"أستيقظ في منتصف الليل لأحمدك من أجل أحكامك العادلة"
المزمور119: 62
عدَّ كثير من الربّانيين والعبّاد مقام الشكر من المقامات العليّة المعبرة عن سموّ المرء الروحي، باعتبار إتيان الشكر، الصامت أو الناطق، القلبي أو اللساني، يختزل إقرارا وعرفانا من الكائن الفاني إلى الكائن الأزلي، بسابق نعمه عليه وعظيم عطائه إليه. فذلك العرفان يختزل إحساسا شفافا بالحمد والثناء تجاه تلك القوة العليا التي يكنّ لها الامتنان والتقدير. فالشكر الذي عادة ما يتجلى في عبارات لفظية متقاربة الدلالة بين اللغات، يختزل دلالة اعتراف فعلية لما قُدِّم لنا سلفا، سواء علمناه أم لم نعلمه، تصديقا لقوله تعالى الوارد في محكم تنزيله: "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" (سورة لقمان: 20). فمن هذا البهاء والروعة الطافحين على روح الفرد، يفيض ذلك الشكر في الذات المؤمنة، بما هو إحساس عميق وطوعي بمبادلة العطاء بالاعتراف، بمبادلة المنة بالحمد، بمبادلة النعمة بالشكر، تصديقا لقوله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لعلّكمْ تشكرون" (سورة النحل: 78).
وضمن ذلك السياق في إقرار الكائن الفاني إلى الكائن الأزلي بجُوده وكريم عطائه، كتب المتصوّف الألماني مايستر إيكهارت -Meister Eckhart- (1260-1328م) في تأملاته: "إن استطاع المرء ترديد كلمة "الشكر" في صلاته، فسيكون ذلك وحده كافيا"، استلهاما لما يرد في الرسالة إلى مؤمني فيلبّي "لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدى الله" (4: 6)، وإقرارا بأن "البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين. آمين!" (رؤيا يوحنا7: 12). إذ في المدلول الأخلاقي الديني بين الأديان الإبراهيمية يلوح الشكر فضيلةً سامية.
وإن يكن قانون المقايضة يستدعي فعلا مقابل فعل، عطية مقابلة أخرى، فإن الشكر هو منحة من تلقاء النفس الزكية تتخطى قانون المقايضة المادية، لتغدو فعلة متسامية عن الاعتبارات الدنيوية. وبالتالي، فالشكر هو اعتراف خُلقي بخيرية الآخر وسموه وليس دَيْنا شرعيا تجاهه، وهكذا يكون عملا عفويا عميقا نابعا من عمق الذات للاعتراف للآخر، للغير، دون تحديد لهويته، وكذلك هو وعي ذاتي وإقرار بجميل الآخر. لذلك يضاهي الشكر العطية العفوية وليس "دَيْنا" إلزاميا نحو المقابل، بصفته منّا تمنحه الذات في غياب أي إلزام أو إكراه، دوافعه متعالية وروحية بما يتجاوز كافة أشكال الجبر، لأنه عمل قلبي نابع من التعالي وغير خاضع للمقايضة المادية.
وقد يُترجَم الشكر عبر أشكال عدة، مادية أو معنوية، ومع ذلك تبقى حوافزه ودافعه غير مادية، فكما يقول القديس توما الأكويني: "يخضع الشكر بالأساس إلى القلب"[1]. فهو منحة عاطفية مضاهية لعمل ما. وتعالي الشكر، بصفته عطية كريمة تخرج عن مستوجبات ما يربط الدائن بالمدين، ليس له إلزام بل هو نتاج المحبة الخالصة للآخر. كما أن هناك درجات ومراتب مختلفة للشكر: باعتباره اعترافا بعطية سابقة ممنوحة، نجلّ قيمتها ونقرّ بعلو مقامها. وهو أيضا تخلّص للروح من المقايضة المادية لتعانق العطاء المتعالي المنعتق من أي إلزام، ليتحول الشكر إلى عطية خارج المعادلات المادية، ترقى إلى مستوى سام يحلق بعيدا. كما أن الشكر الخالص لا يبغي الحصول على مغنم مادي أو معنوي من الآخر بل هو اعتراف بخيرية الآخر.
غير أن هذا التماثل في دلالات الشكر بين الأديان الثلاثة يكشف أيضا عن تنوعات بينها، تميز بها كل دين عن غيره. والملاحظ عند مقارنة الكتب المقدسة الثلاثة، يلحظ النقص الهائل لمفهوم الشكر في الأناجيل الحالية، وكأن القديس بولس في رسائله تفطن إلى تدارك هذا النقص، وهذا ما سنفصل الحديث بشأنه لاحقا.
الشكر من منظور علمي
قبل الغوص في الدلالات العميقة لهذا المفهوم الروحي، يجدر الاستئناس ببعض المداخل بغرض الإحاطة بمعاني الشكر. فقد ورد في معجم اللاهوت الكتابي في تعريف مصطلح "الشكر": أن عطايا الله المجانية تفيض وتنهمر على الجميع، والتي يقابلها من جانب الخَلق فعل الشكر، بصفته جوابا على نعم الله المتدفّقة والدائمة. بما يفيد أن فعل الشكر هو:
- وعي بعطايا الله.
- امتثال طوعي للنفس التي غمرتها روعة الإقرار بجُود الله عليها.
- عرفان واعتراف بالجميل أمام العظمة الإلهية.
- ردّة فعل روحية عميقة للخليقة تقرّ بموجبها بعظمة الله ومجده.
ومن جانب آخر، لو تتبعنا المعنى الأنثروبولوجي للفعلة لتبين لنا أن الشكر هو إحدى البدع الحسنة التي ابتدعها الإنسان تقرّبا إلى من يجلّه، حيث كان في مرحلة أولى يتّخذ تمظهرا عمليا جليا. يذهب هنري هوبرت ومارسيل موس إلى أن "الأضحية" كعنصر أساسي احتضنته العديد من الديانات التاريخية، يعانق البشرُ بواسطتها عالم الألوهية، بموجب التوسّط الذي يضمنه "الكاهن" عبر أداء الممارسات الطقوسية... ليتقابل المقدّس -sacer - مع المدنّس- profanus-، مع ما يبقى خارج الحرم القدسي- fanum-، وبالتالي يستدعي المقدّس فصلاً يقوم به البشر لإسداء الشكر إلى الآلهة[2]. حيث يأتي الشكر تتويجا لعملية شعائرية معقّدة، يتطلع المرء من ورائها إلى التقرب زلفى إلى ذات علية يطمح أن ينال حظوة لديها.
وفي التقاليد السامية القديمة حضر الشكر على شاكلة قرابين وأضاحٍ، يقدمها المرء إلى قوة عليا اعترافا بسابق نعمها عليه، غالبا ما كانت مرفوقة بـ"أناشيد الشكر"، التي تردد من قبل منشدين يصحبهم جمع في الترديد. ولا زال مفهوم الشكر المتجلي عبر القرابين جليا في بعض الممارسات الأنثروبولوجية الدينية التي ما فتئت حاضرة إلى اليوم في ما يعرف بـ"الزردة" (كلمة أمازيغية تعني الأضحية) في بلاد المغرب الكبير عند زيارة أضرحة الأولياء. والزردة هي عبارة عن حفل قدسي عند مرقد الولي أو الولية، تتم فيه طقوس الذبح والتبرك بغرض إتمام نذر بشأن عون أو إشفاء أو تخليص من محنة صادفها المرء في حياته[3].
وحري ونحن نتتبع دلالات مفهوم خلقي عميق في الذات المؤمنة، أن نستعين بالمدخل النفسي. حيث يستدعي الحديث عن موضوع الشكر في الأديان الثلاثة العودة إلى مقول علم النفس الديني في المسألة، لا سيما وأن فعل الشكر ينبع من حوافز عميقة في الذات يُعرب بواسطتها المرء عن مكنون باطنه، تجاه تمثلات خارجية تأسر كيانه وتثير عواطفه. ليأخذ الشكر تمظهرات عدة وصياغات مختلفة تتلوّن بتلون الثقافة والدين. حيث تبقى حوافزه ناتجة بالأساس عن حالة إدراكية متولدة عن مشاعر فياضة يترجمها الفرد عبر الرمز، أو القول، أو الفعل. وهو ما أفاضت الإناسة الدينية في الحديث بشأنه باعتبار كافة أشكال العبادة والهبة والعطاء ناتجة في جانب منها عن إحساس عميق بالشكر تجاه كائن علوي.
فقد أطلّ مفهوم الشكر في أدبيات علم النفس منذ منتصف القرن الفائت، مع نشر ميلاني كلاين مؤلّف "الحسد والشكر"[4] سنة 1957. أوردت عالمة النفس كلاين (1882-1960) أن هذا الإحساس الفطري، كإحدى التعبيرات الجلية في الإعراب عن المحبة، هو عمل جوهري في إرساء علاقة مع الموضوع المفيد، لما يختزنه من قدرة على تثمين منّة الآخرين. حيث يضرب الشكر بجذوره، وفق كلاين، في العواطف المتولدة مع مرحلة الطفولة المبكرة، لما تمثّله الأمُّ العنصرَ الأولَ والأوحد للوليد[5]. فالشكر نابع ومرتبط بالأم، في العلاقة التي ترسيها مع وليدها، وبالخصوص في القدرة الفطرية للمحبّة لدى الرضيع. وقد سبق لسيغموند فرويد (1856-1939م) أن تحدث في مؤلفه: "ثلاث رسائل في نظرية الجنسانية" عن الحالة الرضيّة التي يلقاها الرضيع في علاقته بثدي أمه. ذلك الشعور هو النموذج الأصلي للشكر "الجنسي" ولأي لذة جنسية. وتتطور عملية الشكر وفق كلاين، فتأخذ تجليات وتحولات مع التجربة الخارجية للطفل في مراحل عمرية متقدمة، بما يجعل التجارب اللاحقة تثري وتحوّر ذلك المعطى الأصلي الفطري لدى الطفل. لتخلص كلاين أن الشكر مرتبط بالثقة في الصور الطيّبة المدركة[6]، فضلا عن أنه مرتبط في النفسية البشرية بالكرم النابع من ثدي الأم في الأصل، ليتطور ذلك المفهوم ويأخذ بعدا دينيا واجتماعيا لاحقا، متكيفا مع أوضاع مستجدة.
الأديان الإبراهيمية ودلالات مفهوم الشكر
جرّاء تعمّق دلالات هذا المفهوم في الديانات الإبراهيمية تتطور دوافعه ومقاصده ليغدو مطلقا لا محدودا، ومتخلصا من التعليل ومن المقايضة، ولا يرتبط بحدث أكان سلبيا أو إيجابيا، نفعيا أو لا نفعيا. حيث يكون الشكر بمثابة فيض الروح، بما يضاهي لديها الغبطة والزهو، تصديقا لما يرد في حديث المصطفى (ص) في ما رواه الطبراني والبيهقي، أنه "يُنادَى يوم القيامة: ليقم الحمّادون. فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة. قيل: ومن الحمّادون؟ قال: الذين يشكرون الله على كل حال". وبالمثل نجد في المسيحية معنى رقيقا يلتقي مع معاني ذلك الحديث الشريف في موضعين من الرسائل لا في الأناجيل: "رافعين الشكر كلَّ حين وعلى كلِ شيء لله والآب باسم ربنا يسوع المسيح" (الرسالة إلى مؤمني أفسس5: 20) وفي قول: "ارفعوا الشكر في كل حال: فهذه هي مشيئة الله لكم في المسيح يسوع" (الرسالة الأولى إلى مؤمني تسالونيكي5: 18).
