرة لكل الأموات، أم نوع آخر من الحياة؟؟
الآية تلقي ضوءاً قوياً على حياة الشهداء خاصة، وتعدد لها مظاهر مشابهة للحياة الدنيوية. فـ{يرزقون} و{فرحين}، هذه النقاط ـ بالذات ـ تهدف إلى إيضاح تشابه كبير بين الحياتين.
فيحتمل:
1ـ أن يكون الله قد قص الشهداء ـ الذين ضحوا بحياتهم في سبيله ـ بنوع من الحياة مشابه لحياتهم قبل الشهادة، زيادة على حياة الروح المتوفر لجميع الأموات، فهم بعد الموت ـ في عالم البرزخ ـ لا يختلفون كثيراً عنهم قبل الموت. وبذلك توحي الآية الكريمة، حيث تحاول إيضاح: أن الشهيد يختلف عن الذي يموت حتف أنفه، فالأول يبقى حياً، بينما الثاني يغدو ميتاً. فلا بد أن الله يخلع على الشهيد نوعاً من الحياة خاصاً به دون سواه.
ويقول أقرباء الذين قتلوا بالقنبلة الذرية في (هيروشيما): أن قتلاهم يزورونهم في حالة اليقظة، ويبادلونهم العواطف ـ كما عندما كانوا أحياء ـ ولكن من دون أن يروا. فهل هذا... شيءٌ من حياة الشهداء؟.
2ـ أن تكون الحياة بمعنى هدفها، وهو التأثير. فالحي هو الذي يؤثر، والميت هو الذي يتأثر فالذي يؤثر ويغير، فهو حي وإن كان تحت الأرض. والذي يتأثر ويتغير، فهو ميت وإن كان فوق الأرض.
فالحياة والموت لهما مفهومان، مفهوم مادي ومفهوم معنوي:
1ـ فالحياة بالمفهوم المادي هي الثبات، والموت بالمفهوم المادي هو الفناء. وثبات الإنسان يمكن أن يتصور باعتبارات ثلاثة:
أـ باعتبار جسمه المادي الظاهر. ولا حياة للإنسان بهذا الاعتبار، إذ لا ثبات للجسم: فخلاياه تحترق بحرارة الجسم، وتعوض بخلاصة المأكولات. وبعض خلاياه، تفنى وتعوض باستمرار. وكل الجسم يتبدل ـ تماماً ـ كل بضع سنوات مرة. فهو أشبه بماء النهر، الذي يدخل من جانب وينصرف من كل الجوانب فتدخل الجزيئات في الجسم من طريق فمه، وتستهلك من كل أطرافه. فكل جزيئة تحترق وتعوض، إنما تموت وتنشر، فالجسم ليس أكثر من مسرح للصراع بين الموت والحياة، فهو لا حي ولا ميت، إذ ليس له ثبات كلي ولا فناء كلي، وإنما ثبات جزئي مقرون بفناء جزئي. فلا ثبات للإنسان، باعتبار جسمه المادي الظاهر.
ب ـ باعتبار الزمان. ولا حياة للإنسان بهذا الاعتبار، إذ لا ثبات للزمان. فالزمان وليد حركة الكواكب، والحركة ـ ذاتها ـ ليست ثابتة، فكيف يكون ما يتولد منها ثابتاً؟!
بالإضافة إلى: أن الزمان ليس شيئاً، وإنما هو مجرد اعتبار، كالأبعاد الثلاثة.
وفي الزمان آراء كثيرة، فمن الفلاسفة من يقول: (إن الزمان ليس موجوداً. لأن الماضي منه فان، والمستقبل منه غير متحقق، والحال غير موجود. لأن كل جزء ذهني من الحال، ينقسم ـ بالدقة ـ بين ما مضى فهو فان، وبين ما يأتي فلم يتحقق بعد).
ج ـ باعتبار جسمه المادي المستور. وذلك الجسم، كيان كامل ضمن هذا الكيان. وهو جسم مادي ولكنه لا يتحلل، ويتجزأ بعد الموت ولكنه لا يهضم إذا دخل في معدة، وهو يمثل ثبات الإنسان ـ رغم احتراق خلاياه ـ، فنحن نقول لصديق ـ مثلاً ـ: (كنت قبل عشرين عاماً تفعل كذا.. وتقول كذا..) رغم علمنا ـ معاً ـ بأن جسمهم المادي الظاهر الذي كان قبل عشرين عاماً، قد احترق ولم يبق منه شيءٌ، ولكنا نخاطبه ونعاقبه أو نثيبه بآثار أعماله قبل عشرين عاماً، باعتبار جسمه المستور الثابت، وهو: (الجسم المثالي) في مصطلح بعض الفلاسفة ـ.
ولكن: هذا الجسم المستور لا يمثل حياته، فهو يرافقه حتى بعد موته.
فحياة الإنسان، بمفهومها المادي وهو الثبات المادي، غير موجودة.
