بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)
بصائر النور في آية الاستشارة واللين
العفو والمغفرة والاستشارة من أسس السِّلم الأهلي وتماسك النسيج الاجتماعي
ومن البصائر المذهلة في الآية الكريمة أن الأحكام المذكورة فيها والمنطلق لتلك الأحكام تعد من أهم أسس (السلم الأهلي) و(تماسك النسيج الاجتماعي) وتقوية لُحمة الاخوة ووشائج الصلة بين القيادة الإسلامية والمجتمع وبين أفراد المجتمع بعضهم مع بعض.
وذلك ما يكشفه لنا بوضوح شأن نزول الآية الكريمة وكيفية معالجة الرسول (صلى الله عليه وآله) للخيانة الجماعية التي حصلت في جيشه يوم أُحد، والأوامر القرآنية الصريحة في هذا الحقل...
خيانة الجنود في أُحد، وموقف الرسول (صلى الله عليه وآله) النادر المذهل!
فقد خان الضباط والجنود رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخيانة العظمى وسببت مخالفة الرماة للرسول (صلى الله عليه وآله) وتركهم مواقعهم العسكرية في ثنيّة الجبل، تعرُّض الجيش الإسلامي لأكبر نكسة بل ولهزيمة – مبدئية – طوال حياة النبي (صلى الله عليه وآله) فقد قتل نتيجة ذلك سبعون من المسلمين وهو عدد كبير جداً في حد ذاته فكيف بالقياس إلى عدد المسلمين؟ كما كسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشج وجهه الشريف وكادوا يقتلونه لولا صمود أسد الله الغالب علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ثم ثلة قليلة جداً من أبطال المؤمنين بينهم (نسيبة) المرأة التي خلدت اسمها في التاريخ بأحرف من نور قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(2) ثم أعاد الله تعالى الكرة للمؤمنين فانتصروا على الكفار انتصاراً باهراً.
وهنا كان الموقف الغريب بل الفريد على مدى التاريخ الإنساني، تجاه أولئك الذين خانوا الله ورسوله طمعاً في بعض حطام الدنيا وسببوا تلك الويلات والفجائع وكان الموقف هو ما صرحت به الآية الشريفة عبر تشريع أحكام مفتاحية ثلاثة لا تتجانس مع جريمتهم وخيانتهم بما هي هي أبداً:
أولاً: العفو عنهم.
ثانياً: الاستغفار لهم.
ثالثاً: مشاورتهم في الأمر.
أ- و(العفو عنهم) يرسم إطار العلاقة بينه (صلى الله عليه وآله) وبينهم.
ب - أما (الاستغفار لهم) فيحدد مسؤولية أخرى فوق ذلك وهي مسؤولية الوساطة بينهم وبين الله تعالى؛ فإن الشخص قد يعفو عمن ظلمه، كما لو اغتابه مثلاً، فيعفو عنه تكرُّماً إلا أنه يبقى حق الله تعالى الذي لا يمحى إلا بالتوبة فانه لا يجدي لرفع العقوبة الآخروية مجرد عفو ذي الحق، إذ ههنا حقان: حق الله وحق الناس، وحيث كانت جريمتهم كبيرة جداً احتاجوا إلى أن يتوسط الرسول (صلى الله عليه وآله) ليعفو الله عنهم.
ج- ولم يكتفِ الوحي الإلهي بهذين القرارين فقط بل وبعد ذلك كله كان (الأمر بإشراكهم في صناعة القرار) في أعلى مستويات القيادة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) إذ المراد بالأمر الشؤون العامة مطلقاً أو شؤون الحرب خاصة، وقد فصلنا في كتاب شورى الفقهاء الأدلة على الأول وأن المراد كافة الشؤون العامة لا أمر الحرب فقط، على أنه لو كان المراد أمر الحرب فقط لكفى في الدلالة لأنه أمر خطير حقاً ومع ذلك وَرَدَ الأمرُ بأن يستشاروا جميعاً فيه.
ومن الواضح أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان بمقدوره أن يعاقبهم جميعاً، وكان العقل والنقل والأعراف من كل الملل والنِحل، معه في ذلك، إلا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) جاء بأمر الله تعالى بمنهج يتسامى على مناهج البشر كافة: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وبذلك ونظائره أرسى الرسول (صلى الله عليه وآله) قاعدة من أغلى وأجلى وأهم قواعد السلم الاجتماعي وتقوية النسيج الوطني.
قصة القائد الذي أحرق رسائل خيانة ضبّاطِهِ فاستماتوا في القتال والنضال!
وينقل لنا التاريخ حادثة أخرى مبهرة تأسّى فيها أحد القادة العظام ببعض ما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحصل على أعظم النتائج: فقبل أن يلتقي الجيشان خطّط قادة الجيش المعادي لتحطيم الجيش الإسلامي من داخله وتفتيته من قلبه وجوهره فوضعوا خطة مركبة معقدة كان من أعمدتها بث الرعب في الجيش الإسلامي عبر بعض جنود الطابور الخامس فوصلت الأخبار مضخمة عن استعدادات العدو وعن الإمدادات التي ستصل له تباعاً، ومن جهة أخرى راسل قائد جيش الأعداء مجموعة من أهم قادة الجيش الإسلامي ووعدهم أنهم إن قاموا بانقلاب داخلي على قائد الجيش وأغاروا عليه ليلاً واعتقلوه ثم سلموه له أن يدفع لهم من الأموال الطائلة كذا وكذا وأن يقلدهم مناصب رفيعة جداً بعد الفتح..
ولكن قائد الجيش الإسلامي تمكّن بما له من العيون من اكتشاف الرسل وجرى اعتقالهم ومعهم الرسائل المتبادلة وفيها رسائل من عدد من قادة الجيش صريحة في الخيانة والضلوع في المؤامرة...
وههنا أدركت القائد الحكمة فاستدعى القادة كلهم على عجل في خيمة القيادة واحاطها بحراسة مشددة ثم أحضر جرابا(3) وضعه في منتصف الخيمة وخطب فيهم خطبة إيمانية ثم ألقى قنبلته مُدوِّية فقال هذا الجراب يحتوي على رسائل من عدد منكم تشهد بالخيانة العظمى وكما تعلمون فإن جزاء ذلك في كل الأعراف هو القتل، لكنني لا أفرِّط بصداقة عمرٍ طويل معكم لمجرد زلة حصلت منكم! أعلموا إنني حتى لم أفتح أختام هذه الرسائل لأعلم أسماء الخونة وذلك كي لا يتغير قلبي عليهم!! والآن سآمر أحد الحراس لكي يحرق الجراب بما فيه كي يختفي آخر أثر من الماضي المقيت ولنبدأ من جديد بعزيمة أقوى وأخوّة أكبر لدحر جيش الأعداء!!
ومن الواضح أن ذلك الموقف الشهم النادر بعث في نفوس أولئك القادة أكبر الاعصارات النفسية المتشابكة: الندامة، الحسرة، الإعجاب المذهل بهذا القائد النادر، والإصرار الكبير على التعويض عن تلك الخيانة الكبرى.. وهكذا استبسلوا في المعركة وانتصروا انتصاراً ساحقاً. وفي المثل (العُقدة التي تنحل باليد لا يصح أن تُعمَل فيها الأسنان)!
ثم أن من الضروري أن يتحول (العفو عن مَن زلت أقدامهم والمغفرة لهم ومشاورتهم في صنع القرار) إلى منهج في الدولة والأمة ومؤسسات المجتمع المدني والشركات وغيرها، وعندئذٍ ستجدون أن الأرض تحولت إلى ما يشبه الجنة!
غير أن من الواضح أن ذلك المنهج لا يشمل الذين يرجعون إلى فئة، كداعش والبعث، إلا لدى توفر شروط موضوعية خاصة تقطعهم عن فئتهم من دول راعية للإرهاب وغيرها وحسب تشخيص أكثرية أهل الحل والعقد ومجلس الأمة والفقهاء المراجع.
مقاصد الشريعة: في الدوران بين التعيين والتخيير
سبق الكلام عن مناحي من تجليات تأثيرات مقاصد الشريعة على عملية الاستنباط الفقهي والأصولي والكلامي وفي بُعدي التفسير وفقه الحديث، وغير ذلك، بشكل غير مباشر كما سبق بيانه، ونضيف:
إن من ثمرات مباحث مقاصد الشريعة وتجلياتها ما يظهر في تحديد مصداق (التعيين) في قاعدة (الدوران بين التعيين والتخيير) على خلاف ما هو المعهود في بعض تطبيقات القاعدة فقهياً وأصولياً إذ تفيدنا المقاصد وجهاً آخر مزاحِماً للوجه الذي يذكر عادة لترجيح هذا الطرف باعتباره ذا مزية محتملة على الطرف الآخر المساوي للطرف الأول في أحسن الفروض، ولا بد لتوضيح ذلك من التمهيد ببيان القاعدة فنقول:
إذا دار الأمر، من جهة عجز المكلف في مرحلة الامتثال عن الجمع بين الأمرين أو لعدم إمكان الجمع بينهما ذاتاً، بين امتثال هذا الفرد من الواجب أو ذاك الفرد وكان أحدهما يتمتع بمزية محتملة على الآخر وجب حسب هذه القاعدة العمل به خاصة لأنه واجب على كل تقدير وبه يتحقق الامتثال على مختلف الفروض عكس الآخر.
فلو وجد غريقان أحدهما جندي عادي والآخر من المحتمل أن يكون قائد الجيش (الذي لو غرق لانهار الجيش كله) فانه لو عْلِم أنه قائد الجيش وجب إنقاذه خاصة – مادام الشخص لا يمكنه إنقاذهما معاً – ولم يكن مجال للقاعدة(4) إنما الكلام في صورة الاحتمال إذ هنا يحدث الدوران بين تعيين إنقاذ هذا إن كان قائد الجيش أو التخيير بينه وبين إنقاذ الآخر إن كان جندياً عادياً مثله، فهنا يحكم العقل – كما ذكروا – بلزوم إنقاذ المحتمل كونه قائداً للجيش.
إذا عرفت ذلك فلنستعرض عيِّنات معبّرة عن الموازن لمرجحية (الأعلمية) – في المثال المشهور - في معادلة الدوران بين التعيين والتخيير:
تقليد الأعلم أو الأورع؟
أ- إذا دار الأمر بين (تقليد الأعلم) و(تقليد الأورع) فإن المرجّح لتقليد الأعلم هو أقربية نظره للإصابة والمطابقة للواقع(5) لذا استند البعض في تَعيُّن تقليده إلى ذلك ولو لاحتمال مدخلية الأقربية للإصابة في تعين تقليده.
ولكننا إذا استضأنا بفقه مقاصد الشريعة فإننا سنجد جهة أخرى واقعية تساوي، إن لم ترجح على، جهة الأقربية وهي جهة (أشدية تثبُّت الأورع) المقتضي للتحرز عن الخطأ بالتحقيق والتدقيق الأكثر والمانع عن كونه جربزياً يقتحم في مخالفة المشهور أو في الفتوى بقول مطلق بجسارة وجرأة توقع صاحبها، في الكثير من الأحيان، في المخالفة.
ولئن كان مرجع ذلك إلى مقابلة جهة الأقربية في الأعلم بجهة أقربية من نوع آخر في الأورع، فإن الجهة الأخرى المزاحِمة في العيّنات الآتية هي من سنخ آخر فلاحظ:
ب- إذا دار الأمر بين تعين تقليد الأعلم والتخيير بينه وبين تقليد العالم، فأن جهة الأقربية تزاحم بجهة التيسير في التخيير بينهما وهي جهة يريدها الله تعالى بصريح الآية الشريفة ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)(6) عكس ملاك الأقربية للواقع الذي لم يذكر المشهور له دليلاً صحيحاً سنداً صريحاً دلالة!
وعلى أي فإن من البديهي أن الضغط على الناس لتقليد الأعلم في الفقه أو للرجوع إلى الأعلم من الأطباء أو سائر الخبراء، تضييق عليهم وتشديد إذ الناس يراجعون الفقيه أو الطبيب وسائر الخبراء (والجامع هو كونه أهل الخبرة كما أن الدليل مشترك وهو رجوع الجاهل للعالم)، لجهات أخرى منضمّة لا لمجرد أعلميته، فيراجعونه مثلاً لعلميته زائداً قُرب عيادته مثلاً أو أرفقيته بالمريض أو لصداقته معه أو قرابته أو غير ذلك، وكذلك الرجوع للفقيه فان من (التيسير على الناس) السماح لهم بتقليد غير الأعلم (الجامع للشرائط طبعاً) لجهات أخرى يرونها دخيلة في وجه انتخابهم له ككونه أورع أو كونه شديد الاهتمام بتربية الناس أو بالخدمات والنشاطات والمؤسسات أو شبه ذلك.
الدراسة عند الأعلم أو الأفضل الأكمل؟
ج- إذا دار الأمر بين (الدراسة عند الأعلم) أو (الدراسة عند الأفضل تربيةً للطلاب والأكثر تواضعاً والأحسن أخلاقاً) فإن جهة الأقربية في الأعلم الموجبة لاقوائية (التعليم وأفضليته) تزاحم بجهة التميّز الأخلاقي الموجبة لاقوائية (التزكية والتربية) قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(7) (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(8).
د- إذا دار الأمر بين (الطبيب الأعلم) وبين (الطبيب الأرفق بالمريض) كانت الأرفقية جهة منافسة لجهة الاقربية وذلك أن بعض الأطباء عنيف مع المريض إذ انه يختار الأدوية العنيفة الصعبة أو يختار أصعب الحلول على أسهلها (فيرجح العملية الجراحية على غيرها مثلاً) عكس الآخر فانه وإن كان غير أعلم فرضاً لكنه أرفق بالمرضى لذا نجدهم قد يرجحونه.
انتخاب الرئيس الأعلم أو الأكثر استشارة؟
هـ - إذا دار الأمر بين انتخاب الرئيس (رئيس الجمهورية، أو الحزب أو العشيرة أو النقابة والاتحادية أو الشركة أو أية مؤسسة أخرى) الأعلم وبين انتخاب الرئيس الأكثر استشارة من الأعوان والمستشارين والناس، فانه لا شك في أن أكثرية المشورة تعد جهة مزاحمة لجهة الأقربية الناشئة من الأعلمية، إذ أنها تورث جهة أقربية أخرى ناشئة من تلاقح العقول.
القائد الأعلم أو الأكثر اهتماماً بالناس؟
و- إذا دار الأمر بين انتخاب القائد الأعلم وبين انتخاب القائد الأكثر اهتماماً بالناس وطبقاتهم واحتياجاتهم (من طرق ومواصلات وكهرباء وماء وغيرها) و(من فقراء وأرامل وأيتام وغيرهم) فلا شك أنه لا يصح حينئذٍ القول بأن قاعدة الدوران تقتضي تعيين اختيار الأعلم بل على العكس تقتضي تعيين اختيار الأكثر اهتماما بالناس.
التحالف مع الأعلم أو مع الأقوى؟
ز- إذا دار الأمر بين التحالف مع الأعلم أو التحالف مع الأقوى (كدولة أو عشيرة أقوى وأخرى أعلم) فالأمر كذلك.
ولا يخفى أن درجات الأعلمية ودرجات الجهة الأخرى المزاحِمة، هي ذات مدخلية أيضاً في تعيين هذا الطرف أو ذاك، رجحاناً أو وجوباً مما يحتاج كل ذلك وما سبقه إلى عقد دراسة خاصة فقهية – أصولية على ضوء معطيات باب التزاحم، حول ذلك وذلك ما لعلنا نوفق له في مباحث الأصول: كتاب التزاحم.
ولنذكر مثالاً من نوع آخر:
تعيين المسؤول المتشدد أو الطيب المتسامح؟
ح – إذا دار الأمر بين تعيين جهاز ضريبي في الوزارة خبير جداً بطرق استخراج الضرائب من الناس بشتى الطرق كما هو خبير أيضاً بكافة سبل التحايل للفرار من الضريبة (بدءاً من ميزانية الكهرباء في منزل الفقراء ووصولاً إلى المحلات والشركات التي قد تتلاعب بالأوراق لتظهر الأرباح أقل فتكون الضرائب أقل بالتبع) وبين خبير آخر متسامح متساهل لا يعصر الناس عصراً بل يمشي على الطرق المعهودة (وهذا كله على فرض صحة الضريبة وقد سبق مراراً انها بدعة وحرام شرعاً، وقد ورد عن نوف البكالي في حديث: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: "يَا نَوْفُ، إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً، أَوْ عَرِيفاً..."(9) لكن الكلام فيمن يذعنون بضرورة الضريبة، بل يمكن فرض الكلام فيما لو أمكن كلا الأمرين في الضرائب الشرعية الأربع: الخمس والزكاة على المسلمين والجزية والخراج على الكفار) فايهما الأرجح: المتشدد في استخراج الضريبة أو الأرفق بالناس؟ لا شك أن الدول ترجح المتشدد إذ الدول هي المصداق الأبرز للجهات الجشعة إلى الأموال والتي لا تتوانى عن عصر الناس عصراً كي تحصل على المزيد ثم المزيد من الأموال.
لكن الشرع يرجِّح الثاني – المتسامح الميسِّر – كما سيأتي، بل والعقل أيضاً إذ المعادلة عقلاً هي (الإنسان أولاً) وأما معادلة (المال أولاً) فهي معادلة بهيمية صرفة وقد جاء في الإنجيل "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ"(10) والمعنى دقيق وعميق ولطيف، ويؤيده الاعتبار فليس من الإنجيل المحرّف – قاعدةً والله أعلم فتدبر.
قواعد علوية (عليه السلام) ذهبية في جباية الصدقات والضرائب
والرواية الآتية: تعد من أروع الروايات في هذا الحقل قال أبو عبد الله "بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَادِيَتِهَا فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ انْطَلِقْ وَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُؤْثِرَنَّ دُنْيَاكَ عَلَى آخِرَتِكَ، وَكُنْ حَافِظاً لِمَا ائْتَمَنْتُكَ عَلَيْهِ، رَاعِياً لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ، حَتَّى تَأْتِيَ نَادِيَ بَنِي فُلَانٍ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ وَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّونَ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مِنْهُمْ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تَعِدَهُ إِلَّا خَيْراً.
فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ، فَقُلْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ، فَإِنْ أَذِنَ لَكَ فَلَا تَدْخُلْهُ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا عَنِفٍ بِهِ، فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهَا وَاصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ"(11) وفي هذه الرواية إضاءات وإرشادات وقواعد هامة:
أ- "فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُم" عكس ما نرى من جُباة الضرائب في الكثير من الدول إذ يقتحمون البيوت أو الشركات أو غيرها دون استئذان أو إذا كان مع إذن فبطريقة مفاجئة مربكة لأصحاب البيوت أو المحلات والشركات! والمطلوب هو الابتعاد عن هتك حمى الناس وحريمهم بالنزول خارج منازلهم (أو محلاتهم) بل خارج أحيائهم عند مجرى النهر فقط!.
ب- "بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ" غير متكبر عليهم ولا متجبر بل كن وقوراً كوقار العلماء، ذا سكينة كسكينة الأولياء...
ج- ثم - " ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّونَ إِلَى وَلِيِّهِ؟" وهذا السؤال وبهذه الطريقة الطيبة البسيطة يكشف عن أصل أصيل أصّله الدين الإسلامي في شتى مناحي الحياة ومنها الحياة الاقتصادية التي تعد من أخطر المناحي والتي يكثر فيها الكذب والغش عادة، وهو أصالة الصحة في عمل المسلم بل وفي قوله أيضاً، وهذا الأصل يؤكد الاعتماد على جواب الناس – من مزارعين ورعاة ومُلّاك للزكاة وغيرها، كقاعدة عامة.
د- "فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْه" وهذا نظير قاعدة (هن مصدّقات) وهي (هم مصدّقون) وإن كان الأمر مما يمكن استجلاء حقيقة حاله بالتحقيق وليس مما لا يُعلم إلا من قبله أو قبلها، وذلك كله من أبرز مظاهر (اللين) في الإسلام في تجلياته القانونية والحقوقية.
هـ - "فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ" وفي هذا درس كبير للحكومات والسلطات والأقوياء بأن يراعوا حق الضعفاء إلى أبعد حد، حتى لو كانوا شركاء في الحق، لكن مادام أكثر الحق للغير فلا يجوز للحاكم وعماله حتى أن يدخل إلى ساحة المال المشترك!
و - "فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَالِهِ" وتخيير المالك في الاختيار وبتلك الطريقة المتدرجة المتصاعدة دليل آخر على منتهى الرحمة واللين واللطف في التشريعات الإسلامية.
ز- "وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ" وذلك منتهى اللطف والرفق، فإن الإقالة لدى الاستقالة من مكارم الأخلاق وفضائل السلوك والسِّيَر، وقد صاغها الإمام (عليه السلام) ههنا صياغة قانونية حقوقية، وظاهر النهي انه بنحو القضية الحقيقية وإلا فبجهةٍ مولويةٍ.
