يختزل نيتشه مفهوم الاله كنتاج تاريخي رغم تجذره في حياة البشر، ويبادر نيتشه الى اطلاق مسلماته وبديهياته التي تصنعها خلاصات تاريخ بشري تمر في بَوتقة نيتشوية، وهي تصنع من أضداد الاله، او من اضداد مفهوم الاله، طريقة أو مبادرة في وصف مفهوم الاله وليس تعريفه.
انه وصف نقيض الحياة فهو (ينكص ضمن وحدة مرعبة-وفيها- كل ما هو مسيء ومسموم وكل كره للحياة) التي يتبلور مفهومها عند نيتشه من خلال مبدأ القوة، والقوة نعت الارادة. هذه القوة هي الضد المتجلي بالنسبة لمفهوم الاله عند نيتشه، فالاله يورث الضعف ويغذي الحمل مفهوما سلبياً في الحياة فتكون العبودية اخلاقاً. والحمل المسيحي حين يغذيه العطف اليسوعي يعده نيتشه تدريباً على ملازمة هذا الضعف. ومفهوم الاله هو الذي يبتكر العالم الاخر من أجل ان يفرغ هذا العالم الوحيد من المعنى وهي العدمية النيتشوية.
واذا كانت القوة أو إرادة القوة، هي احد وجوه المعنى النيتشوي لهذا العالم، فأن الوجه الاخر في المعنى، هو الحرية او حرية الارادة الانسانية التي تتجدد عند نيتشه في الغرائز التي يدين تحويلها الى طبيعة ثانية حين تدان حرية الارادة الانسانية من خلال مفهوم المعصية، فليس هناك نيتشويا سوى هذا العالم، هذا الجسد، اذا ليس هناك طبيعة اولى او ثانية، وانما هي جسد وحيد، او عالم وحيد. فالثنائيات منفية في فلسفة نيتشه، ذلك ان القوة لا تسمح الا لذاتها وبذاتها، فالنفي لغة القوة. لكن مفهوم القوة النيتشوي هو مفهوم انثروبولوجي استقر في وعي الغرب ومخياله، وتكونت حوله او تأسست فيه قيمة المركزية الاوربية، وتولدت عنه ثقافة النفي التي تختزنها المركزية الاوربية في ذاكرة ازمنتها الحداثوية.
فقد انتجت تلك الحداثة مقولة المركزية الاوربية وغذتها فلسفة القوة النيتشوية، حين قدس نيتشه الحرب باعتبارها تجليات القوة- نشبت حربان كونيتان، اوربيتان -حينها كان النفي بوسيلة القوة تطبيق عملي في ثقافات تنظيرات القوة، التي تحولت بشكل فعلي وتاريخي الى ارادة اوربية، فصار النفي مساوقاً لكل ارادة اوربية تجاه عالمنا، تجاه ثقافتنا، تجاه حقوقنا. ان تلك القوة العملية المنبثقة عن مفهومها النيتشوي – الانثروبولوجي، كانت تكمن او تحشد وجودها خلف عنوان كتاب (نفي اللاهوت) لمؤلفه ميشيل اونفري.
ان نفي اللاهوت في صياغاته النظرية يرتبط بمفهوم القوة النيتشوي، وفي اجراءاته العملية يهدف الى نفي الانسان الشرقي عبر نفي ثقافته، من هنا نفسر ان كتاب اونفري يبدأ بمطالعة نص نيتشوي يحيل مفهوم الاله الى النفي حينما يبين حذره من العالم الوحيد من الجسد، من ارادة الحرية الانسانية كطبيعة ثانية، بينما هو العالم، الجسد، الوحيد الذي يكون ماسواه نفي بالمطلق وبقوة تغيب فيه الثنائية، وتتمكن من تحريراته النظرية مفاهيم ومبادئ الاحادية التي انتهى اليها عالمنا وكأنه ينطق بنبوءة نيتشوية التي يجيرها لصالح الغرب كخلاصة تاريخية قبضت عليها اوربا، لكن عبر تمويهات القوة الخادعة التي ينشأ فيها المفهوم النيتشوي المنبثق وبتوافق مع نفي مفهوم الاله.
ان مفهوم الاله تذكير حقيقي بضعف الانسان، لكن من اجل ان لايتحول الانسان الى اله يتجسد في هتلر اوفي صدام، او يتجسد في دكتاتوريات العالم الثالث كسلوك سياسي مشين وغير انساني، او يتجسد في رؤية ثقافية وممارسة اجتماعية تنبذ الاخرين وتقصيهم الى الهامش على اعتاب المركزية الاوربية في العالم الحديث، وفي سياقات النفي كوسائل في الحياة والتاريخ، تنافس الايديولوجيا- العلم، وتنافس السياسة –المعرفة، وتنافس المصلحة- الموضوعية.