وعندئذٍ: تبقى الحياة بمفهومها المعنوى، وهو الثبات المعنوي، أي: التأثير الذي هو هدف الحياة. فالحي هو الذي يؤثر وإن كان تحت التراب، والميت هو الذي يتأثر وإن كان فوق التراب: فمن كانت له إرادة فاعلة، ولو بمقدار: تقديم نفسه، أو تربية عائلته، أو تحصين بيته، أو توجيه أسرته الكبيرة: شعبه أو أمته؛ فهو حي، تقدر درجة حياته بدرجة فعل إرادته. ومن لم تكن له إرادة، أو انهزمت إرادته أمام الإرادات الفاعلة في الحياة، باقتحام أسرته الكبيرة: أمته أو شعبه، أو بتكييف بيته، أو بتغيير عائلته، أو بجرف نفسه؛ فهو ميت، تقدر درجة موته بدرجة انهزام إرادته. أولم يقل الإمام علي (عليه السلام) لجيشه: «فالحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين»؟!
والشهيد هو الذي تصدت إرادته لأ على درجات الفعل، وهو الاقتتال في سبيل توجيه أسرته الكبيرة: شعبه أو أمته. فهو حي بأعلى درجات الحياة، وإن كانت حياته مختلفة عن حياتنا، المحجوبة بحجب الجسم.
وتستمر حياة الشهيد ما دامت ذكرى شهادته تفعل لتقويم الأفراد وتوجيه الجماعات، وقد ينسى اسم شهيد، ولكن نتائج شهادته، ونتائج نتائجها؛ تتسلل في الصراع الدائم بين الحق والباطل.
(2)
{ولا تحسبن} ولا يخيل إليك ـ يا أيها الإنسان! ـ أن {الذين} كرهوا الحياة الرخية الرخيصة، وأحبوا الحياة المانحة المحركة، ورفضوا الاسترسال مع التيار، وقبلوا السير بإرادة، فاشتركوا في احتكاك قوى الخير والشر، وضحوا حتى {قتلوا} لا في سبيل الأفكار الجانبية، ولا في سبيل المصالح المحدودة بحدود الشعوب والبلاد، وإنما قتلوا في سبيل المصالح العليا العامة، الذي هو قتل {في سبيل الله}؛ لا تأخذ ـ أيها الإنسان! ـ هذه الطليعة الرائدة من البشر مأخذ الحواس المحدودة، ولا تقودك جثتهم الهامدة إلى اعتبارهم {أمواتاً}، فهم ليسوا كسائر الناس إن همدت أجسادهم فهم أموات، {بل} هؤلاء {أحياء}.
فمن لم يمت حتف أنفه، يبقى متمتعاً بنوع أفضل من الحياة، حتى يحين أجله المحتوم، فعند ذلك: ينتقل إلى عالم الآخرة.
وليس الشهداء في سبيل الله أحياءً في حياة مليئة بالآلام، وإنما هم أحياء {عند ربهم} في دنيا أفضل، في دنيا لا نعرفها، ولا تسهل معرفتها علينا، فيكفي أن نعلم عنها أنها حياة عند الله.
وتلك الحياة التي يعيشها الشهداء عند الله، ليست حياة (الجنة) يوم القيامة، وإنما هي حياة تشبه حياتنا ـ وربما هي داخلة في عمق حياتنا الدنيا ـ، ولها كل مظاهر حياتنا الدنيا.
فهم:ـ
1ـ {يرزقون} كما نرزق نحن، وإن كانت نوعية الرزق تختلف قليلاً أو كثيراً. فهم ـ على أي حال ـ في طريق النمو والكمال، اللذين لا يتمان إلا بالارتزاق، الذي هو السبب المباشر للنمو والكمال.
2ـ تعتريهم الحالات النفسية المختلفة، التي تعترينا على أثر الملايمات والمعاكسات. ولكنهم لا يعانون ما يكرهون، وإنما يتمتعون بما يستريحون إليه. فهم يقضون {فرحين بما آتاهم الله من فضله}، حيث من عليهم بالشهادة حتى استحقوا الانتقال إلى تلك الدنيا الحبيبة.
3ـ {ويستبشرون} بأن أجيالاً من ذرياتهم، ستصل إليهم في قوافل الشهداء، فتنعم بما ينعمون به. وكل سلف فاز بنعيم، يتمناه لخلفه.
سؤال:
ولماذا الشهداء وحدهم؟! أليس من عقيدة الإسلام، أن الإنسان لا يموت بروحه، وإنما يموت بجسده وحده، الذي هو مجرد وعاءٍ لجوهر الإنسان، الذي هو الروح؟!
جواب:
1ـ نعم.. ولكن من لا يموت حتف أنفه، وإنما يموت بالأجل المعلق؛ يبقى في عالم ثالث بين الدنيا والآخرة، حتى يحين أجله المحتوم، فينتقل إلى عالم الآخرة، وذلك العالم للشهيد أفضل من عالم الدنيا.
2ـ إن الذي يموت حتف أنفه، ينقل به ـ برغمه ـ من عالم إلى عالم. كالجندي المكلف، ليس له في انتقاله من الدنيا فضل يستحق به جزاءً، بينما الذي يستشهد في سبيل الله، كالجندي المتطوع الذي له في انتقاله من الدنيا فضل يستحق به جزاءً. لأنه ترك كل آماله ورغباته في سبيل الله، فلا بد أن يثيبه الله على ذلك بما لا يثيب به غيره.
اضف تعليق