1. فصل في تاريخ التشيع القريب:

عرف عن الكوفة في التاريخ أنها شيعة لعلي (ع) وكانت الكوفة مصر العراق الاول ومصره الاخر البصرة ولا يعدم فيها شيعة لعلي (ع)، ولازمت صفة التشيع وعقيدته أهل العراق حتى بلغت حسداً لهم عند الخوارزمي في رسائله(1) ورغم انقطاعات متكررة عن السلطة شهدها التشيع في العراق، ازاحت مركزيته واقصته الى هوامش النفي وزوايا التقية، الا أنه وبفضل تحولات دائمة تحدث في ظل تلك الانقطاعات وبفعل مؤثرات خارجية من أهمها حروب غزو استهدفت العراق وهجرات لم تتوقف في رفد أرض العراق بعناصر اجتماعية جديدة تحمل معها حدث التغيير في هوية العراق ورسم معالم شخصيته المتكونة عبر تحولات التاريخ. وباستقطاب يظهر واضحاً في استيعاب تلك العناصر الوافدة والمهاجرة وامتصاص الهجرة من قبل مؤسسة داخلية او اثنية اجتماعية او عقيدة مذهبية وتوجيه صوب بنية عراقية تنزع عنه رداء عرف او دين او مذهب كان يحمله. اذ يبدو ان القبائل البدوية كانت تميل بمرور الزمن الى التكيف مع معتقدات المنطقة وممارستها (3).

وقد حاولت المؤسسة الرسمية متمثلة بولاة الامور من المماليك والاتراك وفي ظل سيطرة الدولة العثمانية حتى 1917م أن تعمل على استيعاب الاثار السلبية التي بدت واضحة بما اشاعته ظاهرة القبائل الرحل في وسط وجنوب العراق من فوضى ولا استقرار يوهن مركزية الدولة، ويؤثر سلباً على مداخيل المؤسسة المالية والتجارية بما تقوم به قبائل امتهنت الغزو وفرض الاتاوات على حركة التجارة وانتقال الواردات وتعكير الامن مما يؤثر سلباً على مركزية الادارة العثمانية، في وقت بدأت تعاني من هول صدمة ظهور منافسة اوربية اخذت تنمو وبقوة اقتصادية وحجم في الانتاج فرض البحث عن مواد خام بكلفة اقل واسواق اكثر ربحا اشتملت عليها سعة امتداد الدولة العثمانية، وهنا اكتملت دائرة الخطر على مصالح الدولة الام في استانبول، وكانت عملية التوطين واستقرار القبائل الرحل تمثل حلا عمليا في محاولة تجاوز الخطر الماثل في اضطراب الداخل وتهديد الخارج.

ولقد سارت هذه العملية على اتجاهين متواليين، اتجاه انطلق من روح قتالية طبعت بها روح هذه الدولة في حملات عسكرية تهدف الى تأديب القبائل المتمردة وفرض هيبة السلطة، واستطاعت هذه الحملات ان تفرض طاعة الدولة من سنجار حتى الفاو(3). وبفضل والي بغداد حسن باشا اقوى الولاة المماليك والذي تولى باشوية بغداد عام 1704م. وقد اتم اتجاهه باسلوب اخر يعتمد فكرة التوطين لإشاعة مفهوم الاستقرار لدى البدو الرحل بواسطة (شق الانهار لإسكان هذه العشائر وانفاق اموال كثيرة على تعمير الجسور وعلى هذا تحسنت علاقته باستانبول بإرسال واردات الى العاصمة)(4).

واستمرت هذه الحركة التوطينية في العقود اللاحقة وعلى ايدي ولاة اتراك (فقد شقت الانهار وحفرت القنوات مثل قناة الجحلة ونظفت قنوات قديمة وخاصة خلال ولاية رشيد باشا 1853- 1857م)(5). وارتبطت العشائر الرحل بالأرض وقد سعى في ذلك مدحت باشا (1869- 1872م) بتخفيض بدلات ايجار الارض رابطاً في ذلك العشائر إلى الأرض في وسط وجنوب العراق)(6). وهي مناطق تشكل من حيث جغرافية المنطقة امتدادا لأرض تعتبر معاقل شيعية خلال تاريخ طويل في العراق، مثل المنطقة المحيطة بقناة الهندية.

