ظلت الكتابات الإسلامية في الشورى بازدياد وإنتاج كبيرين لكنها ظلت تهيمن عليها لحظة ذلك اللقاء التاريخي بين الغرب العلماني والشرق الإسلامي، ومفاجأة الديمقراطية لقيمنا التي ارادت هذه الكتابات استيعابها من خلال فكرة الشورى ومن ثمر ترويضها في مجتمعنا، أو أرادت الرد عليها والتصدي لقيمها، ولذلك...
مقدمة
يتفق أغلب الكتّاب ذوي التوجهات الإسلامية بأن الشورى من مبادئ نظام الحكم في الإسلام، وأنها من قواعد الشريعة. وقد وجدت هذه الفكرة لها اهتماما كبيرا في الكتابات الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين لاسيما مع جيل المصلحين من مدرسة جمال الدين الافغاني، وهي لحظة تأسيسية مهمة للتداول الاسلامي لفكرة الشورى في العصر الحديث.
وتظل آثار اللقاء السياسي والثقافي بين العرب والشرق الإسلامي وهو اللقاء الذي بلغ ذروته في الجدل الاستشراقي– الإسلامي بعد منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكان حاضرا بقوة في انتاج وتحرير فكرة الشورى الإسلامية السياسية في مواجهة فكرة الديمقراطية الغربية والعلمانية، وبذلك هي تدخل في نطاق الصراع بين الديني والعلماني في مجتمعنا الذي كان انفتاحه على الغرب في القرن العشرين انفتاحا اضطراريا وحتميا تاريخيا.
وقد ظلت الكتابات الإسلامية في الشورى بازدياد وإنتاج كبيرين لكنها ظلت تهيمن عليها لحظة ذلك اللقاء التاريخي بين الغرب العلماني والشرق الإسلامي، ومفاجأة الديمقراطية لقيمنا التي ارادت هذه الكتابات استيعابها من خلال فكرة الشورى ومن ثمر ترويضها في مجتمعنا، أو أرادت الرد عليها والتصدي لقيمها، ولذلك نجد في تلك الكتابات الإسلامية وعلى مدى القرن العشرين ذلك الجدل الحائر والمقارن بين الديمقراطية والشورى، ولا نكاد نجد طرحا جديدا في تلك الكتابات بعد اتفاق مضامينها وطرائقها في انتاج أفكارها، ولم تكن ذات استدلال فقهي وأصولي مهم أو حقيقي الا في فترة متأخرة وعلى يد فقهاء أرادوا التأصيل للشورى فقهيا واستدلاليا.
وتظل مصادر هذا الكتابات التقليدية غير الفقهية والاصولية هو التأويل الذي مارسه المفسرون المسلمون القدامى في آيات الشورى وأقوال التابعين التي تعد المصدر الثاني، والمصدر الثالث هو ما ورد من أحاديث عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ثم أقوال الصحابة والحكمة العربية القديمة، وقد أضافت بعض هذه الكتابات في مصادرها أقوال الفقهاء القدامى الذين كتبوا في الفقه السياسي – الإسلامي، وتشابه أو وحدة المصادر بالنسبة الى هذه الكتابات في الشورى هي التي تقود الى وحدة الأفكار والمضامين السياسية في هذه الكتابات التي اتسمت أخيرا بالتقليدية والتماثل الضمني في موضوعاتها.
واذا كان المورد الأول الذي اهتم به المفسرون القدامى في الشورى هو آيتين من كتاب الله تعالى وهما قوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران آية 159 – وقوله تعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) الشورى آية 38 – فان الكتاب الإسلاميين أضافوا الى هاتين الآيتين الاثنين في مورد الشورى آيات المشورة في الرضاع والفصال وآيات الاستئذان وآيات الاستنباط والاجتهاد، وما عمله الخلفاء من تطبيقات في الشورى لاسيما الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من أجل دعم مشروعية الشورى في تأسيسات نظام الحكم في الإسلام الذي يطمح اليه هؤلاء الكتاب والسياسيين الإسلاميين (1).
وبالقدر الذي كان يهتم به فقهاء السنة القدامى وكتابهم المعاصرون بالشورى، فان النتاج الشيعي – الامامي قليل في هذا المجال أو يكاد أن يكون معدوما في المبحث الكلامي والفقهي الامامي القديم. وسبب ذلك أن الشيعة – الامامية وغيرهم من بعض فرق الشيعة كانت لا ترى موضعا للشورى في عقيدة ونظام الامامة والعصمة، وجاءت أغلب كتابات الامامية في الشورى لدى المفسرين دون الفقهاء والمتكلمين منهم، وحتى أولئك المفسرين من الامامية لم يصلوا الى تلك القناعة الدينية والكلامية في الشورى في آرائهم الفقهية والكلامية، الا انه في الفترة المتأخرة من عصر الغيبة الكبرى واشتداد الحاجة السياسية الإسلامية الى بلورة أفكار حول نظام الحكم في الإسلام قدّم فقهاء الامامية أفكارهم وتصوراتهم حول الشورى، وبمنحى إمامي يعتمد الاجتهاد الاصولي الذي هيمن على المناخ العلمي الامامي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وتم توجيه موضوع ووظيفة الشورى من خلال أبحاثهم في مجالات لا تمس العقيدة الأولى في الامامة والنص عليها.
وهكذا حظيت الشورى بذلك التركيز الإسلامي بشقيه السني والشيعي – الامامي على مدى القرن العشرين لاسيما في الثلث الأخير منه في ما سمي بعصر الصحوة الإسلامية، وتكون بذلك دخلت تاريخ الفكر الإسلامي في هذا العصر بقوة وأهمية تدعونا الى مراجعة تاريخها ما قبل الإسلامي والإسلامي.
تاريخ الشورى الاجتماعي
يعرف المجتمع وفق ماكيفر بانه نسق مكون من العرف والاجراءات المرسومة، ومن السلطة والمعونة المتبادلة، ومن التجمعات والاقسام وشتى وجوه الضبط لأنواع السلوك، وهو نسق معقد ودائم التغيير. وباختصار من وجهة نظره فان المجتمع هو نسيج العلاقات الاجتماعية وتغييره المستمر لا يدع المجال امام بقائه على حال واحد (2)
ويرهن ماكيفر المجتمع في تعريفه بالعلاقات الاجتماعية، فالمجتمع يوجد في حالة واحدة هي سلوك اجتماعي بين الافراد يعين كل واحد منهم على إدراك الاخر ومعرفته، فالمجتمع نمط متغير من العلاقات الاجتماعية. ورغم انه يعمم هذا التعريف على كل مجتمعات الكائنات الحية الا اننا شذبناه ووظفناه في تعريف المجتمع البشري في هذه الدراسة حصرا.
واما على مستوى تفسير نشأة المجتمع وتفسير العلاقات الناشئة فيه فان النظريات قد اختلفت فيه كثيرا، وذلك الاختلاف سببه هو العمق التاريخي والزمني الذي نشأت فيه هذه المجتمعات او العلاقات فيها لاسيما مع اختفاء المدونات أو عدم وجودها التي تشكل بإمكانها ان وجدت وثائق تاريخية مهمة تفسر تلك الحقبة السحيقة في تاريخ الانسان.
لكن النظام الاجتماعي الذي كانت تصدر عنه المجتمعات في علاقاتها ظل فاعلا ومورّثا في اجيال هذه المجتمعات، رغم انه طرأت عليه تغييرات وتعديلات كثيرة لكنها ظلت تحمل صيغة هذا النظام الاجتماعي وروحه، وهو ما مكن الباحثين والدارسين الاجتماعيين في صياغة تصوراتهم أو نظرياتهم الاجتماعية حول نشأة المجتمعات من جهة، وحول العلاقات السائدة قديما وبعيدا في هذه المجتمعات.
وقد كانت النظرية العضوية في تفسير المجتمع وعلاقاته ونظرية العقد الاجتماعي أهم النظريات المؤسسة في علم الاجتماع في ذلك المجال التاريخي – الاجتماعي وتفسير النظم الاجتماعية والسياسية السائدة في ذلك المجال، وقد اسهمت المشاركة الماركسية في التدليل على المجتمعات المشاعية القديمة في توظيف آيديولوجي للنظرية الشيوعية، فأحدث ردة فعل من جانب علماء الاجتماع الغربيين الذين عادوا الى التأكيد على أهمية الفرد ودوره في هذه المجتمعات البدائية وتحدثوا عن الرأسمال الفردي في حياة هذه المجتمعات. فقد كان الفرد يملك من وجهة نظرهم رأسمالا خاصا به هو نوع من الملكية الفردية التي تفند فكرة المشاعية– الماركسية في المجتمعات البدائية، ولا تتعدى أشكال الملكية الفردية مجموعة أدوات يصنعها الفرد تتعلق باستعماله الشخصي مثل المآزر ومحكات الظهر ومايشكل مثلها من امتدادات شخصية للفرد وفق ستانلي.(3)
لكن الابحاث الاجتماعية والعلمية الانثروبولوجية تميل الى تأكيد عنصر المشابهة في هذه المجتمعات وانعدام الاختلافات الحادة أو الوسطى بعد غياب مبدأ الملكية الفردية في هذه النظم الاجتماعية فالإنسان البدائي "الاسود" هو انسان يوجد مقارنة بالإنسان الاوربي "الابيض" الذي هو يملك وفق مقارنة أحد الحكماء البدائيين " الافريقيين " في حديثه الى باحث انثروبولوجي.(4)
لقد أثر غياب الملكية في هذه المجتمعات القديمة ثقافيا وتاريخيا في مفهوم السلطة لدى أفراد وجماعات هذه المجتمعات، فلم تكن السلطة واضحة المعنى أو متسعة الحدود، وكانت المشاركة في صنع القرارات من اختصاص فئات تمثل بشكل عفوي غير انتخابي بقية الافراد، استنتاجا عن ملاحظات الانثروبولوجيين الميدانيين الذين درسوا هذه المجتمعات، وهذه المشاركة في صنع القرارات تعبير عن حالة التضامن التي تعيشها المجتمعات البدائية. فالجماعة البدائية تحس بذلك التضامن الاجتماعي بقوة فطرية وتحس بارتباط غيبي ومصيري بالأرض التي تسكنها وبالتالي لا يمكن فصلها عنها، وهو ما يفسر تضامنها الاجتماعي استنتاجا عن ليفي بريل.(5)
هذه المشاركة في صنع واتخاذ القرارات المتعلقة بالمصير الاجتماعي هي قريبة من المفهوم الديمقراطي الحديث، مما حدا ببعض علماء الاجتماع والانثروبولوجيا الى توصيف المجتمعات البدائية بالمجتمعات الديمقراطية بالمعنى السايكولوجي العميق.(6)
التي ترتب عليها اجتماعيا وسياسيا تقويض جميع انواع السلطات السياسية والقانونية التي عرفتها المجتمعات المتحضرة وترتب عليها أيضا توزيع القيادة والسلطة في هذه المجتمعات وممارستها بشكل معقول(7)
فقد كان الشيخ العربي في الجاهلية يمارس سلطات محددة عرفيا ولا يتجاوزها الى ما لا يسمح به العرف القبلي في قيادته للقبيلة العربية التي تمنحه صفة الرئيس وصفة الكاهن في بدايات تطورها الاجتماعي، ثم انفصلت سلطة الشيخ عن سلطة الكاهن وكانت وظيفة الكاهن هي الاتصال بالآلهة وتقديم الهدايا والنذور الى الآلهة، اما وظيفة الشيخ العربي فهي الفصل في الحوادث والقتل والثأر والنزاع وخلع الشخص غير المرغوب فيه اجتماعيا من القبيلة، لكن هذا الشيخ لم يكن ليتخذ القرارات أو الاوامر بمعزل عن العشيرة أو بمفرده بل باستشارة شيوخ وذوي السن والخبرة من أفراد القبيلة للاستفادة من رأيهم وكذلك ليضمن ولائهم وطاعتهم.(8)
وقد تحولت هذه الاستشارات الى تقليد سوسيولوجي في الحياة العربية ورسخت في التقاليد السياسية للدول العربية في اليمن قبل الاسلام، فقد كان لكل دولة مجلس استشاري يطلق عليه "مزودا" وقد عرف أعضائه بـ "اسود" السادة وكانت وظيفتهم تقديم الاستشارة الى الملك في القضايا المتعلقة بسياسات ومصير الدولة وشعبها، وقد ورد في الكتابات اليمنية القديمة "مزود منعن" و "مزود المنيع" واحيانا تطلق هذه الكلمة على أعضاء هذه المجالس، وهناك مايعرف لديهم بـ "الطبنن" وهو مجلس كبار الملاكين للأرض والطبن في العربية تدل على الذكي والفطن وهذا المجلس يضم عقلاء القوم والحذاق منهم اضافة الى شرط الثروة والملكية الاقطاعية في الانضمام اليه، وورد أيضا اسم مجلس يقارب الطبن في وظيفته وشروطه ويسمى "المسخن" وهو ينتمي الى دولة سبأ بينما الطبن يعود الى دولة قتبان وتاريخه يعود الى القرن الخامس قبل الميلاد في رأي بعض الباحثين.
واذا كانت هذه المجالس تعبر عن السلطة الاقتصادية التي تكون محصورة بيد ملّاك الارض فان الحياة السياسية في الدول اليمنية عرفت نوعا آخر من المجالس وكانت تواكب هذه المجالس الخاصة بالأسياد الاقتصاديين وتعرف بـ "عهرو" وتعود الى القرن الثاني قبل الميلاد واعضائها من ذوي الاحساب والانساب في دول اليمن ولا يشترط فيهم ان يكونوا من أصحاب الثروات بل هم طبقة أعيان البلاد، ومجلسهم تعبير عن السلطة الاجتماعية التي تمنحها لهم امتيازات الحسب والنسب والجاه الاجتماعي، ولازلنا نشهد هذه المجالس في النظم الديمقراطية الحديثة وهي مجالس الشيوخ والاعيان، لكن هذه المجالس لايصل اليها الفرد – العضو بحق الانتخاب بل بحق الارث والامتياز على خلاف مجالس الاغريق والرومان، وهناك مجلس آخر يعد الثالث في ترتيبه الاجتماعي والسياسي وهو مجلس "ذا عذر" وأعضائه حصرا على حلفاء القبيلة وجيرانها وممن يرتبط معها بعلاقة المصلحة وليس بعلاقة الدم.(9)
وهو نظام لم تألفه نظم التمثيل السياسي القديمة وتدخل أنظمة المجالس تلك في نظام الشورى المحفوظ في ذاكرة الشعوب اضافة الى نظم الديمقراطية عن المرحلة البدائية في تاريخ المجتمعات البشرية القديمة التي لم تكن تتحدد لديها معالم السلطة فضلا عن غياب نوع السلطة الفردية – الدكتاتورية بالرغم من وجود سلطة الملك القبلي.
ويصل المؤرخ العراقي د. جواد علي والمتخصص في تاريخ العرب قبل الاسلام الى أن بلاد اليمن ودولها وانظمتها عرفت نظاما تمثيليا وكانت هذه المجالس "المزود" تمثل دورا استشاريا مهما ولعله ملزما للملك وان لم يشر الى ذلك د. جواد علي، لكن مع ظهور مايعرف بالاقيال في تاريخ اليمن القديم ومفردها قيل وهم الملوك المستبدون وقيل هم ملوك حمير وقال ثعلب هم الملوك بغير تخصيص بحمير –لسان العرب، ابن منظور، مادة..قيل - تراجعت مجالس المزود عن دورها واختفت منذ القرن الثالث الميلادي.(10)
واختلفت المصادر العربية في معنى القيل والاقيال لكنها اقترنت بالعظمة الفردية والملكية في الذاكرة العربية. وكان هناك نظاما تمثيليا في دولة لحيان اليمنية فقد كان فيها مجلسا يطلق عليه في اللغة اللحيانية " هجبل " بمعنى " الجبل " وكان يوصف لديهم بـ "العالي الشأن" في اشارة الى أهميته السياسية والاجتماعية ويستدل د. جواد على وظيفة هذا المجلس في صناعة الرأي السياسي بوجود كلمة "برا " أي "برأي" في الكتابات اللحيانية.(11)
وقد وردت اشارات في القرآن الكريم الى هذه المظاهر السياسية والاجتماعية في حياة وتاريخ هذه الامم والدول القديمة وكانت كلمات "النادي" و "الملأ" تعبير عن هذه المظاهر او الظاهرات التاريخية القديمة، فقد وصفت قرية لوط بانها كانت لها نادي يرتكب فيه رجال القرية فاحشتهم وبنفس الوقت كانوا يتشاورن في أمر دعوة لوط والتخطيط للقضاء عليها، وكان لفرعون ملأ من المستشارين يأخذ برأيهم في ما يهم به من عمل لا سيما مع النبي موسى عليه السلام، وكانت بلقيس تستشير ملأها في ما تصنعه مع رسالة النبي سليمان، بل كان سليمان النبي والملك الذي لم يؤتى أحد مثل ملكه يستشير ملأ اعلى في مملكته بما يصنع مع دولة وملكة وصلت اليه اخبارها بانهم كانوا يعبدون غير الله تعالى، بل ان القوم من بني إسرائيل كانوا يناقشون مسالة خاصة جدا وهي كفالة مريم بنت عمران في مجلس تشاوري وديني عالي المستوى في تراتبيتهم الاجتماعية.
ويشير د جواد الى انه كان في كل مدينة أو قرية في العالم القديم ناد أو مجلس وظيفته التشاور في أعمال وسياسة ومصير شعب هذه القرية والمدينة والسمة الرئيسية في هذه القرى والمدن انها لم تكن دولا وانما كانت تقع على حافات وحدود الدول الكبرى يومذاك.(12) وتمتد على مساحة شاسعة من الصحراء التي كانت تستعصي على الدول والامبراطوريات الكبرى، وكانت القبائل العربية فيها لا تخضع الى نوع محدد من السلطة السياسية بل أن السلطة تبرز في حياتهم وتظهر تبعا للطوارئ وبصيغة مؤقتة في قيادة المواقع والتبني للمسؤوليات الادارية والعسكرية، وهو ما يفرض نوعا من سياسة الشورى وتبادل الآراء في ادارة هذا الحدث الطارئ فلم تكن لديهم سلطة أو حكومة متخصصة في ادارة الشؤون الداخلية ومواجهة الازمات أو الاحداث الطارئة وكانت سلطة الرؤساء القبليين في الصحراء العربية لا تميل الى تقمص دور الحكومة والسلطة السياسية رغم معرفتهم بها والاطلاع عليها في الدول والامارات والامبراطوريات المجاورة، وكانت سلطة هؤلاء الرؤساء القبليين لا تميل الى الاستبداد واخضاع الناس وهو مقوم الدول وسياساتها.
فالحرية عقيدة الصحراء المقدسة كما يقول لورانس تتضاد وتناقض سياسة الاستبداد أو طبيعة السلطة حتى وان كانت غير مستبدة، فالسلطة في المنظور العربي اسرع الى العطب في العلاقة بالرؤساء القبليين عند العرب من أهل الوبر والبدو، بل ان الحرية في تضاعيفها الاجتماعية وبنيتها الصحراوية صارت عائق العرب في بناء دولهم ومشكلتهم في تطوير حياتهم السياسية والقانونية في العصر الحديث.