فالشكر في العهد القديم هو عرفان للجميل، وتوق نحو نعمة أكبر مرجوة. ومع أن اللغة العبرية تفتقر إلى مصطلح دقيق للتعبير عن معاني الشكر[7]، فقد اعتاد قدماء اليهود الشكر عن طريق استعادة الفرح والحمد والتهليل وتمجيد الله بالاعتراف وبالإشادة بعظائم الأمور الإلهية، بغرض الشهادة لها. لذلك استخدم اليهود عبارتين للتعبير عن شكرهم: الأولى هي "توداه" والتي توازيها كلمة شكر، وعبارة "بركة" وتتضمّن معنى "التبادل الجوهري بين الله والإنسان". فصدى بركة الله الذي يهب خلقه الحياة والخلاص هو البركة التي يشكر بواسطتها الإنسان خالقه. يرد في سفر دانيال (3: 90) "باركوا الربّ إله الآلهة، يا جميع متقي الربّ، سبّحوه واحمدوه لأن إلى الأبد رحمته". وقد التحمت دلالة العبارتين في معنييهما القوي مع المسيح في عشائه الأخير في المنظور المسيحي. ففي ذلك العشاء، عبّر المسيح عن حمل أثقال البشريّة كلها من خلال رموزها ومن خلال عناصرها الأساسية وقرّبها كلّها بفعل شكر للربّ الإله وفق فداء رمزي.
وأما الشكر، على ما يرد في القرآن الكريم، فهو من سمات الصدّيقين والرسل، وإسداؤه لا يخفي صغرا بل تقديرا وإجلالا. يقول تعالى عن إبراهيم (ع): "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم" (النحل: 120-121). ووصف -عز وجل- نوحًا (ع) بأنه شاكر، فقال: "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا" (الإسراء: 3). وقال تعالى عن سليمان (ع): "قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم" (النمل: 40).
أ- اليهودية
فكما علّمت الأديان المؤمنَ الشكر لخالقه على نعمه وخيراته التي لا تحصى، حثته أيضا على شكر نظيره في الخلق عن أي صنع يأتيه نحوه. وضمن هذا التنوّع في الشكر توزّع حديث الكتاب المقدس بين نوعين من الشكر: شكر لله وشكر للإنسان. فالشكر هو تعبير عن وفاء، وهو رابطة رقيقة بين محسِن ومحسَن إليه، حيث يتولّد اعتراف عفوي في ذات المرء تجاه وليّ نعمته. لا تجد الذات سبيلا إلى مجازاة ذلك الإحسان سوى الاعتراف العفوي، الذي لا يرنو إلى مكافأة، بل يتطلع إلى الشكر الخالص، إلى الشكر في ذاته، وهنا عمق الشكر وتعاليه.
ففي التقليد اليهودي جرى التعبير عن التدين بشكل فردي، وفي بعض الحالات بشكل جماعي. وإن يكن الغالب على الشكر أن يأتي بشكل فردي فإن العهد القديم تعرض إلى هذا الطابع الجماعي أيضا في عديد المواضع. ورد حديث عن ذلك في المزمور في قوله: "أشكرك في جماعة العابدين، وأحمدك في وسط حشود كثيرة" (المزمور35: 18). إذ يأتي الشكر الجماعي بشكل منتظم يختلف أداؤه عن الشكر الفردي العفوي "وعيّن داود عددا من اللاويين ليقوموا بالخدمة أمام تابوت الرب ولرفع التضرعات وتقديم الشكر والتسبيح للرب إله إسرائيل. وجعل آساف رئيسا عليهم وزكريا معاونا له، وكان يعيئيل وشميراموث ويحيئيل ومتّثيا وأليآب وبنايا وعوبيد أدوم ويعيئيل يعزفون على الرباب والأعواد، أما آساف فكان يعزف على الصنوج. في حين كان بنايا ويحزئيل الكاهنان ينفخان بالأبواق دائما أمام تابوت عهد الربّ" (المزمور16: 4-6). وغالبا ما تصحب هذا الثناء الجماعي ترانيم وأهازيج تكون مرفوقة بأدوات موسيقية: "فأقبل إلى مذبح الله، إلى الله فرحي وأسبحك بالعود يا إلهي" (المزمور43: 4). أو كما ورد أيضا في (المزمور71: 22): "سأحمدك وأشيد بحقك على الربّاب يا إلهي. أشدو لك على العود يا قدوس إسرائيل".
فالشكر في التوراة يأتي ممتزجا بالحمد والثناء والعبادة، كما أن هناك حرصا على التعبير عن الشكر بمدلول مادي، يعرب من خلاله المرء عن اعترافه وَجُوده، فلا يكفي شكر القول بل هناك إصرار على شكر الفعل. لذلك غالب ما رافقت الشكر في التقليد اليهودي الذبيحة: "إن قربها لأجل الشكر، فليقرّب على ذبيحة الشكر أقراص فطير معجونة بزيت، ورقاق فطير مدهونة بزيت، ودقيقا مربوكا أقراصا ملتوتة بزيت" (سفر اللاويين7: 12). وتقليد الشكر التام الذي لا يقدّم إلا من خلال ذبيحة في اليهودية، تطور مع المسيحية ليغدو المسيح (ع) ذبيحَ البشرية وفداءَها. إذ لم يبق الشكر، في العهد القديم، خيارا تأتيه الأنفس طوعا، باعتباره ينبع من إدراك عميق، بل تحوّل إلى طقس من جملة الطقوس التي تنتظم على هيئة محددة، فكان الشكر يُقدّم لله رفقة الخدمات الشعائرية كالتسبيح: "وجعل أمام تابوت الرب من اللاَّويين خداما، ولأجل التذكير والشكر وتسبيح الرب إله إسرائيل" (أخبار الأيام الأول16: 4).
إذ بات أداء الشكر في اليهودية خاضعا لتراتيب مضبوطة، حتى أن بعض رجال الكهنوت كانوا موكَّلين بقيادة الجموع في الشكر والتسبيح، وربما أتى ذلك الفعل وعيا بما تخلّفه الممارسة الجماعية للمناسك من إحساس قوي بالتضامن وبالزهو الروحي، فضلا عما يتولد من شعور جمعي قد لا يحصل عند الممارسة الفردية، من هنا كان الإلحاح في اليهودية على إتيان الشكر ضمن طقس جماعي منتظم وخاضع لضوابط كهنوتية. فقد بارك نحميا سور المدينة بالشكر الجماعي، فمع "تدشين سور أورشليم استدعوا اللاويين من جميع مواطنهم إلى أورشليم، لكي يدشّنوا بفرح وبحمد وترنيم بالصنوج والرباب والعيدان" (نحميا12: 27). إذ وردت كلمة "فرح" في العهد القديم 181 مرة، وكلمة "شكر" 136 مرة، وغالبا ما تمازجت دلالتهما لتعبر عن عرفان تجاه الرب.
ب- المسيحية
يُعدّ الشكر في الثقافة الإغريقية الكلاسيكية بمثابة الخُلق المدني، كما يلوح ذلك بيّنا من خلال قصائد كتبها الفيلسوف اليوناني إبيكتيتوس (50-130م). وفي الحياة العامة عادة ما كان يسدى الشكر إلى السلطات السياسية أو إلى الآلهة على حد سواء. أردنا هذا التوضيح لبيان مدى تأثر المسيحية البدئية بتلك الأجواء الثقافية التي تطوّرت في أحضانها، جراء افتقارها إلى مكوّن لاهوتي ثري وأصيل في هذا المجال. فقد انعكست المفاهيم الإغريقية بشكل لافت على مفهوم الشكر في المسيحية، إلى حد التبني لأبعادها، وهو ما يظهر جليا في رسائل بولس التي اعتنت دون غيرها من نصوص العهد الجديد بهذا الخلق، حتى ارتقت به إلى مصاف الخلق الديني، يضاهي ما نجده في الديانات الإبراهيمية الأخرى.
فبتتبعنا لمفهوم الشكر في العهد الجديد نلحظ توجهه في عمومه إلى الله أو إلى البشر. وبشكل مجمل ورد حديث الشكر في رسائل القديس بولس، أين تكرر 36 مرة، حيث توجّه في موضعين للبشر، على لسان بولس في شكره للحاكم: "إن ما تم لنا بفضلك من سلام وافر وإصلاحات انتفع بها شعبنا بعنايتك -يا سمو الحاكم فيلكس- نرحب به، بجملته وفي كل مكان، بالشكل الجزيل" (أعمال الرسل24: 3)؛ وكذلك في شكر معاونيه قائلا: "سلّموا على بريسكيلا وأكيلا، معاونيّ في خدمة المسيح يسوع، اللذين عرضا عنقيهما للذبح إنقاذا لحياتي، ولست أنا وحدي شاكرا لهما بل جميع كنائس الأمم أيضا" (الرسالة إلى مؤمني روما16: 3-4).
لكن في اللاهوت المسيحي يبقى الشكر المرتبط بالأفخاريستيا* أبرز الأوجه الروحية في إتيان هذا الخلق، وبصفة الشكر لله من أصدق الأدلة على الإيمان الحق، كونه من مزايا النفوس المؤمنة، تمتنت صلاته بمفهوم ذبيحة المسيح الكفارية بعد أن غدا البشر مدينين له بالخلاص. وتبعا لتلك الدلالة كانت شعيرة العشاء الرباني -الأفخاريستيا- المنعوت بخدمة الشكر نتيجةً لصلاة المسيح حين شكر ربه وقدّس الخبز والخمرة، وتناول عشاءه الأخير مع تلاميذه ليلة عيد الفصح (متى26: 26-28). اتخذ ذلك العشاء طابعا مميزا، وصار العشاء الأخير الذي ليس بعده عشاء. ولكن مما يلاحظ أن الشكر لله مع المسيح ما كان خاصية ميزت العشاء الأخير دون غيره، بل هو تقليد دأب عليه المسيح كلما همّ بتناول نعمة من نعم الله، شاكرا ربه على ما أنعم به عليه، على غرار إطعامه جموع الأربعة آلاف التي احتشدت في البرية حين "أخذ السبع خبزات والسمك وشكر وكسر وأعطى تلاميذه والتلاميذ أعطوا الجمع". (متى15: 36).
ولكن المسيح (ع) الذي رأيناه يشكر قبل تناول النعمة نجده أيضا يشكر عقب تحقق مراده. يروي الإنجيل أن المسيح توقف شاكراً أمام قبر لعازر وهو لا يزال دفينا "ثم رفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي" (يوحنا11: 41). وبشكل عام تفيد المسيحية أن الشكر يأتي في اللحظات الحرجة كما يأتي في أوقات النعمة، وربما الإلحاح من المسيح (ع) بإتيان هذا العمل حتى أثناء لحظات الشدة فيه تدريب للأنفس على التعالي بمفهوم الشكر وتخليصه مما قد يتلبس به من طابع مادي دنيوي. ففي الوقت الذي يكون فيه الحمد والشكر عنوان الاعتراف والتواضع والصدق مع الذات ومع الخارج، يكون اللاحمد واللاشكر علامة على الكبر والتعالي ومعبرا عن نكران للنعم، إذ اللاشكر من الرذائل التي تطبع البشر الذين يعيشون في آخر الأزمنة، لأنه "في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة، لأن الناس يكونون... غير شاكرين، دنسين" (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس3: 1-2)، والحال أن المسيح شكر ربه على الابتلاءات والآلام فكيف له ألاّ يشكره على الخلاص!
من جانب آخر نجد المسيح يحذر من السلوك المرائي الذي قد يتلبس بالشكر، فقد تغدو صلوات الشكر مفرغة من معناها وزائفة على غرار صلاة شكر الفريسي في المعبد، الواردة ضمن بعض الأمثال التي ضربها المسيح "فوقف الفريسي يصلي في نفسه هكذا: أشكرك يا ألله، لأني لست مثل باقي الناس الطماعين الظالمين الزناة، ولا مثل جابي الضرائب هذا..." (لوقا18: 11).
وعلى غرار ما يرد في تقاليد سابقة من حديث عن إسداء الشكر بشكل جماعي، سعى القديس بولس للرقي بالشكر إلى مصاف الاحتفالات الجماعية، حيث نجده لا يميل إلى شكر الله بمفرده بل يحرّض الجميع على الوقوف معه لأدائه، طمعا في رضاه وعفوه. فالشكر وفق بولس يأتي على ضربين: عبر أداء الشعائر الجماعية وهو المحبذ وفي الخلوة أيضا "وكل ما عملتم بقول أو فعل، فاعملوا الكل باسم الرب يسوع، شاكرين الله والآب به" (الرسالة إلى مؤمني كولوسي3: 17). رغم أن هذا الشكر في المفهوم البولسي قد يرتبط أحيانا بأثر مادي ودنيوي: "لأنَّ جميع الأشياء هي من أجلكم، لكي تكون النّعمة وهي قد كثرت بالأكثرين، تزيد الشكر لمجد الله" (الرسالة الثانية إلى مؤمني كورنثوس24: 15). أو بطلب لمغنم في الحياة "شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين" (الرسالة الثانية إلى مؤمني كورنثوس2: 14) و"شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس15: 57).
نخلص إلى أنه مما يلاحظ في الأناجيل الحالية افتقارها البين إلى مفهوم الشكر ولما له من دلالات عميقة، وإن كانت رسائل القديس بولس قد حرصت لتدارك هذا النقص بالتأكيد على سمو هذا الخُلق الروحي، مع ذلك بقي الطرح البولسي لمفهوم الشكر متأثرا بالفضاءات الثقافية التي تطور فيها أكثر منه معبرا عن البعد الروحي النابع من المسيحية. حيث تبقى فضيلة الشكر في مدلولها المسيحي، كما ذكر القديس توما الأكويني، مستندة في أبعادها إلى ثلاثة عناصر: الاعتراف بالعطايا الممنوحة، ومظاهر التجليات الخارجية، والمقايضة بالأفعال في ما هو متيسر.
ج- الإسلام
تكشف المقارنة بين الأديان الثلاثة، بشأن موضوع الشكر، عن تميز القرآن الكريم بثراء حديثه عن هذا موضوع، على خلاف الكتب المقدّسة الأخرى. فقد ذكرت مشتقات كلمة شكر في القرآن الكريم في 74 موضعا، بدلالات متنوعة وفي سياقات مختلفة. لكن البين أن الشكر في مدلوله القرآني العميق ليس شكر قول بل هو شكر فعل. لأن الشكر باللسان لو كان مقصد الحثّ لغدا ثرثرة خاوية من معانيها الحقيقية تفتقد إلى الواقعية، مع أن الشكر باللسان يبقى تتويجا لشكر الأفعال وتجليا معنويا لها في حدود المدرك العقلي.
وإن يكن مما هو معتاد أن يشكر الشاكر على شيء قُدِّم له سلفا، لتتلخص العملية في عطية يقابلها اعتراف معنوي، فإن الفلسفة القرآنية تذهب بعيدا بمفهوم الشكر، ليغدو كل من يأتيه مُثابا عليه في الدنيا والآخرة. فلا يكفي أن تُسدى النعمة للمرء قبل الشكر، بل أن تسدى له ثانية عقب الشكر. عبرت عن ذلك بشكل جلي عديد الآيات: "لئن شكرتم لأزيدنّكم" (سورة إبراهيم: 7)، و"من يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين" (سورة آل عمران: 145)، وقوله تعالى: "وسيجزي الله الشاكرين" (سورة آل عمران: 144). ومن هذا الباب يأتي الشكر اعترافا وإقرار من البشر بأنه "وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها" (سورة النحل: 18).
ذلك أنه حين نرتقي بمفهوم الشكر من مدلوله الظاهر إلى مغزاه الباطن يغدو فعل الشكر تعبيرا عن اتساق المؤمن مع دورة الكون، وهو ما يتجلى بيّنا من خلال الحديث المروي عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله (ص): "عجبا لأمر المؤمن! إنَّ أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن: إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له" (رواه مسلم في صحيحه).
لقد تميز الشكر في اليهودية بمسحة احتفالية شعائرية، جعلت منه إحساسا أقرب إلى الزهو والفرح منه إلى اليقين أو الإقرار، الذي يعيشه الفرد أو تلقاه الجماعة، كلما حصل اقتراب من المقدس، المهيب والجليل والآسر، على حد تعبير رودولف أوتو (1860-1937م)؛ في حين في المسيحية، ومع شحّ دلالات الشكر في الأناجيل، فالملاحظ أن هذا المفهوم بعد أن كان متمحورا حول الألوهية مع المسيح (ع)، ينزاح مع القديس بولس في رسائله نحو البشر ونحو شخص المسيح (ع)؛ في حين يأتي الشكر في الإسلام معربا عن مراعاة عميقة للمقاصد العليا للخلق، ليتطلع إلى معانقة أفق دلالي فعلي، يتجاوز المستوى اللفظي أو المستوى الاحتفالي الشعائري.
اضف تعليق