يَرَى عُلَماءُ الاِجْتِماعِ أَنَّ نَظَرِيَّةَ التّفاعل الرَمْزِيِّ تُشَكِّلُ إِطاراً عامّاً لِلنَّظَرِيّاتِ الَّتِي تَبْحَثُ فِي المُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ نِتاجاً لِلتَّفاعُلاتِ اليَوْمِيَّةِ، وَتَبْحَثُ فِي الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تَتِمُّ فِيها التّفاعلاتُ بَيْنَ الأَفْرادِ الَّذِينَ يُضْفُونَ المَعانِيَ وَالدَّلالاتِ عَلَى الأَشْياءِ المُحِيطَةِ بِهِمْ فِي مَسارِ تَفْسِيرِ تَفاعُلاتِهِمْ مَعَ الآخَرِينَ. النّاسَ يَفْهَمُونَ عَوالِمَهُمْ الاِجْتِماعِيَّةَ مِنْ خِلالِ التَواصُلِ...
"الحُدُوسُ الحِسِّيَّةُ بِدُونِ مَفاهِيمَ عَمْياء، وَالتَصَوُّراتُ العَقْلِيَّةُ بِدُونِ حُدُوسٍ حِسِّيَّةٍ جَوْفاء".
نَقْدِ العَقْلِ المَحْض، عَمانْوِيل كانِطٍ.
1- مُقَدِّمَة:
اِسْتَقْطَبَتْ سوسيولوجيا "التّفاعل الرَمْزِيَّ" اِهْتِمامَ المُفَكِّرِينَ وَعُلَماءِ الاِجْتِماعِ مُنْذُ بِدايَةِ القَرْنِ العِشْرِينَ حَتَّى اللَحْظَةِ الراهِنَةِ، وَذٰلِكَ نَظَراً لِما تَنْطَوِي عَلَيْهِ هذه السّوسيولوجيا مِن جِدَّةَ وَأَصالَة فِكْرِيَّةٍ مُفارِقَةٍ لِلنَظَرِيّاتِ الكُبْرَى التَقْلِيدِيَّةِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَلِما تَتَمَيَّزُ بِهِ مِن قُدْرَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ عَلَى اِسْتِكْناه الأَعْماق الرَّمْزِيَّة الخَفِيَّة وَالدّلالِيَّة لِلحَياةِ وَالظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ. لَقَدْ أَدْهَشَ رُوّادُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ جُمْهُورَ الدارِسِينَ وَالباحِثِينَ بِما فَتَحَتْهُ مِن آفاقٍ فِكْرِيَّةٍ جَدِيدَةٍ فِي مَجالِ البَحْثِ السوسيولوجِيِّ، وَبِما رَسَّخَتْهُ مِن رُؤىً وَتَصَوُّراتٍ جَدِيدَةٍ عَن طَبِيعِيَّةِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ الناسِ فِي خِضَمِّ التّفاعل وَالتَّبادُلِ الاِتِّصالِيِّ الرَمْزِيِّ.
تُشَكِّلُ "التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ" أَحَد التَيّاراتِ السوسيولوجِيَّةِ الَّتِي فَرَضَت نَفْسَها نَقِيضاً مُناظِراً لِلاِتِّجاهاتِ الكُبْرَى فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، مِثْلَ: البِنْيَوِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ. وَيَنْظُرُ مُعْظَمُ النُقّادِ اليَوْمَ إِلَى التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ بِوَصْفِها نَظَرِيَّةً سوسيولوجِيَّةً مُتَكامِلَةَ الأَرْكانِ رَغْمَ حَداثَتِها نِسْبِيّاً. وَقَدْ عَكَفَ رُوّادُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ عَلَى تَحْلِيلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ الصُغْرَى (الميكروسوسيولوجِي)، سَعْياً إِلَى فَهْمِ العَلاقاتِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ الأَفْرادِ فِي المُجْتَمَعاتِ الإِنْسانِيَّةِ، والعمل على َتَحْلِيلِها وَإِدْراكِ مَعانِيها وَدَلالاتِها وَمَغازِيها. وَقَدْ رَكَّزَ رُوّادُها عَلَى دِراسَةِ مُعْطَياتِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ لِلأَفْرادِ وَفَعالِيّاتِهِم السوسيولوجِيَّةِ القائِمَةِ فِي مَداراتِ اِتِّصالِهِم، وَمَساراتِ تَفاعُلِهِم، وَاعْتَمَدُوا منْهَجِيّاً عَلَى تَحْلِيلِ الرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَّلالاتِ الَّتِي تُعْطِي مَعْنىً لِلتَّجارِبِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ.
يَرَى عُلَماءُ الاِجْتِماعِ أَنَّ نَظَرِيَّةَ التّفاعل الرَمْزِيِّ تُشَكِّلُ إِطاراً عامّاً لِلنَّظَرِيّاتِ الَّتِي تَبْحَثُ فِي المُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ نِتاجاً لِلتَّفاعُلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ اليَوْمِيَّةِ، وَتَبْحَثُ فِي الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تَتِمُّ فِيها التّفاعلاتُ الاِجْتِماعِيَّةُ بَيْنَ الأَفْرادِ الَّذِينَ يُضْفُونَ المَعانِيَ وَالدَّلالاتِ عَلَى الأَشْياءِ المُحِيطَةِ بِهِمْ فِي مَسارِ تَفْسِيرِ تَفاعُلاتِهِمْ مَعَ الآخَرِينَ. وَيَعْتَمِدُ هذا المَنْظُورُ عَلَى فِكْرَةٍ أَساسِيَّةٍ مَفادُها أَنَّ النّاسَ يَفْهَمُونَ عَوالِمَهُمْ الاِجْتِماعِيَّةَ مِنْ خِلالِ التَواصُلِ وَالتّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، أَيْ، عبر تَبادُلِ المَعْنَى مِنْ خِلالِ الرُّمُوز وَاللُّغَةِ. وَيَرَى أَصْحابُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ أَنَّ المَعْنَى الَّذِي نَنْسِبُهُ إِلَى العالَمِ مِنْ حَوْلِنا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفاعُلاتِنا مَعَ النّاسِ وَالأَفْكارِ وَالأَحْداثِ، وَأَنْ فَهْمَنا لِلعالَمِ وَكَيْفِيَّةَ تَفاعُلِنا مَعَ مُجْتَمَعاتِنا يَعْتَمِدُ عَلَى ما نَتَعَلَّمُهُ مِنْ تَفاعُلاتِنا مَعَ الآخَرِينَ بَدَلاً مِنْ الحَقِيقَةِ المَوْضُوعِيَّةِ. وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَعْتَقِدُ التّفاعليُّونَ الرَمْزِيُّونَ أَنَّ مُجْتَمَعاتِنا مَبْنِيَّةٌ اِجْتِماعِيّاً عَلَى المَعانِي الَّتِي نُضْفِيها عَلَى التّفاعلاتِ وَالأَحْداثِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
تُشَكِّلُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ أَحَدَ أَهَمِّ الاِتِّجاهاتِ الرَئِيسِيَّةِ الكُبْرَى فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ وَعِلْمِ النَفْسِ الاِجْتِماعِيِّ عَلَى حَدٍّ سَواءٍ، وَيَشْغَلُ هٰذا الاِتِّجاهُ مَكانَةً مُهِمَّةً فِي الفَضاءِ الواسِعِ لِلعُلُومِ الإِنْسانِيَّةِ بَحْثاً فِي إِشْكالِيّاتِ الحَياةِ الإِنْسانِيَّةِ وَقَضاياها الوُجُودِيَّةِ. وَيُحاوِلُ أَصْحابُ هٰذا الاِتِّجاهِ التَوَغُّلَ فِي أَعْماقِ الحَقِيقَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وِفْقَ مَنْهَجِيّاتِ الاِسْتِقْصاءِ الرَمْزِيِّ لِلوُجُودِ الاِجْتِماعِيِّ. وَيُشَكِّلُ البَحْثُ فِي المُسْتَتِرِ وَالغامِضِ وَالكامِنِ وَالخَفِيِّ الرَمْزِيِّ أَحَدَ أَهَمِّ مَحاوِرِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ مَنْهَجِيَّةَ البَحْثِ فِي العَلاقَةِ الجَدَلِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ المُجْتَمَعِ وَالفَرْدِ وفْقَ مُعْطَياتِ الرَّمْزِ وَالتّفاعل الرَمْزِيِّ. وَيَتَّصِفُ هٰذا التَّوَجُّهُ التّفاعليُّ الرَمْزِيُّ بِالغِنَى وَالخُصُوبَةِ الفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى تَوْلِيفَةٍ مُتَبَلْورَةٍ مِن العُلُومِ الإِنْسانِيَّةِ فِي المُجْتَمَعِ وَالأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَعِلْمِ النَفْسِ وَعِلْمِ الاِجْتِماعِ. وَيُحاوِلُ أَصْحابُ هٰذا الاِتِّجاهِ تَوْظِيفَ أَدَواتِهِم الفِكْرِيَّةِ وَمَناهِجَهُم الكَيْفِيَّةَ فِي اِسْتِكْشافِ الغامِضِ وَالمُبْهَمِ وَالخَفِيِّ الرَمْزِيِّ الضّارِبِ فِي عُمْقِ الحَياةِ الإِنْسانِيَّةِ.
يَتَجاوَزُ أَنْصارُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ الصِيَغَ القانُونِيَّةَ الصُلْبَةَ لِعِلْمِ الاِجْتِماعِ الوَضْعِيِّ إِلَى مَساراتٍ رَمْزِيَّةٍ سائِلَةٍ تَتَمَيَّزُ بِقُدْرَتِها عَلَى اِسْتِقْراءِ هٰذا التَمازُجِ السّاحِرِ بَيْنَ اللُغَةِ وَالأَدَبِ، وَالتَخاصُبِ بَيْنَ الرَّمْزِ وَالمَعْنَى وَتَوْظِيفِهِما مَنْهَجِيّاً فِي تَناوُلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ الصُغْرَى، وَتَحْلِيلِها وَاِسْتِكْشافِ دَلالاتِها وَمَعانِيها. وَعَلَى خِلافِ الصَّلابَةِ السّوسيولوجِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْ الإِنْسانِ مَوْضُوعاً جامِداً صُلْباً، أَوْ شَيْئاً مُتَعَيِّناً مُجَسَّداً فِي الواقِعِ كَما يَراهُ دوركهايم وَأوغست كونتْ عَلَى سَبِيلِ المِثالِ لا الحَصْرِ.
تُضْفِي التّفاعليَّةُ الرَّمْزِيَّةُ عَلَى الإِنْسانِ طابعاً رَمْزِيّاً مَعْنَوِيّاً، وَتَنْقُلُهُ مِن صِيغَةِ المَوْضُوعِ المُنْفَعِلِ إِلَى الذّاتِ الفاعِلَةِ، وَمَنْ هَيْأَتِهِ الجامِدَةُ إِلَى صُورَتِهِ الرَمّْزِيَّةِ الفاعِلَةِ. فَالإِنْسانُ، كَما يَتَبَدَّى فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، هُوَ ذاتٌ وَهُوِيَّةٍ وَكِيانٍ وُجُودِيٍّ يَرْسُمُ مَصِيرَهُ، وَيَصْنَعُ تارِيخَهُ، وَيَنْسُجُ خُيُوطَ مُجْتَمعِه عَلَى صُورَتِهِ الرَّمْزِيَّةِ. وَعَلَى هٰذا النَّحْوِ يُحاوِلُ أَصْحابُ الرَّمْزِيَّةِ التّفاعليّةِ النَظَرَ إِلَى الإِنْسانِ بِوَصْفِهِ صانِعاً لا مَصْنُوعاً، ذاتاً لا مَوْضُوعاً، رَمْزاً لا دَلالَةَ، دالّاً لا مَدْلُولاً، كَما يُنْظَرُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ تَشْكِيلٌ مَعْنَوِيٍّ دَلالِيٍّ تَأْوِيلِيٍّ فِي جَوْهَرِهِ وَكَيْنُونَتِهِ، وَعَلَى هٰذِهِ الصُّورَةِ تُعِيدُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ لِلإِنْسانِ جَوْهَرَ إِنْسانِيَّتِهِ وَتُخْرجُه مِنْ دائِرَةِ اِغْتِرابِهِ الإِنْسانِيِّ، وَمِنْ الأَقْفاصِ الصُّلْبَةِ لِلمُجْتَمَعِ وَالحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
وَهٰكَذا، يَتَجَلَّى الإِنْسانُ الفَرْدُ، وفْقَ هٰذِهِ الرُؤْيَةِ، صانِعاً لِتارِيخِهِ، فاعِلاً فِي الوُجُودِ، مُنْتِجاً لِلحَياةِ، وَذٰلِكَ عَلَى نَقِيضِ الفِكْرَةِ المارْكِسِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ الوُجُودَ صانِعٌ لِلوَعْيِ، وَإِنَّ الإِنْسانَ نِتاجٌ لِلحادِثاتِ المَوْضُوعِيَّةِ، وَعَلَى خِلافِ هٰذِهِ الرُّؤْيَةِ المارْكِسِيَّةِ الصَلْبَةِ يَرَى الرَمْزِيُّونَ أَنَّ الوَعْيَ الإِنْسانِيَّ خَلّاقٌ فِي الوُجُودِ، فاعِلٌ فِي التارِيخِ، وَأَنَّ الوُجُودَ الاِجْتِماعِيَّ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي جَوْهَرِهِ إِلّا اِنْعِكاساً طَبِيعِيّاً وَنِتاجاً حادِثاً لِلتَفاعُلِ الرَمْزِيِّ الَّذِي يَتِمُّ بَيْنَ البَشَرِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَقائِعِ الوُجُودِ.
وَبِهٰذا المَعْنَى، تَتَبَدَّى لَنا التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ فِي صُورَةِ نَزْعَةٍ سوسيولوجِيَّةٍ مِثالِيَّةٍ أَدَبِيَّةٍ رَمْزِيَّةٍ تَعْمَلُ عَلَى اِسْتِكْشافِ الوُجُودِ مِن خِلالِ التَأْطِيرِ الرَمْزِيِّ وَالأَدَبِيِّ لِلتَفاعُلِ الإِنْسانِيِّ القائِمِ عَلَى اِسْتِنْباطِ المَعانِي وَاِسْتِكْشافِ الدَلالاتِ. وَهِيَ تُشَكِّلُ، فَضْلاً عَنْ ذٰلِكَ، تَيّاراً فِكْرِيّاً سوسيولوجياً مُخَصَّباً بِالفَلْسَفَةِ، مُتَماهِياً بِعِلْمِ النَفْسِ، مُتَأَصِّلاً فِي اللُغَةِ يَمْتَحُ تَصَوُّراتِهِ مِنْ مَعِينِ سيمولوجِيا المُجْتَمَعِ، وَيَنْهَلُ مِنْ مَشارِبِ الرَّمْزِ وَالأَدَبِ، وَلِكُلٍّ مِنْ هٰذِهِ المَصادِرِ وَالخَصائِصِ قَدْرٌ وَحِصَّةٌ وَنَصِيبٌ يَتَجَلَّى فِي الأُصُولِ المَنْهَجِيَّةِ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ.
وَيُقِرُّ الباحِثُونَ اليَوْمَ بِأَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُشَكِّلُ اِتِّجاهاً سوسيولوجيّاً فِكْرِيّاً يَفِيضُ بِالإِثارَةِ وَيَتَدَفَّقُ بِالأَهَمِّيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِهِ الفِكْرِيَّةِ وَمَراحِلِ تَطَوُّرِهِ، وَيَتَجَلَّى طابَعُ الإِثارَةِ فِي تَناقُضاتِ المَوْقِفِ مِنهُ وَالنَظَرِ إِلَيْهِ، إِذْ يَراهُ بَعْضُ المُفَكِّرِينَ نَوْعاً مِنْ سوسيولوجيا الأَدَبِ أَوْ الأَدَبِ السوسيولوجِيِّ، وَيَراهُ بَعْضُهُم الآخَرُ عَلَى أَنَّهُ مَزِيجٌ مِنْ السيمولوجيا وَالسوسيولوجيا، وَيَقِفُ مِنهُ آخَرُونَ مَوْقِفاً آخَرَ، إِذْ يَرَوْنَ فِيهِ توليفا سوسيولوجياً يَجْمَعُ بَيْنَ السيكولوجيا الاِجْتِماعِيَّةِ الهيرمينوطِيقا الدَلالِيَّةِ(1)، وَمَهْما تَعَدَّدَت وُجْهاتُ النَّظَرِ، فَإِنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُشَكِّلُ تَيّاراً سوسيولوجياً يَسْتَجْمِعُ فِي ذاتِهِ مُعْظَمُ هٰذِهِ الخَصائِصِ وَالإِمْكانِيّاتِ وَالمَنْهَجِيّاتِ فِي مَجالِ تَحْلِيلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَتَفْسِيرِها وَاِخْتِبارِ التّفاعل السوسيولوجِيِّ بَيْنَ الإِنْسانِ وَالرُّمُوز وَالمَعانِي.
وَمِن الواضِحِ أَنَّ المَنْظُورَ التّفاعليَّ يُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ التّفاعل الرَّمْزِيِّ فِي حَياةِ النّاسِ اليَوْمِيَّةِ، وَيُكَرِّسُ مَنْهَجِيّاتِهِ فِي اِسْتِقْراءِ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي يُؤَدِّي بِها هٰذا التّفاعل الرَمْزِيُّ - بَيْنَ الإِنْسانِ وَالعالَمِ بَيْنَ الرُّمُوز وَالمَعانِي - إِلَى تَشَكُّلِ الظَّواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَدْعُو إِلَى اِسْتِخْدامِ أَفْضَلِ المَنْهَجِيّاتِ الدَلالِيَّةِ فِي مَجالِ تَحْلِيلِ السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ فِي ضَوْءِ هٰذا التّفاعل. فَالنّاسُ وفْقاً لِلمَنْظُورِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ يَتَرابَطُونَ عَلَى نَحْوِ تَفاعُلِيّ عَلَى إِيقاعِ المَعانِي المُتَدَفِّقَةِ فِي عالَمِ الرُّمُوز، ثُمَّ يَتَصَرَّفُونَ وفْقاً لِلمَعانِي الَّتِي يُضْفُونَها عَلَى هٰذِهِ الرُّمُوز. وَيَنْبنَي عَلَى ذٰلِكَ أَنَّ التّفاعلاتِ اللَفْظِيَّةَ الرَمْزِيَّةَ بَيْنَ الناسِ تَعْتَمِدُ – فِي مُعْظَمِها - الكَلِماتِ المَنْطُوقَةَ وَالرُّمُوز اللُغَوِيَّةَ لِتَحْقِيقِ التَواصُلِ وَتَمْكِينِ التّفاعل، وَهٰذِهِ الكَلِماتُ لا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ رُمُوزاً تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّ الرُّمُوز حَمّالَةٌ لِلمَعانِي، وَهِيَ ذاتُ المَعانِي الَّتِي يُسْبِغُها الأَفْرادُ عَلَى الرُّمُوز الَّتِي تُشَكِّلُ بِدَوْرِها جَوْهَرَ التّفاعل، وَدِينامِيَّةَ التَّواصُلِ وَالمُنْطَلَقَ الأَساسِيَّ لِتَشْكِيلِ المُجْتَمَعِ وَبِنائِهِ فِي مُخْتَلِفِ ظَواهِرِهِ وَتَجَلِّياتِهِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَيُؤَكِّدُ أَصْحابُ هذا التَيّارِ فِي هذا السِّياقِ أَنَّ الكَلِماتِ وَالرُّمُوز وَالمَعانِيَ لَيْسَتْ ساكِنَةً وَلا جامِدَةً، بَلْ هِيَ فِي صَيْرُورَةٍ دائِمَةٍ مِنْ التَغَيُّرِ الدِينامِيِّ الَّذِي يُؤَسِّسُ بِدَوْرِهِ لِحَرَكَةٍ تَغَيُّرٍ دِينامِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ فِي السُّلُوكِ وَالفَهْمِ المُتَجَدِّدِ، لِتُشَكِّلَ بِدَوْرِها النّسْغَ الحَيَوِيَّ لِلفِعْلِ الوُجُودِيِّ النَّشِطِ لِلإِنْسانِ فِي المُجْتَمَعِ؛ وهذا يَعْنِي أَنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ بَيْنَ الناسِ يُشَكِّلُ المَبْدَأَ العامَّ الَّذِي يَكْسِبُ الناسَ القُدْرَةَ عَلَى تَفْسِيرِ العالَمِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِمْ عَلَى نَحْوٍ دَلالِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ بِاِسْتِمْرارٍ.
وَبِاِخْتِصارٍ، يَرَى التّفاعليُّونَ أَنَّ الإِنْسانَ كائِنٌ مَعْنَوِيٌّ رَمْزِيٌّ يَعِيشُ فِي فَضاءٍ يَكْتَظُّ بِالرُّمُوز وَالمَعانِي، وَهُوَ إِذْ ذاكَ لا يَكُونُ إِلّا مُنْتَجاً للرّموز صائِغاً لِلدَّلالاتِ فاعِلاً فِي إِنْتاجِ المَعانِي، مُنْفَعِلاً بِتَدَفُّقِ الدَّلالاتِ، وَمُتَشَكِّلاً فِي بَوْتِقَةِ الرُّمُوز وَالإِشاراتِ وَالمَعانِي. وَمِن الواضِحِ أَنَّ هٰذِهِ المَعانِيَ وَتِلْكَ الرُّمُوز هِيَ الَّتِي تُشَكِّلُ الصِّيَغَ المُتَفاعِلَةَ الدِينامِيَّةَ لِلوُجُودِ الإِنْسانِيِّ، الَّتِي تُؤَدِّي فِي نِهايَةِ الأَمْرِ إِلَى تَشْكِيلِ المُجْتَمَعِ عَلَى صُورَةِ نَسِيجٍ اِجْتِماعِيٍّ رَمْزِيٍّ أَنْتَجَهُ الأَفْرادُ المُنْتِجُونَ للرّموز وَالدَلالاتِ وَالمَعانِي.
إِنَّ الوَصْفَ الخاطِفَ، الَّذِي قَدَّمْناهُ لِلتَّفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ، يَتَطَلَّبُ خَوْضاً أَعْمَقَ فِي الإِشْكالِيّاتِ الفِكْرِيَّةِ المُعَقَّدَةِ لِهٰذا الاِتِّجاهِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي صُورَةِ مَدارِسَ وَاِتِّجاهاتٍ، وَيَنْطَوِي عَلَى أَفْكارٍ وَتَصَوُّراتٍ مُتَطَوِّرَةٍ حِيناً، مُتَناقِضَةٍ أَحْياناً. وفي مواجهة هذا التّشاكل السوسيولوجي بُنيت هذه الدراسة للتّعريف بِالتّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، وَاِسْتِكْشافِ أُسُسِها الفِكْرِيَّةِ وَالمَنْهَجِيَّةِ، وَالتَحْقِيقِ فِي مَصادِرِها، وَبَيانِ أَبْعادِها الأيديولوجِيَّةِ، وَمِن ثَمَّ التَعْرِيفُ النَقْدِيُّ بِرُوّادِ هٰذا الاِتِّجاهِ وَمُؤَسِّسِيهِ، وَتَحْدِيدُ أَهَمِّ الأَفْكارِ الَّتِي قَدَّمُوها وَوَضَعُوها فِي مُخْتَبَرِ النَقْدِ العِلْمِيِّ وَالفِكْرِيِّ. كَما يَهْدِفُ البَحْثُ إِلَى تَقْيِيمِ المَشْرُوعِيَّةِ العِلْمِيَّةِ وَالسوسيولوجِيَّةِ لِهٰذا الاِتِّجاهِ فِي ضَوْءِ الاِنْتِقاداتِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي بَرَزَتْ من داخِلِ التَيّارِ، وَتِلْكَ الَّتِي تَناوَلَتْهُ مِن الخارِجِ، وَهٰذِهِ الَّتِي نَراها فِي ضَوْءِ دِراسَتِنا وَفَهْمِنا لِأَبْعادِ هٰذا التَيّارِ وَاِتِّجاهاتِهِ الدّاخِلِيَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ نَضَعَ بَعْضَ المَحاوِرِ التَوْجِيهِيَّةِ الَّتِي تُشَكِّلُ الإِطارَ العامَّ لِعَمَلِنا فِي هٰذِهِ الدِراسَةِ عَلَى النَّحْوِ الآتِي:
- الِبَحْث فِي مَفْهُومِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ
- الصِراعُ بَيْنَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ وَالاِتِّجاهاتِ الوَضْعِيَّةِ.
-التّفاعلية الرّمزيّة بوصفها نقيضاً للوضعيّة السّوسيولوجية.
- مُؤَسِّسُو التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ وَمَدارِسُها الرَئِيسَةُ.
- تَطْبِيقاتٌ بَحْثِيَّةٌ فِي مَجالِ التّفاعليَّةِ الرَّمْزِيَّةِ.
- نقد التّفاعليّة الرّمزيّة.
2- مَفْهُومُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ:
يَأْخُذُ مَفْهُومَ "التّفاعل الرَمْزِيِّ" صُورَةَ تُواصُلٍ اِجْتِماعِيٍّ يَقُومُ عَلَى التّبادُلِ التّفاعليِّ للرّموز وَالدَلالاتِ وَالمَعانِي بِالطَرِيقَةِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ فِيها الفَرْدُ، وَيُؤَثِّرُ فِي عُقُولِ الآخَرِينَ وَتَصَوُّراتِهِم وَرَغَباتِهِم وَوَسائِلِهِم فِي تَحْقِيقِ أَهْدافِهِم، وَفِي مُمارَسَةِ تَكَيُّفاتِهِم الحَيَوِيَّةِ داخِلَ المُجْتَمَعِ(2).
وَتَأْخُذُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ صُورَةً نَظَرِيَّةً مُحْتَمَلَةً فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَتَرْتَسِمُ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْظُورٍ فِي عِلْمِ النَفْسِ الاِجْتِماعِيِّ، وَهِيَ تُرَكِّزُ عَلَى التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ بِاِعْتِبارِهِ الإِطارَ المَنْهَجِيَّ فِي تَناوُلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي سِياقاتِ تَفاعُلِها وَتَشاكُلِها، كَما فِي وَضْعِيَّةِ نَمائِها وَتَصالُبِ مُعْطَياتِها. كَما تُرَكِّزُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ وَسائِلِ التّفاعل فِي عَلاقَةِ الأَفْرادِ فِيما بَيْنَهُم، وَتَتَمَثَّلُ هٰذِهِ الوَسائِطُ فِي تَواتُراتِ الفِعْلِ الرَمْزِيِّ وَتَشاكُلاتِ الفِعْلِ الدَلالِيِّ.
فَالرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَلالاتُ وَالتَصَوُّراتُ وَالكَلِماتُ تُشَكِّلُ فِي مَجْمُوعِها أَدَواتِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، كَما تُشَكِّلُ في الوقت نفسه مَوْضُوعَ البَحْثِ وَالدِّراسَةِ وَالتَقَصِّي فِي مَجالِ النَشاطِ السوسيولوجِيِّ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ. وَغالِباً ما تعرّف التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ بِوَصْفِها إِطاراً نَظَرِيّاً فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ يَقُومُ عَلَى مَفْهُومِ التّفاعل الرَمْزِيِّ، وَيَسْعَى إِلَى اِسْتِكْشافِ الكَيْفِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي أَصْلٍ تَكُونُ النَسِيجَ الاِجْتِماعِيَّ، وَتَحْدِيدَ الفَعالِيّاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُها المُجْتَمَعُ فِي تَطْوِيرِ ذاتِهِ، وَالمُحافَظَةِ عَلَى وُجُودِهِ مِن خِلالِ التَواتُرِ المُكَثَّفِ لِأَفْعالٍ لِلأَفْرادِ فِي سِياقاتِ تَفاعُلِهِم وَتَواصُلِهِمْ عَبْرَ المَعانِي وَالرُّمُوز(3). وَيُمْكِنُ القَوْلُ بِصِيغَةٍ أُخْرَى، إِنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ يُشَكِّلُ إِطارَ عَمَلٍ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَرَى المُجْتَمَعَ نِتاجاً لِلتَفاعُلاتِ اليَوْمِيَّةِ لِلأَفْرادِ، وَهِيَ فِي أَفْضَلِ أَحْوالِها إِطارٌ مَرْجِعِيٌّ يُمَكِّنُ الباحِثِينَ مِنْ فَهْمٍ أَفْضَلَ لِكَيْفِيَّةِ تَفاعُلِ الأَفْرادِ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً ضِمْنَ عَوالِمَ رَمْزِيَّةٍ مُتَشَبِّعَةٍ بِالمَعانِي وَالدَلالاتِ.
وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَيْضاً بِأَنَّها اِتِّجاه فِكْرِيّ، أَوْ مَشْرُوع نَظَرِيَّةٍ اِجْتِماعِيَّةٍ تُوَظِّفُ فِي وَصْفِ الكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ فِيها بِناءُ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَفَهْمُ الطَرِيقَةِ الَّتِي يَتِمُّ فِيها تَشَكُّلُ المُجْتَمَعِ كَنَتِيجَةٍ لِلتَفاعُلاتِ الرَّمْزِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ أَفْرادِهِ. وَتُرَكِّزُ نَظَرِيَّةُ التّفاعل الرّمزيّ فِي المَقامِ الأَوَّلِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الرُّمُوز بِوَصْفِها حَمّالَةً لِلمَعانِي، وَكِلاهُما - الرّموز والمعاني- يشكّل أَداةً لِلتَفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ بَيْنَ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ، وَهُوَ عَيْنُ التّفاعل الَّذِي يُشَكِّلُ لُحْمَةَ المُجْتَمَعِ وَجَوْهَرَ تَكْوِينِهِ. وَتَأْخُذُ النَظَرِيَّةُ بِأَهَمِّيَّةِ دِراسَةِ التّفاعلاتِ الرَمْزِيَّةِ فِي الجَماعاتِ الصَغِيرَةِ الَّتِي تَحْدُثُ بَيْنَ الأَفْرادِ بِصُورَةٍ حِسِّيَّةٍ عِيانِيَّةٍ، أَيْ وَجْهاً لِوَجْهٍ، وَتُسَلّطُ الضَوْءَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الرُّمُوز كَوَسِيلَةٍ لِلتَواصُلِ، وَلا سِيَّما عَلَى المُسْتَوَى الفَرْدِيِّ دُونَ النَظَرِ إِلَى تَأْثِيرِ المُؤَسَّساتِ وَالظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ الكُبْرَى.
يُشارُ غالِباً إِلَى عالَمِ الاِجْتِماعِ البراغماتِيِّ الأَمْرِيكِيِّ جورج هِرْبِرْت مِيد (George Herbert Mead) بِوَصْفِهِ الأَبَ المُؤَسِّسَ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ (4)، وهو الذي رسَمَ مَعالِمها فِي كِتابِهِ المَشْهُورِ «العَقْل وَالذات وَالمُجْتَمَعِ (Mind, Self, Society) الذي نشره عامَ 1934 (5).
وَيُعَدُّ عالَمُ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيُّ هِرْبِرت بلومر H. Blumer أَوَّلَ مَنْ اِسْتَخْدَمَ مُصْطَلَح" التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ (Symbolic Interactionism) "فِي مَقالَةٍ لَهُ بِعُنْوانِ "عِلْمُ النَفْسِ الاِجْتِماعِيِّ" فِي عامِ 1937. وَيَعُودُ إِلَيْهِ الفَضْلُ الكَبِيرُ فِي تَطْوِيرِ جَوانِبِ هٰذا التَيّارِ فِي مُخْتَلِفِ مُسْتَوَياتِهِ الفِكْرِيَّةِ النَظَرِيَّةِ وَالمَنْهَجِيَّةِ.
تَتَمَحْوَرُ نَظَرِيَّةُ التّفاعل الرَمْزِيِّ حَوْلَ مَفْهُومَيْنِ أَساسِيَّيْنِ كَما يَبْدُو مِن تَسْمِيَتِها: التّفاعل وَالرَمْزُ. وَيَتَوَسَّطُ هٰذَيْنِ المَفْهُومَيْنِ مَفْهُوم الإِنْسانِ وَالهُوِيَّة الإِنْسانِيَّة. وَتُشَكِّلُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ نَظَرِيَّةً بَعِيدَةَ الأَغْوارِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، إِذْ تَسْعَى إِلَى فَهْمِ عَلاقَةِ الأَفْرادِ بِمُجْتَمَعِهِم مِن خِلالِ التَرْكِيزِ عَلَى الرُّمُوز الَّتِي تُمَكِّنُهُم مِن إِضْفاءِ المَعانِي عَلَى مُخْتَلِفِ مَظاهِرِ السّلُوكِ وَالعَمَلِ وَالتّجارِبِ فِي الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَتُشَكِّلُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ إِطاراً عامّاً لِبِناءِ التَصَوُّراتِ السوسيولوجِيَّةِ الَّتِي تَرَى بِأَنَّ المُجْتَمَعَ نِتاجٌ لِلتَفاعُلاتِ الرَمْزِيَّةِ اليَوْمِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ الأَفْرادِ فِي المُجْتَمَعِ. تُرَكِّزُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةُ عَلَى كَيْفِيَّةِ قِيامِ التّفاعلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالأَشْخاصِ بِتَعْيِينِ مَعانِي لِلأَشْياءِ مِن حَوْلِهِم بِناءً عَلَى تَفْسِيرِ تَفاعُلاتِهِم مَعَ الآخَرِينَ. وَيَنْطَلِقُ أَصْحابُ المَنْظُورِ التّفاعليّ الرَمْزِيّ مِن فِكْرَةٍ أَساسِيَّةٍ قوامُها أَنَّ الناسَ يَفْهَمُونَ عَوالِمَهم الاِجْتِماعِيَّةَ مِن خِلالِ التَواصُلِ وَالتّفاعل الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَقُومُ بِدَوْرِهِ عَلَى وَسائِطِيَّةِ التَبادُلِ الرَمْزِيِّ إِنْتاجاً لِلمَعانِي وَالدّلالاتِ. وَبِصِيغَةٍ أَكْثَرَ دِقَّةً، يَرَى مُنَظِّرُو هذا التَيّارِ أَنَّ المَعْنَى الَّذِي يسْبِغُهُ الناسُ عَلَى مُكَوِّناتِ العالَمِ مِن حَوْلِنا يَنْبَثِقُ مِن آلِيّاتِ التّفاعل الرَمْزِيِّ مَعَ الناسِ وَالأَفْكارِ وَالأَحْداثِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنْ فَهْمَنا لِلعالَمِ وَالمُجْتَمَعِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ يَعْتَمِدُ عَلَى نَواتِجِ التّفاعل الرَمْزِيِّ الاِجْتِماعِيِّ، وَبِعِبارَةٍ أَوْضَحَ، يَرَى مُنَظَّرُو هٰذا الاِتِّجاهِ أَنَّ جَوْهَرَ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ يَتَشَكَّلُ فِي صِيغَةِ تَفاعُلٍ بَيْنَ المَعانِي وَالرُّمُوز وَالدّلالاتِ الَّتِي يُضْفِيها الأَفْرادُ عَلَى الأَشْياءِ.
فِي كِتابِهِ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ (Symbolic Interactionism) يُعرِّفُ هَرْبَرت بلومر "التّفاعل الرَمْزِيّ" بِأَنَّهُ صِيغَةٌ فَرِيدَةٌ لِلتّفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ بَيْنَ الأَفْرادِ فِي المُجْتَمَعِ، وَالأَفْرادِ فِي سِياقِ تَفاعُلِهِمْ يُفَسِّرُونَ أَفْعالَهُمْ، وَيُؤَوِّلُونَها تَأْسِيساً عَلَى المَعْنَى الَّذِي يسْبِغُونَهُ عَلَيْها"(6). وَمِن الواضِحِ أَنَّ "التّفاعل الرَمْزِيَّ" يُشَكِّلُ أَرُومَةَ عَمَلِيَّةِ التّفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ وَمَضْمُونَهُ، وَهُوَ نَمَطٌ مِن التّفاعُلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالوَسائِطِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تُمَكِّنُ الأَفْرادَ مِن تَحْقِيقِ التَواصُلِ الاِجْتِماعِيِّ فِي مُعْتَرَكِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، الَّذِي يَنْتَهِي بِتَحْقِيقِ التّكامُلِ وَالتّفاعل وَالاِنْدِماجِ الاِجْتِماعِيِّ.
وَفِي المُسْتَوَى المَنْهَجِيِّ رَسَّخَ رُوّادُ هذه النَظَرِيَّةِ مَنْهَجَهُم الاِسْتِدْلالِيّ مَنْهَجاً مَعْرِفِيّاً يُعَوّلُ عَلَيْهِ فِي اِسْتِكْشافِ النَسِيجِ الرَمْزِيِّ الفاعِلِ فِي تَشْكِيلِ المُجْتَمَعِ وَتَرْسِيخِ بُنْيانِهِ، لِأَنَّ المُجْتَمَعَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَنْظُورِهِم أَكْثَر مِن صِيغَةٍ لِلتّفاعُلِ الرَمْزِيِّ بَيْنَ أَفْرادِهِ ذِهْنِيّاً وَرَمْزِيّاً وَأَخْلاقِيّاً وَإِنْسانِيّاً، وَهُوَ التّفاعل ذاتُهُ الَّذِي يُؤَسِّسُ لِلمُجْتَمَعِ فِي مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِهِ وَتَعَيُّناتِهِ الإِنْسانِيَّةِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ تَفاعُلَ الكائِناتِ الإِنْسانِيَّةِ يُشَكِّلُ المُنْطَلَقَ الحَيَوِيَّ لِتَأْسِيسِ المُجْتَمَعِ وَتَشْكِيلِهِ عَلَى صُورَةِ تَكْوِيناتٍ اِجْتِماعِيَّةٍ مُتَفاعِلَةٍ فِي دائِرَتَيْ الزّمانِ وَالمَكانِ.
وَعَلَى هٰذا الأَساسِ، يَأْخُذُ التّفاعل Interaction صُورَتَهُ بِوَصْفِهِ نَسَّقاً مُتَواتِراً مِن التَواصُلِ الدِينامِيِّ المُسْتَمِرِّ بَيْنَ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ، فَرْداً لِفَرْدٍ، وَفَرْداً لِجَماعَةٍ، وَجَماعَة لِجَماعَةٍ أَوْ فَرْدٍ، وَيَنْطَوِي هٰذا التّفاعل بِالضَرُورَةِ عَلَى مَخْزُونٍ هائِلٍ مِن الرُّمُوز Symbols الَّتِي تُشَكِّلُ أَنْساقاً مُتَدافِعَةً مِن الإِشاراتِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي يُوَظِّفُها الأَفْرادُ فِي عَمَلِيَّةِ تَفاعُلِهِم مَعَ الآخَرِينَ مِن أَجْلِ تَوْلِيدِ التّفاهُمِ وَالتَواصُلِ الاِجْتِماعِيِّ، كَما تَأْخُذُ هٰذِهِ الرُّمُوز هَيْئَةً لِسانِيَّةً لُغَوِيَّةً مُحَمَّلَةً بِالمَعانِي وَمُتَشَبِّعَةً بِالدّلالاتِ وَالاِنْطِباعاتِ الذِهْنِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ.
وَيَرَى أَصْحاب هٰذِا الاِتِّجاهِ، أَنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ يُشَكِّلُ الهُوِيَّةَ وَالوَعْيَ الذاتِيَّ Self- Consciousness لِلفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ، إِذْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الأَفْرادِ تمَثّلَ الأَدْوار وَالمَراكِز الاِجْتِماعِيَّة، وَمِن ثَمَّ العَمَلُ عَلَى وَضْعِ أَنْساقِ التَوَقُّعاتِ فِي صِيغَةٍ مَرِنَةٍ وَتَبادُلِيَّةٍ مَعَ الآخَرِينَ الَّذِينَ يُشَكِّلُونَ النَسِيجَ الاِجْتِماعِيَّ، وَيَتَشَكَّلُونَ بِهِ وَمَعَهُ فِي آنٍ واحِدٍ، وَفِي أَتّونِ صَيْرُورَةِ دَوْرَةٍ جَدَلِيَّةٍ لا تَتَوَقَّفُ أَبَداً.
فَالمُجْتَمَعُ وِفْقَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ بَوْتَقَةٌ يَتَفاعَلُ فِيها الأَفْرادُ فِيما بَيْنَهُمْ، وَفِيما بَيْنَهُم وَبَيْنَ الوَسَطِ الَّذِي يَحْتَضِنُهُمْ، وَهُوَ المَدارُ الَّذِي تَتَفاعَلُ فِيهِ الذّواتُ الإِنْسانِيَّةُ، وَالإِطارُ الَّذِي يَتَدَفَّقُ بِالدّلالاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالسِيمْيائِيَّةِ، تِلْكَ الدَلالاتُ وَالرُّمُوز وَالمَعانِي الَّتِي يُسْبِغُها الأَفْرادُ عَلَى عالَمِهِم الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، وَيُشَكِّلُونَهُ فِي آنٍ مَعاً. وَإِذا كانَ الفِعْلُ الإِنْسانِيُّ يُنْتِجُ الرُّمُوز، وَيُبْدِعُ المَعانِيَ، وَيَسْتَقْطِبُ الدّلالاتِ، فَإِنَّ أَصْحابَ هذا الاِتِّجاهِ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ نَمَطَيْنِ مِنْ الأَفْعالِ الإِنْسانِيَّةِ: أَحَدُهُما، إِنْسانِيٌّ اِجْتِماعِيٌّ مُتَشَبِّعٌ بِالدّلالَةِ؛ وَالآخَرُ إِنْسانِيٌّ عَفْوِيٌّ يَقَعُ خارِجَ المَعانِي، وَيَفْتَقِرُ إِلَى الدّلالاتِ، وَهُم فِي هٰذا السِياقِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الأَفْعالَ الاِجْتِماعِيَّةَ هِيَ فَقَطْ هٰذِهِ الَّتِي تَحْمِلُ فِي ذاتِها مَعانِيَ وَدَلالاتٍ رَمْزِيَّةً وَمَقاصِدَ إِنْسانِيَّةً فِي أَثْناءِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، أَيْ: الأَفْعال الاِجْتِماعِيَّة الحامِلَة لِلقِيَمِ وَالمَعانِي، وَهِيَ القِيَمُ وَالمَعانِي الرَمْزِيَّةُ الَّتِي يَتَشَرَّبُها الفَرْدُ مِنْ المُجْتَمَعِ، وَيَشْتَرِكُ فِيها مَعَ الآخَرِ ضِمْنَ أَنْساقٍ قِيَمِيَّةٍ وَمُيُولٍ وَمَعايِيرَ يَشْتَرِكُ فِيها مَعَ الآخَرِينَ، وَيَعْتَمِدُها فِي التَواصُلِ مَعَهُمْ، لِكَيْ يَكُونَ قادِراً عَلَى التَنَبُّؤِ بِسُلُوكِيّاتِ الآخَرِينَ وَبَواعِثِ تَصَرُّفِهِمْ(7).
وَيُمْكِنُ القَوْلُ فِي هٰذا السِياقِ: إِنَّ الاِتِّجاهَ التّفاعليَّ الرَمْزِيَّ، كَما يَصِفُهُ عالَمُ الاِجْتِماعِ أنطوني جيدنز (Anthony Giddens) (8)، يَأْخُذُ طَبِيعَةً لِسانِيَّةً –سِيمْيائِيَّةً (semiological) (9)، إِذْ يَعْتَمِدُ عَلَى تَحْلِيلِ الإِشاراتِ وَالرّمُوزِ وَالعَلاماتِ اللُغَوِيَّةِ، وَيُرَكِّزُ عَلَى الخَصائِصِ اللُغَوِيَّةِ وَالدّلالِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَتَحْلِيلِ قَضاياها.
وَيَتَأَكَّدُ هذا المَنْحَى الرَمْزِيُّ فِي نَظَرِيَّةِ جورج هيربيرت مِيد مُؤَسِّسِ هٰذا الاِتِّجاهِ الَّذِي يَقُولُ "إِنَّ البَشَرَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى رُمُوزٍ وَتَفاهُماتٍ وَمُواضَعاتٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي تَفاعُلِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُم يَعِيشُونَ فِي عالَمٍ زاخِرٍ بِالرُّمُوز، فَإِنَّ جَمِيعَ عَمَلِيّاتِ التّفاعل بَيْنَ الأَفْرادِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَبادُلِ الرُّمُوز.
وتأسيسا على ما تقدّم، يمكن القول: "إِنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُوَجِّهُ اِنْتِباهَنا إِلَى تَفْصِيلاتِ التّفاعلاتِ الشَخْصِيَّةِ، وَالطَرِيقَةِ الَّتِي تَتِمُّ بِها هٰذِهِ التَرْتِيباتُ لِإِعْطاءِ المَعْنَى لِما يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ الآخَرُونَ. وَيُنَوِهُ مُنَظِّرُو هذه المَدْرَسَةِ بِالدَوْرِ الَّذِي تُؤَدِّيهِ هذه التّفاعلاتُ فِي خَلْقِ المُجْتَمَعِ وَمُؤَسَّساتِهِ"(10).
وَفِي هٰذا السِياقِ يَرَى تيرنر Turner أَحَدَ رُوّادِ الاِتِّجاهِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ "بِأَنَّ عَلاقَتَنا بِالأَشْياءِ المُحِيطَةِ بِنا تَعْتَمِدُ عَلَى تَقْيِيمِنا لَها عَنْ طَرِيقِ تَحْوِيلِها إِلَى رُمُوزٍ، وَهٰذِهِ الرُّمُوز قَدْ تَكُونُ إِيجابِيَّةً أَوْ سَلْبِيَّةً بِالنِسْبَةِ لَنا اِعْتِماداً عَلَى خِبْراتِنا وَتَجْرِبَتِنا مَعَها، فَإِذا كانَتْ إِيجابِيَّةً، فَإِنَّنا نَكوّنُ تَفاعُلاً قَوِيّاً وَحَيّاً لَنا بِحَيْثُ نَنْجَذِبُ مَعَها وَتَنْجَذِبُ لَنا"(11).. وَيَتَجَلَّى هذا التَأْكِيدُ عَلَى الطابَعِ الرَمْزِيِّ لِلوُجُودِ الإِنْسانِيِّ فِي مَذْهَبِ عالَمِ الأنثروبولوجيا الإِسْكُتْلَنْدِيِّ فيكتور تيرنر -Victor Turner أَحَدِ رُوّادِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ – بِقَوْلِهِ المَشْهُورِ: إِنَّ" الإِنْسانَ مُحاطٌ بِغابَةٍ مِن الرُّمُوز، فَالرَمْزِيُّ يَشْغَلُ حَيِّزاً كَبِيراً فِي حَياتِنا اليَوْمِيَّةِ، فَهُوَ يَحْضُرُ بِاِسْتِمْرارٍ فِي كُلِّ تَفاعُلاتِنا الاِجْتِماعِيَّةِ، فَمُمارَساتُنا الطُقُوسِيَّةُ الواقِعِيَّةُ مِنها وَالاِفْتِراضِيَّةُ مُتَّخَمَةٌ بِمَنْظُوماتٍ رَمْزِيَّةٍ تَتَحَدَّدُ كَبَنِيَّةٍ لِإِنْتاجِ الاِجْتِماعِيِّ، وَكَآلِيَّةٍ صَمِيمِيَّةٍ لِإِعادَةِ إِنْتاجِهِ وَبِنائِهِ مُجَدَّداً" (12).
وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُ التّفاعل الرَمْزِيِّ، تَأْسِيساً عَلَى ما تَقَدَّمَ، بِأَنَّهُ صِيغَةُ "تَفاعُلٍ رَمْزِيٍّ أَصِيلٌ يَقُومُ بَيْنَ الأَفْرادِ، ضِمْنَ نَسَقٍ مُجْتَمَعِيٍّ مُعَيَّنٍ، وَيَظْهَرُ ذٰلِكَ التّفاعل فِي مَجْمُوعَةٍ مِنْ السُلُوكِيّاتِ الَّتِي يَقُومُ بِها فاعِلٌ ما، فِي عَلاقَةٍ بِالسُلُوكِ الَّذِي يَصْدُرُ عَن الفاعِلِ الآخَرِ. وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ، تَصْدُرُ عَن الذّواتِ المُتَبادَلَةِ مَجْمُوعَةٌ مِن الأَفْعالِ وَرُدُود الأَفْعالِ فِي تَماثُلٍ مَعَ بِنْيَةِ المُجْتَمَعِ. وَتُتَّخِذُ هٰذِهِ الأَفْعالُ مَعانِيَ وَدَلالاتٍ رَمْزِيَّةً مُتَنَوِّعَةً تَسْتَلْزِمُ الفَهْمَ وَالتَأْوِيلَ"(13). وَاِسْتِناداً عَلَى هٰذا التَعْرِيفِ يُمْكِنُ القَوْلُ: إِنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ يُشَكِّلُ إِطاراً نَظَرِيّاً لِنَمَطٍ مِنْ السوسيولوجيا الَّتِي تَبْحَثُ فِي الطَبِيعَةِ الرَمْزِيَّةِ لِلحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَتَتَحَرَّى الطَرِيقَة الَّتِي يَتِمُّ بِها التّفاعل الاِجْتِماعِيُّ مِنْ خِلالِ الرُّمُوز القائِمَةِ فِي الثّقافَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ السّائِدَةِ (14).
3- جُذُورُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ:
تَعَوَّدُ نَظَرِيَّةُ التّفاعل الرَمْزِيِّ بِجُذُورِها إِلَى عِلْمِ الاِجْتِماعِ التَأْوِيلِيِّ لِعالَمِ الاِجْتِماعِ الأَلْمانِيِّ ماكْس فيبر (1864-1920)، الَّذِي كانَ أَوَّلَ مِنْ رَسخَ مَنْهَجِيَّةَ الفَهْمِ وَالتَأْوِيلِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَأَصّل لِعَقِيدَةٍ سوسيولوجِيَّةٍ تَعْتَمِدُ جَدَلِيَّةَ التّفاعل بَيْنَ ثُلاثِيَّةٍ: الفَهْمِ، وَالدّلالَةِ، وَالمَعْنَى، فِي تَفْسِيرِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَتَأْوِيلِها. وَقَدْ أَقَرَّ فِي سِياقِ هٰذِهِ الرُؤْيَةِ أَنَّ الأَفْرادَ يَتَصَرَّفُونَ بِناءً عَلَى تَفْسِيرِهِم الخاصِّ لِما يَعْنِيهِ العالَمُ مِن حَوْلِهِم.
وَتَأْسِيساً عَلَى هٰذِهِ الرُؤْية اِنْطَلَقَ لِيُؤَسِّسَ مَنْهَجِيَّةَ الأَنْماطِ المِثالِيَّةِ كَمُنْطَلِقٍ مَنْهَجِيٍّ أُصِيل فِي تَفْسِيرِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ تَفْسِيراً يَقُومُ عَلَى المَعْنَى وَالدّلالة. كَما ساهَمَ فِي بِناءِ النَظَرِيَّةِ عالَمُ الاِجْتِماعِ الأَلْمانِيُّ جورج سيمِل (Goerge Simmel:1858-1918) ( 15) الَّذِي أَسَّسَ نَظَرِيّاً وَفِكْرِيّاً لِأُطْرُوحاتِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، وَشَيَّدَ مَنْهَجاً سوسيولوجيا لِتَحْلِيلِ التّفاعلاتِ الإِنْسانِيَّةِ فِي مُؤَلِّفِهِ «عِلْمِ الاِجْتِماعِ: أَشْكالُ التَنْشِئَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ» (16) الَّذِي تَضَمَّنَ تَصَوُّراتٍ سوسيولوجِيَّةً تُفِيدُ بِأَنَّ الإِنْسانَ يَسْتَطِيعُ عَزْلَ شَكْلِ التّفاعلاتِ الإِنْسانِيَّةِ عَن مَضامِينِها، وَقَدْ رَكَّزَ فِي هٰذا الكِتابِ عَلَى الطابَعِ السيكولوجِيِّ - أَيْ عَلَى التّفاعل النَفْسِيِّ بَيْنَ الأَفْرادِ- فِي فَهْمِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ (17). وَيُؤَكِّدُ سَيَمِل فِي هٰذا السِياقِ عَلَى أَنَّ التّفاعل بَيْنَ الوُجُودِ المادِّيِّ وَالوُجُودِ الرُوحِيِّ يَبْقَى قائِماً إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَوْجُهَ فِي وِحْدَةٍ كُلِّيَّةٍ لِلوُجُودِ، وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَسْتَنْتِجُ أَنَّ الحَياةَ الدِينِيَّةَ تُفَسِّرُ مُخْتَلِفَ ظَواهِرِ الحَياةِ الإِنْسانِيَّةِ بِرُمَّتِها، وَتُشَكِّلُ مَدْخَلاً سوسيولوجياً بِعِيدِ الأَغْوارِ فِي فَهْمِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِها.
وَمِن الواضِحِ فِي هٰذا السِياقِ أَنْ سَيَمِيلُ يُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ التّفاعلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَدَوْرَها الهائِلَ فِي تَشْكِيلِ الحَياةِ وَالمُجْتَمَعِ، وَيَتَّضِحُ ذٰلِكَ مِن خِلالِ تَعْرِيفِهِ لِعِلْمِ الاِجْتِماعِ بِأَنَّهُ "العِلْمُ الَّذِي يَدْرُسُ التّفاعل بَيْنَ الأَفْرادِ داخِلَ الحَياةِ المُجْتَمَعِيَّةِ"، أَيْ: دِراسَة الرَوابِطِ وَمُخْتَلِف التّفاعلاتِ وَالعَلاقاتِ التَواصُلِيَّة المَوْجُودَة بَيْنَ الأَفْرادِ ضِمْنَ بِنْيَةِ المُجْتَمَعِ، وَفَهْمِ مَعْنَى تِلْكَ التّفاعلاتِ وَتَأْوِيلِها" (18). وَفِي هٰذا المَسارِ يَقُولُ سَيمِيلُ" يَتَبادَلُ الأَفْرادُ النَظَراتِ، يَغارُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ، يَأْكُلُونَ سَوِيَّةً، يَتَبادَلُونَ الرَسائِلَ، يَشْعُرُونَ تُجاهَ بَعْضِهِمْ بِالكَراهِيَةِ أَوْ المَحَبَّةِ، يَعْتَرِفُونَ بِالجَمِيلِ... إِلَخ، آلافِ الأَفْعالِ، المُؤَقَّتَةِ أَوْ الدائِمَةِ، الواعِيَةِ أَوْ اللاواعِيَةِ، السَطْحِيَّةِ السَرِيعَةِ أَوْ الغَنِيَّةِ بِنَتائِجِها... إِلَخْ، تَرْبِطُنا الواحِد بِالآخَرِ، وَهِيَ الَّتِي تَرْعَى صَلابَةَ الحَياةِ المُجْتَمَعِيَّةِ وَمُرُونَتَها، وَتَنَوُّعَها وَوِحْدَتَها وَتَماسُكَها ". وَيَسْتَطْرِدَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ التَنْظِيماتِ المُجْتَمَعِيَّةَ الكُبْرَى، وَالأَنْساقَ المُجْتَمَعِيَّةَ الكُبْرَى الَّتِي تَتَضَمَّنُها فِكْرَةُ المُجْتَمَعِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَسالِيبَ وَطَرائِقَ وَوَسائِلَ لِلحَفاظِ، فِي أُطُرٍ مُجْتَمَعِيَّةٍ باقِيَةٍ وَمُسْتَقِلَّةٍ، عَلَى الأَفْعالِ المُباشِرَةِ الَّتِي تَرْبِطُ الأَفْرادَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ" (19).
وَقَدْ أَسْهَمَ سيمِيلُ فِي إِغْناءِ نَظَرِيَّتِهِ وَتَطْوِيرِها مِن خِلالِ دِراسَتِهِ لِلتّفاعُلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الَّتِي تَنْعَكِسُ فِي حَقْلِ الميكروسوسيولوجيا وَدِينامِيكِيَّةِ الجَماعَةِ، وَمِن خِلالِ تَرْكِيزِهِ عَلَى أَنْماطِ العَمَلِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ عَلَى أَساسٍ تَفاعُلِيّ فِي المُجْتَمَعِ. وَقَدْ تَرَكَ مِيد تَأْثِيراً واضِحاً وَمُباشِراً فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو، وَلا سِيَّما فِي الرُوّادِ الأَوائِلِ أَمْثالِ روبير إِرْزابارِك، وَوليام طوماس، وَجون هَرْبَرْتْ مِيد.
وَيَبْدُو واضِحاً أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ تَأَثَّرَت كَثِيراً بِالنَزْعَةِ الفَلْسَفِيَّةِ البَرْغَماتِيَّةِ، كَما تَجَلَّت فِي فِكْرِ جون دِيوِي وَكُولِي وَوَلِيم جيمس وَشارْل بيرس. وَيُشارُ، فِي هٰذا السِياقِ، إِلَى التَأْثِيرِ الكَبِيرِ لِمُؤَسِّسِ النَزْعَةِ البَرْغَماتِيَّةِ المُفَكِّرِ الأَمْرِيكِيِّ تشارلز سانْدِرْز بيرس (Charles Sanders Peirce-1939-1914)(20) الَّذِي شَيَّدَ نَظَرِيَّتَهُ السِيمْيائِيَّةَ (Semiology)[21]، فَجَعَلَها مَصْدَراً ثرّاً لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ فِي أَكْثَرِ فُصُولِها عُمْقاً وَفِي أَعْمَقِ مَلامِحِها صَلابَة. وَمَنْ يَتَأَمَّلُ بِعُمْقٍ سَيَجِدُ بِأَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ نهلَتْ مِنْ معِينِ السِيمْيائِيَّةِ (عِلْمِ الدّلالة) الَّتِي أَصَلَها بيرْس واتّسمت بأطيافها، وَمِنْ الواضِحِ أَيْضاً أَنَّ كَثِيراً مِنْ المَفاهِيمِ الَّتِي اِعْتَمَدَتْها التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ مُسْتَقاةً مِنْ معين هذه السِيمْيائِيَّةِ، مِثْلِ: العَلامَةِ (الرَمْزِ)، وَقَدْ عَرّفَها (أَيْ العَلامَةَ) "بِأَنَّها شَيْءٌ يَنُوبُ لِشَخْصٍ ما عَنْ شَيْءٍ ما بِصِفَةٍ ما، أَيْ أَنَّها تَخْلُقُ فِي عَقْلِ الشَخْصِ عَلامَةَ مُعادَلَة أَوْ رُبَّما عَلامَةً أَكْثَرَ تَطَوُّراً، بِحَيْثُ تَنْدَرِجُ العَلامَةُ وِفْقَ مُسَمَّياتٍ أَطْلَقَها بيرس لِتُمَثِّلَ الشَكْلَ الدَلالِيَّ المُتَوَلِّدَ عَنْ سِمَةِ الشَيْءِ، وَتَنُوبَ عَنْهُ، ضِمْنَ صَيْرُورَةٍ دَلالِيَّةٍ لَها أَبْعادٌ فِكْرِيَّةٌ مُتَعَدِّدَةُ الأَطْرافِ"(22). وَمِمّا لا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَفاهِيمَ العَلامَةِ وَالرّمْزِ وَالدّلالة وَالدالِ وَالمَدْلُولَ وَالدَوالَ الَّتِي اِعْتَمَدَها بيرس فِي نَظَرِيَّتِهِ السيمولوجِيَّةِ تُشَكِّلُ مَصْدَراً ثَرّاً لِلمَفاهِيمِ المُوَظَّفَةِ فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ.
وَيَمْتَدُّ تَأْثِيرُ النَزْعَةِ البَرْغَماتِيَّةِ فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ بِالمَفاهِيمِ الَّتِي وَظَّفَها وِلْيم جيمس (William James) (1842 - 1910) (23) فِي نَظَرِيَّتِهِ البرغَماتِيَّةِ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ الفَضْلُ فِي تَأْصِيلِ البِنْيَةِ المَفاهِيمِيَّةِ الأَساسِيَّةِ لِنَظَرِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ مِن مِثْلِ: مَفْهُومِ العادَة Habit، وَالغَرِيزَةُ (Instinct ) وَمَفْهُومِ الذاتِ (Self)، وَمَفْهُومِ الشُعُورِ أَوْ الوَعْيِ (Consciousness)، وَهِيَ مِنْ أَبْرَزِ المَفاهِيمِ الَّتِي تَعْتَمِدُها التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ(24).
وَلا يَخْفَى أَنَّ وِلْيم جيمس أَكَّدَ عَلَى مَفْهُومِ العادَةِ بِوَصْفِهِ قُوَّةً تُؤَسِّسُ لِعَمَلِيَّةِ تَشْكِيلِ الكائِنِ الإِنْسانِيِّ وَتَحْدِيدِ أَنْماطِهِ السُلُوكِيَّةِ بِدِقَّةٍ فائِقَةٍ، وَهِيَ القُوَّةُ نَفْسُها الَّتِي تُمَكِّنُ الفَرْدَ مِن اِكْتِسابِ طَبِيعَةٍ جَدِيدَةٍ هِيَ بِمَثابَةِ الطَبِيعَةِ الثانِيَةِ لِلإِنْسانِ، كَما تُشَكِّلُ الأَداةَ المَنْهَجِيَّةَ الَّتِي تُمَكِّنَ الباحِثِينَ مِن تَفْسِيرِ السُلُوكِ الإِنْسانِيِّ وَفَهْمِهِ وَإِدْراكِ دَلالاتِهِ وَمَعانِيهِ (25). وَمِن مَقُولاتِهِ الشَهِيرَةِ الَّتِي تُشَكِّلُ شِعاراً لِلنَزْعَةِ التَأَمُّلِيَّةِ قَوْلَهُ المَشْهُور: "إِنَّ الاِكْتِشافَ الأَعْظَمَ الَّذِي شَهِدَهُ جِيلِي، وَالَّذِي يُقارنُ بِالثَوْرَةِ الحَدِيثَةِ فِي الطِبِّ كَثَوْرَةِ البِنْسِلِين هُوَ مَعْرِفَةُ البَشَرِ أَنَّ بِمَقْدُورِهِمْ تَغْيِيرَ حَياتِهِمْ عَبْرَ تَغْيِيرِ مَواقِفِهِمْ الذِهْنِيَّةِ"(26). وَهٰذِهِ المَقُولَةُ تَدْخُلُ فِي صُلْبِ نَظَرِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ، فَالأَفْكارُ وَالأَذْهانُ وَالتَصَوُّراتُ هِيَ الَّتِي تُغَيِّرُ العالَمَ، بَلْ تَصْنَعُهُ صُنْعاً، كَما يَرَى جيمس وَهُوَ الشِعارُ الأَساسِيُّ لِلتَفاعُلِيَّةِ. الرَمْزِيَّةُ.
وَقَدْ شَهِدَت هٰذِهِ النَظَرِيَّةُ تُطَوُّرَها فِي قِسْمِ عِلْمِ الاِجْتِماعِ بِجامِعَةِ شيكاغو فِي عِشْرِينِيّاتِ القَرْنِ الماضِي، وَيُعَدُّ كُلٌّ مِنْ جورج هربرت مِيد (G.H. Mead-1863-1931) وَهَرْبرَت بلومر (H. Blumer-1900-1986) وَروبرت بارك (Robert Park-1864-1944) (27) وَوَلِيم إِسْحاقَ توماس (W. I. Thomas-1863-1947) وَإرفينغ كوفمان (Erving Goffman-1922-1982)، مِنْ أَبْرَزِ رُوّادِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ وَمُؤَسِّسِيها.
وَيُشارُ أَيْضاً إِلَى عَدَدٍ مِنْ رُوّادِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ المُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ هَوارِدِ بيكر (Howard Becker)، وَأنسيلم ستروس (Anselm Strauss)، وَفريدسون (Freidson)، وَإفريت هاوث (Everett Hughes)، وَمانْفِرْد كون (Manferd Kuhn) (1911-1963). وَكَذٰلِكَ كُلٌّ مِنْ مِيلْتْزر (Meltzer)، وَهِيرْمان (Herman)، وَجلاسِر (Glaser)، وَسْتْراوْس (Strauss)، وَغَيْرِهِمْ.
وَيُمْكِنُ القَوْلُ اِخْتِصاراً: إِنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ وُلِدَت فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو فِي مُنْتَصَفِ القَرْنِ العِشْرِينَ، ثُمَّ اِنْتَشَرَت فِي أَصْقاعِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ، وَقَدْ وُظَّفَت مَنْهَجِيّاً فِي رَصْدِ العَلاقاتِ التّفاعليَّةِ الاِجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ. وَهِيَ تَقُومُ عَلَى فِكْرَةٍ أَساسِيَّةٍ مَفادُها أَنَّ المَعانِيَ تُوَلَّدُ فِي مُعْتَرَكِ التّفاعل الرَمْزِيِّ فِيما بَيْنَ الأَفْرادِ أَنْفُسِهِمْ، وَفِيما بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَمَظاهِرِ الوُجُودِ المادِّيِّ، وَأَنَّ هٰذِهِ المَعانِيَ تَتَغَيَّرُ وَتَتَغايَرُ وِفْقَ وَضْعِيَّةِ التَأْوِيلاتِ الَّتِي يُعْطِيها الأَفْرادُ لَها(28).
4- التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ فِي مُواجَهَةِ البِنائِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ:
شَهِدَت السوسيولوجيا الأَمْرِيكِيَّةُ فِي نِهايَةِ الخَمْسِينِيّاتِ هَيْمَنَةً واضِحَةً لِتَيّارَيْنِ أَساسِيَّيْنِ هُما: النَظَرِيَّةُ البِنائِيَّةُ بِزَعامَةِ عالَمِ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّ تالكوت بارسونز، وَالنَظَرِيَّةُ الأَمْبِيرِيقِيَّةِ بِزَعامَةِ عالَمِ الاِجْتِماعِ المَعْرُوفِ بول لازار سْفِلْد (Paul Felix Lazars Feld: 1901-1967). وَفِي مُواجَهَةِ هٰذَيْنِ الاِتِّجاهَيْنِ نَشَأَت التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو كَرَدَّةِ فِعْلٍ ضِدَّهُما، وَضِدَّ كُلِّ أَشْكالِ الوِصايَةِ الَّتِي فَرَضَتها السوسيولوجيا البِنائِيَّةُ الوَضْعِيَّةُ فِي أَمْرِيكا، وَفِي غَيْرِها مِن البُلْدانِ(29).
وَفِي مَعْرِضِ المُواجَهَةِ وَالرَفْضِ لِلاِتِّجاهاتِ البِنائِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ، اِنْطَلَقَت التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ لِتُشَكِّلَ بِذاتِها تُبَلُورا سوسيولوجياً مُتَطَوِّراً لِلاِتِّجاهاتِ التَأْوِيلِيَّةِ فِي الفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الاِجْتِماعِ إِزاءَ الاِتِّجاهاتِ الوَضْعِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ المَناهِجَ الكَمِّيَّةَ وَالتَفْسِيرَ القانُونِيَّ لِلظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَمِن المَعْرُوفِ أَنَّ الاِتِّجاهاتِ الوَضْعِيَّةَ (البِنْيَوِيَّةَ وَالمارْكِسِيَّةَ) تَتَناوَلُ الظَواهِرَ الاِجْتِماعِيَّةَ، وَتَقُومُ بِدِراسَتِها وِفْقَ المَناهِجِ العِلْمِيَّةِ المُعْتَمَدَةِ فِي العُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ، وَتَسْعَى إِلَى اِكْتِشافِ القَوانِينِ الَّتِي تَحْكُمُها. وَعَلَى خِلافِ ذٰلِكَ يَتَجَنَّبُ أَنْصارَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ المَناهِجَ الوَضْعِيَّةَ، وَيَعْتَمِدُونَ المَنْهَجَ الـتَأْوِيلِيَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَى إِدْراكِ المَعانِي الرَمْزِيَّةِ، وَاِسْتِجْوابِ الدَلالاتِ السِيمْيائِيَّةِ الكامِنَةِ فِي عُمْقِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَالعَمَلِ عَلَى تَأْوِيلِها دُونَ الخَوْضِ فِي قانُونِيّاتِها الشَكْلِيَّةِ الخارِجِيَّةِ. وَيُؤَسِّسُ التّفاعليُّونَ الرَمْزِيُّونَ رُؤْيَتَهُم هٰذِهِ مِن مُطْلَقِ الاِعْتِقادِ بِأَنَّ جَوْهَرَ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ يَبْقَى حَصِيناً ضِدَّ الضَبْطِ المَنْهَجِيِّ العِلْمِيِّ، عصِيّاً عَلَى الفَهْمِ وِفْقَ المَنْهَجِيّاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُها العُلُومُ الطَبِيعِيَّةُ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذٰلِكَ أَنَّهُمْ يُؤَكِّدُونَ الطابَعَ المَعْنَوِيَّ لِلمُجْتَمَعِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِوَصْفِهِ رُوحاً وَمَعْنىً وَدَلالَةً، وَهُمْ، فِي سِياقِ ذٰلِكَ، يَرْفُضُونَ النَظَرَ إِلَى المُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ كِياناً مادِّيّاً مَوْضُوعِيّاً مُتَشَيِّئاً، كَما يَراهُ الوَضْعِيُّونَ فِي جُمْلَتِهِمْ.
وَعَلَى خِلافِ الاِتِّجاهاتِ الوَظِيفِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ تَأْخُذُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ صُورَةَ اِتِّجاهٍ فِكْرِيٍّ يَقُومُ عَلَى رَفْضِ المَناهِجِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُها العُلُومُ الاِجْتِماعِيَّةُ بَحْثاً فِي قانُونِيَّةِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وِفْقَ المَنْهَجِيّاتِ العِلْمِيَّةِ الراسِخَةِ فِي العُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ، فَالظَواهِرُ الاِجْتِماعِيَّةُ وِفْقاً لِلاِتِّجاهاتِ الوَضْعِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَدْرُسَ عَلَى نَحْوٍ عِلْمِيٍّ، وَيُمْكِنُ لِلعُلُومِ الاِجْتِماعِيَّةِ أَنْ تَضَعَ لِهٰذِهِ الظَواهِرِ قَواعِدَها وَقَوانِينَها الثابِتَةَ. وَعَلَى خِلافِ هٰذِهِ التَوَجُّهاتِ المَنْهَجِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ تَتَبَنَّى نَظَرِيَّةَ التّفاعل الرَمْزِيِّ المَنْهَجَ الـتَأْوِيلِيَّ الَّذِي ظَهَرَت مُقَدِّماتُهُ المَنْهَجِيَّةُ الأُولَى فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ الفيبريِّ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى تَحْلِيلِ المَعانِي وَالدَلالاتِ فِي الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ دُونَ الخَوْضِ فِي قانُونِيّاتِها الشَكْلِيَّةِ، وَيَنْطَلِقُ هٰذا الاِعْتِقادُ مِن النَظَرِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ جَوْهَرَ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيَّ يَبْقَى حَصِيناً ضِدَّ القَوْلَبَةِ المَوْضُوعِيَّةِ أَوْ الوَضْعِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى مَنْهَجِيّاتِ العُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ. فَالحَقِيقَةُ الاِجْتِماعِيَّةُ تَتَأَصَّلُ فِي جَوْهَرِها بِوَصْفِها حَقِيقَةً رَمْزِيَّةً مَعْنَوِيَّةً دَلالِيَّةً لا يُمْكِنُ حَصْرُها فِي قَوانِينَ، بَلْ يُمْكِنُ فَهْمُها وَتَأْوِيلُها وَرَصْدُ مَعانِيها.
وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَرْفُضُ التَأْوِيلِيُّونَ الرَمْزِيُّونَ تَوْظِيفَ مَناهِجِ العُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ فِي تَناوُلِهِمْ لِلظاهِرَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، لِأَنَّ الاِتِّجاهَ الكَمِّيَّ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْتَبِرَ السُلُوكَ الإِنْسانِيَّ، وَيُجَرِّدَهُ فِي قَوانِينَ، وَأَنَّ فَهْمَ السُلُوكِ الإِنْسانِيِّ الاِجْتِماعِيِّ يَجِبُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى المَناهِجِ النَوْعِيَّةِ التَأْوِيلِيَّةِ، وَهِيَ المَناهِجُ الَّتِي تُعْتَمدُ فِي اِكْتِشافِ الدَلالاتِ وَالمَعانِي الجَوْهَرِيَّةِ الكامِنَةِ فِي عُمْقِ السُلُوكِ الإِنْسانِيِّ. وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَنْطَلِقُ أَصْحابُ التَأْوِيلِ الرَمْزِيِّ بِتَأْصِيلِ مَناهِجِهِم العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى إِجْراءاتٍ وَإِسْتراتِيجِيّاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ مُغايِرَةٍ لِما يَسْتَخْدِمُهُ الوَضْعِيُّونَ فِي أَبْحاثِهِم مِثْلَ مَناهِجِ دِراسَةِ الحالَةِ وَالمُلاحَظَةِ الحَيَّةِ لِلفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ، وَتَحْلِيلِ مَضامِينِ النّصُوصِ وَالمُقابَلاتِ الشَفَوِيَّةِ المُتَعَمِّقَةِ، وَيَشْمَلُ هٰذا التَوَجُّهُ المَنْهَجِيُّ مَنْهَجِيَّةَ تَعايُشِ الباحِثِ وَاِنْدِماجِهِ فِي المَوْقِفِ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَقُومُ بِدِراسَتِهِ، وَمُشارَكَتِهِ فِي الفَعالِيَّةِ الاِجْتِماعِيَّةِ لِلظّاهِرَةِ الَّتِي يَدْرُسُها، وَهُوَ المَنْهَجُ الَّذِي نَجِدُهُ راسِخاً فِي الدِراساتِ الأنتروبولوجِيَّةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الباحِثِ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي الظاهِرَةِ المَدْرُوسَةِ، وَأَنْ يَتَمَثَّلَ مُخْتَلِفَ فَعالِيّاتِ الجَماعاتِ الإِنْسانِيَّةِ الَّتِي يَدْرُسُها مُشارِكاً فِي طُقُوسِها بواسطة التَعايُشِ الحَقِيقِيِّ الفَعّالِ مَعَ مُعْتَقَداتِها وَثَقافاتِها، كَيْ يَكُونَ قادِراً عَلَى فَهْمِ أَدَقِّ تَفاصِيلِ حَياةِ الجَماعاتِ المَدْرُوسَةِ بِدَلالاتِها وَمَعانِيها وَرُمُوزِها.
وَيَنْطَلِقُ أَصْحابُ الاِتِّجاهاتِ الرَمْزِيَّةِ التَأْوِيلِيَّةِ فِي مَنْهَجِيَّتِهِم هٰذِهِ مِن التَمْيِيزِ بَيْنَ الجانِبِ الداخِلِيِّ وَالجانِبِ الخارِجِيِّ لِلحَقِيقَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَإِذا كانَ يُمْكِنُ لِلمَناهِجِ الوَضْعِيَّةِ أَنْ تُدْرِكَ الجانِبَ الظاهِرِيَّ -الَّذِي يَبْدُو مِنْ الخارِجِ - فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى هٰذِهِ المَنْهَجِيّاتِ الصارِمَةِ أَنْ تَتَوَغَّلَ فِي جَوْهَرِ الحَقِيقَةِ وَفِي عُمْقِها، أَيْ فِي الجانِبِ الداخِلِيِّ المُسْتَتِرِ بِالمَعانِي وَالدّلالاتِ، وَيَتَأَسَّسُ عَلَى ذٰلِكَ أَنَّ اِكْتِشافَ هٰذه الحَقِيقَةِ الداخِلِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ مِنْ خِلالِ التّفاعل مَعَ هٰذا الجانِبِ وَفَهْمِهِ بِالمُعايَشَةِ وَالاِنْدِماجِ وَالتَحْلِيلِ الرَمْزِيِّ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الباحِثِ، إِذا أَرادَ أَنْ يُدْرِكَ الظاهِرَةَ الاِجْتِماعِيَّةَ أَنْ يَتَعايَشَ مَعَها وَيَذُوبَ فِيها، وَيُصْبِحَ جُزْءاً مِنْ الحَقِيقَةِ المَدْرُوسَةِ، أَوْ عُنْصُراً فِي الظاهِرَةِ الَّتِي يَدْرُسُها لِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِها وَإِدْراكِها فِي أَعْمَقِ مَعانِيها وَدَلالاتِها.
فَالحَقِيقَةُ الاِجْتِماعِيَّةُ، كَما يَراها أَنْصارُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، تَتَأَصَّلُ فِي جَوْهَرِها بِوَصْفِها حَقِيقَةً رَمْزِيَّةً مَعْنَوِيَّةً دَلالِيَّةً لا يُمْكِنُ حَصْرُها فِي قَوانِينَ عامَّةٍ، أَوْ ضَبْطُها فِي مُعادَلاتٍ رِياضِيَّةٍ مَفْهُومَةٍ، أَوْ رَصْدِها بِأَرْقامٍ إِحْصائِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ ذاتِيَّةٌ يُمْكِنُ فَهْمُها وَتَأْوِيلُها وَرَصْدُ مَعانِيها وَاِكْتِشافُ مَقاصِدِها بِاِعْتِمادِ المَناهِجِ الكَيْفِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى اِسْتِلْهامِ المَعانِي وَاِكْتِشافِ الدَلالاتِ.
وَتَجْدُرُ الإِشارَةُ فِي هٰذا السِّياقِ، إِلَى أَنَّ الصِراعَ الفِكْرِيَّ بَيْنَ مَنْهَجِيَّتَيْ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ السَّبَبِيِّ كانَ قَدْ بَلَغَ أَوْجهُ فِي زَمَنِ ماكْسٍ فَيَبِرُّ رائِدُ الاِتِّجاهِ التَأْوِيلِيَّ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، الَّذِي رَفَضَ مُعْطَياتِ المَنْهَجِ الوَضْعِيِّ عِنْدَ كُلٍّ مِن مارْكْس وَأوغست كونَت وَدوركهايم وَهَربرت سْبِنْسَر، مُؤَكِّداً عَلَى الاِتِّجاهِ التَّأْوِيلِيِّ الَّذِي يَقُومُ بِفَهْمِ الظّاهِرَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَتَأْوِيلِها تَأْوِيلاً يَعْتَمِدُ عَلَى دَلالاتِها وَمَعانِيها. وَمِن الواضِحِ تَماماً أَنَّ الاِتِّجاهَ الرَمْزِيَّ يُشَكِّلُ اِمْتِداداً طَبِيعِيّاً مُتَطَوِّراً لِلاِتِّجاهِ التَأْوِيلِيِّ الَّذِي أَصَّلَهُ عالَمُ الاِجْتِماعِ الأَلْمانِيُّ ماكْس فيبر، كَما يُمَثِّلُ نَمَطاً جَدِيداً مِن القُدْرَةِ عَلَى تَوْظِيفِ الرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَّلالاتِ فِي تَفْسِيرِ الظَّواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ.
وعلى خلاف النّظرياتِ الوضعيّةِ الكُبرى (الماركسيّة والبنيويّة) التي تبحث في تأثيرِ المؤسّساتِ والظّواهرِ الاجتماعيّةِ الكلّيةِ في الأفراد بوصفهم نتاجًا للمجتمع ومؤسّساته الكبرى، تبحث التّفاعليّةُ الرّمزيّةُ في تأثير الفرد في المجتمع بوصفه صائغًا للوجود وصانعًا للتّاريخ، وإذا كانت النّظرياتُ الوضعيّةُ الكبرى تبحث في تأثير العامِّ في الخاصِّ، والكليِّ في الجزئيِّ والأعلى في الأدنى، وفي تأثير المجتمعِ في الفردِ، فإنّ التّفاعليّةَ، وعلى العكس من ذلك، تبحث في تأثير الخاصِّ في العامِّ، والجزئيِّ في الكليِّ، والأدنى في الأعلى، وفي تأثير الفردِ في المجتمعِ.
وَإِذا كانَت البِنائِيَّةُ تَرَى أَنَّ المُجْتَمَعَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الذّاتِ، فَإِنَّ التّفاعليَّةَ، عَلَى العَكْسِ مِنْ ذٰلِكَ، تَرَى أَنَّ الذّاتَ هِيَ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي المُجْتَمَعِ، بِمَعْنَى أَنَّ الناسَ هُم الَّذِي يُؤَسِّسُونَ المُجْتَمَعَ بِأَفْعالِهِمْ وَتَصَرُّفاتِهِمْ وَسُلُوكِيّاتِهِمْ الواعِيَةِ وَالهادِفَةِ. وَيُسَمَّى هٰذا المَنْظُورُ بِالتّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ؛ لِأَنَّ الأَفْرادَ، فِي تَواصُلِهِمْ وَتَفاعُلِهِمْ، يَسْتَخْدِمُونَ الرُّمُوز وَالإِشاراتِ وَالعَلاماتِ وَالأَيْقُوناتِ وَالإِيماءاتِ. وَمِنْ ثَمَّ، تَتَّخِذُ أَفْعالَهُمْ طابعاً نَسَقِيّاً زاخِراً بِالدَّلالاتِ السِيمْيائِيَّةِ وَالرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الفَهْمَ وَالتَّأْوِيلَ. وَتُعَدُّ اللُغَةُ أَهَمَّ عُنْصُرٍ لَدَى هٰؤُلاءِ، ما دامَتْ تُؤَدِّي دَوْراً تَواصُلِيّاً وَرَمْزِيّاً(30).
وَمِن هٰذا المُنْطَلَقِ، يُرَكِّزُ أَصْحابُ التَأْوِيلِ الرَمْزِيِّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الفَرْدِ وَدَوْرِهِ الجَوْهَرِيِّ فِي تَشْكِيلِ ذاتِهِ، وَفِي تَشْكِيلِ العالَمِ مِنْ حَوْلِهِ، وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَنْطَلِقُونَ لِلبَحْثِ فِي تَفاصِيلِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ لِلفَرْدِ، وَفِي تَفاعُلاتِهِ الرَمْزِيَّةِ مَعَ الآخَرِينَ الَّتِي تُؤَدِّي، فِي نِهايَةِ المَطافِ، إِلَى تَشْكِيلِ التَكْوِيناتِ وَالظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي آنٍ واحِدٍ. فَالمُجْتَمَعُ وِفْقاً لِهٰذِهِ النَظَرِيَّةِ يَأْخُذُ هَيْئَةَ تَفاعُلٍ رَمْزِيٍّ بَيْنَ الأَفْرادِ، وَيُؤَدِّي هٰذا التّفاعل إِلَى تَشْكِيلِ ذَواتِ الأَفْرادِ وَتَنْمِيطِ هُوِيّاتِهِمْ وَصَوْغِ اِنْتِماءاتِهِمْ، وَيَنْتَهِي إِلَى تَوْلِيدِ النَسِيجِ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَلُفُّهُمْ.
وَمِنْ هٰذا المُنْطَلَقِ، يَعْمَلُ الناسُ، وِفْقاً لِلمَنْظُورِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ، عَلَى تَحْقِيقِ التَرابُطِ بَيْنَ الرُّمُوز وَالمَعانِي، ثُمَّ يَتَصَرَّفُونَ وِفْقاً لِهٰذِهِ المَعانِي وَالرُّمُوز لِيُشَكِّلُوا بِذٰلِكَ نَسِيجَ المُجْتَمَعِ وَظَواهِرَهُ وَمَضْمُونَهُ الاِجْتِماعِيَّ. فَالكَلِماتُ المَنْطُوقَةُ الَّتِي تَدُورُ بَيْنَ الأَفْرادِ تَفْعَلُ فِعْلَها بِوَصْفِها رُمُوزاً تَفِيضُ بِالمَعانِي وَالدَّلالاتِ؛ فَالكَلِماتُ رُمُوزٌ تَنْطَوِي عَلَى مَعانٍ يُدْرِكُها "الفَرْدُ المُرْسل"، وَأَثْناءَ الاِتِّصالِ يُفْتَرَضُ أَنْ يُدْرِكَ "المُتَلَقِّي– المُخاطَبَ" ذاتَ المَعانِي كَيْ تَتِمَّ عَمَلِيَّةُ التَّواصُلِ وِفْقَ الصِيغَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ الكَلِماتِ لَيْسَتْ "أَشْياءَ" ثابِتَةً أَوْ رُمُوزاً مُتَصَلِّبَةً، بَلْ هِيَ رُمُوزٌ مَرِنَةٌ تَحْتَمِلُ صَيْرُورَةَ التَفْسِيرِ وَالتَأْوِيلِ عَلَى مَبْدَأِ النَّوايا وَالمَقاصِدِ. وَبِناءً عَلَى ذٰلِكَ تَأْخُذُ المُحادَثَةُ بَيْنَ فَرْدَيْنِ أَوْ طَرَفَيْنِ صُورَةَ تَفاعُلٍ رَمْزِيٍّ بَيْنَ الأَفْرادِ الَّذِينَ يُحاوِلُونَ عَبْرَ الرُّمُوز تَفْسِيرَ العالَمِ مِنْ حَوْلِهِمْ بِاِسْتِمْرارٍ عَلَى مَبْدَأِ التَغَيُّرِ الدِينامِيِّ فِي تَوْلِيدِ الدَّلالاتِ وَالمَعانِي.
وَمِن أَحَدِ أَهَمِّ العَوامِلِ الَّتِي مَيَّزَت التّفاعلَ الرَمْزِيَّ عَن النَّظَرِيّاتِ الوَضْعِيَّةِ هُوَ تَرْكِيزُها عَلَى الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ، وَعَلَى التّفاعلاتِ الصَّغِيرَةِ الجُزْئِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَ الأَفْرادِ وَالجَماعاتِ كَمُنطْلَقٍ لِفَهْمِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَتَأْوِيلِها، وَهٰذا التَوَجُّهُ يَتَناقَضُ مَعَ النَظَرِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَى السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ بِوَصْفِهِ فَعّالِيَّةً اِجْتِماعِيَّةً تَتِمُّ مِن الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى، وَبِمُوجِبِ ذٰلِكَ فَإِنَّ الفَرْدَ يُشَكِّلُ كِياناً مُنْفَعِلاً يَخْضَعُ لِتَأْثِيرِ المُؤَسَّساتِ وَالظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَهُوَ، فِي سِياقِ ذٰلِكَ، لا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ نِتاجاً لَها. وَتَتَّضِحُ هٰذِهِ الصُورَةُ فِي نَظَرِيَّةِ إميل دوركايم الَّذِي كانَ يُرَكِّزُ عَلَى الظَواهِرِ المُجْتَمَعِيَّةِ، وَيَتَعامَلُ مَعَها مِنْ مَنْظُورٍ وَضْعِيٍّ وَعِلْمِيّ، دُونَ أَنْ يُعِيرَ الفَرْدَ أَدْنَى اِهْتِمامٍ، وَقَدْ أَكَّدَ دائِماً أَنَّ الفَرْدَ نِتاجُ المُجْتَمَعِ وَالتّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، وَتَجاهلَ دَوْرَ الفَرْدِ وَقُدْرَتَهُ عَلَى إِحْداثِ التَغْيِيرِ فِي المُجْتَمَعِ أَوْ التَأْثِيرِ فِيهِ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ كائِنٌ مُنْفَعِلٌ وَخاضِعٌ لِلضَّرُورَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَذٰلِكَ عَلَى خِلافِ ماكْس فِيبر الَّذِي أَولَى الفَرْد أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً فِي إِحْداثِ التَغَيُّرِ الاِجْتِماعِيِّ مُؤَكِّداً عَلَى جَدَلِيَّةِ العَلاقَةِ بَيْنَ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ.
وَعَلَى خِلافِ الرُؤْيَةِ الوَضْعِيَّةِ، يَرَى أَصْحابُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَنَّ الفَرْدَ يَكُونُ صانِعاً لا مَصْنُوعاً، ذاتاً لا مَوْضُوعاً، فاعِلاً لا مُنْفَعِلاً. وَمِن هٰذا المُنْطَلَقِ تَتَمَيَّزُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ عَن النَظَرِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الأُخْرَى بِالتَرْكِيزِ عَلَى دَوْرِ الفاعِلِ الاِجْتِماعِيِّ الفَرْدِيِّ، وَذٰلِكَ فِي الوَقْتِ الَّذِي تَنْظُرُ فِيهِ النَظَرِيّاتُ الأُخْرَى (البِنْيَوِيَّةُ الوَظِيفِيَّةُ وَالمارْكِسِيَّةُ) إِلَى الأَفْرادِ بِوَصْفِهِم مَوْضُوعاتٍ مُنْتجَةً سَلْبِيَّةً لِلقُوَى الاِجْتِماعِيَّةِ السّائِدَةِ، وَنِتاجاً طَبِيعِيّاً لِمُخْتَلِفِ مُؤَسَّساتِهِ وَظَواهِرِهِ الكُبْرَى. وَبِاِخْتِصارٍ يَسْعَى أَنْصارُ التّفاعل الرَمْزِيِّ إِلَى "تَصْوِيرِ الفَرْدِ بِاِعْتِبارِهِ فاعِلاً وَمُسْتَقِلّاً وَمُتَكامِلاً فِي تَكْوِينِ عالَمِهِ الاِجْتِماعِيِّ، وَهُم يُؤَكِّدُونَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَأْثِيرِ المُتَبادَلِ بَيْنَ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ وَبَيْنَ الذَّواتِ المُتَفاعِلَةِ فِي خِضَمِّ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ.
وَعَلَى خِلافِ الاِتِّجاهاتِ الوَضْعِيَّةِ الَّتِي تَتَّسِمُ بِطَبِيعَتِها الماكروسوسيولوجِيَّةِ (Macrosocology) الَّتِي تَبْحَثُ فِي المُجْتَمَعِ وِفْقَ نَظْرَةِ كُلِّيَّةٍ شُمُولِيَّةٍ تَعْتَمِدُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ مَنْهَجِيَّةَ السوسيولوجيا المُصَغَّرَةَ الميكروسوسيولوجِيَّةَ (Microsociology) وَتنطْلقُ مِن الوحْداتِ الصُّغْرَى (سوسيولوجيا الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ) فِي مُحاوَلَةٍ لِفَهْمِ المُجْتَمَعِ وَالحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّها تَبْدَأُ بِدِراسَةِ سُلُوكِ الأَفْرادِ اليَوْمِيِّ البَسِيطِ كَمَدْخَلٍ لِفَهْمِ النَّسَقِ الاِجْتِماعِيِّ. وَتُرَكِّزُ عَلَى أَنْساقِ المَواقِفِ وَالأَدْوارِ الَّتِي تُشَكِّلُ المُجْتَمَعَ. وَيُلاحِظُ النُقّادُ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ أَخَذَتْ مَعالِمَها الواضِحَةَ، وَتَبَلْوَرَت صورتُها فِي النِصْفِ الثانِي مِن القَرْنِ العِشْرِينَ، وَقَدْ ظَهَرَت مَلامِحُ نَشْأَتِها الأُولَى فِي الفِكْرِ السوسيولوجِيِّ الأَمْرِيكِيِّ تَحْدِيداً. وَهِيَ فِي تَرْكِيزِها عَلَى عِلْمِ الاِجْتِماعِ اليَوْمِيِّ وَبُنَياتِهِ الذرِّيَّةِ الصُّغْرَى تَتَمَيَّزُ عَن المَدارِسِ السوسيولوجِيَّةِ الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى الوِحْداتِ الكُبْرَى (أَيْ الميكروسوسيولوجِيِّ فِي مُواجَهَةِ الماكروسوسيولوجِيِّ)، وَلا يَخْفَى أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ اِسْتَطاعَت أَنْ تَجْتَرِحَ أَنْظِمَةٌ مَنْهَجِيَّةً جَدِيدَةً وَاِسْتراتِيجِيّاتٍ نَظَرِيَّةً أَصِيلَةً فِي مَجالِ البَحْثِ الدَّلالِيِّ وَالتَّأْوِيلِيِّ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ نَسْتَنْتِجَ بِاِخْتِصارٍ مُقارِنٍ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ، عَلَى خِلافِ التَوَجُّهاتِ البِنْيَوِيَّةِ، تُؤَكِّدُ دَوْرَ الفَرْدِ فِي تَشْكِيلِ الأَحْداثِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَإِذا كانَت النَظَرِيّاتُ البِنائِيَّةُ تَرَى أَنَّ المُجْتَمَعَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الفَرْدِ، فَإِنَّ التّفاعليَّةَ تَرَى عَكْسَ ذٰلِكَ، بِأَنَّ الفَرْدَ هُوَ الفاعِلُ فِي التارِيخِ، وَفِي صَوْغِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَهٰذا يَعْنِي مِن وِجْهَةِ نَظَرِ التّفاعليِّينَ الرَمْزِيِّينَ أَنَّ الأَفْرادَ هُم الَّذِي يُؤَسِّسُونَ المُجْتَمَعَ، وَيُشَكِّلُونَ ظَواهِرَهُ بِأَفْعالِهِمْ وَتَصَرُّفاتِهِمْ وَسُلُوكِيّاتِهِمْ الواعِيَةِ وَالهادِفَةِ.
وَمِن نافِلَةِ القَوْلِ أَنَّ أَصْحابَ نَظَرِيَّةِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ لا يُنْكِرُونَ دَوْرَ المُجْتَمَعِ وَتَأْثِيرَهُ فِي أَفْرادِهِ، وَلٰكِنَّهُمْ يُؤَكِّدُونَ دَوْرَ الأَفْرادِ وَفاعِلِيَّتَهُمْ فِي بِناءِ المُجْتَمَعِ ضِمْنَ سِلْسِلَةٍ مُتَواتِرَةٍ مِنْ الأَفْعالِ الرَّمْزِيَّةِ المُتَشَبِّعَةِ بِالمَعانِي وَالدَّلالاتِ التَّواصُلِيَّةِ.
وَيُمْكِنُ القَوْلُ اِخْتِصاراً: إِنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تَرَى - عَلَى خِلافِ الاِتِّجاهاتِ البِنْيَوِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ - أَنَّ الذَّواتَ الفَرْدِيَّةَ تُشَكِّلُ المُجْتَمَعَ فِي مَساراتِ تَفاعُلِها الرَمْزِيِّ، وَأَنَّ الأَفْرادَ يُؤَسِّسُونَ المُجْتَمَعَ وَالظَواهِرَ الاِجْتِماعِيَّةَ بِأَفْعالِهِم وَتَفاعُلاتِهِم وَسُلُوكاتِهِم الَّتِي تَتَّسِمُ بِطابَعِ الوَعْيِ المُنَظَّمِ الهادِفِ.
5- المَفاهِيمُ الرَئِيسَةُ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَّمْزِيَّةِ:
عَمل رُوّاد التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ عَلَى صَوْغِ مَنْظُومَةٍ مِن المَفاهِيمِ الَّتِي تُشَكِّلُ جَوْهَر نَظَرِيَّتِهِم، وَرَسَّخُوا عَدَداً آخَرَ مِن المَفاهِيمِ الأَساسِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَعْتَمِدَ فِي فَهْمِ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تَتِمُّ فِيها عَمُّلِيّاتُ التّفاعل الرَمْزِيِّ. وَقَدْ أَوْضَحْنا فِي أَكْثَرَ مِن سِياقِ أَنَّ هٰذِهِ المَفاهِيمَ تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ الإِنْسانِ المُنْتِجِ لِلرَّمْزِ أَوْ الإِنْسانِ بِوَصْفِهِ مُنْتِجاً لِلمَعْنَى وَالدّلالة. وَتَتَحَرَّكُ النَظَرِيَّةُ فِي مَسارِ ثمانية مَفاهِيمَ أَساسِيَّةٍ، هِيَ:
1- التّفاعل Interaction: وَيُشَكِّلُ مَفْهُومُ التّفاعل أَحَدَ أَهَمِّ المَفاهِيمِ فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، وَيُعرّفُ بِأَنَّهُ "سَلِسَةٌ مُتَبادَلَةٌ وَمُسْتَمِرَّةٌ مِنْ الاِتِّصالاتِ بَيْنَ فَرْدٍ وَفَرْدٍ، أَوْ فَرْدٍ مَعَ جَماعَةٍ، أَوْ جَماعَةٍ، مَعَ جَماعَةٍ(31).
2- الرُّمُوز (Symbols): تُشَكِّلُ الرُّمُوز وَالعَلاماتُ جَوْهَرَ النَظَرِيَّةِ التّفاعليَّةِ، وَهِيَ "مَجْمُوعَةٌ مِنْ الإِشاراتِ المُصْطَنَعَةِ، يَسْتَخْدِمُها الناسُ فِيما بَيْنَهُمْ لِتَسْهِيلِ عَمَلِيَّةِ التَواصُلِ، وَهِيَ سِمَةٌ خاصَّةٌ فِي الإِنْسانِ. وَتَشْمَلُ عِنْدَ جورج مِيدِ اللُغَةِ، وَعِنْدَ بلومر المَعانِي، وَعِنْدَ غوفمانِ الاِنْطِباعاتِ وَالصُّوَرَ الذِهْنِيَّةَ (32). وَفِي تَعْرِيفٍ آخَرَ مُماثِلٍ تَعْنِي الرُّمُوز: "مَجْمُوعَة الوَسائِلِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُها الناسُ فِيما بَيْنَهُمْ لِتَسْهِيلِ عَمَلِيَّةِ التَّواصُلِ. وَهِيَ تَشْمَلُ الإِشاراتِ وَالعَلاماتِ وَالأَدَواتِ وَالحَرَكاتِ وَالأَصْواتَ وَالاِنْطِباعاتِ وَالصُوَرَ الذِهْنِيَّةَ الَّتِي يَصْنَعُونَها، وَأَهَمُّها اللُغَةُ. وَوِفْقاً لِهٰذِهِ النَّظَرِيَّةِ، يُعَلِّقُ الناسُ مَعانِيَ عَلَى هٰذِهِ الرُّمُوز، ثُمَّ يَتَصَرَّفُونَ بِناءً عَلَى تَفْسِيرِهِمْ الشَخْصِيِّ لَها. وَيَظْهَرُ ذٰلِكَ جَلِيّاً فِي المُحادَثاتِ الشَفَهِيَّةِ (33).
3- المَعانِي (meanings): تُمَثِّلُ الأَفْعالُ نِظاماً مِنْ الدَلالاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُ فِي تَأْوِيلِ الرُّمُوز وَالأَشْياءِ وَالعالَمِ، وَهِيَ الَّتِي تُعْطِي للرّموز دَلالَتَها، وَتَجْعَلُها مَقْصُورَةً فِي الأَذْهانِ عَلَى مَقاصِدَ مُحَدَّدَةٍ، وَهِيَ صُوَرٌ ذِهْنِيَّةٌ تَرْتَبِطُ بِالرُّمُوز وَالأَشْياءِ، وَهِيَ أَيْضاً نَسَقٌ مِنْ الأَفْكارِ الَّتِي تَرْتَبِطُ بِالإِشاراتِ وَالعَلاماتِ وَالرُّمُوز.
4- المُرُونَةُ (Flexibility): يُقْصَدُ بِالمُرُونَةِ قُدْرَةُ الإِنْسانِ عَلَى التَصَرُّفِ بِصُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مَواقِفَ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنْ يَكُنْ قادِراً عَلَى تَداوُلِ المَعانِي وَالرُّمُوز بِصِيَغٍ تَتَناسَبُ مَعَ الوَضْعِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُها وَالمَواقِفِ الَّتِي يُجارِيها.
5- الوَعْيُ الذاتِيُّ (Self- Consciousness): هُوَ مَقْدِرَةُ الإِنْسانِ عَلَى تَمَثُّلِ الدَوْرِ، فَالتَوَقُّعاتُ الَّتِي تَكُونُ لَدَى الآخَرِينَ عَنْ سُلُوكِنا فِي ظُرُوفٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهِيَ بِمَثابَةِ نُصُوصٍ، "يَجِبُ أَنْ نَعِيَها حَتَّى نُمَثِّلَها، عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِ جوفمان" (34).
6-الحتميّة التّفاعلية (Interactive determinism): يمكنَ تَعْرِيفَ مَفْهُومِ الحَتْمِيَّةِ التّفاعليَّةِ، بِأَنَّها الوَضْعِيَّةُ الرَمْزِيَّةُ الَّتِي لا يُمْكِنُ فَهْمُها بِمَعْزِلٍ عَنْ غَيْرِها، إِذْ يَنْبَغِي فَهْمُها عَلَى أَنَّها نَتِيجَةٌ لِلسِّياقِ الَّذِي تُوجَدُ فِيهِ. فَالشَّخْصُ نَفْسُهُ - عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّ صِفاتِهِ الجَوْهَرِيَّةَ لا تَتَغَيَّرُ - فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ أَبٌ مِنْ قِبَلِ طِفْلِهِ، وَمُوَظَّفٌ مِنْ قِبَلِ رَئِيسِهِ، وَزَوْجٍ مِنْ قِبَلِ زَوْجَتِهِ، وَناخِبٌ مِنْ قِبَلِ سِياسِيٍّ. يَعْمَلُ هٰذا عَلَى تَوْضِيحِ مَدَى تَعْرِيفِ الظَواهِرِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالأَشْخاصِ أَوْ الأَشْياءِ الَّتِي يَتَفاعَلُونَ مَعَها، أَوْ كَما يَقُولُ سنو Snow، "السِياقاتُ التّفاعليَّةُ أَوْ شَبَكاتُ العَلاقاتِ الَّتِي تَكُونُ مُتَوَرِّطَةً فِيها وَمُدْمَجَةً فِيها(35).
وهذا يعني أنّ استجابةَ الفردِ لحالةٍ معيّنةٍ تعود، إلى حدّ كبيرٍ، إلى تعريفٍه لها، إذ يمكنُ أن يُنظرَ إلى الرّجلِ الذي يقدّمُ الآيس كريم لطفلة على أنّها لفتةٌ لطيفةٌ من قبل شخص، وكخدعة خطيرةٍ من قبل شخصٍ آخر، يمكن أن يُنظر إليه بشكل مختلف تماماً من قبل أشخاص مختلفين، إلى حدّ كبير نتيجةً لتجاربِهم وبيئاتِهم.
وفِي مِثالٍ آخَرَ، غالِباً ما يُنْظُرُ إِلَى خاتَمِ الخُطُوبَةِ كَعَلامَةٍ عَلَى الحُبِّ وَالاِلْتِزامِ وَإِشارَةٍ إِلَى الزَّواجِ الوَشِيكِ. فِي حِينِ أَنَّ اِمْرَأَةً أُخْرَى فِي مَوْقِفٍ مُماثِلٍ قَدْ تَرَى أَنَّ خاتَمَ الخُطُوبَةِ الماسِيِّ باهِظَ الثَّمَنِ قَدْ يَكُونُ إِغْواءً من قبل الرَجُّلِ لِلمَرْأَةِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَمْتَلِكُ رُؤْيَةً سِياقِيَّةً لِلأَحْداثِ تَنْسَجِمُ مَعَ تَطَلُّعاتِهِ وَتَصَوُّراتِهِ الخاصَّةِ. وَفِي كُلِّ الأَحْوالِ، فَإِنَّ خاتَمَ الخُطُوبَةِ يُشَكِّلُ خُطْوَةً نَحْوَ الزَّواجِ وَبِناءِ أُسْرَةٍ تُشَكِّلُ جُزْءاً مِنْ نَسِيجِ البِناءِ الاِجْتِماعِيِّ. وَيُشَكِّلُ تَوَقُّعُ الفَتاةِ أَنَّها سَتَتَلَقَّى يَوْماً مِثْلَ هٰذا الخاتَمِ، وَتَرْتَدِيهِ عُنْصُراً أَساسِيّاً فِي عَمَلِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ الأَفْكارَ وَالرُّمُوز وَطُرُقَ السُّلُوكِ الجَدِيدَةِ يَتِمُّ تَطْوِيرُها بِاِسْتِمْرارٍ، إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ مِنْ خِلالِ عَمَلِيّاتِ التّفاعلاتِ الرَمْزِيَّةِ بَيْنَ الأَفْرادِ(36).
7-الفاعِلِيَّةُ الإِنْسانِيَّةُ (human effectiveness): يُعَدُّ مَفْهُومُ الفاعِلِيَّةِ الإِنْسانِيَّةِ أَساسِيّاً فِي تَحْقِيقِ التّفاعل الرَّمْزِيِّ، لِأَنَّ المَفْهُومَ يَرْمُزُ جَوْهَرِيّاً إِلَى القُوَّةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَعْنِي أَنَّ الأَفْرادَ يَمْتَلِكُونَ الإِرادَةَ الحُرَّةَ وَالقُدْرَةَ عَلَى اِتِّخاذِ قَراراتِهِم بِأَنْفُسِهِم دُونَ تَأْثِيرٍ لِلقُوَى الخارِجِيَّةِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِم عَلَى نَحْوٍ نِسْبِيٍّ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُعْطِي الاِهْتِمامَ لِوُجْهاتِ النَّظَرِ الشَّخْصِيَّةِ لِلأَفْرادِ المُتَفاعِلِينَ، وَتَأْخُذُ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي يَفْهَمُونَ بِها العالَمَ، وَيُدْرِكُونَ مُخْتَلِفَ تَجَلِّياتِهِ مِنْ مَنْظُورِهِمْ الخاصِّ (37). وَمُؤَدَّى ذٰلِكَ أَنَّ الناسَ - وِفْقاً لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ - يَسْتَجِيبُونَ لِعَناصِرِ بِيئاتِهِم وِفْقاً لِلمَعانِي الشَخْصِيَّةِ الَّتِي يُعَلِّقُونَها عَلَى تِلْكَ العَناصِرِ، مِثْلَ المَعانِي الَّتِي يَتِمُّ إِنْشاؤُها وَتَعْدِيلُها مِنْ خِلالِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ التَّواصُلَ الرَمْزِيَّ مَعَ الآخَرِينَ. وَلِهٰذا نَجِدُ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تَعْتَمِدُ فِي تَحْلِيلِها لِلمُجْتَمَعِ عَلَى المَعانِي الذّاتِيَّةِ الَّتِي يَسْبِغُها النّاسُ عَلَى الأَشْياءِ وَالأَحْداثِ وَالسُلُوكِيّاتِ، وَتَخُصُّ هٰذِهِ المَعانِي الذّاتِيَّةَ أَوَّلِيَّةً وَأَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي الاِعْتِقادَ بِأَنَّ النّاسَ يَتَصَرَّفُونَ بِناءً عَلَى ما يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَيْسَ فَقَطْ عَلَى ما هُوَ حَقِيقِيٌّ مَوْضُوعِيٌّ.
8- الِتَرْمِيزِ (coding): الإِنْسانُ مُحاطٌ بِغابَةٍ مِنْ الرُّمُوز، كَما يَقُولُ فيكتور تيرنر (Victor Turner)، وَهُوَ مَنْ يَصْنَعُ الرُّمُوز، إِذْ يُضْفِي عَلَى العالَمِ صِيغَةَ الرَّمْزِيَّةِ، فَالإِنْسانُ يُحَوِّلُ العالَمَ إِلَى رُمُوزٍ، وَيَحْمِّلُ هٰذِهِ الرُّمُوز مَعانِيَها، لِيُصْبِحَ هٰذا العالَمُ مَفْهُوماً وَمُدْرِكاً. وَيَعْرِفُ سْنو (David Snow) التَرْمِيزَ بِأَنَّهُ "العَمَلِيَّةُ الَّتِي تُعْتَمَدُ لِتَصْنِيفِ الأَشْياءِ فِي عَلاماتٍ مُحَدَّدَةٍ، وَهٰذِهِ العَمَلِيَّةُ تَشْمَلُ كُلَّ ما يُحِيطُ بِالإِنْسانِ وَاللُغَةِ وَالحَياةِ بِما فِيها مِنْ أَحْداثٍ وَظُرُوفٍ، وَتُحَفٍ وَصِناعاتٍ، وَأَشْخاصٍ وَتَجَمُّعاتٍ، وَغَيْرِها مِنْ سِماتِ البِيئَةِ المُحِيطَةِ مَعانِي مُعَيَّنَة، وَتُصْبِحُ أَهْدافاً لِلتَوَجُّهِ تُثِيرُ مَشاعِرَ وَأَفْعالا مُحَدَّدَةً"(38)، وَهِيَ العَمَلِيَّةُ الَّتِي يَتِمُّ مِنْ خِلالِها رُؤْيَةُ الأَشْياءِ كَرُمُوزٍ. تُعَدُّ الرُّمُوز، وَالطُرُقُ الَّتِي يَسْتَخْدِمُها الأَفْرادُ مِنْ خِلالِها وَيَبْنُونَها، أَحَدَ المَفاهِيمِ الأَساسِيَّةِ لِلتَّفاعُلِ الرَمْزِيِّ. وَيَرَى خُبَراءُ التّفاعل الرَمْزِيِّ بِأَنَّ الأَفْرادَ لا يَسْتَخْدِمُونَ الرُّمُوز فَقَطْ لِمُساعَدَتِهِمْ عَلَى التَواصُلِ وَالتّفاعل مَعَ الآخَرِينَ، وَلٰكِنْ أَيْضاً مِنْ خِلالِ فِعْلِ اِسْتِخْدامِها، فَهُمْ يُساعِدُونَ عَلَى بِناءِ تِلْكَ الرُّمُوز.
6- مَفْهُومُ التّفاعل الرَّمْزِيِّ:
يُشَكِّلُ مَفْهُومَ التّفاعل الرَّمْزِيِّ أَحَدَ المَفاهِيمِ السوسيولوجِيَّةِ المَرْكَزِيَّةِ الَّتِي تَجَذَّرَت عَمِيقاً فِي تارِيخِ الفِكْرِ السّوسيولوجِيِّ الكْلاسِيكِيِّ، وَلا سِيَّما فِي سوسيولوجيا ماكْس فيبر (1864-1920) وَفِي أَعْمالِ الفَيْلَسُوفِ الأَمْرِيكِيِّ جورج هِرْبَرَت مِيد (1863-1931)، وَشَهِدَ هٰذا المَفْهُومُ تَطَوُّرَهُ اللاّحِقَ فِي عَلَى يَدِ هَرْبَرت بلومر، الَّذِي قامَ بِصِياغَتِهِ وَتَأْصِيلِهِ مَنْهَجِيّاً وَفِكْرِيّاً (39).
يُعْرَفُ التّفاعل الاِجْتِماعِيُّ بِأَنَّهُ نَسقَ مِن: "العَمَلِيّاتِ الإِدْراكِيَّةِ الوِجْدانِيَّةِ وَالنُزُوعِيَّةِ المُتَبادَلَةِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ اِجْتِماعِيَّيْنِ (فَرْدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، جَماعَتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، أَوْ فَرْدٍ وَجَماعَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ) فِي مَوْقِفٍ أَوْ وَسَطٍ اِجْتِماعِيٍّ مُعَيَّنٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ سُلُوكُ أَيٍّ مِنْهُما مِنْها مُثِيراً لِسُلُوكِ الطَرَفِ الآخَرِ عَبْرَ وَسِيطِ (لُغَةِ، أَعْمالِ، أَشْياءَ) وَفِيهِ يتمّ تَبادُلُ رَسائِل مُعَيَّنَة تَرْتَبِطُ بِغايَةٍ أَوْ هَدَفٍ مُعَيَّنٍ"(40).
وَالتّفاعل الرَمْزِيِّ، كَما يَتَّضِحُ مِن دَلالَتِهِ اللُغَوِيَّةِ، يُشَكِّلُ حَصادَ اِجْتِماعٍ مَفْهُومَيْنِ مُتَفاعِلَيْنِ، هُما: الرَمْزُ وَالتّفاعل، وَيَنْجُمُ عَن هٰذا التَزاوُجِ الصَمِيمِيِّ بَيْنَ المَفْهُومَيْنِ عَدَدٌ مِن القَضايا الأَساسِيَّةِ فِي نَظَرِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ. فَالتّفاعل لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلّا فِي سِياقٍ رَمْزِيٍّ، وَكَذٰلِكَ الرَمْزِيَّةُ لا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلّا فِي سِياقِ تَفاعُلِيّ، فَالتَواصُلُ يُؤَدِّي إِلَى التّفاعل، وَالتّفاعل يَقْتَضِي وُجُودَ أَنْساقٍ رَمْزِيَّةٍ، وَالأَنْساقُ الرَمْزِيَّةُ تَرْتَبِطُ جَوْهَرِيّاً بِالمَعانِي وَالدَّلالاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ فِي مَساراتٍ تَأْوِيلِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ فِي التَغَيُّرِ وَالتَبَدُّلِ. وَمِن أَجْلِ تَوْضِيحِ عَمَلِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ يُمْكِنُنا الاِسْتِنارَةُ بِتَفْسِيرِ أرنولد روس وَشُرُوحاتِهِ لِلتَّفاعُلِ الرَّمْزِيِّ عِنْدَ جورج هرْبَرت مِيد، فِي خَمْسِ فَرْضِيّاتٍ أَساسِيَّةٍ (41):
1- نَحْنُ نَعِيشُ فِي مُحِيطٍ رَمْزِيٍّ وَمادِّيٍّ فِي آنٍ واحِدٍ، وَنَحْنُ الَّذِينَ نَضَعُ رُمُوزَ العالَمِ وَمَعانِيَهِ، وَكَذٰلِكَ مَعانِي أَفْعالِنا فِي هٰذا العالَمِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّنا نُجَرِّدُ العالَمَ تَجْرِيداً رَمْزِيّاً، ثُمَّ نُضْفِي الدَّلالاتِ وَالمَعانِيَ عَلَى هٰذِهِ الرُّمُوز.
2- بِفَضْلِ هٰذِهِ الرُّمُوز ذاتِ المَعانِي، الَّتِي يُمَيِّزُها مَيِّدٌ عَنْ العَلاماتِ الطَبِيعِيَّةِ، يَكُونُ بِمَقْدُورِنا أَنْ نَحُلَّ مَحَلَّ الآخَرِ؛ لِأَنَّنا نُشارِكُ الآخَرِينَ الرُّمُوز نَفْسَها.
3- نَحْنُ نَتَقاسَمُ ثَقافَةً مُشْتَرَكَةً مُؤَلَّفَةً مِنْ أَنْساقِ من الرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَلالاتِ. وَهٰذِهِ الأَنْساقُ الرَّمْزِيَّةُ المَعْنَوِيَّةُ تُوَجِّهُ مُعْظَمَ أَفْعالِنا، وَتُتِيحُ لَنا عَلَى نَحْوٍ واسِعٍ أَنْ نَتَنَبَّأَ بِتَصَرُّفِ الأَفْرادِ الآخَرِينَ.
4- تَتَرابَطُ الرُّمُوز المَعانِي وَالقِيَمُ المُرْتَبِطَةُ، وَتَتَفاعَلُ فِيما بَيْنَها لِتُشَكِّلَ نَسِيجاً ثَقافِيّاً يُمْكِّنُ الفَرْد منْ أَداء أَدْواره الاِجْتِماعِيَّة بِمُرُونَةٍ وَفاعِلِيَّةٍ، وَيَجْعَلُهُ قادِراً عَلَى بِناءِ هُوِيَّتِهِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَإِدْراكِ ذاتِهِ فِي دائِرَةِ تَفاعُلِهِ مَعَ الآخَرِينَ.
5- "إِنَّ الفِكْرَ هُوَ السَيْرُورَةُ الَّتِي مِن خِلالِها تُدْرسُ فِي بادِئِ الأَمْرِ الحُلُولُ المُمْكِنَةُ وَالمُحْتَمَلَةُ مِنْ زاوِيَةِ الفَوائِدِ وَالأَضْرارِ الَّتِي يَجْنِيها الفَرْدُ بِالنِسْبَةِ لِقِيمَةٍ [ما] قَبْلَ أَنْ يَخْتارَ هٰذِهِ الحُلُولَ فِي نِهايَةِ المَطافِ. إِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الاِسْتِعاضَةِ عَنْ التَصَرُّفِ بِوَساطَةِ تَجارِبَ وَأَخْطاءٍ. إِنَّ الفِعْلَ - إِذاً- هُوَ تَفاعُلٌ مُسْتَمِرٌّ بَيَّنُ أَنا وَالأَنا وَسِلْسِلَةٌ مِنْ المَراحِلِ الَّتِي تَتَبَلْوَرُ فِي نِهايَةِ المَطافِ فِي تَصَرُّفِ وَحِيد"(42).
يَرَى مُعْظَمُ التّفاعليِّينَ الرَمْزِيِّينَ أَنَّ الواقِعَ المادِّيَّ مَوْجُودٌ بِالفِعْلِ قَبْلَ وُجُودِ الأَفْرادِ، وَأَنَّ تَفاعُلَ الأَفْرادِ مَعَ هٰذا الواقع لا يَتِمُّ بِطَرِيقَةٍ مُباشِرَةٍ، بَلْ مِن خِلالِ فَهْمِهِم لِهٰذا الواقِعِ، أَيْ مِنْ خِلالِ المَعانِي الَّتِي يُضْفُونَها عَلَى مُكَوِّناتِهِ. هٰذا يَعْنِي أَنَّ البَشَرَ لا يُوجَدُونَ فِي الفَضاءِ المادِّيِّ المُكَوَّنِ مِن حَقائِقَ، وَلٰكِنْ فِي "العالَمِ المُكَوَّنِ مِن الرُّمُوز وَالأَفْكارِ وَالدَلالاتِ وَالمَعانِي الَّتِي يُنْشِئُونَها وَيُضِفُونَها عَلَى مُعْطَياتِهِ الحَقِيقِيَّةِ. تَنْطَوِي التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ عَلَى عَدَدٍ مِن المَقُولاتِ وَالفَرْضِيّاتِ الأَساسِيَّةِ الَّتِي تُحَدِّدُ طَبِيعَةَ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ وَجَوْهَرَها.
وَمِن أَهَمِّ الفَرْضِيّاتِ الَّتِي طُرِحَتْ يُمْكِنُ الإِشارَةُ إِلَى القَضايا التالِيَةِ:
1- تَرْبِطُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ بَيْنَ الحَياةِ الداخِلِيَّةِ أَوْ النَفْسِيَّةِ لِلفَرْدِ، وَبَيْنَ طَبِيعَةِ المُجْتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ وَما يَحْتَوِيهِ مِنْ لُغَةٍ وَرُمُوزٍ وَحَضارَةٍ (43)، أَيْ بَيْنَ الحَياةِ الداخِلِيَّةِ لِلفَرْدِ بِوَصْفِهِ ذاتاً وَبَيْنَ المُجْتَمَعِ وَما يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ نِظامٍ قِيَمِيٍّ وَأَحْكامٍ قِيَمِيَّةٍ وَأَخْلاقِيَّةٍ يُمْكِنُ إِصْدارُها عَلَى الفَرْدِ الَّذِي يَكُونُ مَصْدَرَ عَمَلِيَّةِ التّفاعل مَعَ الآخَرِينَ(44).
2- تُرَكِّزُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ اللُّغَةِ فِي التّفاعل الرَمْزِيِّ، كَما تُؤَكِّدُ عَلَى دَوْرِ المَعانِي وَالدَلالاتِ الَّتِي تَأْخُذُ صِبْغَةً لُغَوِيَّةً فِي عَمَلِيَّةِ التّفاعل (45). وَيَتَمَيَّزُ التّفاعل الرَمْزِيُّ بِأَنَّهُ تَفاعُلٌ مُسْتَمِرٌّ وَمُتَغَيِّرٌ، فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ بِاِعْتِبارِهِ أَحَدَ العَناصِرِ الثّابِتَةِ فِي المُجْتَمَعِ، وَلٰكِنَّ مَضْمُونَهُ وَالأَفْرادَ القائِمِينَ بِهِ مُتَغَيِّرُونَ. وَلِذا يَجِبُ أَنْ يَعْكِسَ البَحْثُ هٰذَيْنِ الجانِبَيْنِ مِنْ التّفاعل. وَيَرَى التّفاعليُّونَ "أَنَّ اللُغَةَ تُمارِسُ دَوْرَها فِي تَطْوِيرِ المُجْتَمَعِ، أَوْ فِي المُحافَظَةِ عَلَيْهِ، وَكَذٰلِكَ فِي صِياغَةِ الأَنْشِطَةِ الذِهْنِيَّةِ لِلأَفْرادِ، وَهٰذا بِمَثابَةِ مَدْخَلٍ اِجْتِماعِيٍّ نَفْسِيٍّ يُؤَكِّدُ العَلاقَـةَ بَـيْنَ الأَنْشِطَةِ الذِهْنِيَّةِ لِلفَرْدِ وَعَمَلِيَّةِ الاِتِّصالِ الاِجْتِماعِيِّ؛ وَلِهٰذا يُشِيرُ أَصْحابُ المَنْظُورِ المَذْكُورِ إِلَى أَنَّ الناسَ يُشَكِّلُونَ أَوْ يُقَدِّمُونَ بِشَكْلٍ جَماعِيٍّ آراءَهُمْ عَنْ البِيئَةِ الَّتِي يَتَصارَعُونَ مَعَها"(46).
3- يَتَفاعَلُ الناسُ فِيما بَيْنَهُمْ عَلَى أَساسِ المَعانِي الَّتِي يُضْفُونَها عَلَى الأَشْياءِ وَالرُّمُوز الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ. وَبِعِبارَةٍ أُخْرَى يُمْكِنُ القَوْلُ: إِنَّ البَشَرَ يَتَصَرَّفُونَ إِزاءَ الأَشْياءِ عَلَى أَساسِ المَعانِي الَّتِي يَنْسِبُونَها إِلَى تِلْكَ الأَشْياءِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ الإِنْسانَ يَتَصَرَّفُ إِزاءَ كُلِّ ما يُلاحِظُهُ فِي عالَمِهِ -بِما فِي ذٰلِكَ الأَشْياءُ المادِّيَّةُ وَالأَفْعالُ وَالمَفاهِيمُ – عَلَى أَساسِ فَهْمِهِ لَها وَما تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ مَعانِ وَدَلالاتٍ أَسْبَغها بِنَفْسِهِ عَلَيْها. وَالتَأْكِيدُ عَلَى الجانِبِ المَعْنَوِيِّ يَتَجَلَّى فِي رُؤْيَةِ بلومر، إِذْ يَضَعُ ثَلاثَةَ مُقْتَرَحاتٍ أَساسِيَّةً، هِيَ:
أَوَّلاً: لُزُومُ تَصَرُّفِ الناسِ تُجاهَ الأَشْياءِ، بِما فِي ذٰلِكَ بَعْضُهُمْ البَعْض، عَلَى أَساسِ المَعانِي الَّتِي لَدَيْهِمْ بِالنِسْبَةِ إِلَيْهِمْ.
ثانِياً: لُزُومُ اِشْتِقاقِ المَعانِي مِنْ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ مَعَ الآخَرِينَ وَالأَشْياءِ.
ثالثا: تَفْسِيرُ هٰذِهِ المَعانِي وَإِدارَتُها بِالطَرِيقَةِ الَّتِي تُمَكِّنُ الناسَ مِنْ فَهْمِ الأَشْياءِ الَّتِي تُشَكِّلُ عَوالِمَهُمْ الاِجْتِماعِيَّةَ وَالتَعامُلَ مَعَها. "فَالتّفاعل الاِجْتِماعِيُّ يُوَلِّدُ المَعانِيَ وَالمَعانِيَ تُشَكِّلُ مَعانِيَ أُخْرَى. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّنا نَخْلُقُ عالَماً نَخْلَعُ عَلَيْهِ المَعانِي: فَقِطْعَةُ الخَشَبِ هِيَ قِطْعَةُ خَشَبٍ، غَيْرَ أَنَّها فِي حَياتِنا اليَوْمِيَّةِ تُصْبِحُ مِنْضَدَةً. وَكَلِمَةُ مِنْضَدَةٍ تَعْنِي الدَّوْرَ الَّذِي تُمارِسُهُ قِطْعَةُ الخَشَبِ تِلْكَ فِي عَمَلِيَّةِ تفاعُلِنا: أَي ذٰلِكَ الشَيْء الَّذِي نَأْكُلُ عَلَيْهِ، أَوْ تِلْكَ الَّتِي نَعْمَلُ عَلَيْها، أَوْ الَّتِي نَحْمِي بِها أَنْفُسَنا ضِدَّ هَجَماتِ الشُرْطَةِ، وَهٰكَذا. وَكَما أَنَّ تِلْكَ المَعانِيَ تَتَغَيَّرُ وَتَتَطَوَّرُ، فَإِنَّ العالَمَ يَتَغَيَّرُ أَيْضاً مَعَها وَيَتَطَوَّرُ"(47).
4- يَرَى التّفاعليُّونَ أَنَّ مَعانِيَ الأَشْياءِ تُولَدُ فِي مُعْتَرَكِ التّفاعل الرَمْزِيِّ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَحْكُمُ عَلاقَتَهُ بِالآخَرِينَ وَالأَشْياءِ. وَيُضِيءُ بلومر (Blumer) عَلَى هٰذا التَصَوُّرِ بِأَنَّ الناسَ يَتَفاعَلُونَ مَعَ بَعْضِهِم بعضاً خِلالِ تَفْسِيرِ أَوْ تَعْرِيفِ تَصَرُّفاتِ بَعْضِهِمْ البَعْضِ عِوَضاً عَنْ مُجَرَّدِ الرَدِّ عَلَيْها. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ الرَدَّ التّفاعليَّ يَعْتَمِدُ عَلَى المَعْنَى الَّذِي يُعَلِّقُهُ الأَفْرادُ عَلَى سُلُوكاتِ الآخَرِينَ، وَعَلَى هٰذا المِنْوالِ يَتِمُّ التّفاعل البَشَرِيُّ بواسطة اِسْتِخْدامِ الرُّمُوز وَالدَلالاتِ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ التَفْسِيرِ المَعْنَوِيِّ وَالتَحَقُّقِ مِنْ مَعْنَى الأَفْعالِ المُتَبادَلَةِ بَيْنَ الأَفْرادِ.
5- يُرَكِّزُونَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَفْكِيرِ فِي عَمَلِيَّةِ التّفاعل، فَالتَفْكِيرُ هُوَ أَداةُ بِناءِ المَعانِي وَتَشْكِيلِ الدَلالاتِ. وَيَرَوْنَ أَنَّ التَفْكِيرَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ مُحادَثَةٍ داخِلِيَّةٍ تَجْرِي فِي وِجْدانِ الفَرْدِ وَفِي عَقْلِهِ. وَقَدْ أَوْلَى ميد التَفْكِيرِ أَهَمِّيَّةً كُبْرَى، إِذْ يُحَدِّثُنا عَنْ الحِوارِ الدّاخِلِيِّ الَّذِي يُؤَدِّي غالِباً إِلَى التَّأخِيرِ فِي عَمَلِيَّةِ التَفْكِيرِ، وَذٰلِكَ عِنْدَما يُفَكِّرُ الأَفْرادُ فِيما سَيَفْعَلُونَهُ فِي مَعْرِضِ تَفاعُلِهِمْ مَعَ الآخَرِينَ. وَفِي عُمْقِ هٰذا الحِوارِ الداخِلِيِّ تَتِمُّ عَمَلِيَّةُ بِناءِ المَعانِي؛ وَمِن ثَمَّ تَعْدِيلُها وِفْقاً لِعَمَلِيَّةٍ تَفْسِيرِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ يَسْتَخْدِمُها الأَفْرادُ فِي التَّعامُلِ مَعَ الأَشْياءِ، وَفِي التّفاعل مَعَ الآخَرِينَ.
6- وَيُؤَكِّدُونَ فِي هٰذا السِّياقِ عَلَى أَنَّ الإِنْسانَ كائِنٌ مُفَكِّرٌ، وَيُؤَسِّسُونَ عَلَى ذٰلِكَ أَنَّهُ لا يَقْتَصِرُ فِي تَفاعُلِهِ على الآخَرِ، بَلْ يَتَعَدَّى هٰذا الأَمْرُ إِلَى تَفاعُلٍ يَتِمُّ فِي داخِلِ الفَرْدِ وَفِي أَعْماقِهِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّنا لَسْنا مُجَرَّدَ كائِناتٍ مُتَأَثِّرَةٍ بِمَنْ حَوْلَنا، وَلَسْنا مُجَرَّدَ نِتاجاتِ المُجْتَمَعِ. نَحْنُ، فِي جَوْهَرِنا، حَيَواناتٌ مُفَكِّرَةٌ، نَتَحَدَّثُ دائِماً مَعَ أَنْفُسِنا أَثْناءَ تَفاعُلِنا مَعَ الآخَرِينَ.
6- وَيَنْظُرُونَ إِلَى أَهَمِّيَّةِ النَشاطِ الاِجْتِماعِيِّ لِلأَفْرادِ بِوَصْفِهِمْ كائِناتٍ نَشِطَةً يُمارِسُونَ الفِعْلَ وَالتَأْثِيرَ فِي بِيئَتِهِمْ، مِثْلَ: التَكَيُّفِ وَالتَكْيِيفِ وَالاِسْتِجابَةِ وَالتَحَكُّمِ وَالتَشْكِيلِ وَالبِناءِ وَالفَهْمِ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ التّفاعليَّةَ تُرَكِّزُ عَلَى وُجُودِ الفَرْدِ الفاعِلِ النَشِطِ فِي بِيئَتِهِ وَالقادِرِ عَلَى المُشارَكَةِ فِي بِناءِ الحَياةِ وَالمُجْتَمَعِ عَبْرَ سِلْسِلَةٍ لامُتَناهِيَةٍ مِنْ أَشْكالِ الفِعْلِ وَالتّفاعل فِي البِيئَةِ وَمَعَ الآخَرِينَ.
7- تُلِحُّ التّفاعليَّةُ عَلَى الطابَعِ الاِجْتِماعِيِّ لِلفَرْدِ، وَتَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الفَرْدِ أَنْ يُدْرِكَ نَفْسَهُ بِوَصْفِهِ كائِناً اِجْتِماعِيّاً يُشارِكُ الجَماعَةَ فِي أَفْكارِهِ وَمُتَطَلَّباتِ وُجُودِهِ. وَهُوَ الأَمْرُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى اِنْخِراطِ الفَرْدِ المُسْتَمِرِّ فِي عَمَلِيَّةِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى قِيامِ المُجْتَمَعِ وَاِنْطِلاقِ الحَياةِ فِيهِ. وَفِي هٰذا المَقامِ تُرَكِّزُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ عَلَى الأَنْشِطَةِ الَّتِي تَحْدُثُ بَيْنَ الجِهاتِ الفاعِلَةِ. وَتَأْخُذُ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ أَنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ يُشَكِّلُ جَوْهَرَ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. فَالأَفْرادُ يَتَشَكَّلُونَ وَتَتَشَكَّلُ هُوِيّاتُهُمْ فِي مُعْتَرَكِ التّفاعل، وَهُوَ أَيْضاً الأَداةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَشْكِيلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَهٰذا يَعْنِي، وِفْقاً لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ، أَنَّ أَسْرارَ المُجْتَمَعِ كامِنَةٌ فِي تَفاعُلاتِهِ المُسْتَمِرَّةِ القائِمَةِ فِي مُسْتَوَى الأَفْرادِ وَالجَماعاتِ.
8- وَأَخِيراً يَنْظُرُ رُوّادَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ إِلَى المُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ نِظاماً مِن الأَفْرادِ وَالدَّلالاتِ وَالرُّمُوز وَالمَعانِي وَالإِشاراتِ وَالإِيماءاتِ الَّتِي تُشَكِّلُ مَجْمُوعُ تَفاعُلاتِها بِنِيَّةَ المُجْتَمَعِ وَنَسِيجَهِ الحَيَوِيَّ. وَعَلَى هٰذا النَحْوِ، فَإِنَّ الحَقائِقَ الاِجْتِماعِيَّةَ وَالمادِّيَّةَ تُشَكِّلُ نَسَقاً مُنَظَّماً مُتَكامِلاً مِنْ المَعانِي وَالدَلالاتِ الَّتِي تَأْتِي كَنَتِيجَةٍ طَبِيعِيَّةٍ لِلمُمارَسَةِ الرَمْزِيَّةِ لِلأَفْرادِ، أَيْ أَنَّها نِتاجُ فَعّالِيَّةِ الأَفْرادِ وَالجَماعاتِ فِي مَساقاتِ تَفاعُلِهِمْ الرَمْزِيِّ. وَيَنْبَنِي عَلَى ذٰلِكَ أَنَّ تَفْسِيرَ الحَقائِقِ وَالأَشْياءِ، وَمِنْ ثَمَّ تَزْكِيَتُها بِالمَعانِي وُصُولاً إِلَى فَهْمِها وَاِكْتَناهِ مَعْناها، يَتِمُّ وِفْقَ تَوافُقٍ جَماعِيٍّ يَقَعُ بَيْنَ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ. وَهِيَ تُشَكِّلُ فِي الوَقْتِ ذاتِهِ العَلاقاتِ وَالرَوابِطَ الحَيَوِيَّةَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى وِحْدَةِ الأَفْرادِ وَتَكامُلِ أَفْكارِهِمْ وَذَواتِهِمْ. وَعَلَى هٰذا النَحْوِ تَتَشَكَّلُ مُعْتَقَداتُ الأَفْرادِ الذاتِيَّةُ، وَتَتَكَوَّنُ ذَواتُهُمْ الاِجْتِماعِيَّةُ فِي خِضَمِّ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ الرَمْزِيِّ.
7- المَنْهَجُ فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ:
وَقَعَت الإِشارَةُ سابِقاً إِلَى أَنَّ التّفاعليِّينَ يَرْفُضُونَ المَناهِجَ الوَضْعِيَّةَ الكَمِّيَّةَ، وَيُجافُونَ المَنْهَجِيّاتِ العِلْمِيَّةَ الَّتِي تَعْتَمِدُها البِنائِيَّةُ وَالوَظِيفِيَّةُ، وَيَأْخُذُونَ فِي أَعْمالِهِم بِالمَناهِجِ السيكولوجِيَّةِ وَالتَأْوِيلِيَّةِ، وَلا سِيَّما فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو. وَمِن السِّماتِ المُمَيَّزَةِ لِتَيّارِ التّفاعل الرَّمْزِيِّ اِعْتِمادُهُم الكَبِيرُ لِلرَصْدِ العَيانِيِّ المُباشِرِ كَمَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ فِي تَقَصِّي الحَقائِقِ وَالبَياناتِ. وَتُبَيَّنَ أَعْمالُهُم أَنَّهُم يَعْتَمِدُونَ فِي مُعْظَمِ الأَحْيانِ عَلَى تَسْجِيلِ المُلاحَظاتِ وَالمُشاهَداتِ الحَيَّةِ وَإِجْراءِ المُقابَلاتِ مَعَ المَوْضُوعاتِ، وَلا يُسَجِّلُونَ كَلِماتِهِمْ بِدِقَّةٍ مُتَناهِيَةٍ فَحَسْبُ، بَلْ يُسَجِّلُونَ أَيْضاً أَنْواعاً أُخْرَى مِنْ الاِسْتِجاباتِ، مِثْلَ لُغَةِ الجَسَدِ وَنَبْرَةِ الصَوْتِ. بِالمَعْنَى الأَوْسَعِ، يُمْكِنُ وَصْفُ مَنْهَجِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ بِأَنَّها أَكْثَرُ اِهْتِماماً بِالنَتائِجِ العَمَلِيَّةِ مِنْها بِالنَظَرِيَّةِ.
وَمِن الواضِحِ أَنَّ مَنْهَجِيَّةَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةَ تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ الفَرْدِ بِوَصْفِهِ القُوَّةَ الفاعِلَةَ فِي الوَسَطِ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ وَيَعِيشُ فِيهِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَّمْزِيَّةَ تَبْحَثُ فِي تَجارِبِ الأَفْرادِ الذّاتِيَّةِ، وَتَسْعَى فِي الوَقْتِ ذاتِهِ إِلَى فَهْمِ الدَلالاتِ الرَمْزِيَّةِ لِأَفْعالِهِم داخِلَ السِّياقِ الاِجْتِماعِيِّ، وَعَلَى هٰذِهِ الصُورَةِ تَتَخَطَّى المُقارَبَةَ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ المَنْهَجِيَّةَ الدوركايمِيَّةَ القائِمَةَ عَلَى التَّفْسِيرِ العِلْمِيِّ وَالوَضْعِيِّ، وَتَرْجِيحَ كَفَّةِ المُجْتَمَعِ عَلَى كَفَّةِ الذّاتِ أَوْ الفاعِلِ.
وَيُؤَكِّدُ آلان كولون (Alain Goulon) هٰذا التَوَجُّهُ التّفاعليُّ فِي كِتابِهِ (مَدْرَسَةُ شيكاغو) بِقَوْلِهِ: "يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ بِالحُسْبانِ أَنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ المُتَبادَلَ، وَلِلمَرَّةِ الأُولَى فِي تارِيخِ عِلْمِ الاِجْتِماعِ، يَمْنَحُ دَوْراً نَظَرِيّاً لِلفاعِلِ الاِجْتِماعِيِّ كَمُمَثِّلٍ لِلعالَمِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ"(48). وَمِن البَداهَةِ حَسَبَ كولون أَنَّ مَنْهَجِيّاتِ البَحْثِ فِي التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ تُعْطِي أَوْلَوِيَّةً لِوجْهاتِ نَظَرِ الفاعِلِينَ، وَأَنَّ الهَدَفَ مِن اِسْتِخْدامِ هٰذِهِ الطَرائِقِ هُوَ تَوْضِيحُ المَعانِي الَّتِي يَسْتَخْدِمُها الفاعِلُونَ أَنْفُسَهُم لِبِناءِ عالَمِهِم الاِجْتِماعِيِّ (49). وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ " يَنْبَغِي لِكُلِّ بَحْثٍ فِي العُلُومِ الاِجْتِماعِيَّةِ الحِرْصُ عَلَى عَدَمِ تَشْوِيهِ العالَمِ الاِجْتِماعِيِّ، أَوْ إِخْفاءِ الفاعِلِيّاتِ المُتَبادَلَةِ الَّتِي تَرْتَكَزُ عَلَيْها كُلُّ حَياةٍ اِجْتِماعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الأَفْرادَ بِبَساطَةٍ هُم المَعْنِيُّونَ بِبِناءِ عالَمِهِم الاِجْتِماعِيِّ مِن خِلالِ المَعانِي الَّتِي يُضْفُونَها عَلَى الأَشْياءِ وَالأَفْرادِ وَالرُّمُوز الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ"(50)..
وَيَعْتَمِدُ التّفاعليُّونَ الرَّمْزِيُّونَ مَنْهَجِيّاتِ البَحْثِ النَوْعِيِّ الَّتِي تَتَّخِذُ طابَعاً نَوْعِيّاً فِي أَنْساقٍ مِن المُقابَلاتِ وَالمُلاحَظاتِ وَتَحْلِيلِ النُّصُوصِ وَالسِّياقاتِ وَالإِيماءاتِ وَمُلاحَظَةِ المُشارِكِينَ، وَتُعْتَمدُ مُخْتَلِفُ هٰذِهِ الطَرائِقِ النَوْعِيَّةِ فِي دِراسَةِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ فِي مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِهِ وَتَعَيُّناتِهِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَهِيَ المَنْهَجِيّاتُ الَّتِي تُمَكِّنُهُم مِن اِسْتِكْشافِ الرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَّلالاتِ الكامِنَةِ فِي مُعْتَرَكِ التّفاعل الرَمْزِيِّ بَيْنَ الأَفْرادِ.
وَيُؤَكِّدُ التّفاعليُّونَ، فِي هٰذا السِّياقِ، أَنَّ الاِتِّصالَ الوَثِيقَ مَعَ الأَفْرادِ وَالاِنْغِماسَ فِي أَنْشِطَتِهِمْ اليَوْمِيَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِفَهْمِ مَعْنَى الأَفْعالِ وَدَلالاتِها، وَمِنْ ثَمَّ تَحْدِيدُ المَواقِفِ وَالعَمَلِيَّةِ الَّتِي يَبْنِي بِها الفاعِلُونَ المَوْقِفَ مِنْ خِلالِ تَفاعُلِهِمْ. وَعَلَى هٰذِهِ الطَرِيقَةِ، وَوِفْقَ هٰذِهِ المَنْهَجِيَّةِ التَشارُكِيَّةِ تُجْرَى الدِراساتُ التّفاعليَّةُ، وهذا يَعْنِي أَنَّ مَنْهَجِيَّةَ التّفاعل الرَّمْزِيِّ تُرَكِّزُ عَلَى التّفاعل البَشَرِيِّ العَيانِيِّ فِي مَواقِفَ تَفاعُلِيَّةٍ رَمْزِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ فِي سِياقٍ اِجْتِماعِيٍّ. وَغالِباً ما أُجْرِيَت البُحُوثُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ تَأْسِيساً عَلَى مَنْهَجِ المُلاحَظَةِ بِالمُشارَكَةِ، إِذْ يَتَطَلَّبُ الأَمْرُ مِن الباحِثِ أَنْ يَعِيشَ فِي الوَسَطِ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَدَرِسُهُ مِثْلَ المَدارِسِ وَالمُسْتَشْفَياتِ وَالأَسْواقِ وَالمَقاهِي وَالسُّجُونِ(51). وَهٰذا هُوَ المَنْهَجُ الَّذِي اِعْتَمَدَهُ إيرفينغ غوفمان فِي مُخْتَلِفِ أَبْحاثِهِ الدِرامِيَّةِ.
وَتَجْدُرُ الإِشارَةُ فِي هٰذا السِياقِ إِلَى وِلادَةِ اِتِّجاهٍ جَدِيدٍ داخِلَ التَيّارِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ يَدْعُو إِلَى اِسْتِخْدامِ المَناهِجِ الكَمِّيَّةِ وَالإِحْصائِيَّةِ، وَهٰذا ما سَنَراهُ لاحِقاً فِي دِراسَتِنا لِمَدْرَسَتَيْ أَيُوا وَأَينْدِيانا، إِذْ نَجِدُ تَوَجُّهاً جَدِيداً لِتَوْظِيفِ المَناهِجِ الكَمِّيَّةِ وَالإِحْصائِيَّةِ فِي مَجالِ الأَبْحاثِ التّفاعليَّةِ. وَقَدْ ظَهَرَ جِيلٌ جَدِيدٌ مِنْ الباحِثِينَ، بَعْدَ الأَرْبَعِينِيّاتِ مِن القَرْنِ الماضِي، اِهْتَمُّوا بِدِراسَةِ المُؤَسَّساتِ وَالأَوْساطِ المِهْنِيَّةِ وَالحِرْفِيَّةِ، وَقَدْ اِسْتَخْدَمُوا مَناهِجَ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً، تارِيخِيَّةً وَبيوغرافِيَّةً، وَمَناهِجَ التَحْقِيقِ وَالمُعايَشَةِ المُشْتَرَكَةَ المُسْتَعْمَلَةَ فِي الأَبْحاثِ الأنتربولوجِيَّةِ وَالإثنولوجِيَّةِ. وَقَدْ اِنْصَبَّ اِهْتِمامُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ عَلَى مَعانِي الأَفْعالِ لَدَى الأَفْرادِ داخِلَ الوَضْعِيّاتِ المُجْتَمَعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُونَها. وَمِن أَهَمِّ أَنْصارِ هٰذِا التَوَجُّهِ الجَدِيدِ يُشارُ إِلَى إرفينغ كوفمان (. Erving Goffman)، وَهَوارِدِ بيكر (Howard Becker)، وَأنسيلم شتروس (Anselm Strauss)، وَفريدسون (Freidson)، وَإفريت هاوث (Everett Hughes)، وَجورج ميد (George Mead).
8- مَدارِسُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةُ:
شَهِدَت التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ نَوْعاً مِن التَطَوُّرِ المُسْتَمِرِّ مُنْذُ اللَحْظَةِ الَّتِي نُشِرَ فِيها كِتابُ جورج ميد فِي عامِ 1937. وَاِشْتَمَلَ هٰذا التَطَوُّرُ عَلَى بَعْضِ التَنْوِيعاتِ النَظَرِيَّةِ فِي داخِلِ هٰذا التَيّارِ، وَيُمَيِّزُ الباحِثُونَ بَيْنَ عِدَّةِ مَدارِسَ أَساسِيَّةٍ هِيَ: مَدْرَسَةُ شيكاغو (Chicago School) وَيُمَثِّلُها هرْبَرت بلومر (Herbert Blumer) (1900-1986)، وَمَدْرَسَةُ أَيْوا (Iowa School) وَيُمَثِّلُها مانفورد كون (Manford Kuhn) (1911- 1963)، وَمَدْرَسَةُ إِنْدْيانا (Indiana School) وَيُمَثِّلُها شيلدون سترايكر (Sheldon Stryker) (1924-2016) وَمَدْرَسَةُ التَمْثِيلِ المَسْرَحِيِّ وَيُمَثِّلُها إرفنج كوفمان (Erving Goffman) ((1922-1982 ). وَسَنَقُومُ بِعَرْضِ المَلامِحِ الأَساسِيَّةِ لِهٰذِهِ المَدارِسِ، ثُمَّ نَعْمَلُ عَلَى تَقْدِيمِ رُؤْيَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ لِأَفْكارِ رُوّادِها مِثْلَ بلومر وَمِيد وَكوفمان وَكون وَسترايكر.
8-1- مَدْرَسَةُ شيكاغو بلومر لِلتَفاعُلِ الرَمْزِيِّ
تَشَكَّلَت مَدْرَسَةُ شيكاغو لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ فِي أَحْضانِ جامِعَةِ شيكاغو فِي نِهايَةِ القَرْنِ التاسِعَ عَشَرَ وَبِدايَةِ القَرْنِ العِشْرِينَ، وَيُعَدُّ كُلٌّ مِنْ هيربرت بْلومر (Herbert Blumer) وِيلْيام توماس (William I. Thomas) وَروبرت بارك (Robert E. Park) مِنْ أَبْرَزِ مُمَثِّلِي هٰذِهِ المَدْرَسَةِ. وَيَعَدُّ بلومر زَعِيمَ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ وَمُؤَسِّسَها، وَهُوَ كَما أَسْلَفْنا أَوَّلَ مَنْ اِسْتَخْدَمَ مَفْهُومَ "التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ" وَأَصّلَهُ مَنْهَجِيّاً، وَقَدْ أَخَذَ بلومر عَلَى عاتِقِهِ تَطْوِيرَ رُؤَى أُسْتاذِهِ جورج هِرْبَرت مَيد وتصوُّراتِه.
يُرَكِّزُ رُوّادُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الرَّمْزِ وَالتّفاعل الرَمْزِيِّ فِي تَشْكِيلِ الهُوِيَّةِ وَالمُجْتَمَعِ وَالإِنْسانِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ البَحْثَ فِي السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ يَجِبُ أَنْ يَنْطَلِقَ مِن البَحْثِ فِي الكَيْفِيّاتِ الَّتِي يَرْتَبِطُ بِها الأَفْرادُ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ عَبْرَ عَمَلِيّاتِ التَّواصُلِ وَالتّفاعل لِبِناءِ المُجْتَمَعِ وَتَشْكِيلِ الظَّواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ (52). وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ ضِمْنَ، هٰذا السِياقِ، أَنّ تشَكُّلَ المُجْتَمَع يَأْخُذُ عَمَلِيَّةً مُسْتَمِرَّةً مِن التّفاعل الرَمْزِيِّ بَيْنَ الأَفْرادِ وَالجَماعاتِ، وَيُؤَدِّي هٰذا التّفاعل ضِمْنَ مَساراتِهِ المُخْتَلِفَةِ إِلَى تَوْلِيدِ المَعانِي وَالدَلالاتِ الَّتِي تبلورُ العَناصِرَ الأَوَّلِيَّةَ لِلتَشَكُّلِ الاِجْتِماعِيِّ وَإِخْضاعِ المُجْتَمَعِ لِعَمَلِيَّةِ التَغَيُّرِ الدائِمِ. وَهُمْ، إِذْ يُرَكِّزُونَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَغَيُّرِ وِفْقَ دِينامِيّاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَرَمْزِيَّةٍ، يَرَوْنَ أَنَّ الرُّمُوز المُتَبادَلَةَ بَيْنَ أَفْرادِ الجَماعَةِ الواحِدَةِ فِي سِياقٍ تَفاعُلِيٍّ تَتَبَدَّلُ مَعانِيها وَدَلالاتُها، ثُمَّ تَتَغَيَّرُ وَتَتَغايَرُ فِي سِياقِ التّفاعل القائِمِ بَيْنَ أَفْرادِ الجَماعَةِ، فَالتّفاعلُ بَيْنَ أَفْرادِ الجَماعَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَغْيِيرٍ فِي دَلالاتِ الرُّمُوز، وَقَدْ يَأْخُذُ الرَّمْزُ الواحِدُ مَعانِيَ مُخْتَلِفَةً فِي سِياقِ التّفاعل حَتَّى فِي اللَحْظَةِ الواحِدَةِ نَفْسِها (53).
وَلِأَنَّ عَمَلِيَّةَ بِناءِ المَعانِي تَتَشَكَّلُ فِي قَلْبِ التّفاعل بَيْنَ الأَفْرادِ عَلَى نَحْوٍ رَمْزِيٍّ، فَإِنَّ المَعْنَى الواحِدَ قَدْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَغَيَّرُ وَيَأْخُذُ دَلالاتٍ جَدِيدَةً أَيْضاً بِالنِسْبَةِ إِلَى الفَرْدِ نَفْسِهِ فِي سِياقِ التّفاعل الرَمْزِيِّ. وَعَلَى هٰذا النَحْوِ تَبْدُو الحَياةُ في صُورَةٍ اِنْسِيابِيَّةٍ مُتَدَفِّقَةٍ بِالمَعانِي وَالدَلالاتِ السّائِلَةِ الَّتِي لا تَتَوَقَّفُ عَنْ مَسِيرَةِ التَغْيِيرِ وَالتَغَيُّرِ وَالتَبَدُّلِ، وَعَلَى هٰذِهِ الصُورَةِ أيضا يَبْدُو هٰذا التَغَيُّرُ مُتَوافِقاً مع مَقُولَةِ هيرقليطِس فِي التَغَيُّرِ الدّائِمِ: "لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَحِمَّ فِي ماءِ النَهْرِ الواحِدِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ مِياهاً جَدِيدَةً تَجْرِي مِنْ حَوْلِكَ أَبَداً (54).
فَالأَفْرادُ الَّذِينَ يَتَفاعَلُونَ يُنْتِجُونَ الرُّمُوز، ثُمَّ يُحَمِّلُونَها المَعانِيَ الَّتِي تَتَغَيَّرُ ضِمْنَ دَوْرَةِ تَغَيُّرٍ لا تَتَوَقَّفُ، وَهُمْ فِي سِياقِ عَمَلِيَّةِ الإِنْتاجِ لِلمَعْنَى يُغَيِّرُونَ سُلُوكَهُمْ، وَيَتَغَيَّرُونَ وِفْقَ المَواقِفِ المُتَغَيِّرَةِ فِي حَرَكَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ مِنْ عَمَلِيَّةِ إِنْتاجِ الرَمْزِ وَالتَغْيِيرِ فِي المَعانِي. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّهُ لا تُوجَدُ طَرِيقَةٌ واحِدَةٌ يُمْكِنُ مِنْ خِلالِها التَنَبُّؤُ بِالكَيْفِيّاتِ الَّتِي سَيَسْتَجِيبُ بِها الأَفْرادُ ضِمْنَ وَضْعِيّاتٍ سِياقِيَّةٍ حَياتِيَّةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَفاعُلٍ يَقُومُ بِهِ الفَرْدُ مَعَ الآخَرِ أَوْ مَعَ وَضْعِيَّةٍ اِجْتِماعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَأْخُذُ طابعاً رَمْزِيّاً دِلالِيّاً مُخْتَلِفاً. وَهٰذا هُوَ السَبَبُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ ـ Blumer فِي تَأْكِيدِهِ عَلَى تَغايُرِيَّةِ السُّلُوكِ وَعَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى التَنَبُّؤِ بِهِ لِما يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ فَرادَةٍ وَتَفَرُّدٍ تَحْكُمُهُما الظُّرُوفُ وَالسِّياقاتُ الاِجْتِماعِيَّةُ المُتَغَيِّرَةُ أَبَداً(55).
8-2- مَدْرَسَةُ أَيندْيانا (Indiana School):
تُعَدُّ مَدْرَسَةُ "أيندْيانا " لِلتَّفاعُلِ الرَّمْزِيِّ إِحْدَى أَهَمِّ المَدارِسِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، وَيُعَدُّ شيلدون سترايكر ((Sheldon Stryker (1924-2016) مِن أَبْرَزِ رُوّادِ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ وَأَكْثَرِهم شُهْرَةً. وَيُعْرَفُ أَصْحابُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ بِتَرْكِيزِهِم عَلَى مَفْهُومِ التّفاعل البِنائِيِّ وَالبُحُوثِ الاِسْتِقْصائِيَّةِ وَالمَناهِجِ التَّجْرِيبِيَّةِ (عَلَى خِلافِ مَدْرَسَةِ شيكاغو الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى الإثنوغرافْيا وَالمُقابَلاتِ النَّوْعِيَّةِ المُتَعَمِّقَةِ)، وَيَعْتَقِدُ أَصْحابُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ أَنَّ المَنْهَجِيَّةَ الوَصْفِيَّةَ الإثنوغرافِيَّةَ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِن دِراسَةِ البِنْيَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالظَواهِرِ الكُبْرَى فِي المُجْتَمَعِ، وَهُوَ يُعارِضُ الفِكْرَةَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ النَظَرِيّاتِ التّفاعليَّةَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ مَعَ مَنْهَجِيَّةِ الأَسالِيبِ الكَمِّيَّةِ وَالتَجْرِيبِيَّةِ.
فِي كِتابِهِ - المَوْسُومِ بِـــــ"التّفاعل الرَمْزِيِّ: نُسْخَةٌ بِنْيَوِيَّةٌ اِجْتِماعِيَّةٌ" (Interactionism: A Social Structural Version) المَنْشُورُ عامَ 1980 - يُوَجِّهُ سْتْرايْكْر نَقْدَهُ لِكلاسِيكِيّاتِ التّفاعل الرَمْزِيِّ فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو، وَيَبْحَثُ فِي مَزايا وَمَثالِبِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ، وَيُحاوِلُ أَنْ يَرْصُدَ حَرَكَتَها المُسْتَقْبَلِيَّةَ. وَهُوَ يُقَدِّمُ فِي كِتابِهِ هٰذا تَصَوُّراً جَدِيداً لِلنَّظَرِيَّةِ التّفاعليَّةِ تَقُومُ عَلَى تَأْكِيدِ الطّابَعِ البِنْيَوِيِّ التَجْرِيبِيِّ فِي هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ، وَيَتَناوَلُ وِفْقَ هٰذا المَنْهَجِ دِينامِيّاتِ تَشَكُّلِ الهُوِيَّةَ مِن خِلالِ الدَّوْرِ وَالمَوْقِفِ، وَيَبْحَثُ فِي مَظاهِرِ التَغَيُّراتِ الَّتِي تُرافِقُ عَمَلِيَّةَ بِناءِ الهُوِيَّةِ وفْقاً لِرُؤْيَتِهِ البِنْيَوِيَّةِ التَجْرِيبِيَّةِ. وَقَدْ وَجَدَ كِتابُهُ هٰذا - بِما يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِن رُؤىً نَقْدِيَّةٍ وَتَصَوُّراتٍ جَدِيدَةٍ لِتَطْوِيرِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ - صَدىً كَبِيراً فِي الأَوْساطِ العِلْمِيَّةِ إِلَى الحَدِّ الَّذِي أَبْدَى فِيهِ عالَمُ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيُّ جوناثان إِتْش تيرنر- الأُسْتاذُ فِي جامِعَةِ كاليفورنيا- إِعْجابَهُ بِالمُعْطَياتِ الجَدِيدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَها كِتابُ سترايْكر المُشارُ إِلَيْهِ آنِفاً. وَهُوَ الكِتّابُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ ما يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى بِـ "نَظَرِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ البِنْيَوِيِّ". وَيُلاحِظَ فِي هٰذا المَسارِ أَنَّ سترايْكر يُرَكِّزُ عَلَى نَظَرِيَّةِ جورج هَرْبَرت مَيد حَوْلَ اِكْتِسابِ الدَوْرِ وَالهُوِيَّةِ مِن خِلالِ التّفاعل الرَمْزِيِّ الَّذِي يَبْدَأُ مُنْذُ مَرْحَلَةِ الطُفُولَةِ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَدَى مَراحِلِ الحَياةِ المُتَعاقِبَةِ، وَذٰلِكَ لِأَنَّ الدَّوْرَ الاِجْتِماعِيَّ يُشَكِّلُ نَسَقاً مُتَواصِلاً مِن المُمارَساتِ وَالسُّلُوكِيّاتِ الَّتِي يَتَّخِذُها الفَرْدُ خِلالَ حَياتِهِ، وَيَتِمُّ تَنْظِيمُ هٰذِهِ المُمارَساتِ وَالسُّلُوكِيّاتِ مِن خِلالِ المَواقِفِ الاِجْتِماعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى فِيها الفَرْدُ سِلْسِلَةً لا تَنْتَهِي مِنْ الأَدْوارِ المَطْلُوبَةِ لِلتَفاعُلِ وَالتَكَيُّفِ فِي داخِلِ المُجْتَمَعِ.
8-3- مدرسة آيوا للتّفاعل الرّمزي (Iowa School):
يَتَصَدَّرُ السوسيولوجِيُّ الأَمْرِيكِيُّ مانفورد كون (Manford Kuhn) (1911- 1963) مَدْرَسَةَ أَيْوا (Iowa School) لِلتَّفاعُلِ الرَمْزِيِّ، وَتَتَمَيَّزُ هٰذِهِ المَدْرَسَةُ بِالتَرْكِيزِ عَلَى المَناهِجِ المَنْطِقِيَّةِ وَالتَجْرِيبِيَّةِ لِقِياسِ السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ التّفاعليِّ، وَيَأْخُذُ أَنْصارُها عَلَى نَظَرِيَّةِ شيكاغو وَزَعِيمِها بلومر بِأَنَّهُم يُرَكِّزُونَ عَلَى الجَوانِبِ اللُغَوِيَّةِ اللَفْظِيَّةِ فِي السُلُوكِ الرَمْزِيِّ، وَيَهْمِلُونَ الجَوانِبِ المَيْدانِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى القِياسِ وَالتَنَبُّؤِ فِي مَجالِ فَهْمِ السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ. وَيُوَلي "كون" أَهَمِّيَّةً بالِغَةً لِلبِنِيةِ الاِجْتِماعِيَّةِ لِلظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَأْخُذُ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ تَأْثِيرَها فِي السُّلُوكِ الفَرْدِيِّ، كَما يُرَكِّزُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الأَحْداثِ السّابِقَةِ فِي تَشْكِيلِ السُّلُوكِ الرّاهِنِ لِلفَرْدِ وَالتَنَبُّؤِ بِمَساراتِهِ السُّلُوكِيَّةِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ المُتَوَقَّعَةِ، وَيُشَدِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ دِراسَةِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ بِمَنْهَجِيَّةٍ تُؤَكِّدُ عَلَى التَّرابُطِ التّفاعليِّ بَيْنَ نِيَّةِ الفَرْدِ وَالشُعُورِ بِتَعاقُبِ الزَمَنِ وَالطُرُقِ الَّتِي يُصَحِّحُونَ بِها أَنْظِمَةَ المَعانِي الخاصَّةِ بِهِمْ.
رَكَّزَ "كون" عَلَى أَهَمِّيَّةِ دِراسَةِ المَجْمُوعاتِ الصَغِيرَةِ الَّتِي تَضُمُّ، عَلَى سَبِيلِ المِثالِ، شَخْصَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، وَأَكَّدَ إِمْكانِيَّةَ دِراسَةِ السُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ فِي المَجالِ الواقِعِيِّ بِصِفَةٍ عامَّةٍ، أَوْ بِصِفَةٍ خاصَّةٍ فِي المُخْتَبَراتِ الَّتِي يُمْكِنُ أن تُجَهّزُ تَجْرِيبِيّاً، وَوَجَدَ أَنَّ المَزْجَ بَيْنَ الاِتِّجاهَيْنِ وَتَنْوِيعَ المَنْهَجِيّاتِ يُساعِدان عَلَى الوُصُولِ إِلَى القَوانِينِ المُجَرَّدَةِ لِلسُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَنْطَبِقَ عَلَى الأَشْخاصِ فِي المُؤَسَّساتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَلا سِيَّما المُؤَسَّساتِ التَعْلِيمِيَّةَ كَما هُوَ الحالُ فِي رَدَهاتِ الجامِعاتِ.
وَاِسْتَطاعَ "كون" أَنْ يُعَبِّرَ عَن تَوَجُّهاتِهِ التَجْرِيبِيَّةِ فِي بَحْثِهِ المَشْهُورِ "الحالاتُ العِشْرُونَ" (Twenty Statements)، وَهِيَ المَنْهَجِيَّةُ الَّتِي يُبَيِّنُ فِيها اِعْتِراضُهُ عَلَى مَنْهَجِيَّةِ بلومر الَّذِي يَرْفُضُ الاِخْتِباراتِ التَجْرِيبِيَّةَ وَالضَبْطَ التَجْرِيبِيَّ فِي مَجالِ التّفاعل. فَفِي هٰذِ التَجْرِبَةِ (الحالاتُ العِشْرُونَ) طَلَبَ كون مِن المُشارِكِينَ الإِجابَةَ عَلَى سُؤالِ وَحِيد هُوَ: "مَنْ أَنا؟" وَطَلَبَ مِن أَفْرادِ العَيِّناتِ تَقْدِيمَ إِجابَةٍ عَلَى عِشْرِينَ بَنْداً يَتَحَدَّثُونَ فِيها عَن أَنْفُسِهِم فِي 20 سَطْراً مُرَقَّماً. وَمِن ثَمَّ قامَ " كون" بِتَرْمِيزِ هٰذِهِ الاِسْتِجاباتِ إِحْصائِيّاً، وَبِصُورَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ بِقَصْدِ التَعَرُّفِ عَلَى الكَيْفِيّاتِ الَّتِي يُفَكِّرُ بها الأَفْرادُ فِي هُوِيَّتِهِم وَحالَتِهِم الاِجْتِماعِيَّةِ، وَفِيما بَعْدُ قامَ وَالباحِثُونَ المُساعِدُونَ بِتَحْلِيلِ الإِجاباتِ وَتَفْسِيرِها ضِمْنَ مَقْصِدِ الدِراسَةِ وَهُوَ التَعَرُّفُ عَلَى النَّمَطِ الفِكْرِيِّ المَعْنَوِيِّ الَّذِي يَحْكُمُ ذِهْنِيَّةَ أَفْرادِ العَيِّنَةِ. ثُمَّ قامَ بِتَحْوِيلِ الأَفْكارِ الحاصِلَةِ إِلَى مُتَغَيِّراتٍ قابِلَةٍ لِلقِياسِ مُفْتَرِضاً وُجُودَ ذَواتٍ مُسْتَقِرَّةٍ وَثابِتَةٍ نِسْبِيّاً.
وَقَدْ عَمِلَ كون عَلَى الرَبْطِ بَيْنَ نَتائِجِ الاِخْتِبارِ وَالأَوْضاعِ الاِجْتِماعِيَّةِ لِلمُسْتَجْوبِينَ، وَخَرَجَ بِنَتائِجَ دَقِيقَةٍ حَوْلَ قانُونِيّاتِ التَفْكِيرِ فِي الهُوِيَّةِ الذّاتِيَّةِ عِنْدَ الأَفْرادِ المَعْنِيِّينَ بِالاِخْتِبارِ. وَهُنا يَتَّضِحُ الفارِقُ الكَبِيرُ بَيْنَ مَنْهَجِيَّتَيْ "كون" وَ "مِيد"، إِذْ تَتَّضِحُ مَعالِمُ الضَّبْطِ التَجْرِيبِيِّ القانُونِيِّ فِي مَنْهَجِيَّةِ "كون"، بَيْنَما تَقِفُ مَنْهَجِيَّةُ "مِيد" عِنْدَ عَتَباتِ التَّفْسِيرِ المَحْضِ الَّذِي لا يَتَجاوَزُ حُدُودَ التَأَمُّلِ الذّاتِيِّ وَالتَفْسِيرِ الشَخْصِيِّ لِلباحِثِينَ (56). وَفِي هٰذا السِّياقِ يُعْلِنُ "كون" وَأَنْصارُ مَدْرَسَتِهِ "الآيَوِيَّة" عَن نَقْدِهِم الشَّدِيدِ لِمَنْهَجِيّاتِ مَدْرَسَةِ شيكاغو الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى ما يُسَمَّى بِالتَقْلِيدِ الشَفَهِيِّ Oral Tradition. وَاِعْتَرَضُوا عَلَى مَنْهَجِيَّةِ تَناوُلِ الظّاهِرَةِ التّفاعليَّةِ مِن خِلالِ سَرْدِ تَأَمُّلِي وَصْفِيٍّ يَدَّعِي القُدْرَةَ عَلَى فَهْمِ الظَواهِرِ التّفاعليَّةِ وَتَأْوِيلِها فِي نَسَقٍ مِنْ المَعانِي وَالدَّلالاتِ، وَرَفَضُوا كُلَّ صِيَغِ المُناظَراتِ الشَّكْلِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالمَعانِي وَالرُّمُوز الشِّفاهِيَّةِ التَأَمُّلِيَّةِ دُونَ العَمَلِ عَلَى تَرْجَمَتِها وَاِسْتِكْشافِ قانُونِيّاتِها فِي نَسَقٍ مِنْ البُحُوثِ العِلْمِيَّةِ الرَصِينَةِ الخَلّاقَةِ(57).
يُرَكِّزُ "كون" عَلَى دِراسَةِ مَفْهُومَيْ الذّاتِ وَالدَوْرِ ومع َاِخْتِبارِ العَلاقَةِ بَيْنَهُما عَن طَرِيقِ البَحْثِ التَجْرِيبِيِّ، وَيَرَى أَنَّ اِرْتِباطَ الدَّوْرِ بِالتّفاعل الرَمْزِيِّ يَتِمُّ فِي عمق البِنْيَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ بِوَصْفِها نَسَقاً مِن تَفاعُلِ الأَدْوارِ وَالمَراكِزِ المُتَكامِلَةِ وَظِيفِيّاً وَرَمْزِيّاً. وَيُؤَكِّدُ فِي السِّياقِ نَفْسِهِ أنَّ التّفاعل الرَّمْزِيَّ يُحْدِثُ تَغَيُّراتٍ عَمِيقَةً فِي البِنْيَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَرْسُمُ البِناءُ الاِجْتِماعِيُّ، بِدَوْرِهِ، حُدُودَ هٰذا التّفاعل، وَيُحَدِّدُ مَسارَهُ وَيُشَكِّلُ الإِطارَ العامَّ لِحَرَكَتِهِ وَنَشاطِهِ. وَيَبْحَثُ كون فِي التَكْوِيناتِ الأَساسِيَّةِ "لِلذاتِ"، وَفِي عَناصِرِها، وَيُمَيِّزُ فِي هٰذا المَسارِ بَيْنَ الأَنا الدّاخِلِيَّةِ وَالأَنا وَالخارِجِيَّةِ، وَيُرَكِّزُ فِي مَباحِثِهِ عَلَى الجَوانِبِ الخارِجِيَّةِ لِلذّاتِ، وَهِيَ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي "مَجْمُوعَةِ التَوَقُّعاتِ الَّتِي يَسْتَخْدِمُها الأَشْخاصُ، وَيُكوّنُونَها عَنْ ذَواتِهِمْ، وَتَكُونُ مُشْتَقَّةً أَيْضاً مِنْ سُلُوكِ أُولٰئِكَ الأَشْخاصِ الآخَرِينَ تُجاهَ الذّاتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَخْضَعَ هٰذِهِ التَوَقُّعاتُ لِلمُلاحَظَةِ"(58).
وَيَذْهَبُ كون إِلَى الاِعْتِقادِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ لِلباحِثِينَ التَنَبُّؤُ بِالسُّلُوكِ الاِجْتِماعِيِّ لِلأَفْرادِ وَالجَماعاتِ بِناءً عَلَى مُعْطَياتِ التّفاعل الرَّمْزِيِّ بَيْنَ الدَّوْرِ وَتَوَقُّعاتِهِ(59). وَيُوَظِّفُ مَفاهِيمَ مُتَعَدِّدَةً مِثْلَ: المَكانَةِ، وَالدَوْرِ، وَإِنْجازاتِ الدَّوْرِ، وَتَوَقُّعاتِ الدَّوْرِ، لِلكَشْفِ عَن المَضامِينِ الحَيَوِيَّةِ لِلهُوِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ. وَاِسْتَطاعَ أَنْ يُقَدِّمَ تَعْرِيفاتٍ إِجْرائِيَّةً واضِحَةً لِمُخْتَلِفِ المَفاهِيمِ الَّتِي اِسْتَخْدَمَها بِشَكْلٍ واضِحٍ، وَيُعَدُّ هٰذا الأَمْرُ خُرُوجاً واضِحاً عَلَى التَوَجُّهاتِ الأَساسِيَّةِ لِلنَظَرِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ التَقْلِيدِيَّةِ، إِذْ يَلْجَأُ إِلَى المَنْهَجِيّاتِ الوَضْعِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ القِياسَ وَالتَجْرِبَةَ وَالفَرْضِيّاتِ وَالاِخْتِباراتِ المَيْدانِيَّةَ لِلفُرُوضِ وَالمُنْطَلَقاتِ النَظَرِيَّةِ(60).
8-4- اِخْتِلافُ المَدارِسِ:
تَنْطَوِي التّفاعليَّةُ الرَّمْزِيَّةُ عَلَى تَناقُضاتٍ فِكْرِيَّةٍ وَاِخْتِلافاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ واضِحَةٍ، إِذا ما أَخَذْنا بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ التَنَوُّعَ المَدْرَسِيَّ داخِلَ هٰذا التَيّارِ الفِكْرِيِّ (61). وَقَدْ أَوْضَحْنا أَنَّ كُلَّ مَدْرَسَةٍ مِن مَدارِسِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ تُرَكِّزُ عَلَى تَوَجُّهٍ مُعَيَّنٍ، فَفِي الوَقْتِ الَّذِي رَكَّزَت فِيهِ مَدْرَسَةُ شيكاغو عَلَى التَأْوِيلِ وَصَيْرُورَةِ المَعانِي وَالدَّلالاتِ، رَكَّزَت مَدْرَسَةُ آيوا عَلَى أَهَمِّيَّةِ قِياسِ الأَفْكارِ وَالنَّظَرِ إِلَيْها بِوَصْفِها مُتَغَيِّراتٍ قابِلَةً لِلقِياسِ، مُفْتَرَضَةً أَنَّ الذّاتَ مُسْتَقِرَّةٌ وَثابِتَةٌ نِسْبِيّاً(62).
وَعَلَى هٰذا النَحْوِ يَتَجَلَّى الاِخْتِلافُ الجَوْهَرِيُّ فِي تَباعُدِ المَنْهَجِيّاتِ الفِكْرِيَّةِ بَيْنَ مَدْرَسَتَيْ آيوا وَشيكاغو مِنْ جِهَةٍ، وَنَظَرِيَّةِ جورج هَرْبَرَت مَيدُ المُؤَسِّسِ الفِعْلِيِّ لِهٰذا الاِتِّجاهِ، وَقَدْ وَصَلَ هٰذا الاِفْتِراقُ مَداهُ فِي مَدْرَسَةٍ آيوا عِنْدَما وَجَّهَ رُوّادُها، بِزَعامَةِ مينفورد كَوْن، نَقْداً شَدِيداً وَعَنِيفاً لِنَظَرِيَّةِ جورج ميد، مَفادُهُ أَنَّ مَفاهِيمَ مَيدِ وَتَصَوُّراتِهِ التّفاعليَّةَ مُسْتَلْهِمَةٌ مِن مَفْهُوماتِ عِلْمِ النَفْسِ الاِجْتِماعِيِّ، وَمِن مَحْضِ التَصَوُّراتِ السّيكولوجِيَّةِ القَدِيمَةِ الَّتِي فَقَدَتْ بَرِيقَها وَقُدْرَتَها عَلَى الصُّمُودِ فِي عالَمِ الفِكْرِ الاِجْتِماعِيِّ المُعاصِرِ، وَهِيَ لا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ تَصَوُّراتٍ وَرُؤًى قَدْ أَتَى عَلَيْها الزَمانُ، وَتَمَّ تَجاوُزُها مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، وَلَمْ تَعُدْ تُفِيدُ فِي دِراسَةِ الواقِعِ الحَياتِيِّ، وَقَدْ خَرَجَ مينفورد كون مُمَثِّلُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ عَن التَوَجُّهاتِ المَنْهَجِيَّةِ الكُبْرَى لِمَدْرَسَةِ مَيْدٍ بِاِسْتِخْدامِهِ المَقايِيسَ الكَمِّيَّةَ وَالدِّراساتِ التَّجْرِيبِيَّةَ المَيْدانِيَّةَ فِي مَجالِ التّفاعل الرَّمْزِيِّ، وَهُوَ خُرُوجٌ يَضَعُ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ الوَضْعِيَّةِ البِنْيَوِيَّةِ فِي مَناهِجِها التَّجْرِيبِيَّةِ، وَتُؤَكِّدُ هٰذِهِ المَدْرَسَةُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ تَرْجَمَةِ الأَفْكارِ وَالمَعانِي وَالدَلالاتِ إِلَى مُتَغَيِّراتٍ قابِلَةٍ لِلتَّجْرِيبِ وَالقِياسِ وَالاِفْتِراضِ وَالاِخْتِبارِ(63).
وَاِتِّساقاً مَعَ هٰذِهِ الرُؤْيَةِ، كَما بَيَّنّا أَعْلاهُ، فَإِنَّ مَدْرَسَةَ "أَيندْيانا " بِزَعامَةِ شيلدون سترايكر ((Sheldon Stryker قَدْ أَكَّدَت عَلَى مَفْهُومِ التّفاعل البِنْيَوِيِّ، وَمَكَّنَت لِنَفْسِها فِي مَجالِ البُحُوثِ الاِسْتِقْصائِيَّةِ وَالمَناهِجِ التَّجْرِيبِيَّةِ، وَذٰلِكَ عَلَى خِلافِ مَدْرَسَةِ شِيكاغوا الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى الإثنوغرافْيا وَالمُقابَلاتِ النَّوْعِيَّةِ المُتَعَمِّقَةِ. وَيَعْتَقِدُ أَنْصارُ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ أَنَّ المَنْهَجِيَّةَ الوَصْفِيَّةَ الإثنوغرافِيَّةَ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِن دِراسَةِ البِنْيَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالظَواهِرِ الكُبْرَى فِي المُجْتَمَعِ، وَهُوَ يُعَارضُ الفِكْرَةَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ النَظَرِيّاتِ التّفاعليَّةَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ مَعَ مَنْهَجِيَّةِ الأَسالِيبِ الكَمِّيَّةِ وَالتَجْرِيبِيَّةِ.
وَفِي هٰذا الاِتِّجاهِ مارَسَت مَدْرَسَةُ شيكاغو، بِزَعامَةِ بلومر، فَعالِيَتَها النَقْدِيَّةَ المُوَجَّهَةَ ضِدَّ نَظَرِيَّةِ جورج ميد، وَعَمِلَتْ عَلَى إِحْداثِ تَعْدِيلاتٍ جَوْهَرِيَّةٍ فِي بِنْيَتِها وَتَصَوُّراتِها. فَمَدْرَسَةُ شيكاغو تُرَكِّزُ عَلَى التّفاعل الاِنْسِيابِيِّ التَأْوِيلِيِّ، وَتُرَكِّزُ عَلَى الطَرائِقِ وَالكَيْفِيّاتِ الَّتِي تَأْخُذُها المَعانِي فِي مَساراتِ تَطَوُّرِها وَتَنامِيها وَتَغَيُّرِها. وَكِلاهُما – أَيْ المَدْرَسَتانِ – تَخْتَلِفُ عَنْ مَدْرَسَةِ جورج مَيد الَّذِي رَكَّزَ عَلَى وَصْفِ ما يَجْرِي فِي الواقِعِ وَالاِكْتِفاءِ بِمُلاحَظَتِهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ(64). وَقَدْ اِنْفَرَدَت مَدْرَسَةُ التَمْثِيلِ المَسْرَحِيِّ عِنْدَ كوفمان بِالتَأْكِيدِ عَلَى الطّابَعِ الرَّمْزِيِّ التَمْثِيلِيِّ لِلحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
وَبِاِخْتِصارٍ يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ تَعَدُّدَ المَدارِسِ فِي داخِلِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ يُشَكِّلُ بِذاتِهِ مُؤَشِّراً عَلَى وُجُودِ اِخْتِلافاتٍ جَوْهَرِيَّةٍ فِي قَلْبِ التَيّارِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ تَعْبِيراً عَنْ التَطَوُّراتِ الفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَشْهَدُها التَيّاراتُ الفِكْرِيَّةُ الكُبْرَى.
9- نَقْدُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ:
يُشَكِّلُ النَقْدُ المَعْرِفِيُّ مَنْهَجاً أَصِيلاً فِي البَحْثِ وَالاِسْتِكْشافِ السّوسيولوجِيِّ، كَما يُشَكِّلُ، فِي الوَقْتِ ذاتِهِ، طاقَةً مَعْرِفِيَّةً تَعْتَمِدُ فِي اِسْتِكْشافِ الجَوانِبِ الخَفِيَّةِ من الأَعْمالِ العِلْمِيَّةَ وَالمَعْرِفِيَّةَ. وَيَتَمَيَّزُ النَقْدُ السّوسيولوجِيُّ لِلأَعْمالِ المَعْرِفِيَّةِ بِأَهَمِّيَّةٍ كُبْرَى فِي تَوْجِيهِ هٰذِهِ الأَعْمالِ وَاِسْتِكْشافِ الأَصالَةِ العِلْمِيَّةِ لِلنَّظَرِيّاتِ وَالبُحُوثِ المَعْرِفِيَّةِ عَلَى اِخْتِلافِ تَوَجُّهاتِها وَمَساراتِها الفِكْرِيَّةِ وَالأيديولوجِيَّةِ، وَمِن البَداهَةِ القَوْلُ إِنَّ النَّقْدَ يُوَظَّفُ فِي تَفْنِيدِ مُعْطَياتِ النَظَرِيّاتِ وَتَحْدِيدِ مَكانَتِها وَقِياسِ أَوْجُهِ قُوَّتِها وَأَوْجُهِ ضَعْفِها وَقُصُورِها. وَمِمّا لا خِلافَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، أَنَّ النَّقْدَ المَوْضُوعِيَّ يَمْنَحُ النَّظَرِيّاتِ قِيمَتَها العِلْمِيَّةَ، وَيُوَجِّهُ مَساراتِها نَحْوَ أَفْضَلِ السُبُلِ المَعْرِفِيَّةِ، كَما يَمْنَحُها القُدْرَةَ عَلَى تَطْوِيرِ مَناهِجِها وَتَجاوُزِ الثَغَراتِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَتَخَلَّلُها، كَما يُمَكِّنُها مِن تَجاوُزِ أَوْجُهِ قُصُورِها وَضَعْفِها وَتَصْحِيحِ مَساراتِها الأيديولوجِيَّةِ لِتَكُونَ أَكْثَرَ أَصالَةً وَمَنَعَةً، وَأَكْثَرَ قُدْرَةً عَلَى مُمارَسَةِ دَوْرِها فِي الاِسْتِكْشافِ الإِبْداعِيِّ فِي مُخْتَلِفِ القَضايا المَعْرِفِيَّةِ الَّتِي تُباشِرُها.
وَفِي ظِلِّ هٰذا التَصَوُّرِ المَوْضُوعِيِّ لِأَهَمِّيَّةِ النَّقْدِ المَعْرِفِيِّ، اِسْتَحَقَّت التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ أَنْ تَكُونَ فِي مَرْكَزِ الاِهْتِماماتِ النَقْدِيَّةِ لِلباحِثِينَ وَالدّارِسِينَ وَالنُقّادِ الَّذِينَ كَرَّسُوا جُهُودَهُم فِي مَجالِ اِسْتِكْشافِ أَبْعادِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ وَضَبْطِ حُدُودِها، وَتَحْدِيدِ مَعالِمِ قُوَّتِها وَضَعْفِها ضِمْنَ نَسَقٍ مِن التَصَوُّراتِ النَقْدِيَّةِ الَّتِي اِسْتَطاعَت أَنْ تَكْشِفَ الغِطاءَ عَن تَضارِيسِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ – إِنْ صَحَّت التَسْمِيَةُ – وَأَنْ تَرْسُمَ لَها مَساراتٍ جَدِيدَةً تُمَكِّنُها مِن تَوْجِيهِ مَنْظُورِها الإِبْداعِيِّ فِي مَجالِ الإِنْتاجِ المَعْرِفِيِّ، وَتَجْعَلُها أَكْثَرَ قُدْرَةً عَلَى تَطْوِيرِ مَفاهِيمِها وَتَسْدِيدِ خُطاها نَحْوَ نَظَرِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ مُتَكامِلَةِ الأَرْكانِ سوسيولوجياً وَمَنْهَجِيّاً.
9-1- النَّقْدُ الداخِلِيُّ الذاتِيُّ:
مِنْ الواضِحِ البَيِّنِ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ شَهِدَتْ مَدّاً داخِلِيّاً مِنْ النَّقْدِ الذّاتِيِّ الدّاخِلِيِّ المُتَواتِرِ. وَلَوْ تَأَمَّلْنا أَيْضاً الحَرَكَةَ التارِيخِيَّةَ لِتَطَوُّرِ البِنائِيَّةِ، لَوَجَدْنا بِأَنَّ هٰذا التَطَوُّرَ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ الاِنْسِجامِ فِيما بَيْنَ رُوّادِها. وَقَدْ لاحَظْنا، فِي تَناوُلِنا لِلمَدارِسِ الثَلاثِ، وُجُود مُفارَقاتٍ كَبِيرَةٍ وَتَناقُضاتٍ واضِحَةٍ بَيْنَ هٰذِهِ المَدارِسِ.
وَتُبَيَّنُ الدِراساتُ فِي هٰذا السِّياقِ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَّمْزِيَّةَ قَدْ تَعَرَّضَت لِمَوْجَتَيْنِ مِنْ النَّقْدِ: الأُولَى: داخِلِيَّةُ (In House Criticisms)، وَالثّانِيَةُ: خارِجِيَّةٌ. وَقَدْ تَناوَلْنا فِي مَعْرِضِ حَدِيثِنا عَنْ مَدارِسِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ النَّقْدَ الَّذِي وَجَّهَهُ كُلٌّ مِنْ أَنْصارِ مَدْرَسَةِ "آيوا" وَمَدْرَسَةِ "أَيِندْيانا " إِلَى مَدْرَسَةِ شيكاغو، وَتَمحورِ هٰذا التَرْكِيزِ، كَما أَشَرْنا إِلَيْهِ سابِقاً، عَلَى الطابَعِ التَأَمُّلِيُّ التَأْوِيلِيَّ لِمَدْرَسَةِ شيكاغو الَّتِي رَفَضَت المَنْهَجِيّاتِ الكَمِّيَّةَ وَالإِحْصائِيَّةَ الَّتِي فَرَضَت نَفْسَها فِي عِلْمِ اِجْتِماعِ الكُلِّيّاتِ (البِنائِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ وَالوَضْعِيَّةِ)، وَاِتَّجَهَت المَدْرَسَتانِ (أَنْدْياناً وَآيوا) عَلَى خِلافِ مَدْرَسَةِ "شيكاغو" إِلَى الإِقْرارِ بِأَهَمِّيَّةِ المَناهِجِ الكَمِّيَّةِ التَّفْسِيرِيَّةِ لِضَبْطِ الظَّواهِرِ التّفاعليَّةِ. وَيُمْكِنُنا أَنْ نُورِدَ ما سَبَقَ أَنْ أَشَرْنا إِلَيْهِ مِنْ نَقْدِ المَدْرَسَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ لِمَدْرَسَةِ شيكاغو المُمَثِّلَةِ بِشَخْصِيَّةِ بلومر، وَذلك على يد مانفورد بوصفه زعيم مدرسة آيوا، وعلى يد شيلدون سترايكر زعيم مدرسة أينديانا.
لَقَدْ رَكَّزَ أَصْحابُ مَدْرَسَةِ أَينْدِيانا بِزَعامَةِ شيلدون سْتْرايكر عَلَى مَفْهُومِ التّفاعل البِنائِيِّ وَالبُحُوثِ الاِسْتِقْصائِيَّةِ وَالمَناهِجِ التَجْرِيبِيَّةِ، وَذٰلِكَ عَلَى خِلافِ مَدْرَسَةِ شيكاغوا الَّتِي رَكَّزَتْ عَلَى الإثنوغرافْيا وَالمُقابَلاتِ النَوْعِيَّةِ المُتَعَمِّقَةِ. وَكَما بَيَّنّا سابِقاً، فَإِنَّ أَصْحابَ هٰذِهِ المَدْرَسَةِ يَرَوْنَ أَنَّ المَنْهَجِيَّةَ الوَصْفِيَّةَ الإثنوغرافِيَّةَ (المُعْتَمَدَةَ فِي مَدْرَسَةِ شيكاغو) غَيْر مُؤَهَّلَةٍ لِدِراسَةِ البِنْيَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالظَّواهِرِ الكُبْرَى فِي المُجْتَمَعِ، وَقَدْ عارَضَ سِتْرايْكر الفِكْرَةَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ النَظَرِيّاتِ التّفاعليَّةَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ مَعَ مَنْهَجِيَّةِ الأَسالِيبِ الكَمِّيَّةِ وَالتَجْرِيبِيَّةِ. وَفِي هٰذا الأَمْرِ نَقْدٌ كَبِيرٌ لِلمَدْرَسَةِ الأَساسِيَّةِ لِمَدْرَسَةِ شيكاغو بِزَعامَةِ بلومر وَهيربرت ميد. وَمِنهُ تَوْجِيهُ ستْرايْكر لِنَقْدِهِ لِكْلاسِيكِيّاتِ التّفاعل الرَمْزِيِّ لِمَدْرَسَةِ شيكاغو، وَقَدْ حاوَلَ أَنْ يَرْصُدَ حَرَكَتَها المُسْتَقْبَلِيَّةَ، وَهُوَ يُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَجْرِبَةِ فِي اِسْتِكْشافِ أَبْعادِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ. وَعَلَى الرَغْمِ مِنْ التَمايُزِ وَالتَبايُنِ وَالتَفارُقِ المَنْهَجِيِّ بَيْنَ التَيّاراتِ الداخِلِيَّةِ لِهٰذا التَيّارِ، فَإِنَّ ما يَجْمَعُهُمْ هُوَ البَحْثُ فِي ثُلاثِيَّةِ الرَّمْزِ وَالعَقْلِ وَالإِنْسانِ، وفِي هٰذِهِ العَناصِرِ الأَوَّلِيَّةِ لِلتَفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ: الرَّمْزِ، المَعْنَى، العَقْلِ وَالإِنْسانِ.
وَمِن الاِنْتِقاداتِ الَّتِي أَخَذَها بِها التّفاعليُّونَ أَنْفُسهُمْ أَنَّ النَظَرِيَّةَ كانَ يَكْتَنِفُها كَثِيرٌ مِنْ الغُمُوضِ، وَأَنَّها تَفْتَقِرُ، بِشَكْلٍ كَبِيرٍ، إِلَى الوُضُوحِ المَفاهِيمِيِّ، كَما كانُوا يَعْتَقِدُونَ أَيْضاً أَنَّ التّفاعليَّةَ لَمْ تَحْظَ بِتَعْرِيفٍ دَقِيقٍ وَهِيَ ما زالَتْ، حَسَبَ رَأْيِهِمْ، فِي أَمْسِّ الحاجَةِ إِلَى بِناءِ مُصْطَلَحاتِها وَتَحْدِيدِها بِدِقَّةٍ (65). وَتَجْدُرُ الإِشارَةُ فِي هٰذا المَقامِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ التّفاعليِّينَ الأَحْدَث حاوَلُوا رَدْمَ هٰذِهِ الجَوانِبِ المُتَعَثِّرَةِ فِي السَّبْعِينِيّاتِ وَالثَمانِينِيّاتِ مِنْ القَرْنِ الماضِي. وَقَدْ تَصَدَّرَ ديفيد سنو هٰذا الاِتِّجاهِ، وَحاوَلَ جاهِداً مَعَ عَدَدٍ مِنْ التّفاعليِّينَ شَرْحَ مَفاهِيمِ التّفاعليَّةِ وَإِيجادَ رَوابِطَ بَيْنَها لِتَمْكِينِها مِنْ الاِرْتِقاءِ إِلَى مُسْتَوَى النَظَرِيَّةِ المُتَكامِلَةِ.
وَالجَدِيرُ بِالذِّكْرِ هُوَ تِلْكَ الاِنْتِقاداتُ الَّتِي أَثارَها كُلٌّ مِنْ كوْن (Kuhn ) وَدينزن (Denzin) وَهال(Hall)، وَمِن أَكْثَرِها أَهَمِّيَّةً أَنَّ كون يُصَرِّحُ بِأَنَّ "التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُعانِي فِي الحَقِيقَةِ مُنْذُ فَتْرَةٍ كَبِيرَةٍ؛ مِمّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالتَّقْلِيدِ الشِفاهِيِّ (Oral Tradition) لِأَنَّها عالَجَتْ مُعْظَمَ الأَفْكارِ بِبَساطَةٍ نَظَرِيَّةٍ وَتَعْبِيرِيَّةٍ، هٰذا دُونَ الاِهْتِمامِ مِنْ جانِبِهِمْ بِمُحاوَلَةِ تَرْجَمَتِها إِلَى بُحُوثِ خَلّاقَةٍ وَذاتِ فاعِلِيَّةٍ(66).
9-2- النّقد الخارجيّ:
يَرَى كَثِيرٌ مِن النُقّادِ – مِن مَدارِسَ أُخْرَى - أَنَّ التّفاعليِّينَ الرَمْزِيِّينَ أهْملُوا إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ مَناهِجَ البَحْثِ الكَمِّيَّة بِدَوافِعَ أيديولوجِيَّةٍ فَرَضَها الصِراعُ القَدِيمُ بَيْنَ أَنْصارِ التَأْوِيلِ وَأَنْصارِ التَفْسِيرِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَقَدْ أَوْضَحْنا أَعْلاهُ أَنَّ هٰذا النَقْدَ يُلامِسُ مَدْرَسَةَ شيكاغو دُونَ غَيْرِها، لِأَنَّ زُعَماءَ مَدْرَسَتَيْ (آيوا وَأَنْدِيانا) قَدْ وَجَّها بِدَوْرِهِما النَقْدَ إِلَى مَدْرَسَةِ شِيكاغوا مُعْلِنِينَ أَنَّ البَحْثَ التَدْرِيبِيَّ يُشَكِّلُ ضَرُورَةً حَيَوِيَّةً. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ النَقْدَ الداخِلِيَّ لِهٰذِهِ النُقْطَةِ قَدْ سَبَقَ النَقْدَ الخارِجِيَّ. وَيُلاحِظُ، فِي هٰذا السِّياقِ، أَنَّ كَثِيراً مِنْ النَقْدِ يُلامِسُ مَدْرَسَةَ شيكاغو بِالدَّرَجَةِ الأُولَى، دُونَ أَنْ يَقَعَ فِي شِباكِ مَدْرَسَتِي آيوا وَإِنْدِيانا بِزَعامَتَيْ مانفورد وَسترايكر.
وَمِن الاِنْتِقاداتِ الَّتِي وُجِّهَت أَيْضاً إِلَى التّفاعليَّةِ تَتَمَثَّلُ فِي نَقْدِ الاِنْطِباعِيَّةِ الذاتِيَّةِ الَّتِي غَمَرَت البُحُوثَ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ، وَلا سِيَّما فِي مَدْرَسَةِ بلومر. كَما يُؤْخَذُ عَلَى التّفاعليَّةِ اِسْتِغْراقُها فِي التَرْكِيزِ الضَيِّقِ عَلَى التّفاعل ضِمْنَ فَضاءِ المَجْمُوعاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الصَغِيرَةِ، وَمِن ثَمَّ عَلَى الجانِبِ السيكولوجِيِّ فِي دِراسَةِ أَواصِرِ هٰذا التّفاعل.
وَمِن أَخْطَرِ الاِنْتِقاداتِ وَأَهَمِّها، تِلْكَ الَّتِي وُجِّهَت لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَنَّها لا تُشَكِّلُ نَظَرِيَّةً مُتَكامِلَةً الأَرْكانِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِوُضُوحِ مَفاهِيمُها وَتَرابُطِ فَرْضِيّاتِها، وَتَكامُلِ مَنْهَجِيّاتِها. وَعَلَى خِلافِ ذٰلِكَ، يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النُقّادِ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُشَكِّلُ إِطاراً نَظَرِيّاً عامّاً يَفْتَقِرُ إِلَى بِناءِ المَفاهِيمِ النَظَرِيَّةِ الواضِحَةِ المُتَرابِطَةِ المُتَكامِلَةِ. وَيُمْكِنُ الإِشارَةُ فِي هٰذا السِياقِ إِلَى نَقْدِ ميلْتْزر (Meltzer) لِعِلْمِ النَفْسِ الاِجْتِماعِيِّ عِنْدَ هَرْبَرْتْ مید الَّذِي يَقُولُ: "إِنَّ مَید اِسْتَخْدَمَ مَفاهِيمَ غامِضَةً وَلا سِيَّما مَفاهِيم: «الدافِع»، وَ«المَعْنَى» وَ«العَقْلِ» وَ«اِكْتِسابُ الدَوْرِ»، وَ«الآخَرِ المُعَمَّم»، «الأَنا»، حَيْثُ يَتَطَلَّبُ فَهْمُها إِدْراكاً حَدْسِيّاً، كَما تَرْجِعُ تِلْكَ الأَخْطاءُ الَّتِي تُعانِي مِنْهـا نَظَرِيَّتُهُ إِلَى تَجاهُلِهِ لِلعَناصِرِ العاطِفِيَّةِ وَاللاشُعُورِيَّةِ فِي السُلُوكِ الإِنْسانِيِّ، كَما أَنَّ نَظَرِيَّتَهُ قَدْ أَثارَتْ بَعْضَ الصُّعُوباتِ المَنْهَجِيَّةِ الَّتِي يَصْعُبُ بَحْثُها، وَاِحْتَوَتْ أَسالِيب غَيْرَ واضِحَةٍ" (67). وَيُؤَيِّدُ هٰذا التَوَجُّهُ النَقْدِيُّ أَنَّ التّفاعليَّةَ تَنْطَوِي فِي ذاتِها عَلَى عِدَّةِ مَدارِسَ مُتَناقِضَةٍ مَنْهَجِيّاً وَفِكْرِيّاً، وَقَدْ أَشَرْنا إِلَى هٰذِهِ النُقْطَةِ فِي سِياقِ الاِنْتِقاداتِ الدّاخِلِيَّةِ، وَأَشَرْنا إِلَى بَعْضِ المُحاوَلاتِ المُتَأَخِّرَةِ لِاِسْتِكْمالِ البُعْدِ النَّظَرِيِّ وَتَوْضِيحِ المَفاهِيمِ الضَرُورِيَّةِ لِرَصْدِ العَلاقَةِ القائِمَةِ بَيْنَ أَوْصالِها.
والنَقْدُ الأَكْثَرُ خُطُورَةً هُوَ أَنَّ النَظَرِيَّةَ اِنْكَفَأَت عَلَى نَفْسِها فِي شَرْنَقَةِ التَحْلِيلِ الذَرِّيِّ المُصَغَّرِ لِلتَفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ بَيْنَ أَصْغَرِ الجَماعاتِ، وَأَنَّ هٰذِهِ النَظَرِيَّةَ لَمْ تَجْرُؤْ عَلَى تَناوُلِ القَضايا السِياسِيَّةِ وَالاِجْتِماعِيَّةِ وَالطَبَقِيَّةِ وَقَضايا الحَياةِ مِثْلَ: القُوَّةِ، وَالسُلْطَةِ، وَالظُلْمِ وَالفَقْرِ، وَاللاّمُساواةِ، وَتَهْمِيشِ السُّودِ فِي مُجْتَمَعاتِ البيضِ، وَالصِّراعِ بَيْنَ الطَبَقاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَمَدَى تَأْثِيرِ هٰذِهِ الظَواهِرِ فِي التّفاعل نَفْسِهِ أَوْ تَأْثِيرِ التّفاعل الرَمْزِيِّ فِي تَشْكِيلِ هٰذِهِ الظَواهِرِ، وَفِي التَأْثِيرِ فِيها. وَهٰذا ما عَبَّرَ عَنْهُ بِيتَر هول، - أَحَدُ أَنْصارِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ- وَهُوَ أَنَّ التّفاعليَّةَ لَمْ تُنْجِزْ أَيَّ جُهْدٍ فِي اِسْتِكْشافٍ أَوْ مَعْرِفَةِ تَأَثُّرِ التّفاعل الرَمْزِيِّ في التّفاعلاتِ السِّياسِيَّةِ(68).
وَعَلَى هٰذا المِنْوالِ ذَهَبَ بَعْضُ النُقّادِ إِلَى القَوْلِ: إنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ مُمارَسَةٌ سوسيولوجِيَّةٍ سيكولوجِيَّةٍ غَيْرِ تارِيخِيَّةٍ أَوْ اِقْتِصادِيَّةٍ أَوْ سِياسِيَّةٍ. وَقَدْ أَخْفَقَ هٰذا التَيّارُ فِي تَناوُلِ الظُرُوفِ التارِيخِيَّةِ وَالاِقْتِصادِيَّةِ المُؤَثِّرَةِ بِالتّفاعل الرَمْزِيِّ وَالمُؤَثِّرَةِ فِيهِ(69). وَهٰذا الأَمْرُ لا يَخْفَى عَلَى العارِفِينَ، لَقَدْ أَخْفَقَ التّفاعليُّونَ فِي تَناوُلِ القَضايا الكُبْرَى فِي المُجْتَمَعِ، وَأَهْمَلُوا تَناوُلَ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ الكُبْرَى وَالمُؤَسَّساتِ الاِجْتِماعِيَّةِ الضَخْمَةِ فِي دِراساتِهِم وَأَبْحاثِهِم، وَظَلَّت اِهْتِماماتُهُم سَجِينَةَ التّفاعل داخِلَ دائِرَةِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ الذُرِّيَّةِ الصُغْرَى فِي نِطاقِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ.
وتَجْدُرُ الإِشارَةُ فِي هٰذا السِّياقِ إِلَى بَعْضِ المُحاوَلاتِ السّوسيولوجِيَّةِ الَّتِي عَمِلَت عَلَى تَلافِي هٰذا النَّقْدِ وَالرَدِّ عَلَيْهِ. وَهٰذا ما أَشارَ إِلَيْهِ جِيلُ موسولف (Musolf, Gil) فِي مَقالَةٍ لَهُ بِعُنْوانِ: "البُنْيَةُ وَالمُؤَسَّساتُ وَالسُلْطَةُ وَالأيديولوجِيَّةُ: اِتِّجاهاتٌ جَدِيدَةٌ فِي إِطارِ التّفاعل الرَمْزِيِّ"، وَهِيَ المَقالَةُ الَّتِي حاوَلَ فِيها الإِشارَةَ إِلَى أَنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمارِسَ دَوْرَهُ فِي اِسْتِكْشافِ العَلاقَةِ الجَدَلِيَّةِ بَيْنَ التّفاعل الرَمْزِيِّ وَالظَّواهِرِ الكُبْرَى تَأْثِيراً وَتَأَثُّراً فِي مَجالِ الفَعالِيَّةِ السّوسيولوجِيَّةِ (70).
ومَعَ أَهَمِّيَّةِ ما ذَهَبَ إِلَيْهِ موسولف، فَإِنَّ هٰذا السَيْلَ النَقْدِيَّ المُوَجَّهَ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ يُؤَكِّدُ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ أَغْفَلَت فِعْلاً الظَّواهِرَ الاِجْتِماعِيَّةَ الكُبْرَى وَالمُؤَسَّساتِ الاِجْتِماعِيَّةَ الضَخْمَةَ الَّتِي تُمَثِّلُ الفَضاءَ الأَوْسَعَ فِي البِناءِ الاِجْتِماعِيِّ، وَيَمْتَدُّ هٰذا النَقْدُ لِلتَأْكِيدِ عَلَى أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ لَمْ تَسْتَطِعْ أَبَداً أَنْ تَقُولَ:"أَيَّ شَيْءٍ عَن ظَواهِرَ اِجْتِماعِيَّةٍ كُبْرَى مِثْل القُوَّةِ وَالصِراعِ وَالتَغَيُّرِ، وَأَنَّ صِياغاتِها النَظَرِيَّةَ مُغْرِقَةٌ فِي الغُمُوضِ، وَأَنَّها تُقَدِّمُ صُورَةً ناقِصَةً عَنْ الفَرْدِ. وَعادَةً ما تَطْرَحُ هٰذِهِ النِّقاطَ كَما لَوْ أَنَّها اِنْتِقاداتٌ بَيِّنَةٌ بِذاتِها: فَحَتَّى الأَبْلَهُ بِاِسْتِطاعَتِهِ أَنْ يَرَى البُنَى الاِجْتِماعِيَّةَ وَيَتَحَسَّسَ تَأْثِيراتِها، وَالساذجُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي سَيَقنع بِصِياغاتٍ نَظَرِيَّةٍ غامِضَةٍ، وَمِن الواضِحِ أَنَّ عِلْمَ الاِجْتِماعِ بِحاجَةٍ إِلَى نَظَرِيَّةٍ أَكْثَرَ عُمْقاً وَشُمُولاً عَنْ الفَرْدِ فِي تَفاعُلِهِ مَعَ أَكْثَرِ القَضايا الوُجُودِيَّةِ أَهَمِّيَّةً وَحُضُوراً وَتَأْثِيراً"(71).
وهذا هُوَ عَيْنُ النَّقْدِ الَّذِي يُوَجِّهُهُ كُلٌّ مِنْ میتْشال وَروبن (Michael & Robein. H)، إِذْ يَرَيانِ
"أَنَّ أَنْصارَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةَ يَهْتَمُّونَ بِدِراسَةِ التّفاعل الإِنْسانِيِّ وَالاِجْتِماعِيِّ مَعَ تَجاهُلِ الأَبْعادِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ وَالتّارِيخِيَّةِ لِهٰذا التّفاعل؛ وَهُم فِي غالِبِ الأَحْيانِ يَتَناوَلُونَ هٰذا التّفاعل دُونَ أَيِّ إِشارَةٍ إِلَى السِّياقِ الاِجْتِماعِيِّ الَّذِي يَتِمُّ فِيهِ، وَبِالمُقابِلِ، فَإِنَّهُم يَتَجاهَلُونَ دَوْرَ المُؤَسَّساتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالأَحْداثِ التارِيخِيَّةِ السِياقِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ فِيها هٰذا التّفاعل"(72).
وَقَدْ ذَكَرَ روبرت Robert فِي نَقْدِهِ المُوَجَّهِ إِلَى «جورج ميد» "بِأَنَّ الأَنْشِطَةَ الَّتِي يَرَى مِن خِلالِها النّاس لا تُحَدِّدُ تارِيخ عَلاقاتِ الاِسْتِمْرارِ التارِيخِيِّ وَالاِجْتِماعِيِّ، وَأَنَّها تَكُونُ سِلْسِلَةً مِنْ التّفاعلاتِ وَالمَواقِفِ، وَالمُقابَلاتِ فحسب. وَهٰذا مِمّا جَعَلَ البَعْضَ يَنْظُرُونَ إِلَيْها فِي مُعالَجَتِها لِلمُشْكِلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ عَلَى أَنَّها قَدْ جَرَّدَتْها مِنْ أُصُولِها التارِيخِيَّةِ وَمَراحِلِ تَطَوُّرِها المُخْتَلِفَةِ، ومثلما جَرَّدَتْها مِنْ نُظُمِها الاِقْتِصادِيَّةِ؛ وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَتْ بِأَنَّها غَيْرُ تارِيخِيَّةٍ، وَغَيْرُ اِقْتِصادِيَّةٍ"(73).
وَعَلَى الرَغْمِ مِن أَهَمِّيَّةِ النَظَرِيَّةِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ فِي تَناوُلِ قَضِيَّةِ الأَفْعالِ الفَرْدِيَّةِ مِن الناحِيَةِ اللِسانِيَّةِ وَالسِيمْيائِيَّةِ وَالرَمْزِيَّةِ، وَالتَرْكِيزِ عَلَى عَمَلِيَّةِ التّفاعل أَوْ عَمَلِيَّةِ الفِعْلِ وَرَدِّ الفِعْلِ، وَاِسْتِجْلاءِ دَلالاتِهِ الرَمْزِيَّةِ وَاللَفْظِيَّةِ وَالبَصَرِيَّةِ، فِي سِياقٍ تَواصُلِيٍّ وَتَبادُلِيٍّ مُعَيَّنٍ، بِالرَغْمِ مِنْ ذٰلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّ هٰذِهِ النَظَرِيَّةَ" تَتَعَرَّضُ لِلنَقْدِ لِأَنَّها تُهْمِلُ القَضايا الأَوْسَعَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالسُلْطَةِ وَبِالبِنَى فِي المُجْتَمَعِ، وَبِالطَرِيقَةِ الَّتِي يَفْرِضانِ بِها القُيُودَ عَلَى الفِعْلِ الفَرْدِيِّ(74).
وَيُسْتَخْلَصُ مِن الاِنْتِقاداتِ المُوَجَّهَةِ إِلَى التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَنَّها لا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِن إِطارٍ نَظَرِيٍّ يَدُورُ فِي فَلَكِ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ وَهِيَ لَمْ تَرُقْ حَتَّى الآنَ إِلَى أَنْ تَكُونَ نَظَرِيَّةً اِجْتِماعِيَّةً مُتَكامِلَةً الأَرْكانِ مُتَفاعِلَةً فِي بِنْيَتِها وَوَظِيفَتِها الاِجْتِماعِيَّةِ، كَما أَنَّ الفَعّالِيَّةَ السوسيولوجِيَّةَ الَّتِي تُمارِسُها لا تَتَعَدَّى البَحْثَ فِي الجُزْئِيّاتِ وَفِي الذَرّاتِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي الأَفْعالِ الاِجْتِماعِيَّةِ التّفاعليَّةِ فِي الجَماعاتِ المُصَغَّرَةِ جِدّاً، وَلا يُنْكِرُ النُقّادُ، رَغْمَ ذٰلِكَ، أَنَّ المَنْهَجِيَّةَ التّفاعليَّةَ مُصَمَّمَةٌ بِصُورَةٍ فَعّالَةٍ لِفَهْمِ وَإِدْراكِ تَعْقِيداتِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ الفِعْلِيَّةِ المُصَغَّرَةِ(75).
وَمِن الجَوانِبِ الَّتِي تَعَرَّضَت لِلنَّقْدِ فِي بِنْيَةِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ إِفْراطُها فِي التَرْكِيزِ عَلَى الوَعْيِ الذاتِيِّ وَالاِنْطِباعاتِ الحِسِّيَّةِ وَالجَوانِبِ الشُعُورِيَّةِ، وَهٰذا ما سَجَّلَهُ «بِرْتْيان» Abrittan بِقَوْلِهِ: إِنَّ "التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ أَكَّدَتْ كَثِيراً عَلَى الوَعْيِ الذّاتِيِّ وَالجَوانِبِ الشُعُورِيَّةِ، وَأَنَّها تَجاهَلَتْ فِي ذٰلِكَ إِلْقاءَ الضَوْءِ عَلَى العَوامِلِ اللاشُعُورِيَّةِ وَأَثَرِها فِي عَمَلِيَّةِ التّفاعل(76).
وَيَرَى بَعْضُ النُقّادِ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ نَمَطٌ مِن التَّعْبِيرِ الأيديولوجِيِّ الَّذِي سادَ المُجْتَمَعُ الأَمْرِيكِيُّ فِي العَصْرِ الحَدِيثِ. وَهِيَ، فِي أَفْضَلِ أَحْوالِها، تُمَثِّلُ عِلْمَ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّ، وَتُعَبِّرُ عَن تَطَلُّعاتِهِ الثَّقافِيَّةِ فِي مَجالِ التَأْكِيدِ اللِّيبِرالِيِّ عَلَى الحُرِّيّاتِ الفَرْدِيَّةِ وَالنَزْعَةِ البَرْغَماتِيَّةِ. وَهٰذا ما يُفَسِّرُ اِنْتِشارَ هٰذا التَيّارِ فِي أَمْرِيكا وَحْدَها، دُونَ غَيْرِها مِنْ البُلْدانِ. وَتُبَيِّنُ الوَقائِعُ التارِيخِيَّةُ أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ لَمْ تَشْهَدْ حُضُوراً ذا بالٍ فِي أوروبا أَوْ آسْيا؛ نَظَراً لِوُجُودِ وَعْيٍ سِياسِيٍّ كَبِيرٍ بِالصِّراعاتِ الأيديولوجِيَّةِ وَالحُقُوقِ الطَبَقِيَّةِ(77).
وَيَتَّضِحُ أَيْضاً، ضِمْنَ هٰذا السِّياقِ، أَنَّ التّفاعليَّةَ وَضَعَتْ نَفْسَها فِي مُواجَهَةٍ ضِدَّ النَّظَرِيَّةِ الكْلاسِيكِيَّةِ الَّتِي اِعْتَمَدَتْ مَناهِجَ العُلُومِ الطَبِيعِيَّةَ فِي البَحْثِ وَالاِسْتِكْشافِ. وَهٰذا الأَمْرُ هُوَ الَّذِي أَفْقَدَها كَثِيراً مِنْ تَأَلُّقِها المَنْهَجِيِّ، وَدَفَعَها إِلَى الاِنْزِلاقِ فِي دائِرَةِ التّفاعلاتِ اليَوْمِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ البَسِيطَةِ الَّتِي لا يُمْكِنُها أَنْ تُضِيءَ لَنا الجَوانِبَ الحَقِيقِيَّةَ لِلحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ(78).
وَبِاِخْتِصارٍ يُمْكِنُ أَنْ نُوجِزَ أَهَمَّ الاِنْتِقاداتِ الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَى التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ عَلَى النَحْوِ الآتِي:
1- أَكَّدَت التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ عَلَى طابَعِ التّفاعل الرَمْزِيِّ فِي المُجْتَمَعِ خارِجَ السِّياقاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالتارِيخِيَّةِ لِهٰذا التّفاعل، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّها أَهْمَلَت الظُرُوفَ وَالمُعْطَياتِ الاِجْتِماعِيَّةَ الَّتِي تُؤَطِّرُ لِحَرَكَةِ التّفاعل فِي جَدَلِيّاتِ التَأْثِيرِ وَالتَأَثُّرِ بِالظَّواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَمُؤَسَّساتِها الكُبْرَى.
2- تُعانِي التّفاعليَّةُ مِن الغُمُوضِ الَّذِي شَمِلَ مَفاهِيمَها وَأُطْرُوحاتِها وَمَبادِئَها الأَساسِيَّةَ.
3- لَمْ تَسْتَطِعْ التّفاعليَّةُ تَقْدِيمَ البَراهِينِ وَالحُجَجِ الكافِيَةِ حَوْلَ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَشْكِيلِ وَبِناءِ التَكْوِيناتِ الاِجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ.
4- قَلَّلَت التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ مِن أَهَمِّيَّةِ البِناءاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَجَعَلَتْها مُجَرَّدَ نِتاجاتٍ عَفْوِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ لِلتَفاعُلِ الاِجْتِماعِيِّ. وَهٰذا يَتَناقَضُ مَعَ مُعْطَياتِ التَفْكِيرِ السوسيولوجِيِّ وَحِكْمَتِهِ. فَالتّفاعل الحُرّ لا يُؤَدِّي بِالضَرُورَةِ إِلَى تَشْكِيلِ طَبَقَةٍ أَوْ سِياسَةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ اِجْتِماعِيَّةٍ.
5- أَخْفِقُ رُوّادَ التّفاعليَّةِ فِي تَحْدِيدِ المَنْهَجِيّاتِ التّفاعليَّةِ بِطَرِيقَةٍ واضِحَةٍ، وَقَدْ وَقَفَ مُعْظَمُهُمْ ضِدَّ المَنْهَجِيّاتِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تُعْتَمِدُ فِي العُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ، وَاِمْتَدَّ رَفْضُهُمْ إِلَى الرَّفْضِ الواضِحِ لِلمَوْضُوعِيَّةِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ.
وبِاِخْتِصارٍ، يُمْكِنُ القَوْلُ أَيْضاً إِنَّهُ قَدْ اِتَّضَحَ لَنا عَبْرَ التَحْلِيلِ النَقْدِيِّ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ بِأَنَّها تُشَكِّلُ اِتِّجاهاً فِكْرِيّاً سوسيولوجياً يَقُومُ بِدِراسَةِ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ فِي مُعْتَرَكِ التّفاعل الاِجْتِماعِيِّ الرَمْزِيِّ المَعْنَوِيِّ بَيْنَ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ، وَغالِباً ما تَتَمَحْوَرُ الدِراساتُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ حَوْلَ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ.
9-3- دِفاعُ " التّفاعليينَ الرَمْزِيّين ":
لَمْ يَقِفْ أَنْصارُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ مَكْتُوفِي الأَيْدِي أَمامَ هٰذِهِ الاِنْتِقاداتِ العَنِيفَةِ ضِدَّ نَظَرِيَّتِهِم وَلا سِيَّما هٰذِهِ الَّتِي تَناوَلَت نَأْيَهُم عَن القَضايا الكُبْرَى فِي المُجْتَمَعِ (الطَبَقاتِ، وَالأَعْراقِ وَالسِّياساتِ، وَالتَحَوُّلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَالثَوْراتِ...الخ) وَهُم فِي سِياقِ رَدِّهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ التَكْوِيناتِ الاِجْتِماعِيَّةَ الكُبْرَى لا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ كِياناتٍ مُجَرَّدَةً، وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ الدُخُولَ فِي نِقاشاتٍ مُجَرَّدَةٍ وَمُمْتِعَةٍ حَوْلَها (كَما فِي الأَلْغازِ الصَّعْبَةِ)، وَيَسْتَطِيعُونَ تَأْوِيلَ العالَمِ وِفْقاً لِتَأْثِيرِ هٰذِهِ التَّكْوِيناتِ الكُبْرَى (كَما فِي لُعْبَةِ الكَلِماتِ المُتَقاطِعَةِ)، وَلٰكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ ذٰلِكَ كُلَّهُ لا يُجْدِي فِي الوُصُولِ إِلَى اِسْتِنْتاجاتٍ حَقِيقِيَّةٍ مرَضِيَّةٍ، وَلَنْ يَتَجاوَزَ هٰذا الأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ إِدْراكِ ما هُوَ واقِعٌ أَمامَ أَبْصارِنا "(79). وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ أَنْصارَ النَظَرِيَّةِ يُصِرُّونَ عَلَى رَفْضِ البُحُوثِ الأمْبِيرَقِيَّةِ وَالتَّجْرِيبِيَّةِ، وَيُلِحُّونَ عَلَى صُعُوبَةِ اِخْتِراقِ الحَقِيقَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ كَمِّيّاً، أَوْ وِفْقَ قَوانِينَ مَوْضُوعِيَّةٍ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذٰلِكَ أَنَّ التَأْوِيلَ السّيكولوجِيَّ وَالرَمْزِيَّ هُوَ الأَنْجَعُ فِي عَمَلِيَّةِ فَهْمِ المُجْتَمَعِ، وَإِدْراكِ تَضارِيسِهِ المُعَقَّدَةِ.
وَيعَبّرُ بول روك عَنْ هٰذِهِ القَضِيَّةِ بِوُضُوحٍ، إِذْ يَقُولُ: "إِنَّ طَبِيعَةَ اﻟﻤُﺠْتَمَعِ غامِضَةٌ لِدَرَجَةِ أَنَّ المُحاوَلاتِ العِلْمِيَّةَ لِمُناقَشَةِ تِلْكَ الطَبِيعَةِ، هِيَ مُحاوَلاتٌ لا تَسْتَقِيمُ مَعَ العَقْلِ بِوَجْهٍ عامٍّ. وَقَدْ نَسْتَخْدِمُ تَعْرِيفاتٍ فَضْفاضَةً نَتَّكِئُ عَلَيْها لِتَوْجِيهِ التَحْلِيلِ، لٰكِنَّ اِفْتِراضَ إِمْكانِيَّةِ رَسْمِ صُورَةٍ لِأَنْساقٍ كَبِيرَةٍ مِن أَنْساقِ اﻟﻤُﺠْتَمَعِ أَمْرٌ مُضَلِّلٌ (...) وَلِهٰذا يَتَرَدَّدُ عالَمُ الاِجْتِماعِ فِي الكِتابَةِ عَنْ اﻟﻤُﺠْتَمَعِ بِصِفَتِهِ مَوْضُوعاً غَيْرَ قابِلٍ لِلتَحْلِيلِ عَلَى وَجْهِ الإِطْلاقِ. وَحِينَما يَفْعَلُ ذٰلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ لا يَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ تَصْوِيرِهِ عَلَى هَيْئَةِ كُتْلَةٍ هُلامِيَّةٍ مِنْ عَمَلِيّاتِ التَّبادُلِ غَيْرِ المُسْتَقِرَّةِ" (80).
10- خاتِمَةٌ:
تُشَكِّلُ التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ، كَما رَسْمنا خُطُوطَها وَتَقاطُعاتِها، اِتِّجاهاً فِكْرِيّاً شَدِيدَ التَّعْقِيدِ. وَيَبْدُو لَنا أَنَّ الخَوْضَ فِي مَتاهاتِهِ وَتَضارِيسِهِ المُعَقَّدَةِ خَوْضاً فِي الغامِضِ وَالمُبْهَمِ وَالمُتَشابِكِ وَالمُتَداخِلِ وَالعِصِيِّ عَلَى الفَهْمِ وَالتَنْظِيمِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي أَيْدِينا أَنَّ هٰذِهِ النَظَرِيَّةَ تُشَكِّلُ مدّاً مِنْ الأَمْواجِ المُتَدافِعَةِ فِي بَحْرٍ هائِجٍ. وَقَدْ بَيَّنَت تَأَمُّلاتُنا أَنَّ النَظَرِيَّةَ تُشَكِّلُ تَقاطُعاً مِن التَناقُضاتِ وَالمَفاهِيمِ الغامِضَةِ الَّتِي لَمْ تَكْتَمِلْ فِي نُضْجِها وَفِي تَكامُلِها. وَقَدْ حاوَلْنا ما اِسْتَطَعْنا إِلَى ذٰلِكَ سَبِيلاً العَمَلَ عَلَى رَسْمِ خَرِيطَةٍ واضِحَةٍ لِهٰذا التَيّارِ المُتَنامِي فِي مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِهِ وَتَناقُضاتِهِ المَنْهَجِيَّةِ وَالمَدْرَسِيَّةِ. يَعْتَمِدُ مَنْظُورُ التّفاعل الرَمْزِيِّ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَطْوِيرِ البَشَرِ لِمَجْمُوعَةٍ مُعَقَّدَةٍ مِن الرُّمُوز لِإِعْطاءِ مَعْنىً لِلعالَمِ، وَتُرَكِّزُ عَلَى الطَرِيقَةِ الَّتِي يَتَفاعَلُ بِها الناسُ مِنْ خِلالِ الرُّمُوز بِالكَلِماتِ وَالإِيماءاتِ وَالأَشْياءِ الَّتِي يُبْدِعُها عَلَى نَحْوٍ رَمْزِيٍّ. وَهُمْ، فِي هٰذا السِّياقِ، يُضْفُونَ عَلَى الرُّمُوز وَالعَلاماتِ دَلالاتٍ وَمَعانِيَ، وَيُطَوِّرُونَها فِي سِياقِ تَفاعُلِهِم الدّائِمِ مَعَ الآخَرِينَ وَمَعَ عَناصِرِ البِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيها وَمَعَ الناسِ. وَيَتَّضِحُ أَنَّ التّفاعل يُؤَدِّي دَوْرَهُ فِي عَمَلِيَّةِ تَشْكِيلِ الهُوِيَّةِ وَالإِنْسانِ، وَبِناءِ النَسِيجِ الاِجْتِماعِيِّ. وَتُفِيدُ النَظَرِيَّةُ بِأَنَّ الأَفْرادَ يُبْدِعُونَ التَكْوِيناتِ الاِجْتِماعِيَّةَ فِي سِياقِ تَفاعُلِهِم الَّذِي يُؤَدِّي أَيْضاً إِلَى تَشَكُّلِ الهُوِيَّةِ وَالذّاتِ عَلَى مَبْدَأِ المُرُونَةِ الدّائِمَةِ. وَبِاِخْتِصارٍ، فَإِنَّ التّفاعل الرَمْزِيَّ هُوَ الطَرِيقَةُ الَّتِي نَتَعَلَّمُ بِها تَفْسِيرَ العالَمِ وَإِعْطاءَهُ الدّلالة وَالمَعْنَى مِنْ خِلالِ تَفاعُلاتِنا الإِنْسانِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي لا تَتَوَقَّفُ أَبَداً.
وَقَدْ وَضُحَ لَنا فِي اِسْتِعْراضِنا لَبَنِيَّةَ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ وَمَفاهِيمَها الرَئِيسَةَ، أَنَّ أَنْصارَها يُؤَكِّدُونَ عَلَى أَنَّ الحَياةَ الاِجْتِماعِيَّةَ لا تَكُونُ إِلّا نِتاجاً لِلتَّفاعُلاتِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ فِيما بَيْنَ الأَفْرادِ أَنْفُسِهِم، وَفِيما بَيْنَهُم وَبَيْنَ مُخْتَلِفِ مَظاهِرِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ بِما تَنْطَوِي عَلَيْهِ تِلْكَ الحَياةُ مِن وَضْعِيّاتٍ وَمَواقِفَ وَعَمَلِيّاتٍ شَدِيدَةِ التَعْقِيدِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَدَيْنا، مِن خِلالِ تَناوُلِنا لِمَفاصِلِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، بِأَنَّها تُشَكِّلُ تَيّاراً فِكْرِيّاً أَمْرِيكِيّاً فِي صِبْغَتِهِ السوسيولوجِيَّةِ وَالأيديولوجِيَّةِ، وَقَدْ خَلَصَنا إلى أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تَيّارٌ مُتَدَفِّقٌ مِن الأَفْكارِ وَالتَصَوُّراتِ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَرْكَزِيَّةِ العَلاقاتِ الصَمِيمِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ بَيْنَ الحَياةِ الدّاخِلِيَّةِ لِلفَرْدِ (الذّاتِ وَالعَقْلِ)، وَبَيْنَ الحَياةِ الخارِجِيَّةِ الَّتِي تَضَعُهُ فِي مُواجَهَةٍ نَشِطَةٍ مَعَ مُعْطَياتِ الوَسَطِ الاِجْتِماعِيِّ بِما يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِن أَفْرادٍ وَعَلاقاتٍ وَرَمْزِيّاتٍ وَقِيَمٍ وَمَعايِيرَ سُلُوكِيَّةٍ وَأَحْكامٍ أَخْلاقِيَّةٍ. وَقَدْ رَكَّزَت هٰذِهِ التّفاعليَّةُ عَلَى فِكْرَةٍ جَوْهَرِيَّةٍ تَتَمَثَّلُ فِي أَنَّ الهُوِيَّةَ الذاتِيَّةَ لِلفَرْدِ لا تَتَشَكَّلُ إِلّا فِي خِضَمِّ التّفاعل الرَمْزِيِّ مَعَ الآخَرِينَ ضِمْنَ تَواتُرِ التَقْيِيمِ المُتَبادَلِ بَيْنَ الفَرْدِ وَالآخَرِ، بَيْنَ الفِعْلِ وَرَدِّ الفِعْلِ الرَمْزِيِّ الَّذِي يُشَكِّلُ أَوالِيَةَ البِناءِ الرَّمْزِيِّ لِلهُوِيَّةِ فِي حَرَكَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ مِنْ دَوالِّ الرُّمُوز وَالدَلالاتِ وَالمَعانِي.
يَعْتَرِفُ مُعْظَمُ النُّقّادِ فِي العُلُومِ الإِنْسانِيَّةِ بِأَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ قَدْ سَطَّرَت نَهْجاً سوسيولوجياًّ مُبْتَكَراً فِي مُعالَجَةِ قَضايا الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ، وَفِي التَّأْسِيسِ لِعِلْمِ الاِجْتِماعِ اليَوْمِيِّ، وَمِنهُ إِلَى تَرْسِيخِ مَناهِجِ البَحْثِ الذَرِّيِّ أَوْ الميكروسوسيولوجِيِّ فِي مَجاليْ عِلْمِ الاِجْتِماعِ وَالسيكولوجيا الاِجْتِماعِيَّةِ. وَيُمْكِنُ القَوْلُ على وجه التَأْكِيدِ إِنَّ الإِنْتاجَ المَعْرِفِيَّ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ يُمَثِّلُ كَنْزاً فِكْرِيّاً لا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَقَدْ قُدِّرَ لِلبُحُوثِ التّفاعليَّةِ هٰذِهِ أَنْ تَغُوصَ فِي أَعْماقِ السُلُوكِ الإِنْسانِيِّ، وَأَنْ تَخُوضَ خَوْضاً مُبْتَكَراً فِي اِسْتِكْشافِ خَفاياهُ وَالكَشْفِ عَنْ أَسْرارِهِ الصَمِيمِيَّةِ سيكولوجِيّاً وَاِجْتِماعِيّاً.
رَغْمِ النَقْدِ الَّذِي مارَسَهُ عُلَماءُ الاِجْتِماعِ البُنْيَوِيُّونَ ضِدَّ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمِن المُؤَكَّدِ أَنَّ التّفاعليَّةَ جاءَت لِتُغَطِّيَ مِساحَةً هائِلَةً مَجْهُولَةً مِنْ سوسيولوجيا الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ. وَمِن الواضِحِ فِي مُخْتَلِفِ مَراحِلِ تَطَوُّرِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَنَّ أَيّاً مِنْ رُوّادِها لَمْ يَرُمْ تَأْسِيسَ نَظَرِيّاتٍ كُبْرَى، بَلْ أَكَّدَ أَصْحابُ هٰذا التَيّارِ بِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ وِفْقَ خَطٍّ مَنْهَجِيٍّ مُخْتَلِفٍ، وَأَنَّ الحَياةَ اليَوْمِيَّةَ، بِتَفاصِيلِها الصَغِيرَةِ، تُشَكِّلُ مَوْضُوعَهُمْ الأَساسِيَّ، فَخاضُوا فِي مَتاهاتِها، وَحَلَّقُوا فِي أَبْراجِها العالِيَةِ اِسْتِكْشافاً وَبَحْثاً وَتَقَصِّياً.
وَمِن المُؤَكَّدِ أَنَّ رُوّادَ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ لَمْ يَزْعُمُوا قَطُّ أَنَّهُم قَدْ سَعَوْا إِلَى التَأْسِيسِ لِنَظَرِيَّةٍ كُبْرَى مُتَرامِيَةِ الأَطْرافِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَجُلَّ ما حاوَلُوهُ هُوَ أَنَّهُم خاضُوا فِي تَجْرِبَةِ البَحْثِ وَالاِكْتِشافِ فِي مَجاهِلِ الحَياةِ الإِنْسانِيَّةِ، وَفِي عُمْقِ تَفاصِيلِها الذرِّيَّةِ اليَوْمِيَّةِ. وَهُم فِي سِياقِ تَجارِبِهِم اِسْتَطاعُوا أَنْ يَعْتَمِدُوا مَنْهَجاً فريداً يَقُومُ عَلَى المَزْجِ المَنْهَجِيِّ ما بَيْنَ الأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَعِلْمِ النَفْسِ وَعِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَاِسْتَطاعُوا تَوْظِيفَ هٰذا المَنْهَجِ فِي تَفْكِيكِ التَعْقِيدِ المُرَكَّبِ لِلظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي مَجالِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
وَقَدْ تَشَكَّل تَيّارُ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ وِفْقَ تَراكُمِيَّةٍ سوسيولوجِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً أَوْ مُوَجَّهَةً أيديولوجِيّاً، كَما هُوَ الحالُ فِي سوسيولوجيا العَمالِقَةِ أَرْبابِ الوَضْعِيَّةِ وَالبِنائِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ نَشَأَت عَلَى صُورَةِ تَيّار سوسيولوجِيٍّ تَراكُمِيٍّ يَتَمَلَّكُهُ هاجِسُ البَحْثِ عَن الحَقِيقَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي أَدَقِّ تَفاصِيلِها وَأَعْمَقِ مَكْنُوناتِها الإِنْسانِيَّةِ.
وَيُمْكِنُنا أَنْ نُلاحِظَ، فِي هٰذا السِّياقِ، أَنَّ مُعْظَمَ النُقّادِ قَدْ تَناوَلُوا التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ بِوَصْفِها نَظَرِيَّةً مُتَكامِلَةَ الأَرْكانِ، وَقَدْ تَأَسَّسَ نَقْدُهُم عَلَى تَناوُلِها وَتَفْكِيكِها آخِذِينَ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ أَنَّها كُتْلَةٌ نَظَرِيَّةٌ واحِدَةٌ، وَعَلَى هٰذا الأَساسِ بَدَأَتْ سِهامُ النَقْدِ تَتَكاثَفُ فِي تَأْكِيدِ بَعْضٍ مِنْ جَوانِبِ ضَعْفِها وَقُصُورِها النَظَرِيِّ وَالمَنْهَجِيِّ. وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ مُعْظَمَ النَقْدِ الَّذِي وُجِّهَ لِلنَظَرِيَّةِ قَدْ يَبْدُو باهِتاً إِذا أَخَذْنا بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ أَنَّ التّفاعليَّةَ النَقْدِيَّةَ هِيَ تَيّارٌ فِكْرِيٍّ سوسيولوجي تَتَفاعَلُ فِيهِ رُؤىً وَتَصَوُّراتٌ تَتَقارَبُ أَحْياناً، وَيَنْأَى بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَحْيانِ. وَيُمْكِنُ لِهٰذا الاِتِّجاهِ فِي المُسْتَقْبَلِ أَنْ يَكْتَمِلَ بِوَصْفِهِ نَظَرِيَّةً مُتَكامِلَةَ الأَرْكانِ. وَهُنا يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نَأْخُذَ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ حَداثَةَ هٰذا التَيّارِ السوسيولوجِيِّ الَّذِي اِنْطَلَقَ فِي النِصْفِ الثانِي مِنْ القَرْنِ العِشْرِينَ، أَيْ فِي لَحْظَةِ اِكْتِمالِ التَيّاراتِ الفِكْرِيَّةِ الكُبْرَى (المارْكِسِيَّةِ وَالبِنائِيَّةِ وَالوَضْعِيَّةِ) وَنُضْجِها. وَنَرَى أَنَّهُ ما زالَ مِنْ المُبَكِّرِ مُحاكَمَةُ هٰذا التَيّارِ بِوَصْفِهِ نَظَرِيَّةً.
وَمِن المُهِمِّ فِي سِياقِ تَناوُلِنا لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ أَنْ نَأْخُذَ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ أَنَّها لَمْ تَتَّسِمْ بِالطّابَعِ الأيديولوجِيِّ، فَمُعْظَمُ رُوّادِ هٰذا التَيّارِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى عِلْمِ الاِجْتِماعِ اليَوْمِيِّ المَيْدانِيِّ، وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ الجانِبَ الأيديولوجِيَّ يُسَجِّلُ غِيابَهُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، وَمِن المَعْرُوفِ أَنَّ الجانِبَ الأيديولوجِيَّ إِذا ما تَوَفَّرَ فِي نَسَقٍ فِكْرِيٍّ، فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ نَوْعاً مِن التَكامُلِ بَيْنَ أَجْزاءِ النَظَرِيَّةِ وَالتَرابُطِ العَمِيقِ بَيْنَ مُكَوِّناتِها، فَالعُقْدَةُ الأيديولوجِيَّةُ أَدَّت دَوْراً كَبِيراً فِي تَكامُلِ النَظَرِيّاتِ الكُبْرَى مِن مِثْلِ البِنائِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ وَالفَيْبَرِيَّةِ (نِسْبَةً إِلَى ماكْس فيبر). وَمِن أَجْلِ تَوْضِيحِ هٰذا الأَمْرِ لِنَنْظُر إِلَى المارْكِسِيَّةِ بِوَصْفِها نَظَرِيَّةً فَعَلَى الرَغْمِ مِن تَغايُرِ مُعْطَياتِها وَتَصَوُّراتِها عَبْرَ الزَمَنِ، إِلّا أَنَّ المُجَدَّدِينَ حاوَلُوا دائِماً المُحافَظَةَ عَلَى النّسْغِ الأيديولوجِيِّ المُتَكامِلِ لِنَظَرِيَّةٍ تَزْعُمُ أَنَّها تُدافِعُ عَن حُقُوقِ المَظْلُومِينَ وَالمَقْهُورِينَ فِي التّارِيخِ الإِنْسانِيِّ. وَمِثْلُ هٰذا الجانِبِ العَقائِدِيِّ مازالَ غائِباً فِي الاِتِّجاهِ التّفاعليِّ الرَمْزِيِّ(81).
وَمَهْما يَكُنْ النَقْدُ صارِماً وَفَعّالاً، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ نَذْهلَ عن أَنَّ الأَعْمالَ الَّتِي قُدِّمَت فِي مَجالِ التّفاعل الرَمْزِيِّ فِي الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ ما زالَتْ تُشَكِّلُ ضَرُورَةً تارِيخِيَّةً مُلْهِمَةً لِعِلْمِ الاِجْتِماعِ، فَالعَمَلُ عَلَى فَهْمِ الصَغائِرِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فَهْمٍ أَكْبَرَ لِلكَبائِرِ.
وَتَأْسِيساً عَلَى ما تَقَدَّمَ، كانَ عَلَى النُقّادِ أَنْ يَتَناوَلُوا التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ بِالنَقْدِ وَالتَحْلِيلِ ضِمْنَ تَوَجُّهِ الاِسْتِكْشافِ النَقْدِيِّ لِمُعْطَياتِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ وَمَدَى قُدْرَتِها عَلَى اِسْتِكْشافِ وَتَحْلِيلِ الواقِعِ الاِجْتِماعِيِّ مِن مَنْظُورِ تَفاعُلِي. وَقَدْ سَجَّلَ النُقّادُ كَثِيراً مِن المُلاحَظاتِ النَقْدِيَّةِ الصارِمَةِ إِزاءَ الحُمُولَةِ الفِكْرِيَّةِ لِلتَفاعُلِيَّةِ الرَمْزِيَّةِ.
وَفِي الخِتامِ، تَجِبُ الإِشارَةُ إِلَى أَنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ ما تَزالُ فِي طَوْرِ نَمائِها، وَأَنَّ مَوْعِدَ قِطافِها الأَكْبَرِ قَدْ يَأْتِي مَعَ الزَّمَنِ القادِمِ، وَقَدْ بَيَّنَت المُلاحَظاتُ وُجُودَ تَيّاراتٍ عَمِيقَةٍ فِي قَلْبِ التَيّارِ تَنْشُدُ إِحْداثَ تَغَيُّراتٍ عَمِيقَةٍ فِي بِنْيَةِ النَظَرِيَّةِ، وَتَعْمَلُ عَلَى تَطْوِيرِها، وَصَقْلِ مَفاهِيمِها، وَتَحْقِيقِ التَراكُمِ البَحْثِيِّ، فِي مُعْطَياتِها وَمَناهِجِها. وَفِي هٰذا السِّياقِ تَنْدَرِجُ مُحاوَلاتُ "تْشارلز موريس" العِلْمِيَّةُ فِي مَجالِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ، وَتُعَدُّ أَبْحاثُهُ الجَدِيدَةُ الأَكْثَرَ حَداثَةً وَقُدْرَةً عَلَى تَطْوِيرِ النَظَرِيَّةِ، إِذْ يَنْصبُّ اِهْتِمامُهُ عَلَى دِراسَةِ الظَواهِرِ التّفاعليَّةِ عَبْرَ عَمَلِيَّةِ تَحْلِيلِ الرُّمُوز وَالإِشاراتِ وَالأَصْواتِ وَالمَعانِي، بِمَنْهَجِيَّةٍ تَأْخُذُ أَبْعاداً أَدَبِيَّةً وَلُغَوِيَّةً وَسوسيولوجِيَّةً. وَقَدْ عَمِلَ عَلَى تَوْلِيدٍ نَسَقٍ مِن المُصْطَلَحاتِ وَالمَفاهِيمِ الَّتِي يُمْكِنُ تَوْظِيفُها فِي تَحْلِيلِ طَبِيعَةِ التَّواصُلِ الإِنْسانِيِّ، وَدِراسَةِ الوَسائِلِ الاِتِّصالِيَةِ الَّتِي يَعْتَمِدُها الأَفْرادُ فِي التّفاعل الاِتِّصالِيِّ. وَيُمْكِنُ فِي هٰذا السِّياقِ الإِشارَةُ إِلَى أَعْمالِ كُلٍّ مِنْ "كِنْسِيس (Kensass)"، وَ"هيل (Hal)" الَّتِي كُرِّسَتْ لِتَطْوِيرِ نَظَرِيَّةِ التّفاعل الرَمْزِيِّ.
وَيُمْكِنُ القَوْلُ فِي نهاية المطاف: إِنَّ التّفاعليَّةَ الرَمْزِيَّةَ تُشَكِّلُ اليَوْمَ طاقَةً مَعْرِفِيَّةً سوسيولوجِيَّةً يتوسّع أَداؤُها فِي مُخْتَلِفِ البُحُوثِ وَالدِراساتِ السوسيولوجِيَّةِ وَالسيكولوجِيَّةِ المُعاصِرَةِ، وَلا سِيَّما فِي مَجالِ الاِتِّصالِ وَالمَعْلُوماتِيَّةِ، وَفِي مَجالِ دِراسَةِ وَسائِلِ الاِتِّصالِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَقَدْ شَهِدَت الساحَةُ الفِكْرِيَّةُ نَشاطاً كَبِيراً وَمُهُولاً فِي اِسْتِخْدامِ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ فِي مَجالِ التَّواصُلِ الاِجْتِماعِيِّ فِي زَمَنِ المِيدْيا وَالمَعْلُوماتِيَّةِ وَالتَواصُلِ الإلكترونِيِّ.
اضف تعليق