ولنختم الكلام بالإشارة إلى حادثة ذات دلالة بليغة على مدى التأثير الكبير الذي تتركه الرحمة والإحسان على الإنسان مما قد يكون السبب الأساس في تغيير مستقبل إنسان تماماً وإنقاذه من الضلال إلى الهدى ومن الخلود في جهنم إلى الحبور في جنات الله الواسعة:
يهودي يسرق يومياً ثم يُسلِم بمفاجأة!
فقد نقل أن يهودياً من عائلة يهودية معروفة اسلم وكان ذلك مثار استغراب لأن اليهود قلّما يسلمون عكس النصارى وغيرهم إذ ما أكثر من أسلم منهم، وكان اليهود، إلا من خرج بالدليل، على مر التاريخ العدّو الأول للإسلام والمسلمين قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(12).
نعم يستثنى من ذلك كله فترة من زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث انه (صلى الله عليه وآله) بسلسلة من مواقفه وأخلاقه الربانية المذهلة أحدث تموجاً هائلاً في اليهود حتى ورد في الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ وَعَلِيٌّ (عليه السلام) أَوْلَى بِهِ مِنْ بَعْدِي، فَقِيلَ لَهُ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ فَالرَّجُلُ لَيْسَتْ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وِلَايَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى عِيَالِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إِذَا لَمْ يُجْرِ عَلَيْهِمُ النَّفَقَةَ، وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَمَنْ بَعْدَهُمَا أَلْزَمَهُمْ هَذَا، فَمِنْ هُنَاكَ صَارُوا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ عَامَّةِ الْيَهُودِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّهُمْ آمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى عِيَالَاتِهِمْ"(13).. والبحث عن اليهود بحاجة إلى مقام آخر فلنعد إلى القصة السابقة:
عندما أسلم ذلك اليهودي المعروف، سأله البعض عن السبب فأجاب: كنت طفلاً صغيراً وكانت أمي ترسلني إلى المحل القريب لشراء الحاجيات المنزلية يومياً، وكان في ركن من المحل حلويات معروضة للبيع (شوكولاته) فكنت أنتهز فرصة غفلة صاحب المحل بينما هو يعد الحاجيات وأسرق قطعة حلوى أو شكولاته، يومياً، واستمررت على تلك الحال شهراً أو أكثر وأنا معجب بشطارتي ومنذهل لغباء صاحب المحل!!
ثم في يوم من الأيام غفلت عن سرقة القطعة من الحلوى فأخذت الحاجيات وخرجت وإذا بي أجد صاحب المحل يناديني وبيده قطعة حلوياتي المفضلة: تعال يا بُني وخذ قطعة الحلوى هذه، فقد نسيت أن تأخذها اليوم!
يقول اليهودي: أذهلني تصرفه واندهشت لسماحته وأخلاقه وطيبته وإحسانه، وأنا الذي أسمع عن المسلمين كل سوء!
ويستمر اليهودي قائلاً: غرقت في بحر من الخجل وأخذت الحلوى على استحياء وعجل! وأنا معجب لغفلتي أنا وذكائه هو! ثم أن ذلك أحدث في كياني هزة عنيفة وجعلتني أشكك في كل ما كان يقوله أبي وأمي وقومي عن الإسلام وقررت أن أحقق عن الإسلام أكثر عندما أكبر، وهكذا كان فقد أسلمت بعد تحقيق مضني ولكن الزناد القادح كان هو موقف إنساني تجلت فيه الرحمة واللين والإحسان في سلوك رجل مسلم واحد!
تصوروا: لو كان المسلمون جميعاً كذلك؟!
أقول: تصوروا لو كان المسلمون جميعاً كذلك، بل لو كان أكثرهم كذلك، بل لو كان عشرون بالمائة منهم كذلك: الطبيب والمحامي والمهندس، والفلاح والبقال والعطار، والجامعي والحوزوي، والوزير والسفير والأمير والرئيس والقائد والمقود.. ألم يكن يتحول وجه الأرض؟ وألم نكن نشهد من جديد تجلياً آخر لقوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)(14)؟
والمفتاح لذلك كله هو أن نذعن بأن (الرحمة) بفروعها ومنها (الإحسان) هي من أهم مقاصد الشريعة، وأن نعمل على طبق ذلك أيضاً.. أليس كذلك؟
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).
وقال جل اسمه: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(15)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق