يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
مخاطر المؤسسات المعادية للمجتمع المدني وأنواعها:
إن المجتمع (كمجموع) والدولة كدولة، والجماعات أو مؤسسات المجتمع المدني بما لها من هيئة اجتماعية وعلة صورية، كما سبق البحث فيه، وكذا المجتمع كـ(كجميع)، كما سيأتي بحثه، هذه كلها لها مسؤولية تجاه البعض الآخر، وقد جرى البحث عن أن بعض مؤسسات المجتمع المدني قد تكون من ألد أعداء المجتمع المدني ومؤسساته، بمعنى أنها تكون في الواقع ضد جوهر المجتمع الإنساني.
ثم إن هذه المؤسسات المعادية للمجتمع المدني على قسمين:
أ- المؤسسات المحلية الهدامة:
فقد تكون مؤسسات محلّية هدامة، وذلك مثل بعض المافيات والعصابات المحلية، حيث إنها تمتلك تنظيماً ولهم تخطيط، وعندهم قيادة، وإذا فرضنا (مافيا) ديمقراطية فستكون لديهم انتخابات، لكنها مع ذلك تبقى عصابة السراق، أو عصابة الإرهابيين، أو عصابة المختلسين، أو عصابة الراشين والمرتشين، أو ما أشبه ذلك، أي إنها تبقى مؤسسات معادية للمجتمع المدني، مخربة، أو هدامة.
ب- النيوليبرالية وآثارها الاقتصادية المدمّرة:
وقد تكون المؤسسة دولية، وكمثال على ذلك نلاحظ المؤسسات والشركات العملاقة، وهي حوالي الألف، وفي الوقع إنها هي التي تسیّر العالم، وهي الأذرع الاخطبوطية للدول الكبرى التي تستخدمها للسيطرة على الدول الصغرى، أو دول العالم الثالث أو الثاني، وإن التنظير الفلسفي الذي تعتمده الكثير من الدول الاستعمارية، ومنها هذه المؤسسات الدولية العابرة للقارات لنهب الشعوب، ولتحطيم الاقتصادات الوطنية، ولزيادة الأرباح، هو ما يسمونه (النيوليبرالية) وهي الليبرالية الحديثة، أو التحريرية الحديثة، وهؤلاء سنّوا سلسلة من القوانين ووضعوا حزمة من برامج العمل، وقد أشرنا إلى بعض قوانينهم سابقاً، وسنتوقف عند القانون الخامس.
إن الدول الاستعمارية -مثل أمريكا أو بريطانيا- تحت شعار وستار تحرير الأسواق، وحرية حركة رأس المال، وتنافسية الأسواق، تسعى جاهدة لعقد -بل لفرض- الاتفاقات الاقتصادية مع دولنا، ودول العالم الثالث بشكل عام، والتي لا تنتج إلا تحطيم الاقتصاد الوطني، وتطالب دولنا، بل تمنعها من حقها الطبيعي في أن تفرض حماية للمنتج الوطني عن طريق وضع الجمارك على بضائعهم، التي تغزو بلادنا كجيوش المغول، فتحطم الصناعة، وتحطم الزراعة، وتحطم كافة منتوجات هذا الوطن وصناعاته، ولكن الأمر عندما يصل إليهم، يعني عندما تكون هناك بضاعة أجود وأرخص يراد تصديرها لهم، نجدهم فوراً يفرضون الحماية لمنتجاتهم الوطنية، ويتخلون عن منطق اقتصاد السوق في ازدواجية صريحة في المعايير ناسين، بل متناسين منطق تنافسية الأسواق، وحرية حركة البضائع ورأس المال، وناسين قاعدتهم الذهبية في أن الأسواق تصحح نفسها بنفسها، وإن التنافسية الاقتصادية هي الحكم لا غير!
فكرة الربح (لا الأخلاق) هو جوهر الديمقراطية:
ننقل هنا نصاً مهماً يعلمنا كيف يفكر عدد من أبرز مفكري النيولبرالية، وأن الاستعمار أو الدول الكبرى في الواقع تتبع هذا النمط من التفكير!
النص عن الأب الروحي للنيوليبرالية في كتابه (الرأسمالية والحرية)، والذي نلاحظ فيه التزوير الفلسفي لأجل تبرير الإجحاف الاقتصادي وفق التحوير في مفهومٍ لكي ينتج عكسه، كمثل أن يعبر أحدهم عن الظلم بالعدل، كأن يظلم الزوج زوجته ثم يسوّقه على إنه قمة العدل! فهكذا هم (النيوليبراليون) يظلمون الشعوب ولكن بمنطق إننا نريد أن ندافع عن حقوق الشعوب، فعليكم أن تسمحوا لمؤسساتنا العملاقة أن تأتي إلى بلادكم وتؤسس المصانع والشركات الكبرى وغير ذلك، وأن لا تفرضوا حماية على منتجوكم الوطني، إننا نقدم لكم البضاعة الجيدة، وننهض ببلدكم كي تتطوروا مثل البرازيل أو مثل المكسيك، مع أن البرازيل والمكسيك ما هما إلا كالحديقة الخلفية أو كالبقرة الحلوب للولايات المتحدة الأمريكية لمن يعرف المعادلات الاقتصادية والسياسية.
يقول هذا الأب الروحي للنيوليبرالية في كتابه (الرأسمالية والحرية): (يمثل تحقيق الربح جوهر الديمقراطية) نلاحظ بدقة إنه لا يقول(يمثل تحقيق الأخلاق جوهر الديمقراطية)، ولا يقول: إنه (يمثل تحقيق حقوق الإنسان، جوهر الديمقراطية)، ولا يقول بمنطقنا الإسلامي إنه (يحقق قضاء حوائج الناس، والنهوض بحاجاتهم، وإعطاء كل ذي حق حقه، جوهر الديمقراطية)، ولا يقول إنه (يحقق حصول الناس على حريتهم في التصويت) وغير ذلك من أشكال الحرية الحقيقية جوهر الديمقراطية، بل يقول (يمثل تحقيق الربح جوهر الديمقراطية) !!
ولعل هنالك من لا يفهم كلامه جيداً؛ لذا يصرح بوضوح أكثر فیقول: (وبالتالي فالحكومة التي تتبع سياسة معارضة للسوق هي في الحقيقة حكومة معارضة للديمقراطية)، فنلاحظ عبارته (وبالتالي فالحكومة التي تتبع سياسات معارضة للسوق) لأن السوق صار هو الإله، و(هي في الحقيقة حكومة معارضة للديمقراطية)، وهذا يعني أن الحكومات التي تحاول أن توفر الحماية لاقتصادها الوطني هي برؤيته تكون معادية للديمقراطية.
ومن جهة أُخرى يوجد عندنا بيت المال، وهم يسمونه مؤسسة الضمان الاجتماعي، أو ما أشبه ذلك، لكن الفخر يعود للإسلام؛ لأنه الذي أسس للضمان الاجتماعي بأفضل الوجوه، ولأنه الذي عَلّمهم ذلك، فإن من مسؤولیات بيت المال توفير الرفاه الاجتماعي، وبيت المال مسؤول عن توفير الحوائج ذات الصلة بالفقراء وبالمرضى وبالمقعدين وبالمكفوفين، وبالأيتام وكبار السن والعاطلين عن العمل.
لكن هذا الأب الروحي للنيوليبرالية يدين (هذه السياسات) كلها، ويعني بها سياسات الرفاه الاجتماعي التي تتبعها بعض الدول لماذا؟ يجيب: لأنها تناقض مبدأ السوق ويعني بها السياسات التي تنهض بالتعليم، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وكذلك فإن زيادة الضرائب على الأغنياء والشركات العملاقة هذه كلها تعارض الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية عنده هي ديمقراطية السوق، وليست ديمقراطية الناس!
وبالتالي فهو يرى أن الحكومة التي تتبع سياسات معارضة للسوق هي في الحقيقة حكومة معارضة للديمقراطية لماذا؟ لأن السوق صار إلههم، وأصبح دينهم دينارهم، فالمهم هو السوق حتى لو كان الشعب معارضاً بأكثريته لقوانين السوق التي وضعوها هم (النيولبراليون)، فالديمقراطية هي مع السوق ومن السوق وإلى السوق، وبالتالي -وحسب رأيهم- فإن من الأفضل، بل من اللازم قَصْر دور الحكومات على حماية الممتلكات الخاصة للشركات العملاقة، وتنفيذ الاتفاقات لصالحهم، وحصر النقاشات السياسية بالموضوعات الثانوية، والبحث في هذا الحقل طويل، والحر تكفيه الإشارة.
الرؤية الإسلامية في علاقة الفرد بالمجتمع:
أما في منطق الدين ونص الروايات، فإن مؤسسات المجتمع المدني ينبغي أن تلاحظ مصلحة الأفراد والمجتمع (لا مصالح الذين يكنزون الذهب والفضة)، فأولئك لا يرون المحورية والموضوعية إلا للأغنياء، بل لكبار الأغنياء فقط، وللشركات العملاقة لا غير، والتي ذكرنا أنها حوالي ألف شركة تتحكم في مصير العالم.
فليس للناس مكان في هذه المعادلة؛ لأن جوهر الديمقراطية عندهم هو الربح وليس الإنسان، أما نحن فإن جوهر الديمقراطية عندنا هو الإنسان، وكما يصرح به أمير المؤمنين علي(عليه السلام): (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) في ضمن الضوابط الإسلامية التي تعطي طابعاً إنسانياً حقيقياً أكثر للموضوع.
وإليكم هذه الرواية الشريفة التي تعد من أروع الروايات في هذا الحقل، كما تعد من أعظم الوثائق التي تكشف عن مدى إنسانية الإسلام وسمو مبادئه، يروي أبو حمزة الثمالي، عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنه قال: (من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مائة حاجة في إحداهن الجنة، ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجته حتى قضاها فيسُرُّ بقضائها كان كمن أدخل السرور على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن، أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسو من الثوب سلك، ومن عاده عند مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول له: طبت وطابت لك الجنة، ومن زوّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورةِ أحبَّ أهله إليه، ومن كفاه بما هو يمتهنه ويكف وجهه ويصل به ولده أخدمه الله عزّ وجلّ من الولدان المخلدين، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة في الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة، ومن كفنه عند موته فكأنما كساه من يوم ولدته أمّه إلى يوم يموت، والله لَقَضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام).
فلنلاحظ قوله (عليه السلام) (من قضى لأخيه حاجة) وهذا يعني إن المحور ليس هو (أنا) أو (الربح والسوق) الذي يصب في جيب الأغنياء، بل المحور هو (الآخر) و(الأخ)، فهو محور أساسي له الموضوعية.
(فبحاجة الله قد بدأ) وهذا تعبير عظيم جداً، فكأنه أعطى شيئاً لله، فهو نظير قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) مع أن الله سبحانه وتعالى هو الغني الوهاب لكل شيء، لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يرفع من شأن هذا العطاء، فيقول له: إنك بذلك كأنك تعطيني شيئاً، وفي هذا تكريم للعبد وأي تكريم! وذلك مثل من يهدي هدية للملك فيقبلها الملك، فهذا -أي قبول الملك- هو الربح؛ لأن الملك أخذ منه، ففي المنطق المادي الضيق نجده قد خسر ألف دينار، لكنه في الواقع يرى نفسه هو الرابح؛ لأنه ربح رضا الملك أو الأمير أو الرئيس، أو أي شخص في رأيه له قيمة، وأين ملوك الأرض من الله العزيز الجبار؟ ولاحظوا روعة قوله (عليه السلام): (من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ).
(وقضى الله له بها مئة حاجة في إحداهن الجنة) والتي تستمر لمليارات السنين، بل ترليونات السنين، بل ما لا يعد ولا يحصى، وأين عطاؤه من هذا كله؟
(ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له) والظالم يشمل الدول الاستعمارية والشركات العملاقة، والأحزاب المستبدة والحكومات الطاغية، كما يشمل أي إنسان دجال أو مدلس أو مرابٍ أو غاشٍ أو خادع أو غاصب أو إرهابي.
والطريق الى إعانة المظلوم هو (المؤسسات الدولية العابرة للقارات) و(المنظمات الحقوقية) و(وسائل الإعلام) وغير ذلك.
(ومن أعانه على ظالم له أعانه على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجته حتى قضاها فيسر بقضائها كان كمن أدخل السرور على رسول الله (صلى الله عليه وآله))، وهذا يعني أن ملايين الناس عندما تُقضى حوائجهم فإن هذه الأخبار كلها ستوصلها الملائكة إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، أو يُطلِعُه الله عليها بأي طريقة أخرى قررها، فيسرّ بذلك رسول الله وما أعظم ذلك:
أن نستشعر إننا غير منقطعين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانهم (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون)، هم وسائط الفيض منذ بدأ الخليقة.
(ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة)، فما أعظم التفكير بالآخرين وخدمتهم؟
(ومن كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسو من الثوب سلك واحد، ومن عاده عند مرضه حفّته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول له: طبت وطابت لك الجنة، ومن زوّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها آنسه الله في قبره)، وما أحوجنا إلى ذلك؛ لأن القبر مظلم موحش، والشخص إذا بقي في غرفة صغيرة مظلمة فإنه يحس بالاختناق، فكيف إذا كان في قبر موحش؟
(آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه، ومن كفاه بما هو يمتهنه ويكف وجهه ويصل به ولده أخدمه الله عز وجل من الولدان المخلدين، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة في الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي بها الملائكة، ومن كفنه عند موته كأنما كساه من يوم ولدته أمه إلى يوم يموت، والله لِقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام).
إذن، فإن على مؤسسات المجتمع المدني، وكل إنسان وكل دولة أن تضع حوائج الناس نصب عينها دائماً، في آناء الليل وأطراف النهار، وعلى الإنسان أن يفكر دوماً في إنه ما الذي عمله للآخرين؟ وهكذا سوف ينهض المجتمع ويزدهر يوماً بعد يوم أكثر فأكثر.
رزقنا الله وإياكم أن نكون من أولئك الأشخاص الربانيين، وأن نؤسس تلك المؤسسات الاجتماعية الدينية والإنسانية، التي تنهض بالأمة وتتكفل بقضاء حوائجها، وتكون من ضمن أهم أهدافها قضاء حوائج الناس، وصناعة المدينة الفاضلة، إنه سميع مجيب والله الميسر المستعان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق