(4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(1)
بصائر الوحي في الآية الكريمة
إن انتقاء المفردات في القرآن الكريم يخضع لمعادلات دقيقة وقواعد متنوعة تتوزع بين قواعد علم النفس وعلم الاجتماع ومعادلات عالم الغيب والميتافيزيقيا ودقائق فقه اللغة وغيرها، ومن ذلك انتقاء مفردة (الشك) في هذه الآية الكريمة وسلسلة من الآيات الأخرة، على العكس من آيات أخرى استعملت فيها مفردة الجهل أو الجاهلين أو شبه ذلك.
فوارق الشك والجهل
فقد قال تعالى ناقلاً عن لسان الكفار قولهم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) فلماذا لم يقل مثلاً: واننا لفي جهل مما تدعوننا إليه أو وإنا جاهلون بما تدعوننا إليه؟ ان السبب يعود، فيما يعود، إلى فوارق الشك عن الجهل:
1- فان الجهل هو عدم العلم بالجامع أو بالخصوصيات، أو عدم إدراك الكلي أو الجزئي، اما الشك فليس هو عدم الإدراك المحض بل ان الشك يستبطن الانكار أيضاً ففي مقام المحاجّة والجدل مثلاً عندما يسوق أحد الطرفين حجة لا يقوى الآخر على ردها فانه يقول حينئذٍ انني شاك في صحة هذه النظرية أو الدليل ولا يقول انني جاهل.
2- والجهل مجرد حالة من اللاادرية والسلبية أما الشك فكأنّه يتضمن نوعاً من الإيجاب أي البناء على تساوي كلا الطرفين.
3- والشك مرحلة متقدمة عن الجهل، فان الشاك كأنه أعمل اجتهاده أو استفرغ وسعه، بزعمه أو حقيقةً، فلم يحرز صحة كلام الطرف الآخر أو صحة فكرة أو رأي أو معتقد أو نظرية، اما الجاهل فهو جاهل فحسب.
4- والشك يحتاج إلى سبب ومثير، عكس الجهل الذي تكفيه عدم وجود علة العلم أو المعرفة.
5- وتعريف بعضهم الشك بانه (تردد الذهن بين أمرين على حد سواء)، يفيد ان الشك قائم بركنين متضادين أو متناقضين أو متماثلين إلى الجهل فمجرد عدم العلم بطرف واحد.
نعم قد يقال بانهما مما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا وانه قد يتوسع في استعمال أحدهما مكان الآخر. فتأمل
والظاهر ان الكفار كانوا شاكين بالرسل إذ كانوا مهاجمين (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) لذا اضافوا الريب أيضاً ولذا نجد ان الشك يوصف بالريب أي بانه مريب دون الجهل فلا يقال انني لفي جهل من أمرك مريب، كما انهم كانوا منكرين ولم يكونوا، بزعمهم، مجرد جاهلين بأمر الدعوة وصحتها، وكأنهم يقصدون انهم درسوا الأدلة والشواهد ومع ذلك شكوا في دعوة الأنبياء وترددت إذهانهم بين كونها عن سحر مثلاً أو عن شعر أو عن كهانة أو عن حق أو عن غير ذلك.
ومعرفة الفارق بين الجهل والشك أمر هام جداً في تشخيص حالة الأمة أو الجماعة أو الفرد، أولاً، ثم في عملية اختيار النوعية الناجعة لمعالجة تلك الظاهرة، ثانياً.
أسباب الشك وبواعثه
سبق الكلام عن بعض عوامل الشك وأسبابه وبواعثه وعلله، ونضيف ههنا عللاً أخرى:
رابعاً: انهيار لَبِنَة في جدار البنيان المعرفي
السبب الرابع: وذلك لأن المعارف تتشكل عادة في شكل منظومات معرفية حتى تغدو كبنيان متكامل في بُعد واحد أو بُعدين أو أكثر أو في شتى الأبعاد، فالإسلام مثلاً منظومة معرفية وكذلك المسيحية والبوذية وكذلك الإلحاد والكفر وهكذا، ولا نقصد من كونها منظومة معرفية كونها على الحق أو كونها صحيحة مطابقة للواقع، بل المقصود ان المسيحية مثلاً مجموعة من القناعات أو المعتقدات أو القيم التي يترابط بعضها مع بعض على شكل بنيان معرفي، فكما نجد في الماديات ان للبيت بنياناً وهيكلية مترابطة بنحو ما، كذلك العلوم والمعارف.
ومن هنا ننطلق إلى نقطة تعدّ هي الأساس لهذا البحث وهي: انه كما ان بنيان الدار قد ينهار بانهيار لَبِنةٍ من لبناته فكذلك البنيان المعرفي للأفراد أو التجمعات أو الأمم أو الحضارات.
اللَّبِنات الأساسية
وكما ان بعض اللبنات في الدار قد تكون هي الأساس للبناء كله نظراً لكونها هي البنية التحتية له، بينما لا يكون البعض الآخر كذلك، فكذلك بعض اللبنات في البناء المعرفي قد تكون جوهرية أساسية تبتني عليها المنظومة المعارفية كلها أو أقسام واسعة منها وبعضها ليس كذلك.
فأصول الدين في المنظومة المعارفية هي أساس، والعدل والإمامة في المنظومة المعارفية الشيعية هي الأساس والتثليث في المسيحية هي الأساس، وذلك على العكس من بعض تفاصيل البرزخ أو المعاد وعلى العكس من بعض المسائل الشرعية الفرعية في الطهارة أو غيرها.
والشك والتشكيك في المنظومة المعرفية كثيراً ما يبدأ من استهداف لبنةٍ ومفردة معينة قد تكون هي نقطة الضعف في المنظومة كلها وقد يستدعي انهيار الاذعان أو الاعتقاد بهذه المفردة انهيار الاعتقاد بالمنظومة كلها، وفي المقابل قد لا تكون نقطة الضعف تلك أساسية ولا جوهرية وإنما يتوهم الشخص كونها كذلك فإذا شكك الفرد فيها فانه قد يسري تشكيكه إلى غيرها كما تسري النار في الهشيم وذلك سواءً كان شكه مبرراً أو لا.
كعب أخيل: ونقطة الضعف المُميتة
والمعروف التمثيل لنقطة الضعف الجوهرية في البنيان المعرفي التي تؤدي زعزعتها إلى زعزعة البنيان بأكمله، بكعب أخيل، وأخيل (واسمه الكامـل اخيليس) حسبما تزعــم الأسطورة كــان ابناً للمــلك ميرميدون وكان بقربهم نهر يســمى (سيتكس) يزعمون انه يمتلك بعض الخواص الخارقة أو السحرية وهي ان الوليد لو غُمس في النهر فانه سيحصل على حصانة في مقابل الموت فلا يمكن للسهام أو السيوف أو الحروب أن تخترق بدنه، وسيكون الفارس البطل الذي لا يقهر ويكون من الخالدين!.
وعندما ولد أخيل حملته أمه فوراً إلى النهر السحري وغمسته في ماء النهر عارياً وهي ممسكة بكعب رجله فغمسته من رأسه في الماء إلى كامل بدنه لكنها غفلت عن ان المياه الخارقة لم تلامس كعبه الذي كانت ممسكة به، فكان كعبه هو نقطة الضعف الوحيدة في بدنه الجبّار.
واشترك أخيل عندما كبر في حروب كثيرة وخرج منتصراً منها جميعاً، إلا انه في اخر معركة بين الاغريق والطرواديين أصاب سهم مسموم كعبَه فسري السهم إلى بدنه ومات.
وهكذا أصبحت أسطورة كعب اخيل مثالاً رمزياً يراد به نقطة الضعف المميتة في أي بنيان ضخم محصن وقد يكون مدينة حصينة أو قد يكون منظومة علمية أو معرفية متكاملة.