فالعالم والعارف والباحث يستنتج النفي، لكن السياسي والايديولوجي يشرع في النفي. لقد شهد عالمنا منافسة في العلم والمعرفة والبحث، واقتحم المنافسون الاعلاميون والسياسيون بل حتى مراسلين اعلاميين او صحفيين هذه الميادين، وتعرض شرط التخصص فيها الى النفي، فقد كان يكتب في الاسلاميات مستشرقون ومؤرخون متخصصون ومشغوفون بكتاباتهم وموارد تخصصهم العلمي والمعرفي - غولدزيهر، روزنتان، جاك بيرك، مكسيم رودنسون - ثم اعقبهم جيل من الكتاب الغربيين المتخصصين ايضاً لايرغبون باطلاق نعت المستشرقين عليهم -جبل كيبل، - وانهم يملكون معرفة بالتاريخ واللغة والحضارة القديمة، لكنهم يحرصون على دراسة الشرق والاسلام على ضوء المناهج المعاصرة في العلوم الاجتماعية. - الاسلام والحداثة، الاجتماع السياسي، ص49، حوار مع رضوان السيد –
ورغم انهم لا يخرجون من الرؤية الامبريالية تجاه الاخر (الشرق والاسلام)، وذلك هو منطق الاشياء في البداهة الانسانية الاجتماعية والتاريخية، وتلك البداهة هي التي تقرب او تقارب المخيال في وعينا الخاص كبشر، الا ان طغيان تلك البداهة وانتقالاتها في تفعيل ادوار المخيال الاجتماعي، جعلت من تغولات المسافة غير المشروطة بالتخصص مجالاً تزدهر فيه الاحكام المبتسرة والتقييمات التي تفتقر الى خبرة المعرفة والممارسة النظرية في مجالات متخصصة. والا كيف نفسر عبارة اونفري (وضح لي بعد وقت من الصمت انه مسلم قبل ان يدخل الجنة عليه ان يمر بالحساب) - نفي اللاهوت، ص10 - وفي وسائل النفي المتبعة في لغة القوة يحوّر اونفري مبدأ المعاد الديني والمبني على قضية وجودية كبرى من وجهة نظرية دينية هي قضية الحق التي تكشف عن روح الحساب وحقيقة لقاء الله تعالى مع الانسان. انه يجعلها تبدو ازمة ضمير غير مقنعة من وجهة نظره، تتعلق بخطأ او ذنب اقترفه مسلم بدوي يسحق ابن آوى على طريق صحراوي ويستشعر. اونفري تلك النزاهة الخلقية في نفس هذا البدوي الموريتاني الا انه يحلو له وهو يتحرك باللاوعي الاوربي بالقوة (ان يحرر روحه من ذلك الانسان المستقيم النزيه) ولأنه يتزود عن تلك الصورة النمطية للإسلام، فانه يحيل هذا البدوي الموريتاني المسالم والبسيط، وكذلك ارهابي الحادي عشر من سبتمبر، الى تأييد كليهما عبر الكتاب المقدس في الاسلام وهو القرآن، رغم انه يبدو امراً غريباً بالنسبة اليه، الا انه لا يعيد النظر او يبدأ في مراجعة ذلك التناقض السلوكي مع وحدة المصدر لكلا السلوكين وفق تصوره. ان منطق القوة دوماً لا يعيد النظر، وارادة القوة تنتقل عبر السطوح ولاتختبر الاعماق، انه اختزال امبريالي عقيم. يتسبب عنه اصطدام الارادات عنوة عبر الاستفزاز وممارسته كاحدى تجليات القوة مفهوماً وارادة.
ذلك التصور يجعل من اقتراب عبدو الموريتاني من القداسة بالمقارنة مع بربرية الحادي عشر من سبتمبر مجرد خداع يأسف له اونفري، وشعوره بالاسف ناجم عن الوعي بامتلاكه القوة، لكنها تلك القوة التي تخادع ذاتها بالشفقة وحقوق الانسان، بالأسف على ثقافة عبدو، ثقافة الامن والسلام، لأنها نيتشوياً ثقافة الحمل الوديع او اخلاق العبودية التي اجهزت عليها قيم الامبريالية الصناعية. هو ذلك ما يدعوه الى مواجهة العالم وجهاً لوجه وفق خطابه الوجودي، حين يصرح بانه رأى الله تعالى بكل امكنة العالم المتعبدة والمقدسة، لكن يفسر كل حضور الله تعالى في هذه الحيازات الروحية والقيم الدينية بانها نتاج روايات ينسجها الخيال من اجل ان لا يرى العالم وجهاً لوجه. ان رؤية الله تعالى تمنعه من مواجهة العالم وجهاً لوجه. وذلك مبدأ القوة الذي يجادل اونفري بامتلاكه كإمبريالي حديث.
وهو مثال في انفلات المركزيات المعرفية والقواعد البحثية، فالمركزيات المعرفية مثلها مثل كل مركزيات الحداثة، تعرضت الى السحق المدمر لها في ما بعد الحداثة، التي شككت في معيارية العقل وارساء الجوانب الانسانية على مركزيته، ثم هو في جملة الصعود الهامشي على كل المتون التي شكلت خلاصة تاريخ الانسان.
ان عبث الفوضويات والاضطرابات النفسية والسلوكية التي يشهدها المجتمع الانساني. ويستشعر اونفري فظاعة القوة في داخله الاخلاقي الذي يريد له ان يكون بديلاً عن اخلاق الدين او الاخلاقيات التقليدية في الاديان. لذلك يعلن في بداياته بانه لا يحتقر، بانه لا يسخر، بانه لا يجد ما يبعث على الشفقة الاخلاقية تجاه اولئك الذين يرون الله تعالى انه عطوف على اولئك المخدوعين. هكذا يبدو في قطع معرفي ويقين ثقافي تجاه ما يكتب في اولئك الذين يبدون كلهم متماهون، مسيحيون، مسلمون، يهود.
انه يتحدث عن البؤس الروحي الذي يغري او يعيش فيه اولئك الذين رأوا الله، وان خيالاتهم لاتني تثبت لهم تلك الرؤية. لكنه لا يناقش اوليات الخيال، كيف يبدو هذا الخيال في ذات الانسان؟ كيف يتمدد في حياته بعد ان يغزو مشاعره واحاسيسه ويمثل بالنسبة اليه حلقة وصل في الوجود او حلقة فهم في الوجود وفي اصل التجربة الوجدانية؟. لا يصيب المرء ان يعود بكل ذلك الى الخرافة الى الاساطير، الى الحكايات الجديرة بالأطفال مثلما يصنع اونفري. ان الخيال هو عمق الانسان وهو توصيفه وجوده وهويته المفارقة في عالم الاحياء. ان جدب الخيال يعني القوة المفرطة في نفي الانسان لذلك ختم عصر مقولة موت الله بموت الانسان.
ان احتفاء الانسان الحديث بالقوة في مواجهة العالم وجها لوجه، هو تعبير عن هاجس الخوف الذي تحفل به نفس هذا الانسان. فتوكيداته على القوة نابع من خشيته من لحظة ضعف في مواجهة هذا العالم. انه توكيد متكرر على عدم الغفلة عن القوة، قد نجد معناه في نتائج تجذير القوة الاعمق عند ميشال ميسلان في مفهوم الانسان الخاضع الى الرعب من التاريخ الذي يعتقد انه صنعه. انه درس امبريالي اخير في تجذير القوة عبر نفي الاله ونفي الدين، وتحميله من جهة اخرى وزر استلاب مواجهة الانسان لهذا العالم وجها لوجه. وهو استلاب لا يعدو ان يكون ممارسة امبريالية اخضعت لها شعوب عديدة في العالم وفي منطقتنا في تجربتنا التاريخية الحديثة. ان حالة الاستلاب وتحريف مسارات المواجهة مع الامبريالية نحو اللاهوت والدين وتبرير الاستلاب عبرهما، انما هو محاولة في تنقية الصورة الامبريالية عن كل اتهامات الشعوب لها، واحالة مسؤوليتها الى ذات الشعوب، لانها تخضع الى مفهوم الاله وهيمنة الدين الذي صارت تنافسه الامبريالية في ادوار الهيمنة. مفهوم المسيح - المسيحية، تاريخ بلا مسيح.
ان رؤية العالم الوحيد هي التي تمنع اونفري من رؤية المسيح حقيقة تاريخية، لكن هناك تاريخ اسمه المسيحية. هنا يعد اونفري المسيح مفهوما مثل مفهوم نار هيراقلطس، او عالم مثل افلاطون، او مفهوم متعة ابيقور، لكن الفكرة- المسيح تؤدي لفكرة مثالية تستوعب العالم في رؤية اخرى سادت وانتشرت وكونت امم ودول، لكن صاحبها غير مشخص تاريخيا، بينما عجزت مفاهيم هيراقلطس وافلاطون وابيقور المشخص عن انجاز ما انجزته المسيحية. هل بفضل بولس، ذلك الشخص التاريخي ام بفضل الفكرة - المسيح ام بفضل الشخص - المسيح ؟.