وقد سهل هذا امتداد التشيع ونسيجه الثقافي الى مناطق الاستقرار الحديثة وهو نسيج يمتلك قابلية الاستجابة والنمو في وسط مديني ومستقر اكثر من صحراوي ومتنقل (وكانت النجف وكربلاء في موقع -من امتداد جغرافي- يمكنها من القيام بدور العصب المركزي)(7). في تحول شيعي استغرق هذه المنطقة وانتج هويته الخاصة به(8). وكان لانشغال ولاة بغداد في حروب داخلية انصراف همتهم الى تحصيل الضرائب وادارة شؤون دولة تعاني ازمات مزمنة، اثره في عدم الالتفات الى حركة دعاة التشيع، بل حاول هؤلاء الولاة ان يستثمروا هذا التحرك في تأسيس جبهة داخلية متماسكة امام خطر الحركة الوهابية عندما بدأ دعاتها يجولون في مضارب العشائر العراقية فيخطبون فيها مشعلين نار السخط الكامن على الباشا والسلطان ومستعملين الخرافة والمال)(9). ونشر عقيدة تدعو الى الرجوع بمراحل التاريخ الى عصر الوصي وتهدف الى بسط زعامة شيوخ الجزيرة على غرب الفرات حسب وعيد ابن سعود زعيمهم الى عبد العزيز بن شاوي لما زاره في فجه بقوله (لا ارض ولو انقلبت السماء ارضاً حتى يكون لي غربيّ الفرات)(10). وقد سرت عقيدته في ارض الجزيرة واستطارت شراً في ديار الاسلام حتى بلغت مدينة بغداد حيث يقول ابن سند البصري (اني سمعت قوما في بغداد ركبوا لاجلها متون العناد... وتجاسروا على كل ولي وعالم سري)(11).

وخير ضمانة في مواجهة هذا الخطر الطامع والمتلبس بعقيدة دينية وهي مذهب الوهابية، نابعة من طبيعة الفكر الشيعي ومذهبه في حده المتناقض معه. وهو ماجعل السياسة العثمانية تستفيد منه في تأليب عشائر العراق ضد اطماع وعداء عشائر الجزيرة بزعامة ابن سعود ومذهبه المبتدع. وحدث بشكل عملي ان اوكلت مهمة القضاء على هذا المد الى شيخ ثويني الذي كان يتزعم عشائر تشيعت حديثا وهي عشائر المنتفك المتشيعة كليا في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي)(12). وقاد حملته التي بلغت حدود مدينة الدرعية عاصمة العقيدة الوهابية سنة 1798م في فترة زمنية مقاربة لحدث التشيع في قبائله. كما ان الكهية علي باشا قاد حملة اخرى ضد الوهابية وضم جيشه عشائر العبيد وشمر وبني تميم وكان التشيع قد انتشر بين افرادها قبل القرن التاسع عشر)(13) زمن حملة الكهية علي باشا سنة 1798م، ولعل تحريض باشا بغداد (مل افغاني على قتل عبد العزيز بن سعود - سنة 1803م- انتقاما لأبنائه المذبوحين في غزوة كربلاء)(14) يؤكد هذه النظرية. بالإضافة الى قوة الاندفاع الديني عند الدعاة الشيعة في نشر عقيدة المذهب وكسب الاتباع اليه.

وكان انعقاد مؤتمر النجف سنة 1743م بجهود نادر شاه الافشاري وموافقة احمد باشا والي بغداد وحضره اكثر من ثمانين عالم واغلبهم من الشيعة بترشيح من نادر باشا وحضر اليه من بغداد عبد الله السويدي بعد تردد واعتذار استجابة لرغبة الوالي ونيابة عن اهل السنة في هذا الاجتماع، وكان يهدف الى تجاوز الاختلاف بين الطائفتين ويطمئن نادر شاه على تلاحم مملكته لأنها تضم شيعة ايران وسنة بلاد الافغان)(15). وتمخض الاجتماع في حضرة مرقد الامام علي (ع) عن قرارات احتوت على خمس مواد اهمها بالنسبة لموضوع البحث هو قبول المذهب الجعفري من قبل القضاة والعلماء والافندية الكرام وجعله خامس المذاهب)(16). وسجلت شهادة على اهل هذه العقيدة. واستدرك اختلال هذا الاتفاق باستعار الحرب من جديد بين نادر شاه والدولة العثمانية سنة 1745م. بعقد صلح بينهما في عام 1743م اكدت بنوده مضمون مقررات مؤتمر النجف.

واسهمت هذه الاتفاقيات وعهود الصلح في اشاعة اجواء مناسبة من التحرك لنشر المذهب وتوطيد قوته في العراق، ويبرهن عليه تزامن هذا الاتفاق مع ازدياد مد التشيع في وسط وجنوب العراق في اوائل ومنتصف القرن الثامن عشر)(17). ويكون الدعاة وجدوا ظرفا ملائما يكفل لهم حرية الحركة بمظلة اعتراف والي بغداد احمد باشا بشرعية المذهب الجعفري واعتبار الشيعة اخوة لهم على اساس هذا الاتفاق الذي تم قبوله لأسباب سياسية وليست دينية. وكان قدوم علي رضا باشا الى بغداد سنة 1831م وقد عرف عنه اعتداله وخلوه من التعصب)(18). وله ميول قوية في حب اهل البيت لكونه صوفيا (بكتاشي العقيدة يشترك مع الشيعة في حب اهل البيت)(19). عاملا مساعدا على نشاط وبروز قوة التشيع في العراق فقد سمح بإقامة مجالس العزاء في عاشوراء علنا بعد ان كانت تقام سرا بسبب اضطهاد المماليك ومنعهم هذه الشعائر، وفي خطوة اولى من نوعها بالنسبة لوالِ عثماني أوعز الى كاظم الرشتي بان يشرح قصيدة عبد الباقي العمري في مدح الامام موسى بن جعفر الكاظم)(20). فضمّن ما اراد من رأي فلسفي في شرحه لهذه القصيدة في كتاب.

وفي اجواء سياسية متسامحة ولعلها مقتنعة سار التشيع بخطوات ثابتة في ربوع الوسط والجنوب. وهنا بدأت ظهور معالم مجتمع شيعي في العراق حين افصح عن بعضٍ من مطالبه أمام علي رضا باشا في اقامة شعائره وطقوسه وكانت تصب في تحقيق هوية شيعية امتلكت لها موقعاً راسخا في العراق وجرى الولاة من بعد علي رضا باشا على سنته... ما عدا مدحت باشا... ويقال انه سأل اسطنبول في امرها فكان الجواب دعهم يفعلون ما يشاؤون)(21). وهي بادرة اعتراف ضمنية بهذه الهوية وتصدر من اعلى جهة رسمية في الدولة العثمانية.

2. مرحلة جديدة في العلاقة مع المرجعية

لازالت المؤسسة المرجعية في هذه المرحلة من تاريخ التشيع في العراق تعاني من خلل ظاهر في قيادة هذا المجتمع الذي برزت معالمه وظهرت هويته الخاصة به، يعود هذا الخلل او عدم احتواء قيادته كليا الى تمسك العشائر بعادات وتقاليد تعد بالنسبة اليهم شريعة تنظم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعرف عندهم بـ(السنينة) وهذا ما يبعدهم عن الاستعانة بمشورة الفقهاء في شؤون حياتهم ومراجعة علماء الدين في ما يعترضهم من امور. وانكفأوا على قيم العشيرة وانعكس هذا الولاء في اهازيج تنطق بانتماء اعلى لهذا المفهوم ومن الامور ذات المغزى (انه عندما كانت العشائر تنهض حشدا في المناسبات كانت لأهازيجها في العادة شعارات علمانية -عشائرية كانت ام عربية-)(22).

ولقد ذكرهم ناظم باشا بفتوى العلماء في تحريم الغزو دون استجابة تذكر منهم(23). وعليه لم يكن شعور ابناء العشائر تجاه الاسلام بكثافة الولاء الملاحظ في مناطق المدن واندفاع ابناءها (بصورة طبيعية اكثر وراء صيحات الدين وكان احد الشعارات الاكثر شيوعا بين عامة بغداد الدين.. يا محمد)(24). ويتجلى من خلال هذه المظاهر حضور قوي للدين في المدن وقد انعكس على علاقة شيعة المدن بمرجعية العلماء والفقهاء في كربلاء ومن ثم في النجف فقد شيعت بغداد كلها السيد مهدي الحيدري عند خروجه لحرب الجهاد سنة 1914م. ومن قبل خرجت الكاظمية كلها في استقبال الشيخ مرتضى الانصاري حين قدومه اليها من النجف الاشرف.

ودخلت هذه العلاقة في مرحلة جديدة بعد ثبات الفرقة الاصولية في تبوء مناصب المرجعية في بدايات القرن التاسع عشر وظهور مسألة التقليد التي لم تراعى عند الاخباريين حيث (اصبح نظام الاجتهاد الشيعي يحتم على كل فرد ان يقلد في احكامه الشرعية احد المجتهدين.. وصار الناس في المجتمع الشيعي يرجعون الى المجتهدين في مختلف امورهم الدينية والدنيوية)(25).

ونصب السيد محمد مهدي بحر العلوم سنة 1800م الشيخ جواد الفتوني للفتوى والتقليد بشكل شرعي ونصب شيخا اخر للقضاء في الخصومات (واستغنت به الشيعة عن النظام القضائي في الدولة العثمانية بحيث ادى الى عدم مراجعة الشيعة للمحاكم... وكانوا يأخذون دعاواهم الى رؤسائهم الدينيين)(26).

وبلغت هذه التنظيمات ذروة اهميتها في تنظيم العلاقة بين المؤسسة المرجعية وشيعة العراق وتوثيق عرى هذه العلاقة حيث يؤثر عن الشيخ عبد الكريم الجزائري علاقته الوثيقة بشيوخ عشائر الجنوب حتى استعان علماء النجف وزعماء حرب الجهاد بوجاهته لدى العشائر في التحريض على حرب الانكليز وكانت النجف وبفضل جهود الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء وانجازاته في تمصير النجف قد اصبحت عاصمة التشيع في العالم الاسلامي وموقع قيادته ومراجعه (وكانت الحكومة العثمانية قبل دستور 1908م تعترف بان المدينة المقدسة تختلف اختلافا بينا عن سائر ممتلكاتها ولذلك فقد منحتها بعض الامتيازات)(27).

وكانت بها تتميز وتتبلور الصورة الاجتماعية للجماعة الشيعية وتبسيط ثقافة روحية تتبنى ابوية العلماء للامة وتتفرع على قول الرسول (انا وعلي ابوا هذه الامة) والعلماء ورثة الانبياء ووكلاء الاوصياء (في الثقافة الشيعية) وفي ظل هذه التطورات نمت العلاقة بالمجتمع العشائري وتطورت الى الحد الذي صار فيه شيخ العشيرة مسؤولا امام المرجع الديني ويحتكم الى السلطة ويخشى سطوة الفتوى كما حدث مع رجل العشيرة المعروف علي الصويح في حضوره امام الشيخ جعفر الكبير لتبرئة نفسه من ذنب صدرت بحقه فتوى بإباحة دمه من قبل الشيخ نفسه وتأكيداً لهذا الانتماء وقوة الارتباط قبل شيوخ العشائر الشيعية انامل العلماء ولثموا اطراف عباءاتهم بدافع احساس الابوية الروحية وترجمة لمشاعر الولاء للمذهب وعقيدته وهو ما ظهر واضحاً وجلياً في رسائل متبادلة بين المرجعية الدينية وشيوخ العشائر في حرب الجهاد التي دعا لها علماء النجف واستجاب لها بحرارة ابناء العشائر(28). وكانت بداية انخراط الشيعة في الحدث السياسي وتكوين هويتهم السياسية والوطنية.

3. المؤسسة المرجعية وبناء الوطنية العراقية

اشتغلت المرجعية الشيعية بالقضية العراقية ومنحت شأن العراق مركزية الاهتمام في دائرة العمل المرجعي وصارت حلقة وصل وتحول الى انتماء وطني يمر عبر علاقة التشيع ومركزية المرجعية فيه، بعد ان تبنت مطالب الوطنية العراقية بتأثير دعوات الحركة الاصلاحية والسياسية الناشئة في البلاد العربية. وكان خطاب الوطنية العراقية في طرح المؤسسة المرجعية متأثرا الى حد كبير بمبادئ الاصلاح في حركة جمال الدين الافغاني. لاسيما وانه مكث في النجف بضع عشر سنة بعد ان قدم اليها وقد بلغ الثانية عشرة من عمره (اي سنة 1850م) طلبا للدرس والتحصيل الفقهي، وكانت النجف آنذاك في اوج نهضة علمية وأصولية (حيث ازدهرت فيها الدراسات الفلسفية والكلامية والاصولية وقد عاش الافغاني في هذا الجو الفكري وتشبع ذهنه)(29). وقد احدثت افكاره جدلا في النجف بعد عودته اليها من الهند ودراسة علم الاديان وتأثر بها فريق من الناس(30).

وغادر العراق ليعود اليه بعد ان برز اسمه وظهرت حركته الاصلاحية وباشر اتصاله بعلماء وفقهاء العراق من الشيعة رغم طلب الحكومة الايرانية من والي بغداد سري باشا ان يمنع الافغاني من الذهاب الى العتبات المقدسة لكي لا يتصل بعلماء الشيعة(31). ولكنه استطاع ان يجتمع بالسيد محمد سعيد الحبوبي وهو احد فقهاء الشيعة وزعماء الجهاد ضد الغزو البريطاني وكان من اصدقاء الدرس ورفقاء العلم سابقا، كذلك زار سامراء وقابل المرزا محمد حسن الشيرازي وبتأثير منه اصدر فتواه الشهيرة في تحريم التنباك وهي جزء من نضال تحرري. وكان شاعر الوطنية العراقية عبد المحسن الكاظمي متأثرا بأفكار الافغاني اذ كانت داره ملاصقة للدار التي نزل فيها الافغاني(32) عندما غادر بلاد المسلمين الى لندن كانت جريدة (القانون) ترسل الى العراق وكان لها قراءها والمتأثرون بها فيه(33).

ويعتقد الاستاذ حسن العلوي ان آراء مدرسة الافغاني الاصلاحية وافكاره التنويرية كان قد استلهمها اساسا من دراسته بالنجف اواسط القرن التاسع عشر وتلمذته على فقهاء متنورين قادة التيار الاصولي العقلاني الذي انتصر على فريق سلفي يمثله الاخباريون(34). وقد تطورت هذه المدرسة وعملت على ارساء قواعد الحركة الدستورية ضد الاستبداد العثماني والايراني وظهرت بوضوح في اراء عبد الرحمن الكواكبي في نظام الحكم ورفضه لمنطق الاستعباد وادانته لسياسة الاستبداد.

اكتملت صورة هذا الفكر السياسي وتنظيره الفقهي في النجف على يد الشيخ محمد حسين النائيني في كتابه المعروف (تنزيه الملة) وبفضل اراء الاستاذ الحكيم الذي اشار اليه النائيني كثيرا واعتمده في مصادر نظريته دون ان يصرح باسم هؤلاء بعد ان يكون المصلح الكبير الكواكبي، ويعكس هذا فهم الشيخ النائيني واصل تصوره لقضية الدستورية وما تعارف عليه باسم المشروطية على ضوء مفاهيم ومبادئ فكر اسلامي-عربي قد نضجت اراءه واستوفت شروط التأصيل في ظل مدرسة عراقية اصولية.

بينما يذهب الاستاذ حسن العلوي الى ان (المؤسسة الشيعية في العراق كانت الشريان المغذي لمنظومة الاتجاهات السياسية لمدرسة جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي)(35). ويرى ان فكرة الجامعة العربية الاسلامية هي مما رشح عن هذه المؤسسة ويستدل على ذلك برسالة المرجع الشيرازي الى الامير فيصل نجل الشريف حسين بقوله ابدأ الدعاء لكم بدوام عزكم... نبدي لكم اننا ما زلنا نسمع انباءا عظيمة في سبيل احياء الجامعة العربية التي هي عنوان المجد الاسلامي(36). ولعل المرجعية في النجف تأثرت بفكرة الجامعة العربية التي روجت لها كثيرا الحركة الاصلاحية بزعامة جمال الدين الافغاني وكانت هذه المحاولات هي الحلقات الاولى لبناء الوطنية العراقية واساس الحراك الوطني الذي شهده العراق في العقد الثاني من القرن العشرين(37).

وبمؤازرة من المؤسسة المرجعية تنامت المطالب الوطنية باستقلال العراق، وتأسيس حكومة تحظى برضا اهل العراق في نداءات وخطابات رجال الدين من الشيعة وزعماء العشائر العربية في منطقة الفرات الاوسط وبغداد، فقد اصدر المرجع محمد تقي الحائري الشيرازي بعد استفتاء وصل اليه من اهالي كربلاء حول جواز انتخاب غير المسلم للولاية والسلطنة على المسلمين فتوى اوجب فيها (ليس لاحد من المسلمين ان ينتخب ويختار غير المسلم للأمارة والسلطنة على المسلمين(38).

وقد ظهرت بوادر الوطنية العراقية التي تنم عن سابقة في التكوين الفكري والادبي لرجال العراق في جملة من الوثائق والرسائل وردود الفعل التي صدرت عن هؤلاء الرجال وفي مناسبات مختلفة. اعرب اولئك الزعماء عن اراءهم وبكل صراحة متناهية في الاستفتاء الذي امرت به وزارة الهند البريطانية بتاريخ 30/11/1918 بطريقة اسئلة ثلاث تطرح على السكان المحليين ومعرفة وجهة نظرهم في الاجابة حول الامور المعنية كما يلي:

1- هل يرغبون في دولة عربية واحدة تحت الوصاية البريطانية تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتى الخليج؟

2- هل يرغبون في هذه الحالة في رئيس عربي بالاسم يرأس هذه الدولة الجديدة؟

3- من هو الرئيس الذي يريدونه في هذه الحالة(39).

في اجتماع ضمهم مع ويلسن نائب الحاكم الملكي العام يسأل الحاج عبد المحسن شلاش عن اسباب هذا الاستفتاء وهل هناك عوامل تستدعيه وهو تساؤل يستبطن عناصر رؤية وطنية تحرص على مصلحة العراق وتدعوه الى التساؤل عن اسباب الاستفتاء ودواعيه، ورد الشيخ عبد الواحد ال سكر وبحزم على احد مؤيدي الاحتلال بقوله بل نريد حكومة عربية وطنية.

يحمل هذا الحوار في صميمه رأيا انضجته السنين وتعاهدته ثقافة وطنية اخذت على ما يبدو ومن خلال نص الحوار هذا تنتشر في العراق منذ زمن ليس بالقصير وترسيخ في شعور زعمائه وقادة الراي فيه قد ظهر ذلك جليا في موقف الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي اعلن في هذا الاجتماع انه من حق العراقيين تأليف حكومة وطنية مستقلة، وانه ليس بينهم من يفكر في حاكم اجنبي، وهو شاهد على انتشار هذا الشعور الوطني بين العراقيين في زمنه. ثم ان طبيعة مطلبه في تأليف الحكومة واسناد هذا الحق الى الشعب تكشف عن تصور ديمقراطي لنظام الحكم باعتبار الشعب مصدر السلطات وشرعية الحكم ممنوحة من قبل الشعب، وتأكيدا على وطنية هذه الحكومة يرفض وبشدة مجرد التفكير بحاكم اجنبي ناهيك عن القبول به عمليا، ونص هذا الحوار الذي ينقله عبد الرزاق الحسني في كتابه تاريخ العراق السياسي بالإضافة الى نصوص اخرى في هذا السياق يمتلك ثراءا في تحليل بنيته وقراءة مضامينه بعد تأمل عناصر تكوينه ومفردات خطابه، حيث يكشف عن خطاب واع بمفهوم الوطنية ورؤية واضحة في اطروحته السياسية ومبادئ عمله السياسي والوطني.

وعلى طريق الثقافة ذات النزعة المركزية الاوربية تحاول المس بيل اغماط الوطنية العراقية ومبادرة الشعوب الى الحرية والاستقلال وبناء الهوية الوطنية الخاصة وتنسب ظهور المد الوطني- التحرري في العراق الى (نشر الجرائد العراقية الرسمية يوم 11تشرين الاول عام 1919م بنود الرئيس ولسن الاربعة عشر...وبعد ان نشر في 8تشرين الثاني التصريح الانكليزي الفرنسي الذي يصرح بان الحكومتين تنويان ان تؤسس للاقوام التي ضلت خاضعة للجور التركي حكومات وادارات وطنية حرة تنتخب حسب رغائب الامة)(40). وهو ما ادى الى ظهور اتجاه جديد في تفكير سكان هذه البلاد حسب رأي المس بيل وتعتبره بداية الشعور الوطني في العراق، وقد اعدت فصلاً بهذا العنوان في كتاب لها وتصف هذا الشعور بصورة اطماع سياسية تكونت بعد مرور اسبوع واحد على البلاغ الانكليزي - الفرنسي واصبحت على درجة كبيرة من التطور في كل جهات العراق(41).

لكن مطالب ونداءات الزعماء العراقيين من علماء دين ورجال قبائل وطبقات الافندية تكشف عن جذور في الخطاب الوطني يعود الى مرحلة اسبق زمنيا من حدود بيان ويلسن وبلاغ دولة الحلفاء في الحرية والاستقلال وحق الشعوب في تقرير المصير. ورغم ان الدكتور على الوردي يتفق مع المس بيل في تبرير احداث ثورة العشرين والمطالب الوطنية العراقية فضلاً عن اسباب اخرى يضع الاغلب منها في اطار نظريته المعروفة في الصراع بين البداوة والحضارة، الا ان ادبيات خطاب الوطنية العراقية في هذه المرحلة سواءا في نصوصه او وثائقه ومراسلاته(42) وحماسة شعره يعبر عن وعي بالوطنية وليس وليد هذه التبريرات. وان كانت تشكل عوامل ضاغطة ومهمة في صنع الحدث في ثورة العشرين.

واذا كانت جرائد السلطة الرسمية تنشر بيان ويلسن وبلاغ الدولتين الحليفتين بريطانيا وفرنسا حسب ما كتبت المس بيل، فنحن نقرأ نصاً للدكتور علي الوردي يقو ل فيه (لم يكن في العراق آنذاك سوى بعض الجرائد التي تصدرها السلطة ولهذا كان العراقيون لا يميلون الى قراءتها بل يميلون الى قراءة جريدة العقاب...لا سيما في منطة الفرات الاوسط حيث يقوم الملاّ) - وهو عالم او رجل دين ويعبر عنه د. الوردي بـ(الملاّ)- بقراءة الجريدة فيصغي اليه الحاضرون ويعلقون عليها)(43).

ان تداول مناطق العراق ولا سيما مناطق الشيعة منها اخبار الوطنية وحماسهم للقضية العربية وبهذا الحجم الذي تحدث عنه الدكتور محمد مهدي البصير حيث يقول (ان اخبار سعد زغلول والشعب المصري من جهة واخبار الملك حسين وانجاله في الحجاز وسوريا من جهة اخرى كانت حديث الخاص والعام في العراق وما خلا منها مجلس من ذكرها(44). يشجع على القول ان بدايات الشعور الوطني وتنامي الدعوات الوطنية ظهرت منذ مدة من الزمن كفلت لها سعة الانتشار وقوة الاقناع والعمل في الدعوة والترويج لها، وبزخم ديني مصدره المؤسسة المرجعية التي سعت في بناء وطنية تقترن بالإسلام والعروبة وكان برنامج هذه المؤسسة السياسي (كانه مشروعات جبهوية بطابع وطني تحرري عربي اسلامي دستوري نيابي في وقت واحد(45).

مما جعله يساهم في تأسيس صرح الوطنية العراقية ويقيم بناء الوطنية على اسس من الهوية العربية والاسلامية عندما تبنى مطالب زعماء العراق (ان يكون للعراق الممتدة حدوده من شمالي الموصل الى خليج البصرة حكومة عربية اسلامية يرأسها ملك عربي مسلم هو احد انجال الملك حسين على ان يكون مقيداً بمجلس تشريعي).

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com

..........................................
الهوامش:
1. بطاطو، حنا، العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص59، ج1.
2. م. ن، ص61.
3. لونكريك، ستيفن، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ص158.
4. م. ن، ص158.
5. النقاش، إسحق، شيعة العراق، ص45.
6. م. ن، ص45.
7. م. ن، ص24.
8. ولغرض التدليل على عمق التشيع ورسوخه منذ عصور إسلاميه متقدمة، يستدل الأستاذ رشيد خيون على بطلان مقولة المؤرخ العراقي إبراهيم صبغة الله الحيدري (ت 1882م) بظهور عدد من الإمارات والكيانات الشيعية مثل إمارة عمر بن شاهين في أهوار جنوبي العراق (388هـ) وكذلك ظهور حركة شيعية أخرى بواسط والأهوار ممتدة إلى الأهواز وعرف صاحبها بالمشعشع، سنة (827هـ) ويستشهد ببيت من الشعر على تشيع أهل الأهوار في زمن الناصر لدين الله، (ت622هـ) ورد على لسان مزيد الخشكري:
فكأنما الهور الطفوف وأهله
شهداء وابن معية ابن زياد
ويستدل أيضاً بتشيع بني أسد في عمق الهور والحلة حيث إمارتهم الشيعية المزيدية ـ [الأديان والمذاهب في العراق، ص274-277]. وإلى هذا الرأي يذهب حنا بطاطو في كتابه [العراق، ص61، ج1].
9. لونكريك، ستيفن، م. س، ص256.
10. البصري عثمان بن سند، مطالع السعود، ص238.
11. م. ن، ص198.
12. النقاش، اسحق، ص39.
13. م. ن، ص39.
14. لونكركيك، م، س، ص276.
15. الوردي، د. علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، ص79، ج1.
16. م.ن، ج1، ص133.
17. النقاش، م. س، ص39.
18. لونكريك، م. س، ص339.
19، الوردي، م.س، ج2، ص109.
20. م. ن، ج1، ص108.
21. م. ن، ج2، ص120.
22. بطاطو م. س، ص32.
23. الوردي، م.س، ج3، ص198.
24. بطاطو، م. س، ص32.
25. الوردي، م. س، ج3، ص90-91.
26. مس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ص48.
27. م.ن، ص92.
28. مجلة آفاق عربية

اضف تعليق