وكما يتسبب تحطيم هذه النقطة في أي بنيان ماديّة أو معرفي في تحطيم البنيان بأكمله كذلك يتسبب التشكيك فيه في التشكيك في البنيان المعرفي كله.
منهجية الغرب في نسف منظومة المعارف عبر تضخيم نقطة ضعف واحدة
وحيث عرف الغرب هذه الحقيقة انطلق العديد من باحثيه ومراكز دراساته بقوة نحو تحديد نقطة الضعف في المنظومة المعرفية الإسلامية ثم إذ اكتشفوها، بزعمهم، جنّدوا كافة طاقاتهم لضربها وتحطيمها وتدميرها كي تكون الطريق الأرحب للتشكيك في سائر الحلقات مهما كانت قوية مستعصية على التشكيك والرفض، ومن هنا نجدهم يركزون مثلاً على بعض تصرفات بعض الصحابة في الصدر الأول معتبرين انها المرآة، بزعمهم، لِقَيم الإسلام وقوانينه ومبادئه وان استهدافها وضربها يشكل، في الحقيقة، استهداف قِيَم الإسلام بأكملها.
ولكن، وكما سبق فانه ليس بالضرورة ان تكون كل النقاط التي يستهدفها الآخرون، نقاط ضعف حقاً بل قد تكون متوهمة الضعف، كما ان العكس صحيح فليست كل النقاط التي يستهدفها الآخرون هي نقاط سليمة متوهمة الضعف بل قد تكون نقاط ضعف حقاً فيجب، للوصول إلى الحقيقة، التمييز بين النوعين (نقاط الضعف الواقعية ونقاط الضعف المتوهمة) بكل دقة وموضوعية.
اللامنهجية في معالجة القضايا التاريخية
ولعل من أبرز نقاط الضعف التي قد يستهدفها الآخرون في بعض باحثينا هي عدم تحريهم الدقة في النقولات التاريخية وعدم خبرويتهم في الطرق العلمية المنهجية لاستكشاف ما قد يكون قد جرى في مجاهيل التاريخ، وهكذا نجدهم يترصدون نقطة ضعف بحثية واحدة تعاني من ركاكة في المعالجة أو سطحية في النظرة أو أخطاء في المنهجية، لكي يشككوا الشباب الجامعي ونظائره في مجمل ما ينقله الباحثون أو العلماء المسلمون من قضايا أو تحليلات تاريخية في شتى الأبعاد الانتربولوجية والسيسيولوجية وغيرها.
ثم ان التحليل العلمي وكما أشرنا إليه، يقودنا إلى ان البناءات المعرفية بكافة مفرداتها قد تكون مترابطة بكافة مفرداتها ترابطاً ثبوتياً واقعياً، وقد لا تكون مترابطة بل تكون مجرد متوهمة الترابط.
قصة الصوفي الوهابي الذي صار شيعياً!
والحادثة التالية تشير إلى نموذج هام من المفردات المعرفية التاريخية – المذهبية المترابطة: ففي إحدى البلاد، التي عصفت بها حرب مدمرة أخيراً، قام الوهابيون بتأسيس سلسلة من المدارس التي تستهدف تغيير مذاهب الناس إلى الوهابية وقد تضمنت مجموعة من المدارس التي تتخذ من تحفيظ القرآن الكريم وسيلةً لاصطياد الناس، وفي إحدى المناطق التي يكثر فيها أتباع الطريقة الصوفية افتتحوا مدرسة ما لبث ان انتمى إليها شاب مراهق صوفي ذكي أذهل معلميه بحافظته الجبارة فبذلوا قصارى جهدهم لتحويله إلى الوهابية فتحول إليها، والملفت انه كان من مناهجهم تحفيظ المسمى بصحيح البخاري، وقد حفظ هذا الشاب البخاري كله بأسانيده في أربعة أشهر وذلك مما يقل بل يندر!!، وحين ترقّى في أسبابهم أَولَوه المزيد من الرعاية حتى أصبح وهابياً متطرفاً.
بعد ذلك حرّضوه على أن يؤلف كتيبات ضد الشيعة باعتبارهم أعدى أعداء الإسلام(!!)، حسبما صوّروا له، وعندما وافق بحماس اعطوه محوراً وحددوا له مصادر على ان لا يتجاوزها كي يضمنوا بقاءه داخل أسوارهم ولا يطّلع على ردود علماء الشيعة وأدلتهم وحججهم وبراهينهم التي قد تقلب معتقداته رأساً على عقب.
ولقد التزم ذلك الشاب بالخطة المحددة وكتب كتباً عديدة وقد طبعوها بأعداد كبيرة.
تدليس الشيعة في تسقيط الصحابة!
ثم حددوا له محوراً آخر وهو محور (كذب الشيعة وتدليسهم في تسقيطهم للصحابة) وحددوا مفردة هامة أخرى طلبوا منه ان يكتب حولها كتيباً، وهي كذب الشيعة في افترائهم على كاتب الوحي(!) وأمير المؤمنين(!) معاوية حيث اتهمه الشيعة بانه كان قد أمر بسبّ علي بن ابي طالب على سبعين ألف منبر وسلموه بعض الكتب – كتبهم – التي تدل على عمق صداقة معاوية وعلي(!) وان حرب صفين لم تكن إلا حدثاً طارئاً وغيمة تقشعت سريعاً ثم عادت أواصر المحبة بعدها بين هذين الصحابيين كأوثق ما تكون!
وقد نقل لي هذا الشاب قصته شخصياً عندما جاء لزيارتي بالحوزة العلمية الزينبية إلى جوار حرم السيدة زينب عليها السلام فقال: عندما سمعت منهم ذلك وقرأته في بعض الوثائق التي سلموها لي ذهلت لوقاحة الشيعة وعمق تدليسهم، ولكي يزداد البحث ثراءً والبراهين قوة قررت تجاهل الخطة المحددة لي بعدم تجاوز الكتب المصدرية المحددة لي، ولم أخبرهم بذلك كي لا يمنعونني، بل فكرت انها ستكون – بعدها – مفاجأة سارة لهم انني استعنت بمصادر إضافية لدحض معتقدات الشيعة.
يقول: فذهبت إلى إحدى المكتبات وبدأت البحث والتنقيب في رحلة غيرت مجرى حياتي كله! إذ انني عثرت في أثناء البحث على روايات عديدة من طرق أهل السنة تصرح بان معاوية كان قد أمر بسب علي بن أبي طالب على سبعين ألف بل – وحسب رواية أخرى – على تسعين ألف منبر! يقول: وتتبعت أسانيد الروايات فوجدت احدها صحيحاً اعلائياً بكافة أسانيد رجاله حسب تصريحات كبار رجاليي أهل العامة كابن حبّان وغيره...
وههنا حدث الزلزال المعرفي لدى هذا الوهابي المتحمس... يقول: أصبت بالذهول!... فيا للهول!.. يبدو ان علماء السنة الذين كتبوا عن هذا الموضوع أو أشباهه هم الكاذبون المدلسون للتاريخ وللحقائق وليس الشيعة...
ثم انطلق هذا الشاب الذكي الباحث عن الحقيقة في رحلة بحثية طويلة انتهت بان أصبح من الدعاة إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وما اكتفى بذلك حتى قرر ان يتواصل مع كبار علمائهم فمن رأى فيه إنصافاً ناقشه وأرشده وهداه، وقد تشيع على يديه بالفعل عدد من أعلامهم الذين أخفوا ذلك تقية وخوفاً من بطش الوهابية قال تعالى: (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)(2).
وهذا الانموذج يكشف لنا جانباً من الترابط المعرفي بين مفردات المنظومة المذهبية؛ فان نظرية عدالة الصحابة التي اعتبروها الأساس للكثير من الأمور والمصدر المعتمد لكثير من الأحكام الشرعية، تنهار بأكملها عندما يثبت، في بحث علمي، فسق بعضهم فكيف بضلالهم؟ ثم: كيف بكفرهم وانقلابهم على الأعقاب، ولو في موقف واحد!.
أنواع البناءات المعرفية، وموقع نقاط الضعف فيها
ولكن ذلك لا يعني ان المفردات في البناءات المعرفية كلها من هذا القبيل؛ وذلك لأن النظرة العلمية الفاحصة تقودنا إلى ان البناءات المعرفية على ثلاثة أقسام:
1- البنيان الذي يشكل الحق طابِعَهُ العام
البناء المعرفي المتكامل الذي يشكل (الحق) و(الصدق) طابِعَهُ العام، والذي قد تتسرب إليه، عفواً أو بتخطيط ايادٍ مغرضة، مفردة خاطئة باطلة، ومن الطبيعي ههنا ان بطلان هذه المفردة بالذات أو التشكيك فيها لا يصح ان يقود إلى التشكيك في سائر المفردات؛ فانها مفردة أجنبية عن البناء المعرفي كله.
2- البنيان الذي يكوّن الباطل طابِعهُ العام
عكس الصورة الأولى وهي البناء المعرفي الذي يشكل (الباطل) و(الكذب) طابعه العام، وقد تسلسلت إليه مفردة حقٍّ ونورٍ وهدى، بتخطيط أو من دونه، وههنا لا يصح الاستدلال بصدق هذه المفردة وصحتها على سلامة البناء المعرفي بأكمله؛ فان الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.
3- البنيان المزيج الخليط
البناء المعرفي الذي يتكوّن من المزيج الخليط من الأمرين معاً وهو الذي يعج بمفردات حق وبمفردات باطل معاً، ومن الواضح ان صدق أية مفردة أو كذبها لا يقود إلى صدق أو كذب سائر المفردات.
ولعل من أهم طرق اكتشاف الحقيقة ومعالجة ظاهرة التشكيك عند دراسة أي بناء معرفي، هي التمييز بين هذه الأقسام الثلاث واكتشاف نوعية هذا البناء المعرفي وانه من أي نوع من هذه الأنواع، وذلك هو ما يستدعي بحثاً من نوع آخر وقد أفردنا له كتاباً خاصاً أسميناه (الضوابط والسبل الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
وعند معرفة هذه الحقائق يسهل إلى حد كبير رصد ظاهرة التشكيك في الكثير من حالاتها؛ فاننا عند ذلك قد نكتشف ان موجة التشكيك التي بدأت تعصف بشباب من الجامعة أو التجار أو المجتمع بأكمله، منشؤها هو نقطة ضعف معرفي معينة (وقد تكون دخيلة على المنظومة الإسلامية أو الشيعية، أو قد تكون لها تفسيرات أخرى صحيحة) إتخذها الأعداء كحربة مسمومة يراد منها ليس إثبات خطأها فقط في بحث اكاديمي مجرد، بل يراد منها ما هو أبعد من ذلك وهو تدمير المنظومة كلها مع ان كل منظومة علمية أو معرفية منهجية بشكل عام قد تتسلل إليها مفردة ضلال أو معلومة خاطئة متسربلة بسربال العلم والحقيقة.
احذروا الأجواء العالمية الضاغطة في مرحلة الاستنباط والتفكير
والأجواء العالمية الضاغطة أو الإقليمية والمحلية أو حتى أجواء العشيرة والحزب، تعد مؤشراً ذا شأن في رصد اتجاهات التشكيك القادمة من جهة، كما تصلح منطلقاً لتشكيك الشخص نفسه (المفكّر، المجتهد، الخبير، وعامة الناس) في مدى صحة وسلامة واستقامة اتجاه تفكير الإنسان ومدى موضوعية تفكيره ودقة المراحل التي طواها اجتهاده واستنباطه وتفكيره للوصول إلى هذه النتيجة أو إلى مجموعة من النتائج.
فمثلاً: إذا كانت الأجواء العالمية ضاغطةً باتجاه الاشتراكية كما حدث قبل عقود، أو باتجاه حِلية الغناء والموسيقى بل وضرورتهما أو باتجاه المَلكِية الدستورية في زمان الميرزا النائيني وسائر أعلام القرن الماضي أو ولاية الفقيه في هذا القرن أو شورى الفقهاء في العقود الأخيرة أو غير ذلك، فههنا يجب على المجتهد المفكر الحذرُ كل الحذر في أثناء عملية استنباطه وذلك لأن للوعي الباطن واللاشعور دوراً كبيراً وأحياناً محورياً ومفصلياً في سَوْق المفكر سَوقاً ودفع الإنسان دفعاً لتبني متبنيات الجو العالمي أو الأجواء المحيطة به وإن كان ذلك كله يتمظهر بتعليل فلسفي أو بتوجيه علمي أو باستدلال منطقي.
العلامة الحلي وردم البئر، تحييداً لضغط اللاوعي
ومن هنا أمر العلامة الحلي بردم بئر منزله عندما أراد القيام بعملية الاجتهاد في فقه الروايات الدالة بظاهرها على تنجس البئر بوقوع الميتة فيها وان طهارته تكون بنزح الدلاء بالكميات المعينة للحيوانات أو النجاسات المختلفة الساقطة في البئر، والسبب في طمّه البئر مع مشقة هذا العمل واستنزافه للمال والوقت انه كان يحتمل ان ضغط الحاجة للبئر، قد يدفعه لا شعورياً لعملية (انتقاء) الأدلة التي تصب لصالح الحكم بالطهارة أو لعملية التفاعل مع بعض دلالتها أو وجوهها المحتملة أكثر مما تحتمله، لذا أغلق على نفسه هذا الباب المثير للريب.
العالم الذي تبنّى الاشتراكية، والباعث منطقة اللاوعي
وفي مثال آخر غريب وفي وسط تصاعد موجة الاشتراكية في العالم تبنى أحد الفضلاء الأعلام الاشتراكيةَ في بعدها الاقتصادي بل وكتب دراسة عن ان الإسلام اشتراكي! وربما أكثر اشتراكية من الاشتراكية!، وقد استدل على ذلك بأدلة ضعيفة لا تتناسب مع مقامه العلمي، وقد أثار ذلك استغراب حتى بعض تلامذته الذي كتب ان رأيه – أي رأي أستاذه - في هذه الدراسة لا ينسجم مع متبنياته الفقهية الأخرى قبل وبعد الدراسة ولا مع موازين الفقه والفقاهة.
وكان من الواضح ان ضغط الأجواء الاشتراكية العالمية وانتصاراتها المتتالية في ذلك الزمن واستقطابها للعمال على نطاق واسع وانجذاب الشباب إليها بشكل كبير، قد شكّل خلفية لا شعورية ضاغطة على هذا العالم فقادت اتجاه تفكيره لاستنطاق الأدلة الشرعية بما تقود معه إلى الاشتراكية!، ولعل شدة الحرص على المحافظة على الشباب كي لا ينخرطوا في الأحزاب الاشتراكية ولا يفقدوا دينهم بالكامل كان هو العامل اللاشعوري وراء هذا الاستنباط الغريب!
خامساً: الوساوس والهمزات
السبب الخامس: ان من أسلحة الشياطين الأساسية هو سلاح (الوسوسة) وذلك إلى جوار أسلحة كثيرة أخرى تستعملها الشياطين على نطاقات واسعة جداً وفي مديات لا تتصور ومنها: الهمز والنفث والنفخ والتسويل والتزيين وغيرها مما لعلنا نتكلم عن بعضها لاحقاً بإذن الله تعالى.
و(الوسوسة) هي الكلام الخفي الذي يوصله الشيطان إلى قلب الإنسان من غير سماع(3).
وبيت القصيد في مبحث الشك والتشكيك هو ان نعرف ان الوسوسة لا تقتصر على إغراء الإنسان بالمعاصي المعهودة كالكذب والغيبة والسرقة والرشوة والنظر إلى الأجنبية وأشباهها فقط، بل ان للشياطين استراتيجية أخرى قد تعد أخطر من هذه وهي استراتيجية الهيمنة بدرجة أو أخرى على الأفكار أو السيطرة على اتجاهات تفكير الإنسان، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من عروقه ويتسلل حتى إلى خلايا مخه وأعماق مراحل تفكيره، (ان الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم في العروق)(4) وهنا قد يقذف الشيطان في ذهن الإنسان فكرة ما أو معتقداً أو منهجاً أو أسلوباً، والمفكّر يتوهم بان ذلك كله هو من بنات أفكاره ومن نتاجات ذكائه! ولو علم انه من وحي الشيطان لرفضه! قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(5)
وذلك يعد أكبر خطر على أي مفكر أو مجتهد أو خبير أو مُحاوِر؛ إذ قد يتسلل الشياطين إلى أفكارهم ثم يوحون إليه بانه هو صانع تلك الأفكار ومبتكرها وليس غيره ثم يسوقونه كيفما شاؤوا وهم فرح مسرور بإنجازاته العلمية أو إبداعاته المعرفية!
مخلوقات فضائية تغزو الأرض وتحتل أدمغة البشر!
وقد قرأت قبل فترة كتاباً رائعاً من كتب الخيال العلمي يلقي الضوء (عندما نقوم بالربط بين جوهر فكرة الكتاب وبين ما نعرفه عن قدرات الشياطين ومخططات إبليس وجنده)، وملخص الكتاب بإيجاز شديد هو ان بعض المخلوقات الفضائية المتطورة بدأت تبحث عن كُرَةٍ جديدة تتخذها مسكناً لها، بعد ان واجهوا مشاكل ضخمة في الاستمرار في الحياة في كوكبهم لكوارث مختلفة حلت بكوكبهم، فانطلقوا في مراكب فضائية يمسحون الفضاء اللامتناهي، حتى وصلوا إلى الكرة الأرضية فوجدوها هي الأوفق، حسبما اعتقدوا، بشعبهم فقرروا احتلال الأرض!! وحيث كان من السهل عليهم جداً التحول إلى أي شكل لذلك تحولوا إلى مخلوقات غير مرئية ثم تسلل كل واحد منهم إلى جسد أحد أفراد البشر واحتلوه بالكامل وبدأوا التحكم في قرارات الناس، وذلك بعد ان درسوا الأمر ووجدوا ان بدن الإنسان بما له من خصائص هو الأفضل والاكفأ من بدن الأسود أو الثعابين مثلاً.
ولكن المحتلّين الفضائيين فوجئوا بمقاومة عنيفة من الناس الذي وجدوا في داخلهم شيئاً يتحكم بهم وبحركاتهم وتصرفاتهم وكأنه جهاز مزروع بداخلهم يتحكم أحدهم به بالريموت كنترول.. وكانت المقاومة عنيفة مرهقة مستمرة متواصلة، والسيطرة وإن كانت للغزاة لكن المقاومة الشرسة المتنوعة للبشر كانت تزعجهم باستمرار..
وهنا تفتق ذهن الغزاة عن أسلوب جهنمي بادروا إلى وضعه حيز التنفيذ فوراً وعندئذٍ انهارت مقاومة البشرية لهم تماماً واستسلموا كحمل وديع!! والفكرة كانت هي ان يتسلل الغزاة بعد ان يتحولوا إلى شيء كالموجة أو البخار إلى أمخاخ الناس وان يحتلوا مناطق التفكير فيها ثم يوحون لهم بأفكارهم وقراراتهم وكأنها قراراتهم هم (أي الناس)! وهنا صار العبيد (البشر) هم أول المدافعين عن الغزاة، عملاء لهم بما للكلمة من معنى، كما فُقد أي أمل في استنقاذ الأرض وتحرير الناس!
أليست الشياطين مخلوقات فضائية؟
عندما قرأت هذه القصة التي تدور في فلك قصص الخيال العلمي، انتقل ذهني إلى الشياطين! ذلك انها تقوم بهذا الدور بالضبط! إذ تسوّل للإنسان وتزين له سوء عمله فيراه حسناً! نعم بفارق ان الإنسان لا يفقد إرادته واختياره وانه لو أراد التملص من سلطان الشياطين لأمكنه ذلك بالاستعانة بالله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) بلا شك ولذلك قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ)(6).
نعم يمتلك الشيطان سلاح (الاختفاء) فلا هو مبصَر ولا هو ملموس أو مشموم أو مذوق أو حتى مسموع (بالسمع المعهود) لذلك يكون تسلله إلى داخل الإنسان خفياً وخطيراً.. تصور ان عدوك الذي يقاتلك في معركة مصيرية هو عدو خفي لا تراه ولا تسمع صوته ولا تحسّ به بأية حاسة من الحواس الخمس، فكيف تقاتله؟ وإلا تكون المعركة محسومة مسبقاً لصالحه إذ انه سيضرب حيث شاء ومتى شاء وبالكيفية التي يشاء!
أسلحة لمقاومة الشياطين
ولكن الله تعالى زودنا بأسلحة كثيرة تعطينا القوة والقدرة على منازلة الشياطين بأجمعها ثم الانتصار عليهم جميعاً وقد قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)(7) ولعلنا سوف نتحدث عنها لاحقاً بإذن الله تعالى فلنكتفِ ههنا بالإشارة إلى بعضها:
الأدعية الخاصة والتسبيحات
ومن تلك الأسلحة التي يمكن ان نصرع بها الشياطين بعض الأدعية ذات التأثير البالغ جداً، ومنها هذا الدعاء الذي ورد عن النبي عيسى عليه السلام انه علاج لدفع وساوس الشياطين: (سبحان الله ملء سماواته وأرضه، ومداد كلماته، وزنة عرشه، ورضا نفسه)(8)
إهمال وساوس الشياطين
كما ان من تلك الأسلحة، وهذا خاص بالإنسان الضعيف، سلاح الإعراض عن الوساوس الشيطانية وإهمالها أو صرف الذهن عنها، وقد ورد ان أحدهم سأل الإمام الصادق عليه السلام عنه انه يخطر بباله مراراً التشكيك في وجود الله تعالى! فماذا يفعل؟ فقال له الإمام عليه السلام ما مضمونه: (ذلك الخبيث، فإذا جاءك فاصرف ذهنك) وذلك لأن الإنسان يكون في بعض الظروف النفسية الحرجة في حالة ضعف لا يمكن له معها من الاستدلال المنطقي أو الجواب الكامل وإن كان، لو عاد للوضع الطبيعي، قادراً على استنباط الجواب، لكنه في ظرف نفسي ضاغط أو حالة كآبة مفرطة أو يأس شديد قد يعجز عن مواجهة الشياطين، فحينئذٍ يكون أفضل حل هو ان يوصد أبواب تفكيره في الموضوع المعين ويغلقه كاملاً، وذلك كمن وجد لصوصاً مسلحين خطرين يريدون اقتحام داره وهو لا يمتلك أسلحة للدفاع فان أفضل طريقة للدفاع حينئذٍ هي ان يغلق الأبواب والنوافذ بإحكام ويضع خلفها المتاريس حتى تصله النجدة بإذن الله وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق