بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(1).
وقال جل اسمه: ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(2)
وجوه الجمع بين طوائف الروايات المادحة للفقر والذامة له
سبق: (الطائفة الأولى: الروايات التي تمدح الفقر وتعتبره علامة الإيمان.
وهي روايات كثيرة مستفيضة بل متواترة تدعو إلى الإعراض عن الثروة وتذم المال ومتاع الحياة الدنيا وتحرِّض على التجلبب بجلباب الفقر بل أن يفتخر المؤمن بكونه فقيراً وأن الفقر وسام كوسام الشهادة وانه علامة على حب الله للمؤمن وان الثراء هو عقوبة إلهية معجلة على معصية صادرة من الإنسان).
و: (الطائفة الثانية: الروايات التي تمدح الغنى وطلب المال
وهذه الطائفة تتضمن روايات كثيرة أيضاً:
ومنها: ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "سَلُوا اللَّهَ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا وَالْعَافِيَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ"(3)).
وهناك وجوه جمع قد تبلغ السبع، بين طوائف الروايات المختلفة، وبعض هذه الوجوه مما عليه شاهد جمع من الروايات أو مناسبات الحكم والموضوع أو غيرها، وبعضها مما قد يُعد من دائرة الجمع التبرعي فلو استقصينا البحث أكثر في مطاوي مختلف الروايات الأخرى ولم نجد عليها شاهداً فلا سبيل للبناء عليها، كما ان بعض وجوه الجمع الآتية تتكفل بمفردها بحل الإعضال بأكمله وتميز دوائر كافة الروايات الواردة عن الفقر والغنى ومواقعها بحيث لا يبقى مجال لأدنى توهمِ تعارضٍ بين بعضها والبعض الآخر، بينما سنجد ان بعض وجوه الجمع الآتية تتكفل بحل مشكلة تعارض بعض مجاميع الروايات ولا يكتمل الحل والعلاج لتعارض مجمل الروايات إلا بضميمة وجه جمع آخر من سلسلة الوجوه.
الوجه الأول: تعدد إطلاقات الفقر
ان فقه الحديث والتدبر المعمق والدراسة الدقيقة لمفردتي الفقر والغنى الواردتين في العشرات من الروايات التي صنفناها إلى طائفتين تبدوان متعارضتين، يقودنا إلى أن للفقر إطلاقات متعددة وان له معاني مختلفة وانه اريد في بعض الروايات معنىً وفي بعضها الآخر معنى آخر وفي بعضها معنى ثالث وفي غيرها معنى رابع، وعليه: فلا تضاد ولا تناقض وإنما نشأ توهم التعارض من وحدة اللفظ، لكن اختلاف المعنى المراد في كل موطن هو مفتاح الحل وهو البلسم الذي ترتفع به الشبهة.
وهذا الاختلاف لمعاني مفردة الفقر قد يدعى ان الوجه فيه هو الاشتراك اللفظي الناشئ لا من تعدد الوضع التعييني بل من الوضع التعيُّني المستفاد من تراكم الاستعمال في المعنى الآخر حتى بلغ مرتبة انسباقه منه بدون قرينة لكن مع عدم هجر المعنى الأول وإلا كان من المنقول.
وقد يدعى ان الوجه فيه هو الاشتراك المعنوي وان كافة تلك المعاني هي أصناف للفقر مندرجة تحت جامع واحد هو الموضوع، وان إرادة هذا الصنف هنا وذاك هناك يستفاد من قرائن داخلية كامنة في الروايات أو خارجية في ضمن دوائر أخرى كما سيتضح لاحقاً بإذن الله تعالى.
إطلاقات الفقر الأربع:
وإطلاقات الفقر حسب الاستقراء الناقص، ولعله تنجلي لنا لاحقاً إطلاقات أخرى، هي أربع:
الأول: ان المراد من الفقر الفقر إلى الله تعالى.
الثاني: ان المراد منه الفقر من الدين، وهو معنى يضاد الأول تماماً.
الثالث: ان المراد منه فقر النفس.
الرابع: ان المراد منه: الفقر المادي أو الفقر إلى المادة والماديات.
فلنستعرض مختلف الروايات لكي يتجلى لنا بوضوح انها تتوزع على هذه المحاور الأربع وان مشكلة التعارض بين مختلف الروايات ترتفع بذلك:
أولاً: الفقر إلى الله تعالى
من معاني الفقر، الفقر إلى الله تعالى وقد دلت على هذا المعنى آية قرآنية كريمة صريحة، كما ان المراد من الكثير من الروايات المادحة للفقر هو هذا المعنى بالذات اما بمفرده أو على نحو مانعة الخلو بينه وبين بعض المعاني الأخرى أو على نحو البشرط شيئية:
فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(4).
كما ورد في الدعاء "اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك"(5).
الفقر فخري
كما قال (صلى الله عليه وآله): "الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ"(6).
ذلك ان فقر الإنسان إلى أي شيء آخر غير الخالق جل اسمه ليس إلا فقراً مجازياً محدوداً، اما افتقاره إلى الله تعالى كأنه فقر ذاتي حقيقي كما هو مطلق عام شامل لكل الجهات؛ فان الإنسان في أصل خلقته ووجود جسده ونفسه وروحه وعقله (وهي حقائق أربع) محتاج إلى الله تعالى ثم انه محتاج إليه جل اسمه وإلى فيضه في كل آنٍ وزمان ومكان وفي كل وضع وحال فهو الفقير حقاً إلى الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) في حركتكم وسكونكم وقولكم وفعلكم وفي تعلمكم وتعليمكم وفي تجارتكم وصناعتكم وفي كل حقل وبُعد وفعل ودور.
ولو ان الإنسان سعى ليستشعر فقره المطلق إلى الله تعالى وأحس به عند كل حركة وسكون وقبض وبسط وشدة ورخاء وفقر وغناء فانه سيكون الغني حقاً وإن كان من الناحية الظاهرية في فقر مدقع!
اللهم أغنني بالافتقار إليك
ولذا ورد "اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك" فان الغنى حقاً هو في الافتقار إلى الله والاحساس العميق بالحاجة إليه والافتقار له فان الله هو مصدر كل القوى والثروات والعلوم والمعارف والخيرات والحسنات والبركات فلو رجع المرء إليه بصدق كان قد طرق باب الكريم حقاً فولجه من دون سدود أو حواجز.
اما المستغني عن الله تعالى على مستوى مشاعره وأحاسيسه وادراكاته فانه هو الفقير حقاً؛ ألا ترى، في مثال عرفي، ان من توهم ان مفتاح حل معضلته السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية هي بيد رجل عاجز عن حلها تماماً، فانه إذا طرق بابه فانه الفقير حقاً والمخدوع واقعاً، أما إذا عرف مصدر الأمور ومَن بيده حل العقدة مائة بالمائة فطرق بابه مستجمعاً لشرائط الاستجابة فانه الغني حقاً فانه وإن لم تكن معضلته محلولة بالفعل إلا انه حيث سلك طرق المقدمات الموصلة فانه يكون بذلك الغني ويكون قد حلّ المشكلة حقاً وان فصلت بينه وبينها ثواني أو أياماً فإن وعد الحر دين!
استمداد الفيض والطاقة آناً فآناً من الله تعالى
ولأن المعقول يتضح للقوى المتخيلة بشكل أكثر جلاء عند تشبيهه بالمحسوس، فيمكننا ان نمثل فقرنا الدائم إلى الله تعالى لحظة بلحظة وثانية بثانية، بالشاحن لأجهزة النقال أو المحمول أو غيرها فان الجهاز يستمد الطاقة من الكهرباء آناً بآن ولو فصلته عنه فانه سينقطع الامداد والاستمرار فوراً ودون إبطاء!
ولو ان الإنسان استشعر فقره إلى الله تعالى عند كل حركة وسكون، لامتنع ان يتجرأ على معصية الله تعالى قط إذ كيف يعصيه بكذبة أو غيبة أو تهمة أو سرقة أو غش واختلاس ورشوة ونظرة محرمة وغيرها وهو يستشعر انه في هذه الثانية وفي هذه الحالة يستمد وجوده من الله كما يستمد طاقته وقدرته منه جل اسمه؟ وانه لا ملجأ منه إلا إليه وان حساب الخلق إليه وثوابهم وعقابهم عليه؟ وانه (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(7) وانه المحيط بأفعاله وأعماله وأفكاره كما لم يحط بها شيء قط!
وبذلك يوجّه أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) "الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ" فانه الفقر إلى الله تعالى وهو فخره الأعظم على سائر الأنبياء، من غير ان ينفي ذلك ان المراد أيضاً الفقر المادي كما سبق(8) وسيأتي أيضاً ما يوضح المقصود أكثر عند الحديث عن وجه الجمع الثاني فانتظر.
ثانياً: الفقر من الدين
ومن معاني الفقر وإطلاقاته: الفقر من الدين، وبذلك تفسر مجموعة من الروايات:
الفقر سواد الوجه في الدارين
"الْفَقْرُ سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ"(9) لوضوح ان الفقر المادي إن كان سواداً للوجه فهو سواد للوجه في الدنيا لا في الآخرة؛ إذ ما أعظم مقام الفقراء إذا صبروا(10)! فالمنصرف إن لم يكن الظاهر من الرواية هو ان المراد الفقر من الدين.
الفقر الموت الأحمر
وبعض الروايات الأخرى صريحة في الدلالة على هذا المعنى من معاني الفقر فقد ورد في الكافي "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، فَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): الْفَقْرُ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ مِنَ الدِّينِ"(11).
ولعل وجه التعبير بالموت الأحمر هو ان الموت الأحمر أشد رهبةً وأقوى في إثارة الرعب والخوف في النفوس، فان الموت إذا كان حتف انفه كان هادئاً ولربما كان مرعباً إلا أن الموت لو كان بالذبح أو بالسيف أو شبه ذلك مما تتطاير فيه الدماء ويتلطخ فيه بدن المقتول وثيابه بالدم الأحمر فانه يكون أكثر تخويفاً وارعاباً، فالفقر هو الموت الأحمر.
ولعل المقصود من الفقر ههنا الدرجة العليا منه وهي التي قيل انه سمي بالفقر لأنه يكسر فِقار الظهر فان شدة الفقر قد تبعث على ذلك بل على الاسوأ منه.
كما ورد في الرواية "والْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ..."(12) ولعل وجه تسميته بالأكبر ان الموت يحدث مرة واحدة وينتهي اما الفقر من الدين(13) فانه قد يستمر لعشرات السنين ثم ومن وراء ذلك يُخلّد الإنسان لا سمح الله في عذاب جهنم فهو الموت الأكبر لا الموت الذي قد يكون بوابة الدخول إلى (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(14).
قصة تخيير الأمير (عليه السلام) للفقير بين الولاية والمال!
وفي القصة التالية أكبر العبرة: فقد نُقل ما يقارب هذا المضمون وهو: ان أحد الصالحين، ولعله كان بالنجف الأشرف، كان يعاني من الفقر فترة من الزمن ثم اشتد به الفقر وضاقت به الأحوال حتى التجأ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ضريحه المقدس وطلب بإلحاح أن يفتح عليه صلوات الله عليه أبواب الرزق، ولعله خاطبه بما يقرب من ان الكريم يبذل ويعطي ويمنح وإن خسر بذلك بعض ثروته بل جميعها وانت يا سيدي سيد الكرماء ولا تخسر شيئاً أبداً بالتوسط لدى الله لتفريج كربتي وتغيير حالتي من فقر مدقع إلى غنى ممتع.. فهلّا تطولت يا سيدي وتفضلت؟
والظاهر انه حدثت لديه لحظة انقطاع.. بعد ذلك وفي الليل رأى في المنام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكأنه في ساحة دار في نهايتها دهليز شبه مظلم، فقال له الأمير (عليه السلام) اذهب واحمل مما تجد بعضَه، فذهب إلى الدهليز فوجد فيه عقارب وحيات ميتة!! ومن الطبيعي ان يكون المنظر مقززاً مرعباً، فانه تجسيد لأموال الدنيا وحطامها، إلا انه حيث كان الأمير (عليه السلام) قد أمره لذلك حمل بعضها على خوف ووجل، وكان في ساحة الدار حوض فقال له الأمير ضعها فيها، فلما وضع الحيات والعقارب في ماء الحوض انقلبت إلى ذهب ابريز خاص!
ولقد دهش الرجل لذلك ورآها ثروة طائلة هبطت عليه ببركة الأمير (عليه السلام)، إلا انه صلوات الله عليه فاجأه بموقف صعب جداً فقال له: انت مخيّر: فإما ولايتي ومحبتي واما هذه الأموال! فان اخذتها صرت ثرياً لكنك ستفقد الولاية! وان تمسكت بحبل ولايتي فارمها وستبقى فقيراً!..
ولقد كان الموقف صعباً حقاً على من ذاق مرارة الفقر الشديد، إلا ان حكمته وإيمانه كانا فوق ان يفرط بخير الدنيا والآخرة مقابل عَرَض زائل فقال: كلا يا أمير المؤمنين لا أفضل على ولايتك شيئاً.. ورمى الذهب.. وهنا استيقظ من المنام لكنه كان مطمئناً إلى ما قسمه الله له من الفقر فاحسّ ببرد اليقين واكتسى ببرد السكينة والطمأنينة.
ومن الواضح ان الأحلام لا حجية فيها، إنما الكلام هو انها لو طابقت المستفاد من الآيات أو الروايات أو المستقلات العقلية أو شبه ذلك كانت الحجة هي الآيات والروايات والعقل وأما الأحلام فهي منبّهة فقط.
ومن الواضح ان بعض الناس يُطغيه الثراء ويسلبه إيمانه فالأصلح له الفقر وقد وردت بذلك روايات عديدة ومنها: "وأن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(15) ويبدو ان هذا الرجل الفقير كان منهم فكان فقره المادي هو الضمانة كي لا يسقط في هاوية الفقر من الدين، وكان غناه هو السبب في الهلاك بالفقر من الدين وقد صرح له الأمير (عليه السلام) بالمعادلة التي تتحكم في مصيره بأكمله وكان الرجل من الحكمة والذكاء والإيمان والولاء بحيث رجح الآخرة على الدنيا والولاية على عرضها الزائل الفاني، وبدون أدنى تردد!.
ثالثاً: فقر النفس
ومن معاني الفقر وإطلاقاته: (فقر النفس) وتدل على هذا المعنى مجموعة من الروايات:
ومنها: قوله (عليه السلام): "خَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْس"(16) فان مضاد الغنى هو الفقر فيفيد الحديث ان (أشرف الفقر هو فقر النفس) وفي الآية الشريفة (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)(17).
وفقر النفس رذيلة من أكبر الرذائل فانه يعني الجشع والحرص والطمع ويعني التحسر الدائم على ما لا يملك وإن كان يملك الملايين! ويعني التذلل للأمراء والأثرياء طمعاً في بعض الفتات أو بعض حطام الدنيا الزائلة.
مظاهر فقر النفس ودناءتها
إن الجشع والحرص على جمع الأموال وعلى السلطة والرياسة وعلى الشهرة والمدح، يكشف عن فقر النفس ودناءتها فان الغني النفس مستغنٍ بذاته وهو أكبر من ان تملكه الأهواء أو تأسره الشهوات أو ان يبيع المبادئ والقيم والنزاهة لقاء حفنة من المال وإن بلغت المليارات! كما ان غني النفس أعظم من ان يتنازل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي يبقى في منصبه أو كي يُسمح له بان يحظى بترقية في السّلّم الوظيفي أو ان يكون له وسام إلقاء بعض الكلمات في مجالس الكبراء!
ان المؤمن غني بالله تعالى وهو غني النفس حينئذٍ بذلك، وفي الحديث "إِذَا أَرَدْتَ عِزّاً بِلَا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ، فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"(18) فإن العز حقاً والهيبة صدقاً هي في عز طاعة الله فان الأمر كله بيده وهو الذي لا يقال لغيره: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(19).
وأما المعصية فهي الذل حقاً إذ يكون المرء بالمعصية قد باع أشرف وأعزّ وأغلى شيء لديه وهو شرف نفسه مقابل كذبة أو غيبة أو نميمة أو نظرة محرمة أو رشوة أو شبه ذلك، وأليست نفسه ذليلة فقيرة هيِّنة عليه عندئذٍ؟ وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَه"(20) وما ارخصها لديه لو عصى به بارئه؟.
وإذا كان المرء غنيّ النفس فانه سوف لا يتتبع عثرات الآخرين، كما انه إذا كان فقير النفس وجدته فضولياً بأشد أنحاء الفضولية تجاه ما يملكه الآخرون من أموال وبنين أو مكانة ومنزلة أو سلطة وسطوة وشهرة، دائم التفكير فيما يملك هذا أو ذاك، دائم الحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه وأكثر، وإذا حُرِم غضب ونقم وأسِف وحَزِن وتحطمت أعصابه!
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ فِي الْمَقْدُرَةِ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي الْمَقْدُرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْنَعُ لَكَ بِمَا قُسِمَ لَكَ وَأَحْرَى أَنْ تَسْتَوْجِبَ الزِّيَادَةَ مِنْ رَبِّكَ..."(21) وذلك من علامات المؤمن انه غني النفس، كما انه يعدّ من عِلَل المحافظة على غناها في امتداد الزمن!
يشتري سيارات فيراري بلا حدود!
ومن القصص الطريفة – الغريبة التي تكشف عن بعض أنواع فقر النفس، ما واجهته شخصياً قبل سنين: فقد كنت في جولة تبليغية في بعض البلاد الغربية فطلِبتْ رابطة الشباب هنالك اللقاء بي فاجتمعت معهم في إحدى الحسينيات المباركة وافتتحت الحديث، بعد البسملة والحمدلة، بالسؤال التالي موجهاً الخطاب للشباب:
افترضوا انكم ربحتم في اليانصيب مليون بوند دفعة واحدة فماذا كنتم تفعلون بها (وشرحت لهم ان اليانصيب قمار وهو حرام وان هنالك تخريجات فقهية لبعض أنواعه).
ثم سألتهم واحداً واحداً، فأجاب الأول وقال: سوف ابني به مسجداً، وقال الثاني: سأعطيه لوالدي ليوفي به ديونه المتراكمة عليه، وقال الثالث سأرسله إلى فقراء العراق، وقال الرابع سأتخذه رأسمالاً للتجارة،... وهكذا.. لكن الغريب ان أحدهم قال سأشتري به سيارة فيراري! فقلت وكم قيمتها فقال: افخر أنواعها قيمته ثلاثمائة ألف بوند(22).
قلت حسناً للمبلغ فائض وهو 700 ألف فماذا تصنع به؟ قال: سأشتري سيارة فيراري أخرى! فضحك الشباب! فقلت: حسناً ولا يزال عندنا فائض فماذا تفعل؟ قال: سوف اشتري سيارة فيراري ثالثة! فقلت: هب انك ربحت عشرة ملايين أخرى! فقال: اشتري بها سيارات فيراري إلى ما شاء الله! ولقد ضحك الشباب عليه كثيراً.. لكنني فكرت مع نفسي انه يعاني من فقر في النفس تجاه هذه السيارة أو فسمها عقدة نفسية..! ثم فكرت اننا نحن، في الكثير من الأحيان، نسخة أخرى من هذا الشاب؛ وإن كان بنحو آخر! أوليس اننا نمتلك الشهرة ثم نريد منها المزيد ثم المزيد! أو السلطة ثم نطمع في المزيد والمزيد؟ أو نمتلك المال ثم نجمع المزيد والمزيد! أو نمتلك داراً هنا ثم نشتري أخرى في المصيف وثالثة في البلد الآخر وهكذا! ان ذلك كله مما يكشف عن فقر النفس أو عن العُقد النفسية!
رابعاً: الفقر المادي
ومن معاني الفقر وإطلاقاته الفقر المادي والفقر من المال ومن سائر مقومات الحياة المادية، وهذا هو المعنى المعهود من الفقر، وقد وردت به روايات كثيرة أيضاً:
ومنها: "مَنْ أَكْرَمَ فَقِيراً مُسْلِماً لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَنْهُ رَاض"(23) وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: "مَنْ لَقِيَ فَقِيراً مُسْلِماً فَسَلَّمَ عَلَيْهِ خِلَافَ سَلَامِهِ عَلَى الْغَنِيِّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"(24) والغريب في الحديث انه يكشف لنا عن ان اللازم علينا ان نتعامل مع الفقير كما نتعامل مع الغني تماماً فلا نسلم عليه ببرود وعلى الغني بحفاوة! بل ان نسلم عليه كما نسلم على الأغنياء بدون أي لون من ألوان الاقتصاد في الحفاوة والاحتضان والترحيب والإكرام والإجلال!.
وهذا النوع من الفقر هو مشكلة العالم اليوم وقد ورد في إحصاء منظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية ان طفلاً واحداً يموت كل عشر ثوان في العالم! وذلك رهيب حقاً فان احدنا لو تمرّض إبنه وبدأ يئِن ويبكي فانه لا يكاد يتحمل ذلك، فكيف إذا رأى إبنه أمامه يتضور جوعاً ويزداد ساعة بعد ساعة إلى ان ينهار من الجوع ويموت! ومن الواضح ان هذا النوع من الموت هو نوع بطيء تدريجي ومؤلم جداً وقد يستمر أياماً، وعليك ان تتصور حال الأبوين وهما يشاهدان ولدهما في هذه الحالة المؤلمة بل المرعبة وهما لا يستطيعان ان يفعلا شيئاً؟
فهذا هو الفقر الذي وردت في ذمه العديد من الروايات وان على الإنسان ان يستعيذ بالله منه:
ومنها: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد ابن الحنفية: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ"(25) نعم يمكن تفسير الحديث بفقر النفس والفقر من الدين أيضاً لكن لعل الأظهر هو الفقر المادي (أي النوع الشديد منه على انه لا مانعة جمع بين المعاني).
لماذا على من أحبّ أهل البيت (عليهم السلام) ان يستعدّ للفقر؟
ومنها: ما ورد في الحديث "مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً"(26).
والظاهر من الحديث – بدواً – ان المراد هو الفقر المادي، والسبب في ذلك واضح وهو ان أتباع أهل البيت (عليهم السلام) كانوا على مر التاريخ مضطهَدين محاصَرين مطارَدين وكانت السلطات تقصيهم عن المناصب وتحرمهم من العطاء بل كانت السلطات تضيّق عليهم مصادر رزقهم بل كثيراً ما كانت تصادر أموالهم وأراضيهم وممتلكاتهم، وكانت في أفضل الفروض لا تمنحهم التسهيلات التي تمنحهم لغيرها في التجارة والاستيراد والتصدير أو في الزراعة والصناعة وغير ذلك.
ولقد كانت هذه هي السمة الغالبة لوضع الشيعة على مر التاريخ..
اضطهاد الشيعة اقتصادياً في السعودية والبحرين وغيرهما
وفي العصر الحديث نجد ان الحكومات، كالسعودية والبحرين وبلاد الشمال الافريقي وغيرها، لا تزال تحاصر الشيعة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحقوقياً بل وتحاربهم في مختلف الحقول، ففي البحرين مثلاً وقبل حوالي عشر سنين، أي قبل الأحداث الأخيرة وفي عزّ فترة مشاركة نواب الشيعة في مجلس الأمة، وضعت السلطات خطة اقتصادية معقدة لضرب تجار الشيعة بطرق غير مباشرة، فانهارت على إثر ذلك شركات وأفلس تجار أعرف بعضهم شخصياً، بل حاربوهم، حتى على الأدوار والأعمال المحدودة التأثير والقليلة الانتاج فمثلاً أوعزوا إلى مختلف الشركات والمؤسسات المرتبطة بهم أو تلك التي تدورا في فلكهم أو التي تحذر مخالفتهم بعدم إرسال الموظفين أو المتعاقدين إلى مركز التدريب والتأهيل الفلاني، لوجود شبهات حوله! وقد صرحوا لمن كان من داخل دوائرهم بان هؤلاء شيعة وتجب مقاطعتهم ومحاصرتهم اقتصادياً حتى يفتقروا ويحتاجوا إلينا!
وقد اضطر عدد من مدراء ومؤسسي العديد من المراكز لاغلاقها بعد ان كسدت أسواقهم واعرض أكثر الناس، خوفاً من الموالي أو حسداً أو حقداً من العدو، عن المشاركة في هذه المراكز أو التعاقد معها.
وعليه: فان قوله (عليه السلام): "مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً" كان يُعِدّ اعداداً مسبقاً الشيعة لكي يتهيأوا نفسياً لتحمل شتى تبعات استمرارهم على خط الرسالة والولاية وعلى خط النهي عن المنكر والأمر بالمعروف والجهاد ضد الحكومات الجائرة فلا يهولنّهم إذا ما رأوا الفقر محدقاً بهم فان ذلك ضريبة الإيمان والجهاد.. ولا يتصوروا ان ذلك لهوانهم على الله أو لنقص في الكفاءات أو لتميّز الأعداء عليهم بالكفاءة الأكثر، بل عليهم ان يعلموا ان ذلك بعين الله وانه الثمن الذي يجب ان يدفعه أولياء الله قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)(27).
نعم، القضية غالبية ولا إطلاق لها إذ كانت توجد فترات تراخي وحرية وسعة لذا كان الشيعة ينطلقون فيها أشد الانطلاق وكانوا يتجاوزون غيرهم ممن حظوا بالاستقرار مئات السنين، بسرعة كبيرة!
وسيأتي ان الرواية تحتمل وجهاً آخر لا يتنافى مع هذا الوجه.
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق