التجربة الدينية نتاج للتفكير في الإيمان الفردي بعيدا عن هيمنة النزعة العقلانية، التي سادت أوروبا، والنزعة العلمية في الوضعية الجديدة التي رفعت من قواعد وقيمة العلم والدراسات الميدانية الموضوعية، بداية ظهور خطاب جديد، يولي أهمية للشعور والنزعة الذاتية، يعيد الاعتبار للإيمان من منطلق الاغتراب والاستلاب...
تقديم:
ساهمت مجموعة من المعطيات والحقائق في ميلاد فكرة الفرد، وتقوية الشعور والوجدان بالإيمان الذاتي في رحلة الفرد مع الدين، للتفاعل مع الظاهرة الدينية، والبحث عن الذات من أجل ولادة جديدة بوعي ينفلت من الرتابة والتنميط، وينجلي الوجود والحقيقة الدينية كما يشاهدها الفرد، ويدركها داخليا، وبناء على حقائق خارجية، توحي بالجلل وتظهر المقدس في أسمى المعاني والدلالة، التي تبهرنا وتشدنا نحو المطلق، البحث هنا يتعلق بالفهم وسد النقص في الظمأ الديني، والزيادة في الشعور عندما يلتمس الإنسان الحقيقة في المطلق واللامتناهي، ويعيد لذاته وهجا من خلال الإتصال بالخالق، بالتأمل والنظر، والتفكير في الأعماق حتى تنجلي الحقيقة بالكشف، ثم ترسيخ فكرة جوهرية مفيدة في الاعتقاد الراسخ الذي لا يستمد من الأخلاق الشعبية العامة، ولا من الخطاب الديني الخاص بالمؤسسات، أو من خلال الطقوس والشعائر الخاصة بالجماعة.
فالتجربة الدينية يمكن اعتبارها نتاج للتفكير في الإيمان الفردي بعيدا عن هيمنة النزعة العقلانية، التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، والنزعة العلمية في الوضعية الجديدة التي رفعت من قواعد وقيمة العلم والدراسات الميدانية الموضوعية، يعني بداية ظهور خطاب جديد، يولي أهمية للشعور والنزعة الذاتية، يعيد الاعتبار للإيمان من منطلق الاغتراب والاستلاب الذي سيطر على التفكير والإنسان معا، حاجة الفرد للشعور بذاته من جهة، وما يقوي إيمانه العميق بالوجود، ويطرح الذات أمام نفسها من خلال أسئلة وجودية مثيرة، وحيرة عن الحياة والموت والمصير، فناء الإنسان وتلاشى الوجود الإنساني، وغايات الفرد في واقع يعج بالمذاهب، والمعتقدات والأفكار الراسخة من قبل الجماعات الدينية، التي لا تعني سوى التنميط والتبعية للتعاليم والوصايا، مسارات الفرد صعبة ومعقدة في رؤية الأشياء كما هي، لا يقتنع الفرد بكل ما يعطى من أفكار جاهزة، ولا يملأ الأنا الأعلى بالترانيم والمراسيم والتطابق مع ثقافة الجماعة حرفيا، ولا يرتوي من الحقيقة الذاتية، والانزواء نحو الشعور في تجربة خالصة للتفكير بدون قيود.
في واقع التجربة الدينية يتغير الفرد، ويعيش هذه التجربة التي يصفها الفيلسوف وليام جيمس باعتبارها تجربة عابرة، ولا إرادية، وغير قابلة للوصف، ولا تنقل من شخص لآخر، سوى ما يكتبه أو يحكيه الشخص عنها، اهتزاز في الباطن وشعور بالخوف، مواجهة الله وإدراك حضوره في تجارب، مضمونها الأساسي الانجذاب، والحب والأمل، شعور باطني يتجاوز الحس، لا يمكن وصفه باللغة العادية، وأحيانا لا يمكن تصديقه، ونشعر أن الإنسان يعاني من هلوسات وهذيان، تجربة دينية متعددة الأشكال والأنواع، يمكن مقاربتها فلسفيا من خلال المنهج الفينومينولوجي، أو بناء على نظرة وجودية، أو من خلال رؤية سيكولوجية، وقراءة سوسيولوجية في ثنايا الدين ووظائفه في المجتمع، تبقى التجربة الدينية لغزا، لا يمكن النفاذ إليها من خلال أمثلة تاريخية حية، أو بناء على ما يرويه الآخرون عن أشخاص تميزوا بالكرامات، فكانت لهم مقامات ذاع صيتها بين الناس والأمم، عند الأنبياء والأولياء، والقديسين والمتصوفة في الأديان.
فكل تجربة دينية تبقى فردية بالأساس، تنفلت من التعبير والوصف، وتحاول أن تعبر عن ذاتها بالمشاهدات والكشف، بالتجلي والحضور، بالخوف والسكينة، تجربة ذوق وليست تجربة عقل، غوص في ثنايا الذات والربط المتين بين القلب واللامتناهي، والتفكير الروحي في الوجود يصل أحيانا إلى نسيان الإنسان لذاته، والإنهمام بالمقدس والمتعالي، شعور الإنسان بالرغبة في الفهم والمعرفة، تبقى التجربة الدينية شعورا باطنيا للبحث عن المطلق، والتفرد بميزة الإدراك الذاتي للحقيقة، التي لا يلمسها سوى من يتعالى على الحواس وينغمس في ذاته، ويتأمل في الموجودات، ويصاب بنوع من القلق والحيرة، التي تولد فينا لهفة الشوق، والقرب من الله، ومن المقدس بصفة عامة، في عملية لا تخلو من صعوبات ومكابدة، يتجدد الإيمان، ويسمو الإنسان، ويرتقي بالفكرة الدينية نحو تجربة أخرى، لا نلمسها عند العامة من الناس.
