انّ الأكاديميّين العرب يعيشون حالة اغتراب تتمثّل في غياب الحرّيّات وضياع الحقوق الأكاديميّة بالمقاييس كلّها. وبما أنّ الجامعة هي حرم العقل والحرّيّة فإنّه يتعيّن على الجامعيّين اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى أن يتحرّروا من نزعة الخلاص الفرديّ. فالأكاديميّون يملكون الكلمة والقلم على الأقلّ، وهم يستطيعون أن يقدّموا
"إنّ الجامعات قاطرات التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن تشكّل التغيّرات والمتغيّرات الحادثة في المجتمع النوابض التاريخيّة لتقدّم الجامعات وتطوّرها، وذلك من منطلق أنّ العلاقة القائمة بين الجامعات والمجتمع هي علاقة صميميّة وجوديّة، تقوم على الفعل والانفعال والتجاوب والاستجابة الدائريّة المستمرّة عبر الزمان والمكان ".
1 - مقدّمة:
تشكل الحريات الأكاديمية في الجامعات الحقل الخصيب لنماء المعرفة الإنسانية وازدهار المعرفة الإبداع العلمي. وقد أدرك علماء الاجتماع التربوي هذه الحقيقة، فأعلنوها قانونا اجتماعيا صاغته التجارب الإنسانية وصقلته حركة الإبداع العلمي في كلّ المجتمعات. فالحريات الأكاديمية هي الإطار العام والشرط الموضوعي لوجود الجامعة وتطورها، كما أنّها التّربة الحاضنة لأدائها العلمي بسماته الإبداعية والابتكاريّة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يرتسم تاريخ الجامعات نضالا من أجل الحرية والديمقراطية والإبداع العلمي، ويحفل هذا التاريخ بنماء الفكر الديمقراطي وتطوره في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا، وذلك انطلاقا من الأهمية المطلقة والضرورة التاريخية التي يمثّلهما توفر الديمقراطية بالنّسبة إلى العلم والمعرفة العلمية.
ومن يتأمّل بعمق ودراية في تاريخ العلم وتاريخ الجامعات يجد بأنّ النضال من أجل المعرفة والحقيقة لم ينفصل لحظة عن النضال من أجل الديمقراطية. ويَظهر له جليّا أنّ الحقيقة الديمقراطية تتحدّد دائما مع حقيقة الإبداع العلمي والمعرفي. ومن يرصد وقائع التاريخ سيجد بأنّ تراجع الحضارة والمعرفة كان نتاجا طبيعيا لتراجع القيم الديمقراطية وغياب الحرية. وبالمقابل، فإنّ قوة الحضارة ومدى ازدهارها يرتهنان بمدى الازدهار الديمقراطي الذي تشهده هذه الحضارة أو تلك. ويقرئنا التاريخ أن الحضارات المزدهرة كانت قبل ذلك قد شهدت ازدهارا ديمقراطيا سجل حضوره في أصل النماء الحضاري لهذه الشعوب التي صنعت الحضارة وتكاملت معها.
وفي عمق التحولات الحضارية كانت مؤسسات التعليم العالي، وما زالت، تشكل قاطرات التاريخ نحو العلم والديمقراطية. والقانون الذي يسود هذه المؤسسات لا يخرج عن القانون العام الذي يسود الحضارة: فمدى أصالة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على تحقيق النهوض الحضاري والعلمي رهينان، وعلى نحو جدلي، بمدى الأداء الديمقراطي لهذه المؤسسات الجامعية في مختلف صيغها وتجلياتها. وبالتالي فإنّ المؤسسات الجامعية التي تعاني من غياب الأجواء الديمقراطية ستعاني بالضرورة من الجمود والتصلب اللّذين يتجسّدان في حالة عدمية قوامها حالة اغتراب شاملة تتمثل في انهيار أكيد لمختلف طاقات الإبداع والقدرة على الابتكار. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أنّ مستوى الأداء العلمي والديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في مجتمع ما يمثّل المؤشر الحضاري على الدرجة التي بلغها هذا المجتمع في سلّم التطور الحضاري والإنساني.
وفي ظل هذا التصور التاريخي لدور الحريات الأكاديمية في تشكل الحضارة الإنسانية والنهوض الحضاري، تنقدح في العقل أسئلة رصينة حول الدور الحضاري للجامعات العربية. والسؤال الأبرز هنا هو: هل تمارس الجامعات العربية دورها المعرفي الإبداعي بما ينسجم وتطلعات العصر الذي يزخر بالعطاء العلمي ويومض بالابتكارات في مختلف ميادين الوجود؟ هل استطاعت الجامعات العربية أن تحقق نقلة نوعية في مجال الحريات الأكاديمية؟ وما هي أوضاع هذه الحريات ومستقبلها في زمن الثورة الصناعية الرابعة؟
يطرح التفكير في واقع الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة سلسلة معقّدة من القضايا والإشكاليّات الّتي تأخذ طابع التنوّع بأبعادها الفكريّة والاجتماعيّة. ففي أحضان الجامعات نمت الحركات الديمقراطيّة وتفتّق العقل البشريّ عن طاقاته الإبداعيّة في مختلف الميادين والاتّجاهات. وهذا هو المنطلق الّذي دفع عدداً كبيراً من الباحثين والمفكّرين إلى الاعتقاد بأنّ مستوى تطوّر مجتمع ما رهين إلى حدّ كبير بمستوى تطوّر جامعاته. وتلك هي الحقيقة الّتي انطلق منها بعض المفكّرين لتفسير كلّ الظّواهر، بما فيها الانتصارات والهزائم العسكريّة لبلدانهم. ألم يعلن الكاتب الفرنسيّ المشهور إرنست رينان (Ernest Renan 1823 - 1892)- في أعقاب الهزيمة العسكرية التي منيّت بها فرنسا ضد ألمانيا في عام 1870، بأنّ "الجامعات الألمانيّة هي الّتي انتصرت"(1)؟
فالجامعات كانت، وما زالت، مهادا ومعقلا للفكر الحرّ، ومنطلقا للتّجديد والابتكار في مختلف ميادين الوجود الاجتماعيّ. وقد ارتبط تاريخ هذه الجامعات بتاريخ نماء الفكر الديمقراطيّ بكلّ ما ينطوي عليه هذا الفكر من أصالة وعمق وقيمة إنسانيّة. ومما لا شك فيه أن الجامعات كانت عبر تاريخها الطويل موطناً للحرّيّة وحاضناً طبيعيّاً للقيم الديمقراطيّة، وهي في ضوء هذا المنظور كانت وما زالت مصدر إشعاع حضاريّ ومنهلاً للقيم الديمقراطيّة وحاضنا لهذه القيم في البيئة الاجتماعيّة الّتي تحيط بها.
وإذا كان نماء الفكر الديمقراطيّ رهيناً بتطوّر أبعاده في الحياة الاجتماعيّة بصورة عامّة فإنّ الجامعات كانت، وما زالت، تشكّل الحلقات الأكثر أهمّيّة وخصوصيّة في عمليّة هذا النماء، فالعلم لا ينمو إلّا بالإبداع والابتكار. ومن ثمّ فإنّ قيم الحرّيّة والديمقراطيّة هي البوتقة الّتي تتشكّل في جنباتها أسس الإبداع والتجديد والابتكار. ومن هنا فإنّ الجامعة كمؤسّسة علميّة لا يمكنها أن تؤدّي دورها التاريخيّ إلّا في أجواء الحرّيّة والمعاني الديمقراطيّة. فالجامعة كما يشهد تاريخها الطويل كانت المرآة الأولى الّتي تُكتب على صفحتها النّاصعة أبجديّات الإبداع والحرّيّة في المجتمع الّذي يحتضنها، ويتأسّس على ذلك بالضرورة أنّ الفكر الديمقراطيّ، بكلّ ما ينطوي عليه من قيم وعطاءات ومنجزات، يجد نفسه في أحضان المؤسّسات الأكاديميّة العليا أوّلاً، ومن ثمّ تبدأ دورته الاجتماعيّ ليأخذ أبعاده وتجلّياته في مدار الحياة الاجتماعيّة بمختلف مؤسّساتها ودوائرها وحلقاتها.
ولا يمكن للجامعة، كما تؤكّد أدبيّات علم الاجتماع أن تؤدّي وظائفها إلّا على نحو متكامل، وفي نسق روح واحدة وهويّة موحّدة. وهي على هذا الأساس التكامليّ لا يمكنها أن تكون مؤسّسة علميّة ما لم تكن مؤسّسة ديمقراطيّة، ولا يمكنها أن تمارس دوراً اجتماعيّاً حضاريّاً ما لم تؤدّ وظيفتها العلميّة والديمقراطيّة. وهذه الرؤية الموضوعيّة لدور الجامعة ووظائفها الّتي تتمثّل في خدمة العلم والديمقراطيّة تطرح قضيّة إشكاليّة معاصرة تتعلّق بمكانة الجامعة وصورتها لدى النّاس.
فالجامعة نسيج من العلاقات الاجتماعيّة والثقافيّة الّتي تقوم بين مكوّنات وجودها. ويمكن للعلاقات الاجتماعيّة أن تأخذ اتّجاهين مختلفين، فهي إمّا أن تكون علاقات استبداديّة عموديّة، وإمّا أن تكون علاقات أفقيّة ديمقراطيّة، وبتعبير آخر إمّا أن تأخذ هذه العلاقات اتّجاهاً يتميّز بالمرونة أو طابعاً يتّصف بالتصلّب. ويتأسّس على ذلك أنّ غياب العلاقات الديمقراطيّة في الجامعة يفسح المجال لنماء علاقات التسلّط والاستبداد، وعلى خلاف ذلك فإنّ غياب علاقات التسلّط والإكراه في الجامعة يعني بالضرورة حضور القيم الديمقراطيّة فيها وفي المجتمع برمّته.
ويبنى على هذه الرؤية ضرورة دراسة أبعاد الحياة الديمقراطيّة والحرّيّات الأكاديميّة الجامعيّة التي تشكل منطلقاً حيويّاً لدراسة الروح الداخليّة للجامعة. فالأداء الديمقراطيّ للجامعة هو بمثابة الدورة الدمويّة للحياة فيها، كما يمثّل في الوقت نفسه صورة مصغّرة للحياة الديمقراطيّة في المجتمع بصورة عامّة، وذلك انطلاقاً من أهمّيّة العلاقات الوشيجة بين الجامعة والمجتمع، فالمجتمع هو الإطار العامّ لدورة الحياة الجامعيّة، وهي تعكس الصورة المستقبليّة الّتي سيكون عليها هذا المجتمع في معارج نمائه وتطوّره الداخليّ.
وإذا كانت الجامعات الغربيّة قد أدّت دورها وتكوّنت لديها تقاليد علميّة وديمقراطيّة راسخة فإنّ الجامعات العربيّة مدعوّة لأداء دور تاريخيّ بالغ الأهمّيّة والخطورة في مجتمعات ما زالت فيها قيم التعصّب والقبليّة والعشائريّة والطائفيّة هي الّتي تسود وتنخر عظام الوجود الاجتماعيّ. فالقيم السابقة لوجود المجتمع المدنيّ والمناهضة له تستشري في أوصال الثقافة العربيّة. وهذا يحمّل الجامعة وأهلَها مسؤوليّة جليلة ذات طابع إنساني وحضاريّ في الوقت ذاته.
2 - مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة:
شغلت قضيّة الحرّيّات الأكاديميّة علماء الاجتماع على اختلاف مذاهبهم وتيّاراتهم. وتعدّ مشكلة الحرّيّة الأكاديميّة (Academic Freedom) من القضايا الأساسيّة الّتي عالجها ماكس فيبر بمزيد من الاهتمام، إذ كان يعتقد أنّ مختلف المشكلات والقضايا الجامعيّة ترتبط بها جوهريّاً. ويعني هذا أنّ الحرّيّة الأكاديميّة تشكّل عمق الحياة الجامعيّة وجوهرها بكلّ ما تنطوي عليه هذه الحياة، وبكلّ ما يرتبط بالوظائف الجامعيّة من اعتبارات اجتماعيّة وإنسانيّة وقيميّة(2).
ويعدّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة من المفاهيم الإشكاليّة الّتي تشتمل على نسق معقّد من الأفكار والاتّجاهات المختلفة. ويتجسّد البعد الإشكاليّ لهذا المفهوم من خلال ما وصل إليه رؤساء خمس وعشرين جامعة أمريكيّة في اجتماعهم الشهير في فبراير عام 1953 لمناقشة الحرّيّة الأكاديميّة، إذ حسبما تقول شريكر: "كانوا كلّما أمعنوا في مناقشة المسألة ازدادت غموضاً(3).
ومن المهم في هذا السياق أن نُلمع إلى أنّ مفهوم الحريات الأكاديمية قد شهد ولادته الحقيقية في أحضان الجامعات الغربيّة في العصور الوسطى. وكان هذا المفهوم يشير إلى أمرين هما: اعتراف السلطة الدينيّة أو المدنيّة بالاستقلال الذاتيّ للجامعة، والامتيازات الّتي كان يتمتّع بها الأساتذة والطلبة في الجامعة، مثل: حرّيّة السفر والتنقّل الآمن ومحاكمة الخارجين على قوانين الجامعة وأنظمتها وحقّ الجامعة في وقف التدريس فيها أو نقل مكانها عند تعرّضها للخطر، وقد شملت هذه الحقوق إعفاء ممتلكات الأساتذة والطلبة من الضرائب وإعفاءهم من الخدمة العسكريّة. وبموجب هذا الاستقلال الذاتيّ تمتّعت الجامعة بحرّيّة تنظيم إدارتها الذاتيّة فيما يتعلّق بكلّيّاتها ومكاتبها ومصالحها وتحديد شروط العضويّة في هيئتها التدريسيّة. وكانت المراسيم البابويّة والمواثيق الملكيّة في أوروبا تؤكّد هذا الاستقلال الذاتيّ للجامعات التابعة للكنائس والأديرة والممالك (4).
وفي العصر الحديث يرى المؤرخون أنّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة المعاصر قد انطلق من ألمانيا، مع إنشاء جامعة برلين الحديثة عام 1810، بإشراف الفيلسوف الألمانيّ الشهير يوهان غوتليب فيخته (Fichte Gottlieb Johan)، ومن ثمّ عرف هذا المفهوم ازدهاره وتطوّره داخل أسوار الجامعات الغربية والأمريكيّة وفي أروقتها(5). ويركّز التراث الجامعيّ الألمانيّ على ازدواجيّة مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة، فهناك الحرّيّة الّتي تخصّ الأساتذة، وتعكس ما يسمّى بحرّيّة التعليم، والآخر يخصّ الطلّاب، ويسمّى حرّيّة التعلّم. وتؤكّد المقولات الألمانيّة في هذا السياق على أهمّيّة حرّيّة التعلّم عند الطلّاب، وعلى أنّ هذه الحرّيّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال حرّيّة التعليم أيّ حرّيّة أساتذة الجامعة. وهو ما يعني أنّ حرّيّة الطالب رهينة بحرّيّة الأستاذ في التعليم. وتعني حريّة التعلّم حقوق الطالب في الالتحاق بالجامعة وحرّيّة اختيار الفروع الّتي يرغب فيها وهو المطلب الأوّل، أمّا المطلب الثاني فهو حرّيّة الطلّاب في الاعتراض والمناقشة والخروج على آراء الغير (6).
وكان أبرز من بشّر بالنجاح الثاني للحرّيّة الأكاديميّة، أي لحرّيّة الطلّاب، هو شارلز ويليام إليوت ( Charles William Eliot 1834 - 1926) الّذي استمرّت ولايته لجامعة هارفارد أربعين عاماً من (1909-1869)، وقد أكّد ضرورة ممارسة الطالب لحرّيّته في التعليم والبحث واختيار المنهج والأستاذ المعلّم(7). ومنذ أواخر القرن الماضي، بدأ بعض أعلام التعليم الجامعيّ في الغرب بعامّة، وفي الولايات المتّحدة بخاصّة، ينتبهون إلى أنّ الحرّيّة الأكاديميّة للجامعة ينبغي أن تمتدّ لتشمل الطلّاب كذلك، فبرز ما سمّي بنظام الاختيار للمقرّرات الّذي سارعت جامعات عربيّة إلى اقتباسه منذ أواسط السبعينيات(8).
ويُثبت البحث في جوهر مفهوم الحرّيّات الأكاديميّة وجود منظومة من المفاهيم والقيم الداخليّة تنضوي داخله. ومن هنا يذهب بعض المفكّرين إلى التمييز بين جوانب هذه الحرّيّة، فيتمّ النظر إلى ثلاثة مكوّنات أساسيّة في منظومة الحرّيّات الأكاديميّة وهي:
أولا - حرّيّة العلم والبحث العلميّ.
ثانيا - حرّيّة الأفراد المشتغلين بالعلم والبحث العلميّ، ويشمل هذا البُعدُ حقوق وواجبات العمل الأكاديميّ.
ثالثا- الحرّيّة الداخليّة للجامعات والمؤسّسات الجامعيّة العليا(9).
ويؤكّد بعض الباحثين على جوانب محدّدة في مفهوم الحرّيّات الأكاديميّة، فيبرزون عناصر الحرّيّة يتنوّع تجلّياتها. ووفقاً لهذا المنظور، فإنّ الحرّيّة الجامعيّة تتمثّل في ثلاثة مستويات كما يرى أحد المفكّرين وهي:
1- حرّيّة الرأي العلميّ بالقول.
2-حرّيّة الرأي العلميّ بالفعل.
3-حرّيّة الرأي العلميّ بالتحريض والإثارة كما هو حاصل في مجال التعليم والخطابة والكتابة(10).
وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى التعريف الإجرائيّ الّذي وضعه جون ديكنسون للحرّيّة الأكاديميّة، إذ يرى أن الحرّيّة الأكاديميّة تتكوّن من أربعة عناصر يمكن قياسها والتأكّد من تحقّقها على أرض الواقع. هذه العناصر هي:
1- الاستقلال الداخليّ للمؤسّسات الجامعيّة والبحثيّة: فالاستقلاليّة الداخليّة للجامعة هي العنصر الأوّل من عناصر الحرّيّة الأكاديميّة.
2- تنوّع وتعدّد مصادر تمويل الجامعات بما في ذلك تعدّد تمويل البحوث الأساسيّة والتطبيقيّة.
3- التأكيد على الأمن الوظيفيّ للباحثين والأكاديميّين.
4- التأكيد على وجود هيئة أو جمعيّة مهنيّة تتولّى تمثيل الباحثين والأكاديميّين وتدافع عن مصالحهم بصورة فرديّة أو جماعيّة(11).
وإذا كانت الحرّيّة الأكاديميّة ترمز إلى رفضٍ لكلّ أشكال الإكراه والتقييد على البحث والتدريس داخل المؤسّسات الجامعيّة والعلميّة والبحثيّة "فإنّ هدفها الأعمّ الارتقاء بواقع العطاء العلميّ وإزالة كافّة أشكال المعوّقات الّتي تحدّ من النشاط العلميّ والبحثيّ الحرّ وتحدّ من انتشار العلم والتفكير العلميّ وتغلغلهما في الحياة"(12).
ويرى أغلب الباحثين المشتغلين بقضايا الحرّيّة الأكاديميّة أنّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرّيّات السياسيّة السائدة في المجتمع ويرتهن بها. فالحرّيّة الأكاديميّة كما يعتقد أغلب المفكّرين شديدة الارتباط بالبيئة الاجتماعيّة والسياسيّة الّتي تحدّد مستوى تطوّر هذه الحرّيّة وطابعها. "فالمعطيات والظروف الاجتماعيّة والسياسيّة هي الّتي تتحكّم في وجود أو غياب الحرّيّة الأكاديميّة والأشكال الأخرى من الحرّيّات والحقوق، خاصّة في مجال التطبيق والممارسة"(13).
وفي مجرى الحديث عن الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعة والمؤسّسات العلميّة، فإنّ كثيراً من الباحثين يُلجِمون هذا المفهوم بمبدأ المسؤوليّة والالتزام إلى حدّ يكاد يفقد فيه مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة معناه وجوهره الحقيقيّ. ومن هذه الزاوية، يلحّ كثير من الباحثين والمفكّرين على ثانويّة القيد والالتزام تأكيداً منهم على جوهر وأهمّيّة المفهوم وحرصاً على معانيه التاريخيّة. ومن هذا المنطلق يقول عبد الخالق عبد اللّه "إنّ الإقرار بمبدأ المسؤوليّة والالتزام في مجال العمل العلميّ والأكاديميّ لا يعني مطلقاً التسليم بالقيود على الحرّيّات الأكاديميّة، فالحرّيّات الأكاديميّة تظلّ هي القاعدة. أمّا القيود، بما في ذلك القيود الذاتيّة والداخليّة، فهي باستمرار الاستثناء، بل إنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست سوى السعي من أجل التقليل إلى أقصى حدّ من القيود المفروضة على نشاط الأكاديميّين والباحثين والمشتغلين بالعلم"(14). إنّ الحرّيّة الأكاديميّة، ومهما تباينت الآراء حول تحديد مفهومها وأبعادها، تقوم على سلطان العلم. ولا يُبرَّرُ إلّا به وفي حدوده، بحيث أنّ كلّ تحوّل في طبيعة هذا السلطان يؤول إلى زيغ عن الحرّيّة الأكاديميّة وانقلاب عليها، فينزلق بها إلى مستوى التغييرات الّتي تجعلها تُسخّر لخدمة التصوّرات الأيديولوجيا والمصالح الفئويّة والحزبيّة(15).
لقد أصبحت الحرّيّة الأكاديميّة - بوصفها المنطلق الحقيقيّ لاكتشاف الحقيقيّة العلميّة- مسلّمة من المسلّمات الحياتيّة والفكريّة في المجتمعات الغربيّة، وهي أيضا في أكثر بلدان العالم المتحضّر قضيّة تجاوزت حدود الاختلاف والجدل. ولكنّ هذا المفهوم ما زال يخوض غمار ولادة مريرة ومؤلمة في أغلب البلدان العربيّة. فالأنظمة السياسيّة ترفض مضامين هذا المفهوم، وتصنّفه من بين المفاهيم الخطرة الّتي يجب أن تحارب. وبعض المفكّرين العرب في تجربة شاقّة وقاسية لتأكيد الحضور الخلّاق لهذا المفهوم الّذي يبرّر شرعيّة البحث عن المعرفة والحقيقة وتأكيد العلم والتفكير العلميّ الحرّ في الحياة والمؤسّسات الجامعيّة.
3- الحرّيّات الأكاديميّة والإبداع العلميّ والمعرفيّ:
يعلن الفيلسوف الشهير برتراند رسل عن وحدة الإبداع والحرّيّة، كما يؤكّد وضعيّة التلازم الحيويّ بين الحرّيّة الأكاديميّة والابتكار، إذ يقول بلغة بليغة ومقنعة بأنّ الأكاديميّ: "شأنه شأن الفيلسوف والفنّان ورجال الأدب، لا يمكنه القيام بعمله بكيفيّة مرضيّة إلّا إذا شعر بأنّه موجّه من قبل دوافعه الداخليّة الخلّاقة، وأنّه ليس مهيمناً عليه من طرف سلطة خارجيّة"(16).
فالمفكرون الأفذاذ يرون أنّ العقل المبدع والعبوديّة لا يجتمعان، وأنّ العقل توأم الحرّيّة، إذ حيثما يوجد أحدهما يزدهر الآخر، كما يمتنع حضور أحدهما دون الآخر. ويؤكّدون تلازم هذين العنصرين في مختلف مراحل تطوّر المجتمعات الإنسانيّة. وهذا التلازم العميق بين الحرّيّة والعطاء العلميّ مشهود به في تجربة الحضارات الإنسانيّة، فأغلب الحضارات المتقدّمة في التاريخ كانت وليدة أجواء الحرّيّة والديموقراطيّة في مستويات مختلفة. وقد تتجلّى هذه الحرّيّات في أنظمة للعدالة الاجتماعيّة تغطّي كلّ جوانب الحياة الاجتماعيّة. وهذا ما تسجّله الحضارات المتقدّمة كالحضارة الإغريقيّة والحضارة العربيّة الإسلاميّة في عهود ازدهارها. ويؤكّد محمّد جواد رضا هذه الحقيقة عندما يتحرّى منطق الحضارة العربيّة، وأسُسَ نهضتها، فيقول: "استطاع المجتمع العربيّ الإسلاميّ في عصر المأمون –بمقياس نسبيّ- تحقيق مبدأين اجتماعيّين كانا سبب ازدهاره، هما: مبدأ العقلانيّة (Rationalisme) في فهم الكون والتعامل معه وتقرير موقع الإنسان فيه؛ ومبدأ العدل الاجتماعيّ (La justice). فلمّا مضى المأمون وأفل نجم عصره ووقع العدوان على هذين المبدأين، فقدت الحضارة العربية ألقها وتوهّجها، وبدأت مرحلة السقوط التي خرج فيها العرب من مركز الفعل في التاريخ إلى دائرة الانفعال.
وفي مستوى الجامعات -كما هو الحال في مستوى المجتمع- تلعب الحرّيّة دورها التاريخيّ، فالحرّيّات الأكاديميّة في الجامعة والأجواء الديمقراطيّة هي الرهان التاريخيّ لتطوّر العلم والمعرفة والإنسان المبدع الحرّ. إنّ الإبداع في مجال التعليم يعتمد على الحرّيّة. وقد أظهر تقرير أعدّته لجنة تطوير المناهج الأمريكيّة أنّ من العوامل الّتي تعيق الإبداع في المدرسة الامتثال للأوامر والتركيز المبالغ فيه على السلطة وإهمال التلاميذ داخل الغرف الصفّيّة واهتمام الإدارة المفرط بالقواعد والقوانين والتعليمات على حساب الطّلاّب كذوات وأفراد(17).
يؤكّد عبد الخالق عبد اللّه على الضرورة التاريخيّة لمطالب الحرّيّة الأكاديميّة في الوطن العربيّ، إذ يقول: "إنّ الحرّيّة الأكاديميّة هي مطلب مهمّ من مطالب استمرار المشتغلين بالعلم والبحث والتدريس الجامعيّ في نشاطهم بمأمن من أيّ نوع من أنواع الإزعاج من قبل السلطات أو الزملاء أو المؤسّسات أو المجتمع ككلّ"(18). فالحريات الأكاديميّة ليست ترفاً أكاديميا بل تشكل ضرورة تاريخية لتحقيق نمو الجامعات وازدهارها. وتتّضح هذه الحقيقيّة فيما تذهب إليه جوستين بي ثورنز إذ تقول: "الحرّيّة الأكاديميّة ليست ميزة للأقلّيّة، بل هي لتمكين أعضاء المجتمع الأكاديميّ من تنفيذ وتحقيق مهمّتهم العلميّة " (19). وتلحّ ثرورنز على أهمّيّة الدفاع عن هذه الحقوق كضرورة تاريخيّة، إذ تقول:" إنّ الدفاع عن الحرّيّات الأكاديميّة يعدّ ضروريّاً في المجتمعات السلطويّة كما هو ضروريّ في المجتمعات الحرّة والديمقراطيّة. إنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست حقّاً فحسب، بل هي واجب مفروض على المجتمع الّذي ينتمي إليه الأفراد" (20). كما يؤكّد تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) في هذا الصدد أنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست مجرّد حقوق طبيعة وإنسانيّة أو نظاميّة فحسب، بل هي فوق ذلك حقوق أساسيّة تكفل لأساتذة الجامعات أهمّ مظاهر المساواة الاجتماعيّة الّتي تجسّد جوهر الحقوق الليبراليّة الطبيعيّة، وتكفل تحقيق مفهوم الحرّيّة بكلّ معانيها. وهذا يعني أنّ الحرّيّة الأكاديميّة تعطي الجامعات مزيداً من العمل والكفاية والإنجاز (...) ولا يستطيع أساتذة الجامعات القيام بمهامّهم الوظيفيّة والمهنيّة دون تحقيق الحرّيّة الأكاديميّة التامّة(21).
4- الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة:
ينوّه فؤاد زكريّا في كتابه (التفكير العلميّ) إلى غياب التقاليد العلميّة الديمقراطيّة والجامعيّة في الوطن العربيّ. وهو، إذ يقارن بين العالم المتقدّم وعالمنا المتخلّف فيما يتعلّق بالتراث العلميّ، ينتهي إلى القول: "في الوقت الّذي أفلح فيه العالم المتقدّم في تكوين تراث علميّ راسخ امتدّ في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثّل في حياة هذه المجتمعات اتّجاهاً ثابتاً يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت ذاته يخوض المفكّرون في عالمنا العربيّ معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلميّ" (22). وفي الوقت الّذي " أسس فيه الغرب جامعات عصريّة وزوّدها بالاحترام، المتمثّل موضوعيّاً في استقلاليّة هذه الجامعات وحرّيّة الأساتذة فيها، فإنّنا نحن هنا، أخذنا النظام التعليميّ والمناهج التعليميّة عن الغرب، ولكن أهملنا أن نأخذ معها الاعتبار الّذي يعطى للعلم والعلماء والمواقف الإيجابيّة منهم. فقافلتنا تسير سيراً أعمى دون توقّف. ومساهمتنا التاريخيّة في بناء الجامعة العصريّة هو إحداثنا تنظيماً من البوليس - "البوليس الأكاديميّ" - ومهمّة هذا البوليس هي مراقبة الطلبة والأكاديميّين ومنعهم من التعبير عن أفكارهم في القضايا الاجتماعيّة" (23).
لقد نشأ الجيل الأوّل من الجامعات العربيّة الحديثة في ظلّ الهيمنة الاستعماريّة، ولا سيّما تلك الّتي نشأت في مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب، وقد حملت تحت تأثير نشأتها هذه سمات وخصائص الجامعات الغربيّة بمناهجها وأساليب عملها وتوجّهاتها الأيديولوجيّة. ومن ثمّ تنامت هذه الجامعات وتوالدت في مرحلة الاستقلال على منوال الصورة الّتي بدأت بها. وفي هذا السياق يصف محمّد جواد رضا نشأة هذه الجامعات في ظلّ الهيمنة الأجنبيّة بقوله: "ليس بيننا من يُماري بأنّ الجامعة العربيّة المعاصرة – أيّ جامعة – هي استعارة ثقافيّة من الغرب، وقد صيغت على غرار جامعات الغرب بدءاً من المناهج الدراسيّة وطرائق البحث والتدريس وانتهاء بالطيلسان (الروب) والقبّعة والوشاح. ومن هنا كان أحد مصادر الأزمات المزمنة في الحياة الجامعيّة العربيّة مطالبتها بتكييف نفسها للخصائص الثقافيّة الموروثة في المجتمع العربيّ" (24).
ويقول نادر فرجاني في هذا الخصوص: "إنّ غالبيّة مؤسّسات التعليم العالي الحديثة قامت في كنف المستعمر الأوروبّيّ، كنسخ من مؤسّساته، خدمة للتّحديث، في منظوره. فقد كانت هذه المؤسّسات وسيلة لطبع المجتمعات العربيّة بثقافة المستعمر، من ثمّ تحوّلت إلى ساحة صراع مع العناصر الوطنيّة(25). ويضيف بأنّ " ثلاثة أرباع الجامعات العربيّة أنشئت في الربع الأخير من القرن، ولا يتعدّى عمر غالبيّتها (75 بالمئة) الخمسة عشر عاماً(26).
ومن ينظر في طبيعة الجامعات العربيّة سيجد بأنّها ما زالت بصفة عامّة حديثة العهد، ولم تترسّخ فيها التقاليد الجامعيّة المعروفة، كما أنّ هذه الجامعات لم تأت تعبيراً عن طبيعة التطوّر التاريخيّ للمجتمعات العربيّة الّتي تعاني من التخلّف والتبعيّة والتجزئة، بل جاءت تعبيراً عن مدّ استعماريّ من جهة وتعبيرا عن توجّهات سياسيّة عربيّة جعلت من الجامعة حاملاً لأيديولوجيّات سياسيّة متنوّعة.
وتأسيساً على هذه الحقيقة، يرى عدد من المفكّرين العرب أنّ الجامعات العربيّة هي ظواهر جامعيّة أكثر منها جامعات حقيقيّة، وذلك لأسباب تتعلّق بنشأتها وبحداثة وجودها وأبعادها السياسيّة ووظائفها وأدائها العلميّ والديمقراطيّ. يقول عبد الخالق عبد اللّه مؤكّداً هذه الحقيقة في الخليج: "جامعة الإمارات، وربّما معظم الجامعات الخليجيّة الأخرى، هي جامعات في طور التشكيل والصيرورة، وهي أقرب إلى " الظاهرة الجامعيّة"(27).
وإذا كان الشيء يعرف بوظيفته فإنّ الجامعات العربيّة لم تؤدّ وظيفتيها الأساسيّتين: الإبداع العلميّ والمعرفيّ من جهة، وممارسة دورها الديمقراطيّ من جهة أخرى. ومن هنا يصرّ كثير من المفكّرين العرب على وصف الجامعات العربيّة بالظاهرة الجامعيّة - كما ذكرنا آنفا - ويزعمون بأنها مجرّد مؤسّسات لتخريج الموظّفين، الّذين" لا يستطيعون سوى التنفيذ لا التفكير"(28). ويعني هذا أنّ الجامعات العربيّة أصبحت مؤسّسات لإنتاج الموظّفين والعاملين في خدمة الدولة، وهذه الوظيفة هي أدنى مستويات العمل الجامعيّ. في حين أنّ الجامعات، وعلى خلاف ذلك، معنيّة بالاكتشاف والإبداع وبناء المعرفة العلميّة وإحداث تغييرات عميقة وجوهريّة في بنية الحياة الاجتماعيّة العربيّة عموماً.
5 - تسييس الجامعات العربية:
لقد جاءت عمليّة تسييس الجامعات العربيّة كجزء من المدّ الثوريّ الّذي اجتاح الوطن العربيّ منذ بداية الستّينيات. فالعوامل السياسيّة هي القاسم المشترك لتأسيس أغلب الجامعات العربيّة. ومع ذلك فإنّ الدوافع السياسيّة مهما يكن شأنها يمكن أن تكون إيجابيّة، وذلك عندما يكون الهدف بناء جامعات حرّة حقيقيّة تعنى بالحقيقة العلميّة، وتؤدّي دورها الديمقراطيّ والاجتماعيّ، وتضطلع بالوظائف الجامعيّة الحقيقيّة.
ويمكن القول بأنّ الجامعات العربيّة وجدت لتكون مؤسّسات حكوميّة، تدعو إلى تعزيز وجود الفئات الحاكمة، وإلى تكريس أيديولوجيا السلطات المتعاقبة، وترسيخ ثقافة غير ديمقراطيّة قائمة على أساس التسلّط والاستلاب. وبعبارة أخرى، ليست الجامعات العربيّة جامعات حقيقية بالمعنى المحدّد للكلمة، إذا أخذنا بعين الاعتبار الأدوار والوظائف الّتي تؤدّيها داخليّاً وخارجيّاً. لقد تحوّلت هذه الجامعات، على حدّ تعبير محمّد جواد رضا، إلى مؤسّسات بيروقراطيّة تخاف الحرّيّة، وتخشى التجديد وتتطيّر منه(29).
لقد تطوّرت جامعاتنا بتأثير الفعل السياسيّ أي وفقاً للقرارات السياسيّة بإنشائها، وغالباً ما يحدث أنّ الأنظمة السياسيّة تقرّر إحداث هذه الجامعات ليس وفقاً لمبدأ الحاجة إليها، ولكن من أجل غايات أخرى أبرزها إرضاء الرأي العامّ وتحقيق سياسة القبول الجامعيّة، ومن ثم توظيفها أيديولوجيا في خدمة الأنظمة السياسية القائمة، وقد حُوِّلَت إلى مؤسّسات سياسيّة تعكس إلى حدّ كبير ما يحدث في عالم السياسة، وبدقّة أكبر فإنّ هذه الجامعات تتبنى التوجهات الأيديولوجيّة للأنظمة السّياسيّة القائمة، وتجسد هذا الطابع الأيديولوجي الموالي للسلطات الحاكمة في مختلف فعالياتها ومهرجاناتها وطقوسها العلمية.
ويضاف إلى ذلك كلّه أنّه ينبغي على أعضاء الهيئة التدريسيّة أن يعلنوا في كلّ مناسبة سياسيّة أو وطنيّة عن ولائهم للأنظمة السياسيّة القائمة في الوطن العربيّ، ويلزم أن يأخذ هذا الولاء صيغاً صريحة واضحة (خطابات- ندوات- لقاءات)، حتّى إنّ هذا قد أصبح تقليداً ينساق إليه عدد كبير من أعضاء الهيئة التدريسيّة "تجنّباً لسيف المعتّز إن لم يكن طمعاً في ذهبه". فهم يساجلون في الصحف ووسائل الإعلام حبّاً بالأنظمة السياسية القائمة وولهاً بالحكام، ويخوضون الندوات الفكريّة ولاءُ لهم وافتتاناً به. والحقّ يقال: "إنّ الصيغة الانتهازيّة بلغت أوجّها عند أعضاء الهيئة التدريسيّة، وأصبحت ظاهرة منتشرة بين صفوف المدرّسين ("مكرهاً أخاك لا بطل"). فالأكاديميّون أصبحوا اليوم عرضة لأن يكونوا سلاحاً في يد السلطة السياسيّة تنشر بهم مفاهيمها، وتفرضها وتضعف بهم الضمير الحيّ عند فئة الأكاديميّين وفئات أخرى"(30).
وإذا كان هذا الحيف يقع على أعضاء الهيئة التدريسيّة مرّة فإنّه ينال من الطلّاب ألف مرّة. وفي هذا السياق يمكن القول، وبصورة عامّة، إنّ الطلّاب في الجامعات العربيّة يعانون استلاباً واغتراباً أكاديميّاً لا حدود له، وكما يقال " حدّث ولا حرج". فالطالب محروم من حرّيّة المشاركة واتّخاذ القرار، ومن حقّ تشكيل النقابات الحقيقيّة للدفاع عن وجوده ومصالحه، ومن جميع أسباب التشجيع والاحترام والتقدير. فهو مستلب في عالم يغلب عليه الاستلاب ومقهور في عالم يضجّ بالقهر، ومحروم في عالم لا يعرف إلّا الحرمان. وهذه نتيجة طبيعيّة لحرمان الأستاذ الجامعيّ من أبسط حقوقه الأكاديميّة والإنسانيّة.
6- طبيعة الأداء الأكاديميّ للجامعات العربيّة:
يتمثّل الأداء الديمقراطيّ للجامعة في ضمان شروط الحرّيّات الأكاديميّة للطلّاب والمدرّسين في آن واحد. كما يُترجَم هذا الأداء في توفير منظومة من القيم والحرّيّات والعلاقات التربويّة القائمة على روح التعاون والمشاركة والإيمان بالاختلاف وقبول الآخر على أساس مبدأ المساواة والقيم الديمقراطيّة. وفي هذا الصدد يقول رياض قاسم مؤكّداً أهمّيّة الخبرات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة: إنّ قيمة التعليم الجامعيّ وعظم شأنه يتوقّفان على مبلغ نجاحنا في إرساء الحرّيّة الأكاديميّة وترسيخها كتقليد جامعيّ(31). والسؤال هنا هو: ما مدى توفّر الحرّيّات الأكاديميّة هذه في مجال الحياة الجامعيّة العربيّة المعاصرة؟
تشهد الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة غياباً يتّسم بطابع الشمول والعمق في مستوى التحديدات الدستوريّة، وفي مستوى الممارسة الواقعيّة. فالتعريف الدستوريّ للحرّيّات الأكاديميّة ما زال يسجّل غيابه في الساحة العربيّة. ويتّضح هذا الغياب في تأكيد عبد الفتّاح عمر، إذ يقول:" لا وجود في تونس، وشأنها في ذلك شأن عديد من الدول الأخرى، لتعريف دستوريّ أو قانونيّ للحركة الأكاديميّة. كما أنّ التجربة الجامعيّة التونسيّة لم تفرز بصورة واضحة وجليّة اتّفاقاً حول مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة، ولا حول حدودها(32). ونحن نضيف أنّ هذا التعريف لا وجود له على حدّ علمنا في أيّة جامعة عربيّة.
والحريّات الأكاديميّة الّتي عرفتها الجامعات العربيّة تراجعت بقدر كبير مع انتقال إدارة هذه الجامعات إلى الحكومات الوطنيّة. وبدأت هذه الحرّيّات تتقلّص مع دورة الزمن وانحسار الديمقراطيّة السياسية الّتي شهدت بعض الحضور في الخمسينيات والستّينيات. لقد صبغت الجامعات العربيّة بالصبغة الحكوميّة، وفقدت هذه الجامعات استقلالها بصورة واضحة تحت ضغط الممارسات الّتي توجّهها الحكومات العربيّة. والحكومات العربيّة تموّل هذه الجامعات وتعيّن إداريّيها في الغالب الأعمّ وتحدّد وظائفها وتقرّر مناهجها وتراقب سير عملها وآليّات وجودها اليوميّ بصورة أدّت إلى إفراغ هذه الجامعات من مضامينها الأكاديميّة والديمقراطيّة. وفي بعض البلدان العربيّة - إن لم يكن في أغلبها - تحوّلت هذه الجامعات إلى مؤسّسات صارمة يخضع العاملون فيها لقوانين متشدّدة دون مراعاة لأبسط قوانين الوجود الأكاديميّ.
وفي كثير من هذه الجامعات يعيّن الإداريّون من عمداء ورؤساء جامعات وأقسام من قبل القيادات السياسيّة أو الأحزاب دون أيّة مراعاة لأصول التقاليد الجامعيّة الّتي تقوم على أساس انتخاب هذه القيادات الجامعيّة. وحتّى أعضاء الهيئة التدريسيّة يُعيّنون بناء على مراسيم تعدّ في مكاتب الأحزاب السياسيّة، ولا يسمح للجامعة بأن تتّخذ قرارات بهذا الشأن إطلاقاً. حتّى إنّ النقابات الطلّابيّة وجمعيّات أعضاء هيئة التدريس تنظّم بصورة سياسيّة (دون انتخابات) إذ تمارس هذه النقابات دوراً مخالفاً لطبيعتها، ويتمثّل في تكريس التسلّط والقهر وإلغاء إرادة الطلّاب وأعضاء الهيئة التدريسيّة بصورة واعية ومنظّمة.
وبصورة عامّة، لا يمتلك أعضاء هيئة التدريس في كثير من الجامعات العربيّة الحقوق الأكاديميّة فيما يتعلّق بحرّيّة القول والكتابة والتعبير عن الرأي والبحث العلميّ. ويضاف إلى ذلك أنّ أعضاء هيئة التدريس يوضعون في دائرة القهر المادّيّة، إذ تضيّق عليهم أسباب العيش والرّزق بصورة يجعل منهم أشلاء جامعيّة مقهورة.
وحتّى الجامعات الّتي عرفت بهامش كبير من الحرّيّات الأكاديميّة، كجامعات الخليج العربيّ، فإنها كغيرها تعاني أيضاً من تراجع الحرّيّات الأكاديميّة داخل الحرم الجامعيّ. "فجامعة الإمارات الّتي تتمتّع بمعظم مظاهر الاستقلاليّة الداخليّة هي من المؤسّسات الجامعيّة الّتي أخذت تعاني أشدّ المعاناة من التسلّط الإداريّ الداخليّ المعيق للعمل الأكاديميّ، لقد أصبح التضخّم الإداريّ البيروقراطيّ سمة من السمات الملازمة للجامعات الخليجيّة ككلّ. وأخذ هذا التضخّم الإداريّ يزحف إلى الأقسام العلميّة، وينهك أعضاء هيئة التدريس في العمل الورقيّ اليوميّ والروتينيّ والبعيد البعد كلّه عن الاهتمام الأكاديميّ والبحثيّ المباشر. ويعتقد الدكتور حسن الإبراهيم أنّ الجامعات الخليجيّة، ومنها جامعة الإمارات، قد أصيبت بداء “البيروباثولوجيّ " والّذي يعني البيروقراطيّة المزمنة"(33). إذ غالباً ما يعامل أستاذ الجامعة كموظّف من وجهة نظر السلطة السياسيّة. وإذا كانت الوظيفة السياسيّة للجامعة هي تخريج علماء ومفكّرين فإنّ أصحاب القدر السياسيّ يريدون أن يُخرّجوا موظّفين وكتبة(34).
لقد أدركت الأنظمة السياسيّة القائمة في بعض أقطار الوطن العربيّ الخطر الكبير الّذي تمثّله أيّة نهضة علميّة وفكريّة تتمّ في إطار المجتمع، ولا سيّما هذه الّتي يمكن أن تحدث داخل الجامعات، فلجأت إلى التنكيل بكلّ المحاولات العلميّة والمعرفيّة الّتي تقوم على أسس نقديّة. وقد شمل هذا التنكيل مختلف مظاهر الحياة الثقافيّة المتمثلة في النشر العلمي وفي الندوات العلميّة والتظاهرات الثقافية، ولا سيّما الأنشطة الّتي توجّهها الجامعات، وتلك الّتي تتمّ بمبادرات بعض المتنوّرين في الجامعة من أساتذة ومفكّرين من ذوي الضمائر النقدية الحيّة الذين يحملون قلوباً عامرة بالحبّ والإيمان بالحرّيّة والمعرفة. حتّى إنّ مجرد محاولة تناول القضايا الحسّاسة في المجتمع قد " تجرّ الباحث إلى تلك المنطقة الحمراء الخطيرة، أي إلى أرض السلطة … بما تحتكره من قوّة القانون، وما تحظى به من مال وما تمتلكه من سجون ومعتقلات وما يبرق في يديها من سيوف!" (35).
وقد أدركت بعض القوى السياسيّة أنّ الحرّيّات الفكريّة والأكاديميّة في الجامعة تشكّل خطراً يهدّد الأسس الّتي يقوم عليها الوجود السياسيّ لهذه القوى، فعملت على تقويضها وتغييبها في الوقت نفسه، حتّى أصبحت حرّيّة التعبير من المحظورات في بعض الجامعات العربيّة. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصّى(36).
فبعض الأنظمة ترى في الحوار والنقد وحرّيّة الرأي في أيّ صيغة تأخذها هذه القيم إنذاراً بالخطر، ودرءاً لهذا الخطر تعتمد هذه القوى مختلف الضوابط الّتي يمكنها أن تخنق أيّة محاولة لنهوض الرأي وحرّيّته داخل الجامعات وخارجها. ويعتمد الحصار الّذي تمارسه هذه القوى على منظومة معقّدة من الفعاليّات الإداريّة والماليّة والاجتماعيّة يُشكّل مجموعها القضبان الّتي تُصنع منها أقفاص الوجود الأكاديميّ فيحاصر الأستاذ الجامعيّ حتّى الاختناق.
7- الجامعات العربيّة: إعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة والمحافظة عليها:
يتحدّد الدور الاجتماعيّ والعلميّ للجامعة تاريخيّاً بمبدأ التجديد والابتكار في مستويات الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والعلميّة. فالجامعة يفترض أن توجّه الحياة من حولها، وأن تؤثّر فيها على الأقلّ. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً مرّة بالنسبة إلى الجامعات في البلاد المتقدّمة فإنّه يجب أن يكون صحيحاً ألف مرّة بالنسبة إلى المجتمعات المتخلّفة أو المجتمعات الآخذة بالنماء من البلاد العربيّة (37).
فالجامعات يمكنها بحكم رسالتها وأهدافها أن تقوم بدور فعّال في تطوير المجتمع، وذلك بخلق الإنسان العقلانيّ الّذي يتفاعل مع الآخرين بطرق عقلانيّة ومنطقيّة عوضاً عن الطرق التقليديّة السائدة في مجتمعنا العربيّ (38). وتتمثّل وظيفة الجامعة الإبداعيّة في حالة من الانفتاح على الحياة الاجتماعيّة، وفي حالة استمرار في أداء دور الخلق والإبداع والتجديد والتأثير الاجتماعيّ، وهنا يتأصّل الرفض لمقولة "جامعة الأبراج العاجيّة"، وتقوم - بدلا من ذلك - حقيقة قوامها أنّ الجامعة يمكنها أن تتوغّل في المجتمع، دون أن تفقد شخصيّتها بوصفها مؤسّسة اجتماعيّة علميّة رائدة تغتني باتّصالها بالمجتمع وتطوّره في آن واحد.
فأين هي الجامعات العربيّة من هذه الحقيقة؟ أين هي في ظلل الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة الاستبدادية الّتي تحيط بها؟ وفي ضوء هذا التساؤل ألا يمكننا أن نجزم بغياب الدور الإبداعيّ للجامعات العربيّة. إنّ "التربية السائدة في الجامعات العربيّة بوضعها الراهن تتنافى مع مبدأ العطاء والإبداع العلميّ(39). هذه هي الحقيقة الّتي يلحّ في تأكيدها المفكّرون العرب، وقد لا نغلو إذا قلنا: “إنّ مهمّة التعليم العالي في عصرنا وفي العصر المقبل لا تنحصر في أنّ الجامعيّ " يصوّر العالم " ويستنسخه ويستجيب له على نحو ما هو عليه، بل تتجاوز ذلك إلى الإسهام في " صنع العالم وابتكاره"(40). فالجامعة "ليست مصنعاً للشهادات كما يخيّل للبعض أحياناً، ولا مركزاً للامتحانات أو مركزاً لتخريج المواطنين، بل هي صورة للمجتمع المثاليّ المطلوب إحداثه، وهنا تكمن مسؤوليّة الجامعيّين"(41).
وعلى خلاف هذه الصورة لوظيفة الجامعة، فإنّ الدراسات المتحققة في هذا الميدان في المستوى العربي تفيد بأنّ الجامعات العربية تحوّلت إلى مؤسّسات للتسلّط والقهر. وهذا التحوّل لا ينبع من طبيعة المؤسّسة الجامعيّة، ولكنّه يتأتّى عبر منظومة من عمليّات القهر الّذي تمارسه بعض القيادات السياسيّة، والّتي تحاول أن تجعل من الجامعة مؤسّسة منتجة لكلّ مقوّمات القهر والتسلّط. لقد أفرغت الجامعات العربيّة من مختلف مضامينها العلميّة والديمقراطيّة، وتحوّلت بتأثير التخطيط المنظّم لقوى القمع الاجتماعيّ إلى مؤسّسة لترويض الشباب والعلماء على الإذعان والخضوع وتمجيد السلطة. فالجامعة تشكّل بالنسبة إلى "صانعي القرار مؤسّسة منضبطة ومنظّمة تنظيماً محكماً ومُسيّرة تسييراً حسناً أكثر ممّا تمثّل بالنسبة إليهم مؤسّسة لممارسة المعرفة. وهذه الأخيرة (المعرفة) تتطلّب مناخاً تسود فيه الاستقلاليّة والحيرة والمرونة بحيث يمكن للباحثين أن يقولوا فيه رأيهم حول أنشطتهم. فالجامعة لا يمكن أن تسير كما يسير المعمل. ومع الأسف الشديد، الكثير من الأكاديميّين لا يميّزون في تسييرهم بين المعمل والجامعة"(42).
وهناك شهادات عربيّة أخرى لا حصر لها على هذا الواقع المرّ والمزري الّذي تعيشه الجامعات العربيّة المعاصرة. ومن مظاهر هذا القهر أن يُكره الطلّاب وأعضاء الهيئة التدريسيّة على الاحتفال بمختلف الطقوس السياسيّة التي تمارسها الحكومات العربية، وفي هذه الطقوس يتعيّن على الجامعيّين (طلاّباً وأساتذة وموظفين) أن يعلنوا الولاء لأنظمتهم وحكامهم وأن يجدّدوا هذا الولاء في كلّ موقف ومناسبة.
يقول امحمد صبور: “في بعض البلدان ذات الحزب الواحد المهيمن على كلّ شيء، يكون وجود الأكاديميّ في الجامعة مرتبطاً في الغالب باندماجه في النمط الأيديولوجيّ السائد فيها، لأنّه في ابتعاده عنه لن يكون في منأى عن الخطر، حتّى بدعوى الحياديّة. ففي الواقع لا تعترف الثقافة العربيّة بالحياد (…) فالحياد غالباً ما يعني نقصاناً في المبادئ، أو أنّ الشخص المحايد مشكوك فيه يعمل في الخفاء ليتجاوز الآخرين" (43). ولذلك فإنّ “الأكاديميّ في وضع الحياد يعرّض نفسه للمخاطر، وأقلّ ما يمكنه أن يفعله بدلاً عن الحياد هو الاندماج السلبيّ في النظام. وما نعنيه بالاندماج السلبيّ هو الالتحاق بالنمط السائد دون مشاركة نشيطة فيه، أو القيام بأعمال من شأنها أن تعزّز قوّته وسلطته. أمّا في الواقع المعيش فإنّ هذا الأمر يضع الأكاديميّ في محنة تكون فيه كرامته عرضة للاهتزاز والسقوط " (44).
فالجامعات العربية توظّف اليوم فعليا في تمجيد السلطة، وتقديس مظاهر القمع والتسلّط. وما زالت الأنظمة التربويّة العربية تُعلّم الناشئة آداب الطاعة ومراسم الخضوع، وما زالت السلطات السياسيّة تعمل على صرف المتعلّمين في الجامعات عن قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية، ويتم ذلك من خلال التأكيد على إخضاعهم للتعليم البنكيّ، وتكديس المعلومات في عقولهم وشحن الذاكرة بداء الاستظهار وبما تجود به بطون الكتب، وقتل العقل بالروتين التلقينيّ والأساليب التربويّة الخانقة (45).
8- الخلفيّات الاجتماعيّة لغياب الأداء الديمقراطيّ في الجامعة:
تتمثّل الأزمة الّتي نعيشها اليوم برأي حسن حنفي في غياب الحوار في حياتنا المعاصرة (...) فنحن لسنا أحراراً في تفكيرنا، ولا نسلّم بحقّ الآخر في الحرّيّة والتفكير، إذ نواجه الفكرة بالسيف، والرأي بالاعتقال، والعقل بالعضلات، ونرفع سلاح التكفير على كلّ من يعارض(46). فالمآسي والنكبات " كانت نتيجة طبيعيّة لاستمرار حرمان المواطن العربيّ من حقوقه وحرّيّاته الأساسيّة بأساليب جديدة ومتطوّرة قامت على سياسة (الإلهاء) و(الترهيب والترغيب) أو (العصا والجزرة) واستهدفت تدجين المواطن وتطويعه وصولاً إلى تعطيل اهتماماته العامّة؛ ومن ثمّ تقزيم أهدافه الوطنيّة والقوميّة (47).
ومن أجل أن ندرك واقع وطبيعة الأداء الديمقراطيّ للجامعات العربيّة تقتضي الضرورة تقديم قراءة منهجيّة للشروط الاجتماعيّة والتاريخيّة الّتي تحيط بالمؤسّسة الجامعيّة في الوطن العربيّ. فأغلب الباحثين يعتقدون أنّ غياب الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة مسألة تعود إلى غياب الديمقراطيّة في المجتمع. فالجامعة مؤسّسة اجتماعيّة تربويّة، وهي لا تنفصل عن البيئة الّتي توجد فيها. ويعني هذا أنّ معطيات البيئة الاجتماعيّة تتغلغل في بنية الوجود القيميّ للجامعة، وأنّ الجامعة كما ينظر إليها هي صورة مصغّرة للمجتمع الّذي يحتضنها. وإذا كانت الجامعة فعلاً هي صورة راقية لمجتمعها فإنّ الجامعات العربيّة لا تحسد على حالها. وذلك لأنّ المجتمعات العربيّة متشبّعة بقيم التعصّب والقيم السابقة للمجتمع المدنيّ. ومن ثمّ، فإنّ الثقافة التقليديّة السائدة تشمل كلّ معايير الانتماءات القبليّة والعشائريّة، وكلّ خرافات وأساطير العهد القديم. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للجامعة أن تمارس وظيفتها الديمقراطيّة في ظلّ ثقافة تقليديّة، وفي سياق أنظمة سياسيّة مستبدّة وغير ديمقراطيّة؟
ولكي يتّضح واقع الثقافة العربيّة بوصفها محدّدة لدور المؤسّسات التربويّة والجامعيّة يميّز الباحثون بين نوعين من الوعي: وعي التخلّف وتخلّف الوعي، فتخلّف الوعي يصدر عن بنية فكريّة اجتماعيّة اقتصاديّة متخلّفة. أمّا وعي التخلّف فهو الوعي الّذي يوجد في كلّ العيّنات المتقدّمة والمتخلّفة على السواء، إذ نجد في السويد واليابان وعياً متخلّفاً يظهر على شكل الجمعيّات العنصريّة وعصابات السطو وترويج المخدّرات. أمّا وعي التخلّف فهو وعي قائم بذاته يحمل علامات المجتمع الّذي أفرزه ثمّ يطبع هذا المجتمع بطابعه لأنّه وعي بنيويّ يتخلّل كلّ البنى في المجتمع. وغالبا ما توصف الثقافة العربيّة بأنّها ثقافة التخلّف أو وعي التخلّف بكلّ ما ينطوي عليه هذا الوعي من قيم واتّجاهات ومعايير سلوكيّة تمجّد القهر والتسلّط والظلم والعبوديّة، وكلّ القيم السابقة للمدنيّة والحضارة.
فالمجتمعات العربيّة تعاني من هيمنة ثقافة سياسيّة وأوضاع اجتماعيّة متدهورة في مستوى العمق والشمول، إنّها تعاني التاءات الثلاث: التبعيّة والتخلّف والتجزئة. والوطن العربيّ وطن تتلهّف شعوبه إلى الوحدة، بينما تكرّس أنظمته الانفصال، وطن تتشوّق فيه شعوبه إلى الديمقراطيّة، ولكنّ أنظمته تكرّس كلّ قيم الاستبداد(48). وتأسيساً على هذه الرؤية، يبرّر بعض المفكّرين العرب غياب الحرّيّة الجامعيّة تأسيساً على غياب هذه الحرّيّة في المجتمع. يقول أحمد بشارة في هذا الخصوص: "المجتمع بالإضافة إلى أنّه غير متسامح بطبيعته، ولا يقبل الحرّيّة، فمن غير المعقول أن يعطي هذا الحقّ لمؤسّسة تأخذه فيها الشكوك، ولا يجد ما يبرّر أن يعطيها الحرّيّة، ولا يستفيد منها استفادة ملموسة، ومن هذا المنطلق فالسلطة الأكاديميّة أو الحرّيّة داخل الجامعة ستظلّ لفترة طويلة منقوصة ومحدودة لأنّ المجتمع لا يتقبّل الحرّيّة(49). وفي سياق آخر، يؤكّد بشارة أنّ طلّاب الجامعة تحكمهم رؤى سياسيّة خارجيّة: "فالطلّاب داخل القاعة مسيّسون أي أنّهم يمثّلون تيّارات خارج الجامعة، وهذا يمثّل نوعاً من القهر، أو من الحجر على الحرّيّة الفكريّة والأكاديميّة داخل الجامعة"(50). والمشكلة كما يطرحها أحمد الربعيّ تتمثّل في غياب الديمقراطيّة في مستوييها الاجتماعيّ والأكاديميّ، وهو يربط بصورة مضمرة بين الحرّيّتين فيقول:" نحن أمام مشكلتين: مشكلة غياب تقاليد ديمقراطيّة في حياتنا، ومشكلة غياب تقاليد أكاديميّة أيضاً في هذه الحياة" (51).
ويعاني المجتمع العربيّ وجودا مكثّفا لظواهر اجتماعيّة ومفاهيم ثقافيّة استبدادية منافية لقيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ويأتي في مقدّمة هذه الوضعيات مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيّات المحلّيّة وأساطيرها المختلفة، وهي وضعيات ذهنية تتساند وتتفاعل في ديناميكيّة فريدة مع مفهوم الأبويّة "البطريركيّة" التقليديّة، أو الحديثة الممثّلة في الدولة. وهذه التركيبات والوضعيّات الثقافيّة تمثّل عقبات بنائيّة ضدّ نظم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وهي تجد صداها داخل المؤسّسات التربويّة والتعليميّة (52). ويقول عبد المالك التميمي في هذا السياق: إذا لم تكن هناك حرّيّة بمعناها الصحيح في المجتمع فلن تكون هناك حرّيّة في الجامعة، لكنّ المجتمع الجامعيّ بإمكانه توفير ضمانات توفّر الحدّ الأدنى من القيم والسلوك الّذي يستطيع فيه المجتمع الجامعيّ أن يفرض رأيه، حتّى لو لم تتوفّر الحرّيّة الكاملة في المجتمع(53). فالمجتمع العربيّ لم يصل بعد إلى مرحلة المجتمع العقلانيّ، ولم يستطع العقل السائد فيه أن يتحرّر وينطلق ليتجاوز حدود التقاليد. وإذا كانت الأزمة عند الغربيّين هي أزمة ما بعد العقل وما بعد الحرّيّة فإنّنا ما زلنا نمرّ بأزمة ما قبل العقل وما قبل الحرّيّة. فالغربيّون تجاوزوا نطاق التفكير العقليّ التقليديّ بعد أن تشبّعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلّعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الّذي ألغوه. أمّا عندنا فما زال العقل يعمل جاهزاً من أجل اكتشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه(54).
ويبدو لنا ضروريّاً في هذا الاتّجاه أن نبرز بعض النقاط المشتركة الّتي تمثّل حصادنا الفكريّ لطبيعة العلاقة بين المؤسّسات التربويّة والمجتمع:
1- الجامعة لا تمثّـل عالماً منفصلاً عن الحياة الاجتماعيّة، وهي في كافّة أحوالها مؤسّسـة تربويّة تخـضع لجـدل العلاقات القائمة بين المؤسّسات الاجتماعيّة والمجتمع.
2- وإذا كـانت وظيفـة المؤسّسـة الجامعيّة وبنيتها رهينتين بالشروط الاجتماعيّة القائمـة فإنّ ذلك لا يتعارض مع هامش من الاستقلال النسبيّ الّذي تتمتّع به هذه المؤسّسـة التربويّـة، ويبقى مثل ذلك مرتبطا بمستوى وعي العاملين في الحقل التربويّ وطبيعة انتماءاتهم الاجتماعيّة وخلفيّاتهم الثقافيّة.
3- هـذا ويمكـن للجامعة أن تؤدّي أدواراً متعدّدة ومتعارضة، فهي قادرة على تكـريس الديمقراطيّة التربويّـة، كمـا يمكـنها، وعلى خلاف ذلك، أن تسهم في تعزيز القيم التسلّطيّة المنافية للقيم الديمقراطيّة. ولكنّ هذه الإمكانيّة رهينة جملة من الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة.
فالجامعة لا تستطيع أن تضمن استقلالها وحرّيّتها في طلب الحقيقة ونشرها ما لم تتمتّع بتأييد واضح من القوى الاجتماعيّة خارج أسوارها. وبعبارة أخرى، يجب على الجامعة أن تجعل أحد أهدافها الرئيسيّة تربية الأجيال المتلاحقة من خرّيجيها على تمتين مفاهيم الحرّيّة الأكاديميّة ليكونوا عونها الفكريّ والبشريّ إذا أزفّت الأزمة وحاقت بالجامعة قوى الردّة الحضاريّة تريد مصادرة حقّها في طلب الحقيقة، وإشاعتها بين الناس (55).
وأخيراً، فإنّ دور الجامعة الإبداعيّ يتحدّد بدرجة الاستقلاليّة الذاتيّة أو النسبيّة الّتي تتمتّع بها وبطبيعة المجتمع الجامعيّ والقوى الاجتماعيّة الّتي يتحدّر منها هذا المجتمع بمختلف فصائله واتّجاهاته وتيّاراته. وهو ما يعني أنّه كلّما تنامت درجة الاستقلال الذاتيّ للمؤسّسة الجامعيّة، وكلّما تنامت فيها القوى الاجتماعيّة الليبراليّة استطاعت هذه المؤسّسة أن تتسنّم أدواراً اجتماعيّة تحمل طابع الابتكار والتجديد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاتّجاه بدأ يشهد حالة كبيرة من التراجع، ولا سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك تحت تأثير نموّ الفكر السوسيولوجيّ الّذي استطاع أن يكشف عن الأبعاد الاجتماعيّة للعمليّة التربويّة وعن الروابط الأيديولوجيّة للعلاقة بين التربية والمجتمع. فالمؤسّسات التربويّة كما تظهرها هذه الدراسات السوسيولوجيّة تمارس وظيفتها وفقاً لمعايير اجتماعيّة تتحدّد أبعادها ودينامياتها في نسق الحياة الاجتماعيّة السياسيّة.
9- موقف الأكاديميّين من وضعيّة القهر وغياب الحرّيّات الأكاديميّة:
تتوقّف ردود فعل الأكاديميّين العرب على جملة من الوضعيّات الاجتماعيّة والأكاديميّة الّتي يعيشون فيها. فأغلب الفئات الأكاديميّة الّتي تعاني من الأوضاع السيّئة والمتردّية هي الأجيال الجديدة من المدرّسين والأكاديميّين الّذين عادوا من الإيفاد وأنهوا دراستهم في الثمانينيات وما بعدها. وتنتمي أغلب هذه الفئات الأكاديميّة إلى الطبقة الوسطى في مختلف البلدان العربيّة. ويعني هذا أنّها تتحدّر غالباً من طبقات اجتماعيّة تعاني في الأصل من جذور اجتماعيّة متواضعة جدّاً. ويمكن التمييز في إطار هذه الفئات الأكاديميّة بين الفئات الأكاديميّة الّتي تأهّلت علميّاً في التخصّصات العلميّة الدقيقة مثل الطبّ والهندسة والصيدلة والعلوم والفئات الّتي تأهّلت علميّاً في مجال العلوم الإنسانيّة.
وكما أوضحنا في السابق، فإنّ هاجس الأكاديميّين الجدد هو التحرّر من عالم الضرورة، ويلاحظ في هذا السياق أنّ الصراع من أجل الرغيف والوجود (تأمين سكن – هاتف – الزواج وبناء أسرة) يشكّل قطب الرّحى في حياة هذه الفئة، فالبحث هنا هو بحث عن خلاص، وهذا الخلاص يبدو بالنسبة إلى أغلبهم كالسراب.
ويبدو أنّ الأكاديميّين من ذوي التخصّصات العلميّة (طبّ وهندسة) هم أوفر حظّاً من زملائهم في مجال العلوم الإنسانيّة، إذ يجدون فرصاً للعمل في القطاع الخاصّ وأحياناً يدخلون في نسق من العلاقات الّتي تضمن لهم ماء الوجه والحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانيّة. أمّا المأزق الكبير فيقع فيه أصحاب التخصّصات الإنسانيّة الّذي يجدون أنفسهم في حصار مادّيّ واجتماعيّ خانق لا يرحم. وتبعاً لوضعيّة هذه الفئات الاجتماعيّة تتحدّد وضعيّة الاستجابة تجاه الوضعيّة المأساويّة الّتي تعيشها شريحة واسعة من هؤلاء الأكاديميّين.
فالأكاديميّون من الأجيال القديمة استطاعوا الاستفادة من النظام الأكاديميّ القديم الّذي منحهم فرصة أكبر لتكوين حياتهم المادّيّة والفكريّة والدخول في نسق من العلاقات الّتي ضمنت لهم نوعاً من الاستمراريّة والحضور والقدرة على المواظبة سواء خارج بلدانهم أو داخلها. وأغلب عناصر هذه الفئة انكفأ على امتيازاته النسبيّة، وابتعد حتّى عن أبسط المطالبات الأساسيّة لتحسين أوضاعهم وأوضاع زملائهم. فالخلاص الفرديّ لهذه الفئة شكّل لها المخرج الأساسيّ من أزمة التدهور الّتي يعانيها المجتمع الأكاديميّ ولا سيّما شريحة الأجيال الجديدة.
ويلاحظ في هذا السياق الصمت المطبَق الّذي سجّله عدد كبير من المفكّرين الّذي عرفوا بجرأتهم وقدرتهم الأكاديميّة وحضورهم الاجتماعيّ الكبير في أوطانهم. هذه الفئة من الأكاديميّين الّتي تسجّل حضورها في كثير من المحافل الثقافيّة والفكريّة لم تحرّك ساكناً أو تُجْرٍ قلماً للحديث عن الأوضاع المتردّية للمجتمع الأكاديميّ بصفة عامّة. والغريب في الأمر أنّ أغلب المفكّرين الكبار في أوروبا وأمريكا خصّصوا دراسات وأبحاثا حول الحرّيّة الأكاديميّة في جامعاتهم ومؤسّساتهم، إلّا أنّ كثيراً من المفكّرين العرب البارزين قد أغفلوا هذه المسألة وتغافلوا عنها لاعتبارات تتعلق بأوضاع الحريات الأكاديمية نفسها في جامعاتهم ومجتمعاتهم..
وفيما يتعلّق بأهل الفئة الأكاديميّة المؤهّلة بالعلوم الدقيقة والتطبيقيّة، فقد بقيت آمالهم في خلاص فرديّ يقوم على أساس الخبرات الّتي يمتلكونها في مجال الطبّ والهندسة وغير ذلك من العلوم النادرة والمنتجة مادّيّاً.
أمّا بخصوص الفئة الأكاديميّة الوسطى، والّتي تأهّلت في مجال العلوم الإنسانيّة، فقد بقيت استجاباتها في حدود الترجّي والأمل في أن تجد خلاصاً مادّيّاً يقوم على أساس عناية القيادة السياسيّة: فالآمال عند هؤلاء كبيرة جدّاً في أن تلتفت إليهم السلطة السياسيّة في لحظة ما لتعيد إلى الفئة الأكاديمية بعض الاعتبار، ولا سيّما فيما يتعلّق بالسكن والسيّارة والرواتب وتحسين الأوضاع عموماً. وتتحدّد استجابات الأكاديميّين في ثلاثة مستويات: فئة أكاديميّة استطاعت أن تجد الخلاص في مراحل سابقة، وهي غير معنيّة بما يحدث بالنسبة إلى زملائهم من الشرائح الأكاديميّة الأخرى. وهناك فئة ثانية، وهي فئة الأكاديميّين من ذوي التخصّصات العلميّة التي تعوّل على أهمّيّة رأس المال العلميّ الّذي تمتلكه وعلى القدرات والمهارات الّتي يمكن الاستفادة منها مباشرة في سوق العمل. أمّا الفئة الثالثة فهي الفئة الّتي تحمل تأهيلاً في مجال العلوم الإنسانيّة، وما زالت هذه الفئة تعتمد أسلوباً في النضال يقوم على أساس لفت الانتباه والالتماس والترجّي والأمل … إلخ.
وهناك شريحة من الأكاديميّين الّذي يوجدون في سدّة الحكم، من وزراء ورؤساء جامعات ونقابيّين وغير ذلك من ذوي المسؤوليّات الكبيرة. ولكنّ هذه الفئة تعمل، وعلى خلاف ما هو مرجوّ منها، على تكريس معاناة أعضاء هيئة التدريس، وعلى تضييق الحصار عليهم بشكل متواصل، ويقومون بإصدار قوانين جديدة، ومراسيم إداريّة متجدّدة، يوظفونها جميعها في تعزيز بؤس الأستاذ الجامعيّ ومضاعفة معاناته.
وفي تحليل سوسيولوجي يتّسم بالعمق، يقدّم امحمد صبور رؤية علميّة لردود أفعال الأكاديميّين إزاء وضعيّة القهر. وقد يصحّ تحليله هذا ليشمل كثيرا من أوضاع الأكاديميّين في الوطن العربيّ، إذ يقول: "يؤدّي الطغيان والقهر الّذي يتعرّض لهما الأكاديميّون إلى ردود فعل مختلفة إزاء النظام السائد، فمنهم من يندمج، ومنهم من ينسحب، ومنهم من يكيّف نفسه، ومنهم من يتمرّد ويثور. وبعبارة أخرى هناك من يندمجون لأسباب شخصيّة (كالمنفعة والمصلحة والتطلّعات الإداريّة) وباندماجهم يصبحون أعضاء مهيمنين لتأييد الأيديولوجيا المهيمنة. أمّا المنسحبون فلا يعتبرون أنفسهم جزءاً من النظام ويغتربون عنه، وفي هذه الحالة، يعرّضون أنفسهم بكيفيّة آليّة لعمليّات الانتقام" (56). أمّا المجموعة الّتي تكيّف نفسها مع النظام، فإنّها كالحرباء تتلوّن مع المواقف كلّما تلوّنت. وأعضاء هذه الجماعة مَرِنون ومتعاونون وموافقون ومستعدّون للجلوس في أيّ مقعد يقدّم لهم، وللانسياق وراء أيّ خطاب يعرض عليهم. وبعبارة أخرى فهم على استعداد و"تحت الذّمة"، على أساس أنّ عملهم عمل علميّ وليس سياسيّاً. وهم في الواقع يحاولون إخفاء انتهازيّتهم تحت ستار عدم الانتماء السياسيّ، ويبررون ضياعهم الثقافيّ تحت قناع الأيديولوجيا البرغماتيّة الحادّة(57).
10- خاتمة:
تشكّل الديمقراطيّة التربويّة في الجامعات والمؤسّسات التعليميّة شرطا ضروريّا وتمهيدا لازما لنماء المعرفة الإنسانيّة ولبناء صرح الحضارة والمدنيّة والإبداع العلميّ. وقد أدرك علماء الاجتماع التربويّ هذه الحقيقة، وصاغوها قانوناً اجتماعيّاً أكّدته التجارب الإنسانيّة.
والنّاظر في الحريّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة الّتي تأسّست في النصف الثاني من القرن العشرين، يراها ضامرة. فهذه الجامعات لا تعدو أن تكون مؤسّسات حكوميّة وظيفتها الأساسيّة القيام بترويض الأجيال على الولاء للنظام السياسيّ القائم وتزويده بالموظّفين المروّضين على التفاني في خدمة أغراضه ومخطّطاته.
لذا، فنحن في حقيقة الأمر إزاء مؤسّسات جامعيّة تسلّطيّة، لم تكن يوماً جامعات حرّة تعلّم التّوق إلى الحقيقة والمعرفة والثقافة والإبداع، فالحرّيّات الأكاديميّة الّتي نتحدّث عنها لم تولد في رحابها حتّى نتحدّث عن ضعفها أو مجرّد ضمورها. نعم، لقد وصفت هذه الجامعات بأنّها مؤسّسات ترويضيّة، لذلك لم تترسّخ فيها أيّ تقاليد للحرّيّات الأكاديميّة، وإن كنّا شهدنا بعضاً من ملامحها في مرحلة الاستقلال، أي: قبل تغوّل السلطات الأمنيّة والعسكريّة على الجامعات العريقة في العالم العربيّ.
فالإدارات الجامعيّة في الجامعات العربيّة تتماهى سلطويّاً مع أنظمتها السياسيّة، والأستاذ الجامعيّ لا يعدو أن يكون موظفا يخضع لأوامر قياداته، وينفّذ تعاليم رؤسائه. فتعيين الأستاذ الجامعيّ - كما هو حال مديري الجامعات ومعاونيهم وعمداء الكلّيّات - لا يكون إلّا بقرارات وزاريّة أو حكوميّة، وعلى هذا النحو يفقد الأستاذ الجامعيّ قيمته الرّمزيّة الاعتباريّة بوصفه مفكّراً مربّياً للأجيال ومنتجاً للثقافة. والأخطر من ذلك كلّه أنّ الحكومات لا تريد من أستاذ الجامعة أن يبدع ثقافيّاً أو فكريّاً، فقد يكون هذا الأمر، في تقديرها، وبالاً عليها. وعليه، إذن، أن يكون مروِّضاً مروَّضاً، معلّماً يلقّن ويتلقّن، لا يشغل إلاّ بدروس الطلبة واختباراتهم وبيع المذكّرات وتمجيد رؤسائه والامتثال الطوعيّ لكلّ قيم التسلّط والإكراه، وذلك إلى الدرجة الّتي يتحوّل فيها إلى طاغية صغير يمارس الاستبداد على مَنْ حوله ومَنْ معه.
وضمن هذه الصيرورة المأساويّة، لا ينظر إلى الأستاذ الجامعيّ إلّا "بوصفه مجرّد موظّف في جهاز التعليم العالي، يتقاضى أجراً يختلف حسب مستوى دخل هذه الدولة أو تلك، ويطلب منه احترام جدول التدريس، وملء محاضراته، بمخطّط جاهز من البرنامج المعدّ سلفاً، والّذي لم يشارك الأستاذ لا في وضعه ولا في تحديد مراجعه، ولا في توصيف مقرّراته، ولا في مناقشة محتواه، بإشراف رئيس قسم لا يفوقه إلّا في الأقدميّة والولاء للمناهج العقيمة العتيقة، وتحت رقابة عميد كلّيّة لا يخضع تعيينه لانتخاب ولا لتزكية في أغلب أحوال جامعاتنا" (58).
ومثل هذه الوضعيّة الاستلابيّة الّتي يعيشها الأستاذ الجامعيّ تدفعه إلى درجة عالية من الساديّة والمازوشيّة معاً، وإلى الفساد والاضمحلال الفكريّ والثقافيّ، فينسى كلّ الواجبات الأخلاقيّة الّتي تقتضيها رسالته، ويتنكّر كلّيّاً للدور الثقافيّ المنوط بعهدته في العمل الأكاديميّ. وعلى هذا النحو يمّحي الأستاذ الجامعيّ ويختفي في ركام الأمّيّة الأكاديميّة والجهالة الثقافيّة ويتحوّل إلى سادن للفساد، بدلاً من أن يكون مشعلاً للنور ومنبراً للمعرفة والحياة. ومن يتأمّل الشرائح الواسعة لهؤلاء "الأساتذة" سيجد ما يسوء النظر، ويؤذي العين، ويملأ القلب كَمَداً، سيجد "أساتذة" - مع التحفّظ على هذه الكلمة –وقد حلّت الغفلة في عقولهم وتوغّل الفساد في أفئدتهم واعتملت الجهالة في نفوسهم، حتّى تمكّنت وترسّخت على هيئة أمّيّة شاملة، فخرجوا من دائرة الوعي الحرّ إلى مفازات التصحّر الثقافيّ والأخلاقيّ. وهذا كلّه – فضلاً عن عوامل أخرى - يعود إلى تغييب الحرّيّات الأكاديميّة واستحضار كلّ عوامل الاستبداد والفساد الّتي تفعل فعلها في النفوس، فتطفئ كلّ بارقة أمل، وتعطّل كلّ توجّه ثقافيّ وفكريّ يحمل في ذاته بذور النقد وثقافة الانعتاق والتحرّر.
وقد لاحظنا أنّ الأساتذة الّذين حاولوا الخروج عن المسارات القطيعيّة (= نسبة إلى القطيع) في الجامعات القطعانيّة، قد صدموا بالعقوبات الّتي تبدأ بالتوقيف عن التدريس والفصل من الجامعة، وقد تصل إلى حدود تنفيذ أحكام الردّة والارتداد، وأقلّها وضعهم في أقفاص الاتّهامات الأخلاقيّة الّتي يمكنها أن تدمّر حياتهم. هذا هو حال الأساتذة الجامعيّين الّذي حاولوا رفض هذا الواقع والتمرّد على وضعيّات الاستبداد والإكراه، كما هو حال هؤلاء الّذي دعوا إلى حرّيّة الفكر والمعتقد وحرّيّة البحث العلميّ. ويعني هذا أنّه يطلب منك عندما تريد أن تكون أستاذاً جامعيّاً أن تكون قادراً على المشاركة في عمليّة إنتاج الجهالة، وإعادة إنتاجها ضمن مسارات الثقافة التقليديّة المضادّة للعقل، وأن تكون خاضعاً طيّعاً مروّضاً، وألّا يخرج دورك عن معلّم الكتاب (= نسبة إلى معلّم الكتب) الّذي يقوم بعمليّة التلقين. وحذار من التأمّل والنقد والتفكير الحرّ، لأنّ مثل هذه الأمور تجلب لك المصائب، وتؤدّي بك إلى مهالك العقاب الشديد. وهكذا، فإنّ الأستاذ الجامعيّ الّذي يتبنّى نوعاً من الثقافة النقديّة سيشعر في لحظة ما أنّه مهدّد في سلامته الشخصيّة وفي وظيفته، فيرى خلاصه في نهاية المطاف في أن يقبل طوعاً أو كرهاً التدجين ودخول بيت الطاعة متخلّياً عن كلّ أفكاره ومبادئه، متماهياً مع صورة القطيع الّذي يعيش فيه.
ولا يعني هذا كلّه أنّ "الأستاذ" الجامعيّ الّذي يصول اليوم ويجول في فناءات الجامعة العربيّة يستاء لمثل هذا الواقع أو يغضب، فهم في أكثرهم يرحّبون بهذه الوضعيّة ويجدون فيها ملاذهم ويأخذون أماكنهم المميّزة في دورة الاستسلام والكساد والفساد. وإنّه لمن السهولة بمكان أن يأخذ هذا النوع من "الأساتذة" مكانه في القطيع على أن يخرج من سطوته وهيمنته، فمثل هذا النوع من الأساتذة لا يبحث عن أكثر من وظيفة جيّدة "محترمة" ومرتّب يعتاش به وطلبة يفرض عليهم سلطته ويمارس عليهم سطوته ليعوّض هذا النقص الوجوديّ في ذاته وفي إحساسه المكلوم بالدونيّة والضَّعَة. ومثل هؤلاء "الأساتذة" المروّضين أُعدّوا لهذه المهمّة ووقعت تهيئتهم لهذا الدور الاستلابيّ في المراحل السابقة من تعليمهم في سياق ما نسمّيه دورة الإعداد الاستلابيّ للأستاذ الجامعيّ المدجّن. وينبني على ذلك أنّ الأستاذ الجامعيّ المدجّن المُترع بعقليّة القطيع لا بدّ أن يتماهى مع الأيديولوجيا السائدة، ليشعر بالأمن في ظلّ الرعاية السامية للأنظمة السياسية القائمة.
وعلى الرغم من الاجتياح المنظّم الّذي تفرضه قوى التسلّط والاستبداد على الجامعة فإنّ عنصر المقاومة وروحها لا يغيبان تمام الغياب، فكلّ فعل يولّد ردّة فعل موازية له في القوّة ومعاكسة له في الاتّجاه (كما ينصّ مبدأ نيوتن في الفيزياء). وهناك نخب من أساتذة الجامعات استطاعت الإفلات من عفن القطيع ومرابض الاستبداد، لمقاومة كلّ أشكال التسلّط والإكراه. وهؤلاء يقاومون ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس إيماناً منهم بأنّ الجامعة هي حرم العقل والحرّيّة والضمير.
والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: ما أهمّيّة الحرّيّات الأكاديميّة في عالم تدمّره الحروب وتدكّه النزاعات دكّاً ويخنقه شبح المجاعات خنقاً؟ ماذا تنفع الحرّيّات الأكاديميّة في عالم تملؤه عذابات الأطفال وأنين الثكالى وأوجاع الأمّهات؟ يمكن أن نقول في الإجابة عن هذا التساؤل: إنّ معركة الحرّيّة والكرامة واحدة لا تتجزّأ مكوناتها ولا تنفصم أبعادها، فما يحدث خارج الجامعة من استبداد وقمع لا ينفصل عمّا يدور داخلها من استشراء للفساد والتّسلّط والإكراه، وما يحدث فيها يجد صداه خارجها؛ نعم، إنّها معركة واحدة، معركة من أجل الحرّيّة والكرامة بكلّ معانيهما. ويقيناً أنّ النضال من أجل الحرّيّة والكرامة داخل الجامعة لا يمكنه أن ينفصل أبداً عن جوهر النضال من أجل الحرّيّة والكرامة خارجها. والنضال من أجل الحرّيّة لا يكون، ولن يكون، نضالاً من أجل قيمتها بوصفها ممارسة يوميّة فحسب، بل من أجل استحضارها بوصفها فلسفة متكاملة توفّر المناخ الضروريّ الحرّ لنموّ العقل وتطوّر الفكر وتأكيد الأنسنة ورفع راية التنوير. وهذا كلّه يشكّل القوّة المطلوبة لتحويل المجتمع إلى طاقة حضاريّة وإلى قوّة تحفز الأفراد حفزاً وتدفعهم دفعاً خلّاقاً إلى التفاعل مع معطيات الحياة الحرّة الكريمة. فالحرّيّات، الأكاديميّة منها والمدنيّة، مطلب وجوديّ لتطوير المجتمع وتأهيله حضاريّاً وإنسانيّاً. وهذا التحضير الإنسانيّ للمجتمع عن طريق ترسيخ الحرّيّة مطلب مشروع تاريخيّاً وإنسانيّاً. فمجتمعاتنا تنوء تحت أثقال التخلّف، والسبب الرئيس يكمن في تغييب الحرّيّة الّتي أدّت بدورها إلى تغييب العقل والكرامة. ومع غياب الحرّيّة تغيب شمس الحضارة، وتذوي شعلة التنوير، ويغيب الإنسان الفاعل في التاريخ والحضارة(59).
وأخيراً، نقول بأنّ الأكاديميّين العرب (مع الاحتراز ضدّ التعميم) يعيشون حالة اغتراب تتمثّل في غياب الحرّيّات وضياع الحقوق الأكاديميّة بالمقاييس كلّها. وبما أنّ الجامعة هي حرم العقل والحرّيّة فإنّه يتعيّن على الجامعيّين اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى أن يتحرّروا من نزعة الخلاص الفرديّ. فالأكاديميّون يملكون الكلمة والقلم على الأقلّ، وهم يستطيعون أن يقدّموا صورة واقعيّة للمأساة عبر أبحاثهم ومناقشاتهم وهمساتهم وأصداء أصواتهم. ويعني هذا أنّ الصمت ليس الأداة الأفضل للنضال من أجل تغيير الواقع، ولذا يجب على الأكاديميّين الخروج من دائرة الصمت والمطالبة بالحوار والتأكيد على أهمّيّة خلاصهم الحقيقيّ وخروجهم من دائرة الصعوبات. وذلك لأنّ خلاصهم ضروريّ وجوهريّ ولا بد منه من أجل تقدّم المجتمع والجامعة وتطور الحياة بشتّى مناحيها.
فالحرّيّات الأكاديميّة كما تلحّ دراستنا هذه لم تعد ترفاً ثقافيّاً أو موضوعا تقنيّا يهمّ المثقّفين، بل هي ضرورة حيويّة لنهضة الأمّة والخروج بها من أزمتها(60). وأنّى لهذه الحرّيّة أن تتأتّى إذا كان الأكاديميّون يعيشون في صراع مع شروط البقاء والمقدّمات الأساسيّة للوجود؟ فالحرّيّة " ليست شيئاً يودّع في عقول الرجال، بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم (61). وهذا يعني أنّ الحرّيّة والحقوق لا تُمنَح منحا ولا تُعطى بسهولة، بل يجب على المعنيّين أن يناضلوا من أجلها، وأن يعيشوا تجربتها بعيداً عن وضعيّات التوسّل والرجاء.
وهذه الحرّيّة الأكاديميّة - إذا توفّرت- ستمكّن الجامعة نفسها من الاستمرار، ومن امتلاك ناصية العمل على إعادة بناء العقليّة العربيّة انطلاقاً من مقدّمات ديمقراطيّة لمواكبة العصر بصيرورته وتطوّراته. فالحرّيّة مطلب تاريخيّ للشعوب، وهي تمثّل عصب وشريان الوجود بالنسبة إلى وظيفة الجامعة وأدائها.
اضف تعليق