نستطيع الوصول من خلال التفاصيل التي يعرضها القرآن الكريم إلى كثير من الغوامض المحيطة في خلق السماوات والأرض وجميع الكائنات بما فيها الإنسان، ولكن المرحلة التي تسبق هذه التفاصيل لا يمكن التعرف عليها، ولذا تعد من الأسرار التي استأثر الله تعالى بها، كما أشار إلى هذه الحقيقة بقوله: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) الكهف 51. وقد فرّع الله تعالى بعضاً من الظواهر الكونية على هذا الغموض، حتى يتمكن الإنسان من الوصول إلى التفرعات اللاحقة للمرحلة البدائية التي استأثر الله تعالى بها، كما في قوله: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الأنبياء 30.
وهذا المبدأ يبين تطابق السماوات والأرض قبل مرحلة الفتق، ومن هذا المنطوق يظهر أن هناك مفهوماً للآية لا يمكن معرفته، ولكنه يشير إلى وجود مرحلة غامضة، وعلى الرغم من هذا الغموض إلا أننا نرى أن الحق سبحانه قد بين أن هناك طباقاً للسماوات يتخللها وصفه للقمر بالنور والشمس بالسراج كما في قوله: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) نوح 16. وفي الآية إشعار على تعدد طباق السماوات دون الأرض التي لم يشر تعالى إلى طبقاتها ومماثلتها للسماوات إلا في آية واحدة وذلك في قوله: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) الطلاق 12.
وبالإضافة لما تقدم نجد أن الله تعالى قد بين المدة التي خلق فيها السماوات والأرض وهي ستة أيام كما في سور.. الأعراف، يونس، هود، الفرقان، السجدة، ق، والحديد. ثم فصّل تعالى هذه الأيام في قوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين... وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين... ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين... فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم) فصلت 9- 12.
من هنا يظهر أن المرحلة التي سبقت هذا التفصيل غير معلومة إلا ما ذكره الله تعالى في مرحلة ما بعد الدخان، وهذا يماثل المبدأ الثاني الذي أشار فيه إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيام مسبوقة بخلق الماء الذي كان عليه العرش، كما في ظاهر قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) هود 7. وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها على النحو التالي:
المبحث الأول: ذهب كثير من المفسرين إلى أن الأيام المشار إليها في خلق السماوات والأرض هي نفسها الأيام التي تُحدد بين طلوع الشمس وغروبها، إلا أن هذا التفسير لا يستقيم بسبب المفهوم العام لليوم الذي يتفرع على عدة مصاديق كما سيمر عليك في هذا المقال، وما يدفع هذا الرأي هو عدم خلق الليل والنهار في الفترة التي تم فيها خلق السماوات والأرض وهذا ظاهر، وعند الرد على أصحاب هذا الرأي تكون حجتهم مترتبة على ما يطابق هذه الأيام وإن لم يكن للشمس وجود بعد، وأنت خبير من أن هذا الدليل لا مرجح له لذا أعرضنا عن الأخذ به.
من هنا نعلم أن الأيام المشار إليها في الآية لا تتعدى أن تكون أشبه بالمراحل والدورات التي تستغرق فترات زمنية طويلة حتى يتم الخلق على الصورة التي يريدها الله تعالى. فإن قيل: لماذا لم يخلق الله تعالى كل شيء في لحظة واحدة؟ أقول: هذا بمقدوره ولكنه سبحانه يريد أن يغطي على جميع أسباب الخلق، ولهذا خلق البعض بالدفعة والبعض الآخر بالتدريج، وقد بين ذلك في قوله: (ألا له الخلق والأمر) الأعراف 54.
المبحث الثاني: ورد مفهوم اليوم في القرآن الكريم بعدة مصاديق تبينها القرائن العقلية، بواسطة السياق الذي يرد فيه المصداق، كما أشار تعالى إلى المراحل التي تكون دولة بين الناس بقوله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران 140. وقوله تعالى: (فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) يونس 102. وتطلق العرب لفظ اليوم على الوقائع والحروب التي لها أثر في حياتهم، كما في قولهم: "يوم بغاث" وهو اليوم الذي وقعت فيه الحرب بين الأوس والخزرج، وقيل: يوم بعاث بالعين، وقد ورد اليوم بهذا المعنى في أشعارهم كما في قول عنترة بن شداد:
وفي يوم المصانع قد تركنا... لنا بفعالنا خبراً مشاعاً
أقمنا بالذوابل سوق حرب... وصيرنا النفوس لها متاعا
وقد ورد هذا المعنى للأيام في قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) إبراهيم 5.
المبحث الثالث: قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء)... العرش لغة: يعني السقف أو ما يرفع عليه السقف كالقوائم مثلاً، ومنه قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) الأنعام 141. ومن هنا كان التوسع بمصطلح العرش في كل ما من شأنه العلو والارتفاع، فقيل للملك "صاحب العرش" أي صاحب السمو والارتفاع، كما في قوله تعالى: (ولها عرش عظيم) النمل 23. أي لها سلطان وملك كبير، وبهذا يظهر أن عرش الله تعالى هو سلطانه وحكمه ونفوذه وقدرته، ولما لم يكن هناك إلا الماء الذي خلقه الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض، فمن الطبيعي أن يكون سلطانه على الماء، الذي هو منشأ الحياة، كما بين تعالى هذه الحقيقة بقوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) الأنبياء 30.
المبحث الرابع: قال الفيض الكاشاني: (وكان عرشه على الماء) قبل خلقهما "يعني السماوات والأرض" ونقل عن القمي أن ذلك كان في مبدأ الخلق ثم أضاف ما ورد في الكافي عن الباقر (عليه السلام) إن الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون، أما تسمع لقوله: (وكان عرشه على الماء).
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: إن العرش كان مخلوقاً قبل السماوات وكان محيطاً بالماء أو حاوياً للماء، وحمل العرش على أنه ذات مخلوقة فوق السماوات هو ظاهر الآية، وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السماوات والأرض، وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به، إذ التعبير عنه تقريب. ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلاً بعرش السلطان، أي كان ملك الله قبل خلق السماوات ملكاً على الماء.
وقال مكي بن أبي طالب في تفسير الهداية إلى بلوغ النهاية: (وكان عرشه على الماء) أي قبل خلق السماوات والأرض، وسئل النبي (صلى الله عليه وسلم) فقيل له: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: في عماء و"في" بمعنى "على".. على عادة العرب لأنها تبدل حروف الجر بعضها من بعض، والعماء: السحاب الرقيق، ومن رواه مقصوراً فمعناه والله أعلم، أنه كان وحده وليس معه سواه، شبه (عليه السلام) العمى بالعماء توسعاً ومجازاً. انتهى.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين الآيات التي ذكرت أن خلق السماوات والأرض قد تم في ستة أيام "مهما كان نوع الأيام" وبين آيات سورة فصلت التي يظهر فيها أن ذلك قد تم في ثمانية أيام على ظاهر التفصيل؟ أقول: خلق الأرض الذي سبق ذكره في الآية التاسعة يدخل ضمناً في جعل الرواسي والمباركة وتقدير الأقوات... فتأمل.
اضف تعليق