بمعنى آخر، لا يختزل الدين هنا في الطقوس والعادات، والمراسيم والقربان والتعبد فقط، لكنها تجربة ذاتية عميقة، شعورية ووجدانية، تدرك بالقلب وليس بالعقل والبرهان، أقرب ما تكون إلى تجربة الكشف التي نجدها عند المتصوفة، ومن عاش منغمسا على ذاته مكتفيا بما ما هو داخلي، كتجربة "بوذا" والقدسية "تيريزا" وتجربة الأولياء الصالحين عندنا، الذين يعتبرون الحقائق المدركة نتائج لإدراك لا يصل إليه العامة من الناس، إنها تجربة صعبة لا تعني الانفصال النهائي عن المضمون الديني، والتعاليم الناتجة عن التربية والتنشئة الاجتماعية في الوسط الأسري والاجتماعي، لكن في فرديتها، تعني التميز والتفرد في الفهم والتجلي للمقدس من خلال تجربة ذاتية صرفة، لا يمكن شرحها لإقناع الآخر بصدقها، تجربة خالصة للوعي في علاقة الذات بالموضوع، الذي لا يظهر للكل، ولا يحضر للحواس، ولا يمكن التقاطه بالمشاهدة والمعاينة، كل الرؤى تنم عن حالة وجدانية ونزعة صوفية، يمتلك فيها الإنسان رؤية للمقدس، وقرب من المتعالي، تنفلت هذه التجربة من التعبير، واللغة العادية غير قادرة في نقل وترجمة ما بداخل الإنسان من كنوز الأنوار، ولذة الذوق والمحبة في التماهي بين الإنسان والمقدس، حيرة الشخص متكررة، والشعور بالنقص يملي العودة للذات، حدود الإنسان في الفعل والشعور بالألم والخطيئة، من العوامل الدافعة للبحث عن المطلق في رحلة شاقة، حتى يستريح الإنسان من القلق، ويسعى للتطهير والتخفيف من ضغط الحياة ورتابتها، المعرفة الدينية فهم للوجود والمطلق، عودة من جديد للدين للتنقيب في الحقائق الكامنة من خلال اكتشاف المستور وراء الخطاب الديني الظاهر، الفناء والبقاء متلازمان.
الدين الفردي يستقى من التجربة الأصلية للدين وحاجة البشر للعقائد أمر طبيعي تمليه الطبيعة الإنسانية الميالة للسكينة والهدوء، والتي تجد متنفسا للجمع بين الروح والمادة، طبيعة الإنسان لا يمكن أن تكون مفعمة بالماديات دون الروحانيات، وظائف الدين موزعة بين الاجتماعي والثقافي والنفسي، والإنسان غير منفصل أو مقسم بين الأبعاد المختلفة التي تشكل وحدة الإنسان المركبة، التجارب الدينية بمختلف تنويعاتها شعور بالحاجة للمقدس، تهدأ الروح، وتنعم بالسكينة عند الارتواء من الدين، يمكن أن تكون شفاء للروح والعقل، إنه شيء باطني نعبر من خلاله نحو اللامتناهي، وينجلي المطلق فينا من خلال وحدة النظر بين الداخل والخارج، ما يسري في الطبيعة من عظمة الخالق أي الجليل بلغة كانط، وكل ما يدهشنا ويرهبنا في نفس الوقت، يخلق فينا الشوق والرهبة، وما يسري فينا من شعور وإيمان في دقة الخلق، وما يجعلنا كائنا متناهية في الوجود، يدفعنا بين الفينة والأخرى إلى فهم أعمق لما حولنا من أسرار وحقائق، لا تنكشف من ذاتها إلا في غمرة التجربة الدينية بالإتصال في رحلة الفرد نحو الخلاص، وفي بحث عميق نحو فهم المطلق، حتى ولو كانت قدرات وطاقات الإنسان في المعرفة محدودة.
هذا النقص الذي يصيب الإنسان في قدرته على الفهم والإدراك منبعها الركون للجاهز من الحقائق، ومسايرة إيقاع الدين المؤسسي ومرجعية الجماعة، ولذلك كانت رؤية الفضلاء من الناس والنوابغ من العلماء، والأولياء والقديسين وذوي الرؤى العميقة في ثنايا الوجود أرفع دلالة، وأغنى مما هو سائد في قناعات العامة من الناس. يمكن التفكير في التجربة الدينية على ضوء مجموعة من المقاربات الفلسفية، وعلاقة التجربة الدينية بالدين، وهل بالفعل هذه التجربة حقيقية أم مجرد أوهام تتجلى للفرد في زمن قلت فيه الخوارق؟ هل يمكن إيجاد ما يناسب التجارب الدينية في روح الدين أم أن التدين الحقيقي لا ينفصل عن روح الجماعة؟
أولا: في معنى التجربة الدينية
يجب الاعتراف أولا أن التجربة الدينية واحدة ومتعددة، وثانيا تتميز التجربة الدينية عن فلسفة الدين والتجربة الصوفية، لكن يمكن للنظر للتجارب الدينية من زاوية فلسفية خالصة بناء على مقاربات تأملية، واستنادا على رؤية فينومينولوجية لحالات الوعي والشعور في العلاقة بالموضوع اللامرئي، رغم الاختلاف الظاهر بين ما تحمله هذه الفلسفة في التشديد على الموضوع القابل للإدراك، لكن ما يحمله الوعي من قصد نحو موضوع يتميز بالتجرد والتعالي، إضافةللرؤية الوجودية التي تنهل من قيمة ما تطرحه التجربة للفرد في بعده الذاتي والمعرفي والقيمي، تصورات الفلاسفة من "كييركجارد ووليام جيمس وريكور ورودولف أوتو وولتر ستيس" وغيرهم من الفلاسفة، الذين حاولوا التأمل في حقيقة التجربة الدينية، وعلاقة الفرد بذاته في حدس وإحساس يتجه نحو المطلق والمتعالي، تجربة ذاتية صرفة، للتفكير في أعماق الوجود، وعظمة الخلق، وما تحمله النفس من كنوز وأسرار كفيلة بنقل الإنسان نحو إيمان أعمق، وسكينة القلب وصفاء الروح، تجربة قصدية، وشعور فياض، لا يقاس بالكلمات العادية، ولا تمسك اللغة العلمية أو العادية بدلالة المعنى.
فالتجربة الدينية ظاهرة متحركة لأنها ليست شيئا محددا يحصل مرة واحدة (على غرار الأصوات والرؤى عموما)، لا بل هي عملية مستمرة تتعدل خلالها نظرة المرء إلى العالم على ضوء تجاربه الجديدة وفهمه لها، وإذا كانت التجربة الدينية بمعنى، فرضا لله أو للحقائق الإلهية على الوجود، أي كل ما في حياتنا، فهذه التجربة بمعنى آخر، هي المجال الذي تتجلى فيه هذه الحقائق(1)، مواجهة الله أو الحقيقة المطلقة، هناك وهجا في النفس ينفلت من الوصف، استقرار وسكينة، وشعاع ضوء يخترق الذات نحو أفق، لا ينجلي إلا كوميض يخترق الذات في لذة لا يمكن وصفها، لذة العاشقين كما يصفها المتصوف، ولذة الناسك الذي يتجاوز ما هو سائد في العبادات والطقوس، نوع من "النرفانا "كحالة سلام تام للروح خالية من المعاناة والألم بالنسبة للبوذي، في عملية تطهير للروح من أدران المادة، وجزئيات الحياة المعاشة، ارتعاش الباطن، وتخليص الفرد من الخوف، تجربة متحولة ودينامية، تولد في الفرد شعورابالحيرة سرعان ما تنتهي للفهم واستقرار الروح، علامات التجربة الدينية متنوعة، من الاستغراب والتعجب أمام الجلل، والاندهاش أمام المقدس، والمقارنة الدائمة بين المتناهي واللامتناهي، حيرة وقلق تنم كما في الفكر الوجودي عن الوجود الأصيل، ضد الرتابة والسقوط في براثن اليومي، الابتذال والتنميط من خصائص الوجود المزيف، والإيمان الحر يجعلنا أكثر سعادة واستقامة في الحياة، تجاوز الذات نحو أفق أرحب، والتحول من الجزئي إلى الكلي، من نطاق ضيق نحو فضاء الإنسانية، ما يجعلها تجربة حقيقية غير معممة، شعور الفرد وحدسه للوجود والحقيقة، آلية الاستبطان كفيلة بإخراج هذه التجربة كفعل قصدي حتى يخبرنا الفرد عن طبيعة شعوره، ورغم كونية التجربة وعموميتها من جانب وجودها في كل الثقافات والأديان، فإنها متعددة ومتفردة، يعيشها الفرد لذاته، ويفصح عنها بأقواله، وتتجلى في الإيمان الحر الذي يتجاوز العقائد، وينهل منها في نفس الوقت، يعني أنها ليست منفصلة بالكامل عن الدين، لكنها قيمة مضافة له.