ان اونفري يرى ان بولس وقسطنطين وطرائق العنف والقوة والغاء الماضي اليوناني باحراق واتلاف وثائق عصوره الاولى، هي التي فتحت بوابة الانتشار المسيحي، ثم ظهور الارشيف المسيحي الذي هو صناعة ايديولوجية في رأيه، وبفضل النساخ المسيحين الذين أعادوا ترتيب محتويات ومخطوطات العصور القديمة وجعلها تنخرط في التاريخ الصحيح الذي هو تاريخ المسيحية.
لكن تاريخ الكنيسة المسيحية يذهب الى الضد من ذلك فان قسوة السلطة والمؤسسة الدينية اليهودية في فلسطين والوثنية في روما، واحتمال الالام والقهر الجسدي وتسامي الشهادات الكبرى في تاريخ التضحية المسيحية حتى نعتت الشهادة والتصوف بمغزى واحد في المسيحية، هي التي فتنت قلوب الناس بهذا الايمان. فعندما يتحمل اولئك المسيحيون الاوائل كل هذه الوحشية الوثنية، ويتركون طعما للأسود في حلبات المصارعة وتحرق النساء ويبقى الامل معقوداً في القلوب على الايمان والخلاص، هو ما يدفع الى القول بانهم يرون عالماً اخر.
هو ما يمنح القوة في النفوس الدينية، انه مواجهة هذا العالم في قسوته، في اضطهاده، في محاولة مسخه للإنسان تحت وطأه الوثن الجامد. ان المسيح عيسى وكل الانبياء الذين سبقوه الى ابراهيم الخليل الاب الاول للأنبياء، لم تدون اسماؤهم في الوثائق، ولم تكتب عنهم تواريخ العالم القديم او يتناول اسماؤهم مؤرخو الامم والدول القديمة، لأنه جزء من عملية محو شامل كان يمارسه طواغيت عصور الانبياء. يقول النبي محمد (ص) (لكل نبي طاغوت) ذلك ان الانبياء لم يظهروا في تاريخ الانسان الديني الا في عصور الطاغوتيات الفائقة. في تلك المحن الدينية لم توثق سير الانبياء ولم تدون وقائع بدء دياناتهم وتاريخ دعواتهم، بل كان حرق الانبياء وقتلهم بمثابة حرق وقتل الوثائق والتوثيقات.
ثم ان الكتابة كانت مهنة، او تدخل في مهنة الطبقات العليا واختصاصها، وكان الانبياء يبعثون في الطبقات الدنيا وطبقات المجتمع الاقل حظاً في كل شؤون الحياة، ومنها التعليم والتدوين. من هنا لم توثق سير واسماء الانبياء وحوادثهم في نبواتهم، الا عبر الروي الشفوي لاتباع ديانات هؤلاء الانبياء. اضافة الى ذلك فان الكتابة ليست مجرد رقم للحرف او خط للحرف، بل الكتابة مؤسسة تتشكل عبر القوة، سواء قوة المال، او قوة السلطة، او الوجاهة عند السلطة. وكان قد قدر لمجموعة من اتباع الانبياء ان تدخل في دوائر القوة حين تمكنت من السلطة او لقيت قبولا في هذه السلطة، ان تكتب او تدون سفرها وتاريخها وبعاطفة دينية في كتاب يعد هو اول كتاب ممنهج في كتابته وصيغ اسلوبه –التوراة- التي ظلت الى يومنا هذا منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وفيها دونت اسماء وسير الانبياء، لكن القوة الى انتهجها الطغاة ضد الانبياء تتكرر اليوم في اختزال تاريخ الانبياء وتحويله الى هستيريا عصر مرت به الدولة الرومانية، هستيريا جماهيرية وشعبية دعت الى الايمان بدعوات الانبياء، لكن ليس هناك بحث في ظل هذا الاختزال لكل تاريخ النبوات في اسباب هذه الهستريا، في عوامل الدفع بها نحو مواجهة اقوى دولة آنذاك. وفي هذا العصر حين لا يفقه او نفري تلك الاسباب من الطبيعي ان ينعت هذا العصر بالهستريا او بالجنون، حين يصف هذا العصر بانه يضج بأفراد على شاكلة عيسى من المجانين، ثم يفسرها تاريخياً بانها عملية او موقف رفض يهودي للهيمنة الرومانية.
ترى لماذا استمرت آثار هذا الرفض او هذا الموقف في دين، في عقيدة الهية، في نفس ديني؟ ما هو استثناؤها من بقية المقاومات ورفض الهيمنات التي مارستها شعوب اخرى ضد سلطات قائمة؟ لماذا لم تخلف دين او عقيدة في دين؟ لعل اونفري لايدرك في وعيه الخاص ان هذه المفارقة هي التي تقف خلف تتبعه لمنشأ المسيحية وظهور عيسى الذي يعتبر ان القديس بولس هو الذي خلقه، وان احد رفقائه وهو مرقص هو ليس مؤلف الانجيل فقط، وانما مؤلف قصص ومغامرات لمن اسمه عيسى.
فالانجيل خيال طافح دون نية سيئة، ما الذي يجعل اونفري ينفي النوايا السيئة في نفوس محرري الانجيل؟ انه على طريقة اختزاله لكل الاشياء في الدين والنص المقدس لا يكشف عن اسباب نفيه النوايا السيئة في نفوس اصحاب الرسل. قد لايريد ان يغامر بوصف الاديان بانها غير سيئة النوايا.
آلهة الانسان
ما الذي يجعل الانسان يخلق آلهته، او بالأحرى آلهة في كل ازمنته، في كل عوالمه، حتى ان يخلق الهة على صورته؟ وفق اونفري استنتاجاً عن اسبينوزا.
بينما يذهب متصوفة الاسلام الى ان الاله خلق الانسان على صورة الاله، فهو انسان كامل من وجهة نظر اولئك المتصوفة، فهو اله وصورته انسان رحيم ودود ورؤوف وغفور، تشف روحه عن الحب. ويختزل الصوفي العالم كله في الاله، فيغدو العالم مطلقاً، انه مطلقاً محررا، ذلك هو الروح الصوفي. ان الاله الصوفي يضع يده على مواضع الالم في الانسان فيشفى - الكرامة الصوفية - انها يد حانية حتى على اولئك العصاة المردة. لكن حين يخلق الانسان الهه على صورته اي على صورة الانسان، فانه وفق تصور اونفري عنيفاً غيوراً منتقماً كارهاً للمرأة، عدوانياً، غاشماً، متعصباً، انه نحت لجانب مظلم في ذلك الانسان، انها غريزة الموت، وليس هناك اله سوى هذا الاله الذي يصوره ذلك الجانب المظلم في رؤية اونفري، انه استنتاج متأخر عن سلوكيات بعض الاصوليات الدينية في عالمنا يفسر بها اونفري فكرة الاله بأثر رجعي.
لكن هذا الانسان الذي يخلق الهه، يجد نفسه قلقاً متوتراً في خلق وجوده. هو يعلم بداهة انه لم يخلق وجوده، لم يكن له اختيار في وجوده، لكن اونفري يصر على انه خلق الهه، انها مفارقة كبرى.
ان الانسان بداهة لم يكن له اختيار في وجوده - لكن اونفري لايمت بفكرة اليها بصلة، وان عمق الوجود البشري الذي يشكل تلك المفارقة محوره، اخترقه مبدأ القوة وسلب الانسان كل احساس به. ومن صور سلب الاحساس الديني بالوجود ان اونفري يصور الانجيل وهو يُشوق الموت ويبث الجانب المظلم في الحياة. اذا ما الذي يصنعه طغاة روما، ما الذي ينتجه حكم اولئك المستبدين بمصير الشعوب ؟، هل هي تعبأة غربية باتجاه الدفاع عن الاقوياء لانهم اقوياء، لانهم اسلاف اوربا العظام؟
مراجعة التاريخ البشري يحيل هناك الى استغرابات واستفهامات متعددة امام اونفري، لكنه يمارس اسقاطاً للتهم المدونة في المأساة او في تاريخ المأساة على مفهوم المسيح او فكرة الاله، لماذا اله اونفري عنيفاً غيوراً منتقماً كارهاً للمرأة عدوانياً غاشماً متعصباً؟ لانه صدى الانسان الداخلي حين يخلقه هذا الانسان. لماذا لايكون ودودا رحيما لطيفا محبوبا؟ لان الانسان الذي يخلقه ليس على تلك الطبيعة الجميلة من وجهة نظر ثقافة اونفري، ثقافة الغرب التي ترى الانسان انه بطبيعته ذئب، وان الداروينية الاجتماعية تقصر البقاء في الانسان للأصلح - الاقوى وان غريزة الدمار متجذرة في الانسان عند فرويد.
اونفري والزمن غير المتعين
يلجأ اونفري الى رحلة غير متعينة في زمن غير متعين، انها تعليق على زمن انطولوجي، ولأنها تخوض في زمن مستقبل غير مرئي ولعله غير متوقع فأن رحلته لا تخلو من بعد ملحمي، وهو يصفها بالملحمية لكنها تشترط نوعا من تحرر آخر عبر منظور انطولوجي، انها محاولة في التحرر من كل اثقالات الوهم النيتشوي في موت الاله. فالاله لازال جزءا من احساس انطولوجي عسير تجاوزه بعد ان يشكك اونفري في الاجابة على سؤال يطرحه هل مات الاله ؟ انه يخلص في تجربته البشرية وعلى مستوى يبدو شخصياً، الى ان موت الاله لعبة انطولوجية. فالرعب في مواجهة العدم الذي ينتج الالهة، انه الرعب الذي يسلب الانسان القدرة على تمثل الموت كمسار طبيعي هو الذي يدفع الانسان الى انتاج آلهته، لكن سرعان ما يتحول عند اونفري الى اشكالية انطولوجية حين يتناول البحث الحفري في اصول المفهوم، مفهوم الاله، مفهوم الالحاد، مفهوم الاصل الاول للانسان، بالنتيجة تتساوى لديه كل الاصول في وهمها، في خيالها، وهو محور اشكالية انطولوجية امام انسان نخرته الحضارة الحديثة ونخرت فيه كل شيء قديم، فصار يرى ان مفهوم الاله هو نتاج مرض العصاب، واما مفهوم الالحاد فأنه تتجدد به اشكالية العدم عند اونفري فيظهرها حقيقة او واقعة تنجر اليها فكرة الالحاد، لكنها ضرورية للاستبدال بموت الاله. انه سعي الى تحطيم تكنيكات وخلاصات النفس بما هي شعور او احساس بحياة او بالحياة.
فالاله او الخلاص هو شعور بالحياة عند المؤمنين. لكن اونفري يعيد ترتيب تلك التكنيكات والخلاص الى سطوة العقل، من هنا يشدد على اهمية الايمان بالعدم وتحقيقه، او واقعة ينقاد اليها العقل او الفكر الجبري - الحتمي بعد ان يعجز عن اخضاع مفهوم الاله الى سطوته، الى سلطته. فالعالم عقل يقود الى احياء الجسد، لان الجسد يمتلك امكانية موضوعاً للعقل، اما الروح فان العقل يفتقد الى امكانية اتخاذها موضوعاً، لقد صار بإمكانه ان يقارن مفهوم الاله بمفاهيم تخضع الى نطاق البشري عبر العقل، منها مفهوم الفن، مفهوم الفلسفة، مفهوم الميتافيزيقيا، مفهوم اللحن، مفهوم السياسة، عندما يعتبر الموت الذي شملها في القرن العشرين هو جزء من الموت الذي شمل الاله.
من هنا تنحط لديه تجربة الانسان المثالية الى تجارب من المعرفة اصطنعها العقل البشري مع اختلاف مستويات كلا التجربتين او مديات تفاعلها مع الحالة الانسانية، من هنا تكون الروح موضوعا غير خاضع للعقل، لاسيما ان العقل جزء من ذات الروح في الفكر الديني – الشرقي، لكن اونفري يظل على ملازمة المقارنة بمفاهيم تخضع للعقل البشري. لكن الحاجة شيء يند عن الخضوع للعقل ان الحاجة تنتمي الى ذات الفضاء الذي ينتمي اليه العقل، انه فضاء الروح. فالإله تعبير عن حاجة في ادارة عالم يملاه العنف والسوء والالم، وحين تشبع حاجة الانسان الى عالم يخلو من العنف والسوء والالم لا يعد هناك مكان للإله في هذا الفضاء، هذا النوع من العالم. لكن اونفري لا يستشعر ان تلك الحاجة تمتد الى خلف ذلك العالم، انها حاجة في الوجود، يحتاج الانسان الى الاله من اجل السلام، وحين يتحقق السلام فان الحاجة تبقى الى ديمومة السلام، ويتولد القلق حين يستشعر الانسان الخطر المحدق بالسلام الذاتي –النفسي-والموضوعي –العالمي-.
واذا امنت ظروف التاريخ والاجتماع حالة السلام في العالم وان كان جزئياً في تجربة التاريخ البشري، فان الحاجة الى السلام الداخلي تظل يشوبها التوتر المستمر، وهو توتر دائم يجد صيغته في القلق الوجودي. فالإنسان ازاء التاريخ والاجتماع يستشعر الحاجة الى الابدية، والابدية لا تتحقق الا عبر السلام الداخلي. التاريخ غير ابدي، والاجتماع غير ابدي، لكن الاله هو الابدي، من هنا تنشأ الحاجة الى الاله على مستوى العمق الداخلي للإنسان، انه عمق توتر واستشعار الابدية. حينها يغادرنا القلق عبر الاله الذي هو استجابة الى شعور الابدية الذي هو على الضد من شعور الفراغ، هذا الفراغ الذي احدثه غياب الاله، والعالم الذي صار خالياً من الروح، استساغة التعبير عنه بالجسد او عالم الجسد، نكتشف آثار هذا الفراغ في استبطان القلق في مشاعر اونفري وهو ينفي الاله.
وليس هناك اكثر من تعبيرات القلق في ازدواجية النزعة بين الايمان والالحاد التي يحاول اونفري ان يجعلها بداهة تاريخية في اصول النزعة الالحادية، وان الشيطان يولد معاصراً للاله. وهي اسس وفكرة الالوهية في كل الاديان، لكن اونفري وهو يتحرك على اساس جزء منها يريد ان يقاوم الاله ذاته وان يصارع الاله ذاته فهو يستبطن في مشاعره اقراراً بهذا الاله لكنه يريد سحقه، يريد ازالته. انه يقول ان الاله يبدو خالداً، انه يقول ان الاله يوجد في نفس الوقت مع الشعور بالقلق امام فراغ الحياة المتناهية، لكن هذا الشعور قار وثابت في الانسان. من هنا يبدأ اونفري يخوض صراعه مع هذا الشعور البدهي انتصاراً للعدم، او تقريره شعور بدهي انه يدعو للإيمان به، وان كان العدم فكرة حتى عند اونفري والقلق شعور، فانه حين تتقمص الفكرة الشعور فإنها تغدو ديناً. ان اونفري يطرح الحل تجاه الشعور بالقلق في فكرة العدم، اذا هي محاولة في تأسيس دين، خصوصاً انه سعي انساني من وجهة نظره في استمرار الحياة بالرغم من طابع الموت المحتوم، وتلك هي عباراته. والموت المحتوم هو جزء من اشكالية العدم بالنسبة للعدميين، حين يكون الموت رغماً حتماً، فأنه اكراه بالنسبة لأونفري على الايمان بالالحاد. والاكراه حالة ملازمة للدين، سواء كان مؤمناً او ملحداً. لكن الايمان يخلو من اكراهات نفسية فهو يختلف عن العدم، الايمان هو انفتاح على وقائع اخرى تدعو الى الايمان بها او بأنبعاثاتها في الوجود، انه يستمد طاقته من البداهة البشرية. لكن الالحاد ينكفأ على وقائعه ويضيق في افق تاريخه وفي تاريخ الانسان عامة، فالالحاد وفق اونفري متأخر في تاريخ الغرب، وهو كأوربي يتعين عنده تاريخ الانسان في تاريخ الغرب، ثم هو يعد الالحاد جزءا من مشاكل السياسة وهو يبريء الاله من وصف الذي ينفيه، اي ينفي الاله بانه ملحد، وكذلك لا يعبر الملحد عن نفسه بهذا الوصف عند اونفري، وانما يعبر بها الاخرون عن الملحد او وصفه بالالحاد. وبالقدر الذي يجعل الدين يعفي الناس من التفكير، فان الالحاد واستنتاجاً عن اونفري او لعله تناقضاً عن اونفري، لا يفترض حصيلة التفكير، لان سعي اونفري في الالحاد هو نقله من فكرة الى الشعور عبر محاولة استساغة العدم شعوراً بدهياً في الانسان، وهو هدف اونفري الايديولوجي. وحين يكون الايمان منفتحاً على وقائع اخرى بخلاف ضيق الالحاد في التاريخ والجغرافيا، فان مفهوم الاله يتجاوز التاريخ والجغرافيا، من هنا ينخرط اونفري على الرغم من عدم اتفاقه مع هذا المبنى في اعتبار كل اسماء الالهة تاريخياً وجغرافياً (تسمي نفس الحقيقة الخيالية الخادعة بمسميات مختلفة).
ان اختلاف اسماء تلك الحقيقة الخالدة وتشعبها في الجغرافيا والتاريخ، هو مايمنح الايمان لها وكادة ووثاقة اكثر في نفس المؤمن، انه الاله (المعبود في كل زمان ومكان) كما جاء في دعاء سيد العابدين على ابن الحسين - ع - بينما ينبعث الالحاد اكثر في نفس اونفري وجزء من الالحاد كفكرة وقبل تجذيرها كشعور في العدم، تنبعث في تركيبة الانسان الذي يبقى ينظر اليه اونفري على انه صناعة بشرية ممكنة، عبر صناعة الفكر الذي بدوره يتحول الى شعور مع الحاجة الى الاف السنين في رأيه. انه جزء الالحاد كايديولوجيا تاريخ مختزل من هذا الالحاد كايديوولوجيا.
يسعى اونفري الى جمع كل الاديان وصور الايمان بالاله في سلة واحدة تختزل كل تواريخ هذه الاديان، تختزل كل عقائدها المتعددة والمتنوعة، ولا أقول المختلفة، انها سياسة القوة في تركيبة فكر الغرب التي شرط تنفيذها في الاختزال. وهو يتحكم في تاريخ هذه الاديان التي استمرت وفق تقديره خمسة عشر قرناً، فالإيمان بالإله وفق جردته واختزاله، هو حاكم سياسي ومطلق في التاريخ استنتاجاً عن تاريخ اوربا الخاص وسلطة الكنيسة المسيحية، هكذا يسعى الى تعميم حتى استنتاجه اللغوي في فقر المعجم الملازم لمذهب فكرة نفي الاله بدلالة التراث الديني المسيحي باوربيته حصراً. وهو يجادل في الملحد باعتبار التعبير عنه صيغة وضعها رجال الكنيسة وبثقل سياسي اكثر مما هو موضوع بالإيمان بالاله، وهو ما جعل الحكم الكنسي في مواجهة الالحاد. ويفصل اونفري القول في هذه المواجهة، لكنه يعبر من خلال هذه المواجهة الى وضع الالحاد في مواجهة الايمان بالاله، وهنا يبدو اكثر اختزالاً. فالالحاد موقف سياسي وليس انطولوجي في تاريخ المواجهة مع الكنيسة، ويذهب اونفري الى نفي الالحاد عن فلاسفة وصموا بالالحاد من قبل مؤسسة دينية وثنية او كنسية، ويرى انهم مؤلهين لكن آلهتهم تختلف. ويبقى التاريخ الاوربي والسياسة هو هاجس اونفري في معاملته الفكرية للايمان بالاله والالحاد.
ان اونفري يقسم تاريخه المقترح والخاص به كأوربي الى عصر مسيحي - يهودي لازالت اوربا تعيشه، ويتداخل فيه عصر ما بعد مسيحي لازالت اوربا تعيش تمهيده، ويبرز بينهما عصر عدمي يمهد وفق اونفري الى عصر ملحد كنهاية حتمية للتاريخ البشري.
وفي عقيدة اونفري فان عصره الحاضر اي عصر اوربا وان شهد انتهاء الممارسة الدينية، لكن الايمان لم يتراجع او يختفي، ويشكك في هذا الربط بين انتهاء الممارسة الدينية واختفاء الايمان، بل ينعى على انتهاء احتكار محترفي الدين وفق تسميته للشأن الديني بانه حرر اللامعقول وان انتاج المقدس صار اكثر وفرة.
ان اوربا في نظره مؤمنة مسيحية في الداخل العلائقي والاجتماعي، او ان الاوربيين في نظره هم مسيحيون مؤمنون في الداخل النفسي، انهم يذهبون في عقد القران الى الكنيسة، ويحضرون المراسم الجنائزية، ويطلبون البركة خلاف ما يدعون، وهو ينعت تلك الواقعة بالنفاق. وفي رؤيته فان اخلاق علمانية كانط التي شيدت عليها علمانية اخلاق اوربا وفي كتابة (الدين في حدود العقل البسيط) وارثة لصياغة الاخلاق التي بثتها تعاليم الكتاب المقدس، ان الدين يسكن بقوة في القاع الاوربي استنتاجاً عن ميشيل اونفري، ويستشهد على صحة ذلك بان القرارات الرسمية العلمانية المتعلقة بأخلاقيات علم الاحياء والطب تتوافق والمواقف المعلنة في الكنيسة. ورغم ان العلمانية تنبعث في مثل هذه الامور من مبادئ انسانية وضعية، الا ان اونفري يعتبر باعثها غير المعلن هو اخلاقيات الديانة المسيحية، وان العلمانية في اوربا تدعي زوراً استقلالها عن الاديان من وجهة نظر اونفري. انه كشف عن عمق الدين في اوربا او عن عمق اوربا الديني - المسيحي.
وان المحاكم العلمانية في اوربا تمارس عنفاً جذوره دينية -مسيحية حين تحكم بسجن مغتصب طفل.
اذا كيف يكون مصير اوربا الحادياً؟ سؤال لم يجب عليه اونفري. وجزء اخر من النزعة الالحادية التي يطرحها اونفري هو فصل الاخلاق عن المسيحية بالنسبة اليه كأوربي، واعمق من هذه الفكرة هو فصلها عن الايمان بالإله، فالخير لا يحتاج الى اله، ولا لسماء، ولا لترسيخ عقلي، بل يكون مكتفياً بذاته، ينتمي الى الارض بدلاً من السماء، ينتمي الى السماء بدلاً من الاله، وتلك قاعدته للعمل كسلوك بشري بين البشر، لكن اونفري يتجاهل دعوات الايمان بالاله وعلى مدى خمسة وعشرين قرناً وفق تحديده هو للتاريخ الديني، تلك الدعوات التي اسست وانتجت مفهوم الخير السائد في المجتمعات البشرية.
حتى ان مفهوم الخير الليبرالي الذي هو مفهوم علماني صرف يمنح او يصدر عن الدين والايمان بالإله في جذوره وتكويناته الاولى والفطرية.
اضف تعليق