فالتجارب الدينية بمختلف مستوياتها وأنماطها هي منهل ارتواء الظمأ للمقدس، ومع أنها تختلف باختلاف البشر وتمثلاتهم للإلهي في البشري(2)، الإيمان ليس شيئا نتعلمه، ولا يستند على طقوس اجترارية حتى يكتسب الفرد مناعة ويتقوى إيمانه، ويشتد صلابة في طريق البحث عن المطلق، والتعلق بالمقدس، بل إنها تجربة فيها نوع من الجهد والمكابدة، شعور بالنقص والحيرة، يوازيه العمل والبحث في التغلغل داخل ثنايا الوجود، والانكفاء على الذات حتى يمكن تلمس الحقيقة، والانطلاق نحو الطبيعة والعالم، وما يصيبنا من دهشة أقرب إلى دهشة الفيلسوف، وحيرة العابد العارف بالله، فالدين جدل في الطبيعة البشرية، وجزء لا يتجزأ من هذه الطبيعة في بحث دائم عن حقيقة الوجود.
الموت وحدود الكائن في الزمان والمكان، الفناء والتلاشي، ما يصيب الإنسان من اعتلال وسقم، قفزة داخل الحياة وارتماء في أحضان الوجود، ولحظة مهمة في بناء الإيمان الحر، والشعور بالسكينة والسعادة، بعيدا عن شكليات المؤسسة الدينية، ووصايا الكنيسة، وبعيدا عن الفكر المثالي، والعقلانية الفجة، والوضعية المبالغة في تقديس العلم والنزعة العلمية، في تعميم قيم العقل والعمل والإنتاج، كذلك النزعة المادية في قراءة التاريخ بطرق خطية اتصالية، من هنا تبدو العودة للذات ضرورية للتفكير مليا في عالمنا من منطلق التجربة الدينية، والخبرة الخاصة بالفرد أكثر أهمية في بلوغ الحقيقة، يجب على كل واحد منا أن يكتشف لنفسه نوع الدين، ومقدار القداسة التي تتوافق بالشكل الأفضل مع قدراته، ومع ما يشعر أنه نداؤه الباطني، ومهمته الحقيقية(3).
رحلة الإنسان بمثابة تجربة ومغامرة مشوبة بالقلق والحيرة، تنتهي نحو اكتشاف عالم يمزج بين العالم الفردي والعالم الكوني، ولو كان في التجربة الدينية ما هو مبالغ فيه من شطحات صوفية، وخوارق، ومجالسة مجالس الأنبياء، والصعود للسماء، والقول بالكرامات والمعجزات لبعض الأفراد العاديون، فالأمر لا يمكن التسليم به، وتلك معجزات خاصة بالأنبياء والمرسلين دون غيرهم، وما يميز التجارب الدينية حسب رودولف أوتو هناك عاملين أساسيين: الغموض والخوف من المجهول والجذب، هذا الإحساس الممزوج بالخوف والدهشة في نفس الوقت مرده لوجود كائن أعظم، والإحساس بالفناء يولد فينا البحث عن ما يجعلنا نشعر بالسكينة والهدوء.
إن أصل حاجة البشر إلى الدين لا يكمن في أي نوع من العبودية، بل في قدرتهم الرائعة على الحرية، وبالتحديد حرية المصير، حرية اقتراح غاية نهاية لوجودهم على الأرض، تليق بعقولهم (4)، التجربة الدينية داخلية وليست خارجية، مقياسها الشعور، والإيمان بالقلب والتصديق بالرسالات السماوية ووجود الله، منطلقها داخلي وفردي، وتشهد المعاملات على القيمة الرفيعة للخُلق المستفاد من الدين، ومن التجارب الدينية الفعلية التي ترفع الإنسان إلى أسمى الدرجات، التيه والرشاد كما في كتابات مالك بن نبي، والفكرة التي تبلورت معالمها في النفوس، وجدت الإنسان المسلم مهيئا لها حتى ارتفعت الفكرة، وخرجت من الذات نحو الوجود العيني، رفع من قواعدها الفرد حتى اكتملت وانتشرت، وانتقلت بين الناس في مختلف الأمم، عبرت الفكرة عن الروح وسمو الفرد ومستوى إيمانه، نفسها الفكرة التي يعالجها "كيسرلنج" في المسيحية عند الأمم الجرمانية، عندما أمسك الإنسان بالفكرة في منبعها الأصلي والحقيقي، رفع منها وارتقى الإنسان نحو تمثل القيم الأخلاقية والفكرية، التي ساهمت في تطور المجتمعات الغربية، يضرب مالك بن نبي مثلا ببلال بن رباح عندما وضع على بطنه صخرة كبيرة حتى يرجع عن إسلامه، وعدم عصيان العبيد لأسيادهم، وهو يئن من شدة الألم وينادي "أحد ويكررها"، إنها صفاء الروح التي عبرت عن الإيمان الشديد بالحقيقة الدينية، في تجربة ذاتية يعبر منها المسلم عن المعنى المتدفق، والإيمان الراسخ بالله، وحقيقية الوجود حتى في ظل التعذيب، ومحاولة إبعاد الفرد عن إسلامه، تغلغلت الأفكار في الذات، فوجدت الفكرة الفرد في أحسن استعداد للإعلاء، يعني ارتباط الاعتقاد بالسلوك والفعل، تطهير الروح من الحقد والغضب، واكتساب مناعة أخرى فياستعداد الفرد للموت والدفاع عن الفكرة.
فالقلق لا يعني سلوكا سلبيا، والخوف في مظهره العام طبيعي لا يصل حد الاستسلام، ولذلك عندما سئل علي بن أبي طالب عن التقوى قال "التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل"، القول المفعم بالفعل والعمل، صدق النوايا وحسن الأعمال والعاقبة للمتقين، يحكي شمس الدين التبريزي قبل لقائه بجلال الدين الرومي في مقدمة كتاب اليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" بالقول عندما كنت طفلا رأيت الله، رأيت الملائكة، رأيت أسرار العالمين العلوي والسفلي، ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته، لكني سرعان ما أدركت أنهم لم يروا... روحانية عالية وانجذاب بين رجلين في صداقة عميقة ومحبة، رسالة نقلها التبريزي لجلال الدين الرومي، الفقيه الذي تحول بموجب المعرفة الجديدة إلى عالم صوفي، فالتجربة الصوفية ومسألة وحدة الوجود، وقضية الحلول بين الناسوت واللاهوت، تنهل هذه التجربة من انغماس الإنسان في الباطن، والبحث عن الاتحاد مع الله، ينهل التصوف من الدين كما يرتبط بالفلسفة، لا يستخدم المتصوف الحجج والبراهين العقلية للدلالة على تجربته، ولا يعني التصوف الفرار النهائي من الواقع والتخلي عن العالم السفلي، ربما كان "بوذا" هو الشخصية المثالية للتصوف الهندي، صحيح أنه ترك أسرته في شبابه، وراح يبحث عن الاستنارة في عزلته، لكن لاحظ عندما بلغ الاستنارة لم يظل في عزلته في الغابة ليستمتع بغبطته، لكنه على العكس عاد إلى عالم البشر ليؤسس ديانته، ولينشر في الناس جميعا طريق الخلاص(5)، عالم التجارب الدينية يتميز بالكونية والتنوع، تجربة البوذية والقسيسين في الغرب، والأولياء في العالم الإسلامي، وكذا المتصوف، إنها تجارب غنية بالدلالات والمعاني، ودراستها فلسفيا أو في سياق فلسفة الدين والتصوف، ينطوي على قيمة كبرى لاستخلاص ملامح التجربة الدينية، ومحاولة من البشر في فهم معنى الوجود، وكيفية الاقتراب من الله، الذي يظهر نفسه من خلال الوجود وعظمة الخلق، فالتجربة الدينية بنيت على فكرة الخطيئة، وشعور الإنسان بالألم والحاجة لله، لكن التجربة الدينية مختلفة نوعا ما عن التجربة الصوفية، في مجموعة من الألفاظ والكلمات السائدة في التصوف مثل الشطحات والحضرة والذوق والكشف، وعلاقة الشيخ بالمريد، والوجد والتواجد والفناء والبقاء... المتصوف يشير باستمرار إلى اللازماني أو الأزلي الذي يشعر أنه نبيل إلى أقصى حد، ويتجاوز تماما العالم المؤقت: عالم التدفق، والعبث، والإحباط، والأحزان، وهو يجلب معه السلام الذي يجاوز كل فهم(6)، أما التجربة الدينية في غمارها يخرج الفرد بفهم جديد للدين بعيدا عن الرسمي في إدراك المعاني، والشعور بالقداسة والمقدس، الإيمان الحر النابع من قناعات ذاتية، ونابع من الحرية والاقتناع، تحرير العلاقة بالمقدس من سلطة الأديان التقليدية، والارتماء في المطلق من خلال تجربة ذاتية قوامها التفكير في الله، والاتصال المباشر كتجربة نفسية وشعور قصدي، فلا توجد تجربة دينية سابقة على كل تفكير، لا بد أن يكون الدين ملهما للتجربة، الخبرة والمعرفة تستلزمان أن تكون المعرفة لغايات وأهداف نفعية، إزالة الإثم، وعدم الشعور بالخطيئة، والبحث عن ما يرضي الذات في الخلاص، لا يعيش الإنسان تجربة الموت مع الآخرين، الموت هنا كما قول هايدغر في لمسة وجودية يعني موتي أنا ولابد أن تكون تجربتي في الحياة مفعمة بالحرية والاعتقاد السليم، لا ترتد النفس في متاهة الظلال والنسيان للمصير، ولا تعيش الذات في عزلة مطلقة عن وجودها، كل تجربة دينية لا بد أن تستوعب قدرا كبيرا من الفهم والحدس للوجود، هناك من جعل التجربة الدينية الأصل في الأديان، مصطلح يستعمل في حقول الإلهيات، وفلسفة الدين، وعلم نفس الدين، وظاهريات الدين للدلالة على معان ثلاثة: أولها، المعرفة الحضورية الشعورية بالله تعالى بدون واسطة، والثانية المعرف الدينية المتعددة حول الإلهيات التي يجدها الإنسان في نفسه من خلال تأملات المرء عن ذاته، وثالثها هي المعرفة الناتجة عن تجربة ذاتية مع العون الإلهي، والإحساس بحضور الله ورقابته في الحياة الدنيوية(7).
يعني أن التجربة الدينية قائمة على أسس ومبادئ تستلزم مجموعة من المقومات والمواصفات الممكنة حتى ترقى التجربة لليقين، وتصبح منبعا لكل فهم عميق للدين والأخلاق، وأساس السمو الروحي والعقلي الذي يعود لما هو باطني داخلي، الشعور والعلاقة القصدية المباشرة بين الإنسان وخالقه، والضمير وتلك الإرادة الحرة التي تملي على الإنسان فعل ما يعتقد أنه الصواب والحقيقي، شعور الإنسان باطني والوعي الذي يمتد لأعماقنا، يخرج ما بداخلنا من هواجس ومخاوف، من التناهي والحدود التي تعتري الذات في صعوبة الفهم، البحث عن المطلق لا يستقيم بالعقل كما قال كانط، والتضحية بالعلم من أجل الإيمان يعني الإقرار بحدود العقل ومبادئه في الفهم المطلق، ومحاولة من الفيلسوف للربط بين العقل والأخلاق الذاتية، وتأسيس ميتافيزيقا الأخلاق من خلال مفهوم أساسي وهو الواجب الأخلاقي المطلق، طموح كانط يقف عند رغبته في التجاوز للشك الذي أرسى معالمه "دافيد هيوم" وما فيه من الإجهاز على القيم العقلية والأخلاقية، تنعكس هذه الأفكار في ذهنية الفيلسوف، وتتحول لقواعد صارمة في الفعل والسلوك على أساس ذاتي بعيدا عن الأخلاق الشعبية، وقواعد السلوك الملزمة في الأديان.
الدين هو الوعي بما هو حقيقي بذاته وفي ذاته، بالمقابل مع الحقيقة الحسية والمتناهية، ومع الإدراك الحسي، ومن ثم فهو سمو وتفكير، وانتقال من المباشر والحسي والجزئي(8)، يعني الانتقال من الجزء للكل، من الذاتي نحو الموضوعي، والمطلق الذي يعني الاكتمال والفهم، سمو الفكرة وما تحمله من أجزاء، وغمار التجربة الدينية الخاصة بالفرد هي عملية الانتقال الكيفي في عالم الأفكار نحو الممكن حتى يصل العقل إلى إدراك الوجود الحقيقي في بعده الذاتي والموضوعي، الحقائق موجود في أنفسنا، والحقيقة الكبرى موجودة في العالم الموضوعي العيني، وإقامة الفهم على الحدس والتجربة الذاتية يعني الإقرار باليقين والتطابق بين الذات والموضوع، لكن التطابق هنا لا يعني موضوع عيني وواقعي، بل ما تحمله الذات من معرفة مبنية على الإدراك والوعي للمتعالي والمطلق اللامتناهي، تحرر الذهن من المتناهي، والاقتراب من المطلق، الارتقاء من الذات نحو تأمل الحق في صفاته وخلقه، وتمتين العلاقة الوجدانية بين الإرادة والإيمان، وبين المرئي واللامرئي من خلال الجلل والعظمة التي لا يمكن معانقتها بالعقل والبرهان، فكانت هذه التجربة نقية وحدسية خارج العالم الطبيعي المألوف، تجربة تضفي معنى على الحياة الفردية، وتكسب الإنسان وهجا وإيمانا أعمق.
تفهم التجارب الدينية على أنها تختلف عن التجارب الاعتيادية، لأن موضوعها يسلم به المرء على أنه كائن أو وجود فائق للطبيعة (الله سواء في ذاته أو متجل في فعل ما)، كائن مرتبط بالله (تجل لله أو شخص مقدس مثل مريم العذراء)، أو حقيقة ما مطلقة غير قابلة للوصف (مثل البراهما أو النيرفانا المطلقة اللاثنائية (9)، وتجلي الحقيقة المطلقة يختلف باختلاف الكائن الذي يعتبر مشاهدة الحقيقة تأكيدي بناء على رؤية حسية، ومن خلال الموضوعات الحسية التي تتراءى للفرد حقيقة الله في مخلوقاته، أو من خلال رؤية يعتبرها صادقة وحقيقية، ويشعر من خلالها أن الله يلفه بالعناية ويحفظه من كل سوء، أو يكون هذا الموضوع خاصا لا يمكن التعبير عنه بلغة عادية، مثال رؤية القديسة "تيريزا" للمسيح، كان على يمينها وشعرت بوجوده، وأنه دائما بقربها يرى ما تفعله من أعمال، هذا نوع من الرضا عن الذات والعمل الذي ينبني على تجربة دينية معاشة تتجاوز المراسيم والطقوس، وكأن المقام لا يشمل إلا هؤلاء الناس الذين يتميزون بالقدرة على المعرفة، لا يمكن معرفة الله عقليا، بل الشعور أساس المعرفة، يعني أن التجربة هي خبرة شعورية، أو على الأرجح، تركيب من المشاعر، وهذا الشعور يحصل بأشكال عدة: قد يأتي الشعور ب(السر الأعظم) متدفقا أحيانا مثل تيار لطيف يتخلل العقل بمزاج هادئ ذي مقام أعمق، وقد يتجاوز ذلك إلى تحديد أكبر وإلى موقف ثابت للنفس، ويستمر، وكأنه اهتزاز واهتياج مثير(10)، فهناك اختلاف بين المفكرين في منبع التجربة الدينية، وعلاقتها بالدين من جهة، والتجربة الدينية بوصفها شعورا أو إدراكا، ومهما كانت المقاربات التأملية تبقى تجربة خاصة بالفرد وذاتية في خبرة مباشرة، وفهم مفعم بالتفسير والتأويل لما يشعر به الفرد من تجلي الخالق أمامه، أو من خلال ما تثيره الأشياء في نفوسنا من رهبة وخوف، يحيطنا الجليل من كل الجهات، يدرك الفرد المطلق في ما يثيرنا ويرهبنا، ونشعر بالحاجة لله الذي يقدم نفسه إلينا بطرق تمكننا من معرفته، وإدراكه في عظمة خلقه، عواطفنا ومشاعرنا ليست فارغة، ولعل النزعة التجريبية في الفلسفة الغربية، وضعت حقيقة الشعور والأفكار بناء على الحواس والاحتكاك بالعالم الخارجي من خلال تقسيم الفيلسوف جون لوك الأفكار إلى صنفين: بسيطة ومركبة، يعني أن العواطف والمشاعر وإدراكنا لما هو خارجي مبني على مفاهيم وأفكار، وعلى خبرة ذاتية بالأشياء التي تثير فينا هذا النوع من الفضول والرغبة الملحة في الاستيعاب.
يعتقد "وليام أليستون" أن التجربة الدينية نوع من الإدراك بين الذات المدركة والموضوع المدرك، هذا الأخير يقدم نفسه بوصفه موضوعا قابلا للإدراك، وأحيانا يتوارى خلف الحقائق الموجودة، لا يخطئ الشعور في حدس ما يراه ممكنا في عمل الفهم والإدراك للمطلق، الذي لا ينجلي إلا بناء على ما يحمله من صفات كيفية، كالقوة والعظمة والجبروت والجمال والخير والرحمة، تلتحم الاعتقادات الدينية مع التجربة الذاتية للفرد، وتعطي منحى آخر للوجود، وتكشف عن المطلق في ذواتنا، وفي الطبيعة والعالم، حضور التجربة الدينية تجسدت عند الأنبياء في رؤيا صادقة، كرؤية إبراهيم في ذبح ابنه، ورؤية يوسف عليه السلام للكواكب والنجوم، وللسنوات السمان والعجاف، وقدرته في تأويل الأحلام وتفسيرها، وموسى عندما أحب أن يكلم الله مباشرة، ولما رأى من الآيات الكبرى، خر موسى ساجدا وتائبا، وهكذا نعتبر هذه التجارب الخاصة بالأنبياء معجزات وتدفق كبير للإيمان واليقين.
ثانيا: الدين والتجربة الدينية
لابد من امتلاك شيء من المضمون الديني حتى نستطيع استيعاب دلالة وطبيعة التجربة الدينية، إنها حالة من الحضور والانجذاب نحو الخالق، وحالة من الشعور الذي ينتاب الذات في بحثها عن المطلق من أجل اليقين والإدراك للحقيقة الكاملة، لا يعني في التجربة الدينية حضور الموضوع كما تريده الذات الراغبة، بل ينجلي من خلال تجليات وبراهين تصيب الذات، وتشعر بالرهبة وقدرة الخالق في الخلق والإبداع والتسليم، التجارب الدينية مشروطة بتأملات دينية وثقافية، الدين مكون أنطولوجي للكائن البشري، يرثه المرء من أمه وأبيه، مثلما يرث لون بشرته وصفاته الجسدية(11)، يروي الدين ظمأ الإنسان، ويستقي الروح ويغذيها بكل ما تحتاج من سكينة وهدوء، الروح تتغذى، روح الأديان في تقديم العون والمساعدة للفرد، والتخفيف من الموت والمصير، وتذكير الناس بالعالم الآخر حيث يشعر الفرد بالتناهي والتلاشي، ويسبب هذا الخوف والهلع من المصير تفكير الفرد، بالمعنى الوجودي يعيش الفرد القلق والاغتراب، ويشعر بالضياع والرتابة من الحياة التي لا تتعدى سنوات من العمر، ينتقل من اللايقين إلى اليقين، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن التشتت إلى الوحدة، اجترح الإنسان طريقا آخر لفهم الدين في مقاصده الكبرى، وفي وظيفته القصوى من وجود الإنسان، الفهم الذي يعني حاجة وجودية وضرورة، جوهر ما ينهض به الدين هو معالجة سؤال الوجود، وعلاقة الإنسان بروح الكون، الذي يأخذه لمسارات فهم الألوهية بأسلوب آخر(12)، الدين رهبة وقداسة، ينطوي الفهم على المضمون العملي للدين في إزالة كل أشكال العبودية، وتحرير الإنسان من الاستعباد، والتسليم بالحقيقة الدينية، وما يزيد الإنسان معرفة الشعور العميق بالدين كتجربة ذاتية وجماعية، وعي الموضوع وإدراك الذات وشعورها بالنقص من خلال حاجة الإنسان للدين والتدين، في ربط متين بين الفعل والعمل، وبين القول والواجب. فالدين في الفلسفة قائم على تأملات الفلاسفة للمطلق والحقيقة، رؤى لا تخلو من غايات وأهداف نبيلة في الفهم السليم، وتحرير النفوس السقيمة عندما نمتلك القدرة على الاختيار، ونتحرر من هيمنة الدين المؤسسي المبني على الترانيم والمراسيم والطقوس، كما يشير لذلك "وليام جيمس" في تأملات فلسفية عن التجربة الدينية.
فالدين ليس وعيا بالأمر الحقيقي في هذا الشيء العيني أو ذاك، بل هو وعي بالأمر الحقيقي المطلق باعتباره الكلي، والمحيط بكل شيء والذي لا شيء يقوم خارجه(13)، تناقضات المواقف الفلسفية مرده للعلاقة بين الدين والعقل، بين ما هو مرسوم مسطر في حدود العقل، والتجارب الدينية، وبين اللامتناهي في قوة الإرادة الكلية المهيمنة والمسيطرة على العالم والمسيرة للبشر، الاعتقاد أو الإيمان الحر، لا يحتاج للوصايا، ولا طرق تعلم الإيمان، واكتساب الإنسان مناعة وأخلاق دينية، لأن الحقيقة الدينية منبعها الباطن وليس الخارج، ولذلك امن المتصوفة بصفاء الروح وطهارة القلب، وتنقية النفس وتزكيتها عندما نعود لذواتنا، ونستخرج ما بداخلنا من معارف وأسرار، لا يمكننا أن نستمدها من الأشياء الظاهرة، ولوج العارف بالله إلى قلب النصوص وباطنها أرفع درجات المعرفة، من الوقوف على سطحها وظاهرها، وبالتالي يمتلك الولي من الحقائق الكثير، مقامه يطول هنا للحديث عن التصوف والتجربة الصوفية، وعلاقة الشيخ بالمريد، وما يتعلق بمعالم التصوف عند كل الشعوب، ماهية الدين كما يقدمها البعض تعني النفاد إلى روح العالم والإقامة في الوجود مع الموجودات للمعرفة والحقيقة، حتى أن الفلاسفة اليونان كانوا يدركون ذلك من خلال القول بالوجود الصائر والوجود المتغير، وطبيعة المادة وقدم العالم، وغيرها من الإشكالات التي حاولت الفلسفة والتفكير الفلسفي تقديم الممكن في فهمها، روح العالم ومكامن القوة في الأديان، يعني البحث عن المطلق بشتى ضروب المعرفة، التأملات الميتافيزيقية والدراسات العلمية للظواهر الكونية، الفلكية والفيزيائية، وعن طريق التجارب الدينية والصوفية، والغوص في فلسفة الدين، وسوسيولوجيا الأديان وغيرها من المباحث، التي قدمت مواقف وأفكار عن حقيقة الدين، رباط إنساني، وظائفه مفيدة ومهمة في تمتين العلاقات الإنسانية، وزرع روح التضامن والأخوة بين البشر حتى في ظل الانقسام، وتعدد الأديان، لكن عندما ننفذ لروح الأديان، نعثر على جانب آخر منسي ومغيب في العمل يتعلق بالتسامح والاعتراف والاختلاف، أصل جوهري ثابت في الإنسان بالفطرة، الدين طاقة أبدية غير قابل للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يظهر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تشطيح، لأنه لصيق فطرة الإنسان(14)، المنبع الوجداني الأصيل فكرة ذاتية موجودة فينا، ويكفي التأمل في أعماقنا حتى نعثر على المثل والقيم الراسخة في نفوسنا، فكانت دعوة الفلسفة في منبعها الأصلي إلى عودة الإنسان لذاته سواء في عملية عكسية، للانتقال من الطبيعة إلى الذات، أو مساءلة الذات من خلال سؤال جوهري يتعلق بالطبيعة الإنسانية، وبعد ذلك تعود الذات من جديد للطبيعة لفهم الممكن من الكون الفسيح وعظمة خالقه، من هنا كذلك تأتي التجربة الدينية بوصفها شعورا وإدراكا للحقيقة الدينية كأمر شخصي بعيدا الطقوس الدينية والفرائض، وتفترض التجربة حدث خارق ورؤية للرموز الدينية، أو كرامات البعض، ومقامهم في عملية الإدراك والإخبار، وغالبا ما يكون التصديق مثيرا للسؤال والتعجب، الذي ينم عن انتهاء زمن الخوارق والحوادث التي تشحن الأذهان بهذا النوع من التجارب، الخوف من المجهول وعملية الجدب والتعجب، غالبا ما يزيح التجربة الدينية كشعور ذاتي نحو مسار مبهم يزيد الآخر قناعة أن التجارب الدينية التي يدعي أصحابها المشاهدة والجلوس مع الأنبياء، وتجلي الحق لا ترقى إلى مستوى اليقين، لكن عندما يتمكن الفرد من الإحاطة العملية بالتجربة الدينية في بعدها الأخلاقي واليقين، يزداد الفرد إيمانا وقناعة بقوة الدين، ومزايا التدين الحقيقي، الإنسان الحديث كما يشير لذلك الفيلسوف "إريك فروم" مخدوع بكذبة الخلاص النهائي والسعادة الأبدية، لكن الإنسان غير مدرك للقيود الداخلية، والوهم الذي ينتابه من كونه حرا حرية مطلقة، يعني حرية الاختيار وقناعة الإيمان الحر، بينما يحاط هذا الإنسان بسياج من القيم، وحالة من رهاب الألم الذي يزداد الآن بفعل الفجوة الكبيرة بين عالم الروح وعالم المادة.
لا تخلو التجربة الدينية من الألم، ولا يمكننا تلمس اللذة وحلاوة الإيمان إلا بالألم والمكابدة، تخليص النفوس من اللذات، وإرغامها على معانقة المطلق، السبيل الوحيد للشعور بالسعادة، بصيرة الفرد وإدراكه لجوهر الدين من خلال الانغماس في الذات، والاستناد على الاستبطان للتعبير عن جملة من العواطف الصادقة، التي لا يمكن وصفها بالكلمات واللغة العادية، لغة الروح وصفائها تتغذى من قيمة التجربة وصدق المشاعر والعواطف الدينية، الكرامات التي يعتقد فيها الفرد رؤيته للأشياء، وتجلي المطلق لا تعني بالناسبة للآخر قيمة سوى ما يتركه الفعل من أثر في نفوس الآخرين، وما يفعله المجرب من أعمال، خلقت هذه التجربة تنوعا في المفاهيم والألفاظ عن الله من خلال مجموعة من الأسباب، تكون ذاتية موضوعية، يعني أن التجربة الدينية مقياسها القلب وليس العقل، هذا المنطلق تتشابه فيه التجربة الدينية مع التجربة الصوفية، بل كذلك رؤى الفلاسفة في نقد المثالية والعقلانية، واعتبار الشعور الداخلي أساس كل تجربة وعاطفة إنسانية نبيلة، هناك ثلاث عناصر في التجربة الدينية: المجرب، والله الذي هو موضوع التجربة، وظهور أو حضور الله المجرب(15)، المجرب يعي الذات الهادفة للتعبير والإفصاح عن تجربتها، والموضوع هناك ليس عينيا أو حسيا، بل موضوع مدرك من خلال مظاهر خارجية وعلامات ذاتية، والحضور هنا بناءعلى كيفيات الظهور، تجارب دينية لا تقدم نفسها من خلال الخوارق، ولا تثير فينا الاستغراب والدهشة، لكنها تعاش بكيفية فردية، وتحكى للآخر، والتصديق بها صعب في زمن سيطرة العلم والتحليل المنطقي للحوادث، زمن الوحي انتهى، هذا زمن التأويل ودراسة الأشياء، وما تظهره من حقائق نسبية، لكن كل تجربة دينية لا يمكن فصلها عن الثقافي والديني والحضاري، شعور الفرد بالوهج يزيدنا معرفة للوصول إلى الماهية المتعلقة بالخبرة المعاشة، وتسليط جانب من الفهم على الشعور الداخلي للإنسان، التطهير والتعليق والاختزال آليات ظاهراتية حتى يمكننا النفاذ للتجربة الدينية، واعتبار منطق الدين ذاتي وجماعي كذلك، الأول يبني الفرد ويقوي من صلته الوجدانية بالدين، والثاني يلزم الفرد بالجماعة كهوية وانتماء، المتدين هو المستنور لذاته، الباحث في طياته، المتأمل لشعوره، والمتحد من حدسه، أداة للتواصل مع عقله(16).
الفرد هنا مطالب بفتح عقله وبصيرته على الغايات القصوى من الدين والتدين، الحس النقدي ومساءلة الذات في عملية نضج يبلغ قيمته في معرفة صحيحة ومفيدة بعيدا عن الغلو، عندما يعود الفرد نحو ذاته، يمكن الشعور بالامتلاء الذي تتوحد فيه الإرادة بالرغبة، والشوق نحو معرفة اللامتناهي، والتعلق بالمطلق في تحليل الفيلسوف الألماني "شلايرماخر" للدين، ووظيفته في الحياة الشخصية، في الإحساس والارتهان والتعلق بالمطلق، منطلق التجربة الدينية التجارب الداخلية الأصلية بعيدا عن التعاليم الدينية التقليدية الخاصة بالترانيم والوصايا المليئة بالمفردات واللغة الإيديولوجية حيث يصعب على كل باحث استخلاص التعاليم الحقيقة من البعد المؤسسي في تعاليم الكنيسة.
فالحياة الروحية تبرر نفسها فقط لأولئك الذين يعيشونها(17)، لا بد من فهم الدين من خلال المنفعة التي يجنيها الفرد والمجتمع معا من التدين في سياق براغماتي، لكن بالمقابل لا يخلو التدين من الدين، والتجارب الدينية في عموميتها يمكن أن تنقسم إلى قسمين: خصوصية وعمومية معا، ليست خالية من المضمون الديني، ولا تعني أن مفعمة ومكثفة بالمعاني الدينية، جوهر الدين الأحاسيس والأحوال الروحية، وللشعور أنماط ما يحدده "أوتو رودولف" في العلاقة بالله لأننا أولا مجرد مخلوقات، وثانيا الرهبة الدينية بكائن فائق القدرة والعظمة، وثالثا الانجذاب نحو كائن متعال، هذا التجلي من خلال التجربة الدينية في ارتباط متين بالشعور الصادق، والحقيقة المطلقة التي نعثر عليها بداخلنا وتؤكدها الشواهد الخارجية، نشعر في غالب الأحيان بكل ما يشعر به أولئك الذين عاشوا التجارب الدينية في مختلف الثقافات والحضارات، ونشعر بالصمت إزاء الأشياء الفائقة الوصف، وأمام الحضرة الإلهية، حدث يعيشه الإنسان، بعض التجارب مكتوبة والأخرى مروية ومحكية في سرديات، تعبر عن حقائق يرويها من خلال المشاهدة والكشف، وتكون هذه التجارب محط تعجب واستفهام بالنسبة للآخر، التجربة الدينية تفترض معرفة الذات لذاتها، والتطابق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، ومن هذا المنطلق الفلسفي إدراك المطلق اللامتناهي غير قابل للتحقق بشكل قصدي، قد يعتقد المرء بأن من الغريب أن نفهم التجربة الدينية على أنها نوع من الإدراك، يبدو هناك اختلافات مهمة بين الخبرة الحسية أو الإدراكية الاعتيادية والتجربة الدينية. فالإدراك الحسي خبرة عامة، في حين أن التجربة الدينية أقل عمومية، وربما خاطئة، لأن التجربة الحسية تثمر مقدارا من المعلومات عن العالم، في حين تنتج التجربة الدينية معلومات أقل بشكل واضح عن الله، لأن كل البشر لديهم القدرة على الإدراك الحسي، ولكن يبدو أن الكثير منهم ليس لديهم القدرة على التجربة الدينية(18).
ويتبلور في التجربة الدينية مجموعة من الأطراف والمواقف المختلفة في تحديد طبيعة التجربة وأساسها، أن التجارب الدينية عامة ومشتركة، والموقف المضاد أن التجارب الدينية كثيرة ومتعددة، يمنع إرجاعها إلى نوع واحد، وجودها قائم بين الأمم والملل في تجارب ذاتية، وهناك جوهرا مشتركا يتجاوز حدود الأديان، وما يدرك ذاتيا لا تستطيع أي لغة التعبير عنه، لأن ذلك يبقى تجربة عابرة وشعور فياض، ونور ينجلي للذات في لحظة معينة، حتى أن الفرد يمكن أن يصاب بالاستغراب والدهشة، كما وصفها وليام جيمس، كونها عابرة، لأنها تقع خارج المكان والزمان، وفائقة الوصف بحيث لا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها بالكلمات، تفكيرية لأنها تنتج لنا معرفة جديدة، وتنقل الذات المدركة من حال إلى آخر، كما تجدد من روح التدين، وتكسب الفرد شعورا قويا بالمطلق، الذي يتجلى في أشياء كانت سببا في شعلة إيمان، ولا تبنى هذه التجربة على الإرادة أي بنائها على الشعور والوعي الخالص، ولا يمكن للآخر أن يصفها لأنها تستند على وصف ذاتي بالية الاستبطان الذي يعني الغوص في الذات، وتفسير هذا الارتعاش والخوف من شيء داخلي، أشبه بما يعيشه المتصوف، والناسك المتعبد، والأولياء والقديسون والبوذيون، تخليص الروح من الضغائن وتطهير النفوس من الإثم، وعدم الشعور بالخطيئة والندم، وهذا الأمر يمثل لغزا بالنسبة للباحث في صميم التجارب الدينية، التي ليست ظواهر مرئية قابلة للقياس والتكميم، وليست مواقف ذاتية أو جماعية للتجارب التي يعيشها الناس في الحياة وقابلة للإدراك لسبب يتعلق بطرق مقاربتها، لذلك هناك العديد من الدراسات الفلسفية التي حاولت استلهام المناهج في محاولة للفهم والتفسير، من خلال البعد السيكولوجي للتجربة الدينية والبعد السوسيولوجي المتعلق بالأديان والتدين، والهيرمينوطيقا والابستيمولوجيا، آليات الفهم في ميدان الفكر الفلسفي والعلوم الإنسانية، ومختلف آليات القراءة النقدية في المجال العلمي.
خلاصة:
التجربة الدينية رحلة الفرد في الخلاص والتحرر من الاغتراب، والزيادة في الإيمان، وتقوية الشعور في لحظة حضور الفرد أمام الذات الإلهية وأمام المقدس، أي الدعوة إلى القداسة، ولا تخلو من مضمون ديني وثقافي، ولأنها واحدة ومتعددة في نفس الوقت كونية وخصوصية ما يجعلها متفردة ومتميزة، وأحيانا لغز بالنسبة لكل من يقبل على دراستها في غياب معطى تجريبي يستند على الملاحظة والمراقبة، تبقى خاصة بالفرد في رحلته للبحث عن المطلق، والارتماء في المقدس، والانتقال من حالة وعي إلى أخرى جديدة، ليست تجربة عقلية صرفة، ولا تستند للبرهان والقياس، حججها داخلية، والإفصاح عنها يستند على الاستبطان أو عندما يعود الشخص لذاته حتى يروي لنا ما يسمعه وما يشاهده، يتخيل للسامع أنه في مقام عال مع الملائكة والآلهة والقديسين، ارتباط قلبي وشعور وجداني في الارتباط المتين مع المقدس والقوة المطلقة، التي تنجلي وتحضر من خلال العظمة والقوة والخير، فلا يحضر المطلق بشكل مباشر ولا يتجلى للفرد عل هيئة صورة قابلة للمعاينة، وهذا الأمر يوضحه القران الكريم مع موسى عندما أراد أن يرى الله، فبين له الحق من آياته الكبرى أن عاد موسى إلى الصواب، وخر ساجدا من قدرة الحق وجلاله.
تفاعل الفرد في ظل التجربة الدينية لا تعني انسلاخه عن الجماعة، فكل تجربة دينية ملفوفة بالدين والحقيقة الدينية، يرتقي الفرد في درجات الإيمان عندما يسلك لذاته هذه التجربة، وتكون تزكية النفس أقوى من عامة الناس، لأنه إدراك الأشياء على حقيقتها أو الوصل لليقين الذي لا يصل إليه إلا من عاش هذه التجارب وتذوق لذتها، فعندما يقتدي الفرد بالسلف والأنبياء ومقام الأولياء يعيش مقتبسا تجاربهم، ويسير على هدى خطاهم، ويسترشد بطرقهم، ويتجلى المطلق في دواتهم وفي الطبيعة، وفي لمحة يسري شعاع يغير من حياتهم، ويجعلهم يحسون بالتناهي، والاغتراب والضياع في عالم مصيره التلاشي والزوال.
مرد الاهتمام بالتجربة الدينية في الغرب، وفي فلسفة الدين إلى هيمنة التقنية والعصر التقني، وسيطرة العقلانية على التفكير، وتهميش الجانب الروحي والوجداني، في عالم الاغتراب يحتاج الفرد للبحث عن ذاته وعن المطلق، في الإسلام يأتي الوحي ليبين قيمة العقيدة ومضمون التدين الذي يكون كذلك بالجماعة، ومن خلال الشعائر والعبادات، وينطبق الفعل مع العمل والسلوك، ويكون المخيال الاجتماعي مشتركا عندما ينهل الفرد من أهدافه، يمنح القدرة للإنسان في محاولة للفهم ولو كانت هذه القدرة محدودة، لكنها مفيدة في الإدراك ما يحيط بنا من ظواهر وأسرار عن عظمة الوجود، وما يجعلنا نصدق أو لا نقبل بالتجارب الدنية، ولا نستسيغ سماعها، ما يوجد في الدين من مبادئ وقيم مبنية على الوحي، كما انتهت الخوارق بزمن نهاية النبوة، أما التجارب الدينية الفردية فلا يمكن فصلها عن تجربة الجماعة وروح الدين، من محاسنها إيقاظ الشعور بقوة الجلال وتناهي الإنسان، الأمر الذي يقوي ويزيد من العواطف الدينية، ويكون التدين نافعا للفرد في الاستقامة وحسن السلوك.
اضف تعليق