ولذلك كانت الشورى هي بديلا سياسيا واجتماعيا عن السلطة عند العرب قبل الاسلام وقبل تكوين دولتهم العربية الاسلامية، ولعلها واحدة من احكام الجاهلية الاجتماعية التي ابقاها الاسلام مثلها مثل الديات التي كان معمولا بها في الجاهلية، وتحدثت الاخبار عن دار كانت تجتمع فيها قريش التي كانت تميل تركيبتها الاجتماعية والسياسية الى مقاربة الدولة في تنظيم القرار لديها في هذه الدار التي أطلقوا عليها "دار الندوة" وكانت تقوم على مبدأ الشورى، فيجتمع أعيان قريش ورؤسائها وينظرون في الأمر الطارئ ويتخذون القرار المناسب، وهذا النظام كان سائدا في المدن القديمة التي ظهرت قبل تأسيس الدول الكبرى والإمبراطوريات العظمى، وهذا كان شأن المدن الإغريقية لاسيما مدينة أثينا التي سنّت وصنعت الديمقراطية في ثقافة الإغريق السياسية. وكانت قريش تشترط في دخول هذه الدار السن والشرف الاجتماعي والذكاء مع صغر السن المشروط في الحضور.(13)
وقد ذكر عنوان المشورة في المصادر التاريخية في الجاهلية وقيل انها كانت في بني أسد وأن قريشا كانت لا تجتمع على أمر حتى يعرضوه على صاحب المشورة، ولم تتضح هوية هذا المنصب هل هو منصب اجتماعي أم منصب ديني ومن وظائف الكهانة(14)
وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤكد انتشار ثقافة الشورى في حياة القبائل في المنطقة قبل الاسلام، وذلك بإشارته المستمرة الى ظاهرة الملأ في التراتبية الاجتماعية في النظام القبلي والوظيفة الاساسية المخولة بهم في الشورى، وقد أطلق عليهم في تاريخ الاسلام السياسي والاداري اسم أهل " الحل والعقد " وهو يشكل استمرارا لهذا التراث السياسي في المنطقة في دولة الاسلام وتاريخه السياسي، وورد في مصادر اللغة أن المعنى في "الملأ" هو "التشاور، أو تشاور الجماعة والأشراف في امر ما"(15) وهو تعريف للأشخاص بوظيفتهم أو تغليب الصفة على الموصوفين فان الأصل في الملأ هو جماعة الاشراف والرؤساء ووظيفتهم او الصفة الاجتماعية لهم التشاور لكن غلبت الصفة عليهم فقالوا الملأ هو التشاور.
وكانت المشورة في حياة العرب جزءا من تاريخهم الثقافي حتى عدّوا في أقوالهم: الخطأ مع الاستشارة أحمد من الاصابة مع الاستبداد.. وأن: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار ربه واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه وأمن من رجوع الملامة اليه.. وقالوا: ما هلك امرؤ عن مشورة(16) وفي تجربتهم الاجتماعية قرنوا المشورة بالحزم، وكان الحزم لدى العرب يشكل قيمة اجتماعية عليا لاسيما في قرارات مصيرية فقالوا.. قال العتبي لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد فنحن نشاوره فكأنا ألف حازم(17) وهناك بعد راسخ في العقلية الاجتماعية العربية في النظر الى العقل بانه لا يستقيم في رأيه وقراراته الا بمشاركة جماعية في صناعته فقد سئل بعض حكمائهم: أي الأمور أشد تأييدا للعقل وأيها أشد إضرار به؟ فقال: أشدّها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء وتجربة الأمور وحسن التثبت وأشدها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد والتهاون والعجلة..وقال حكيم عربي آخر: اذا استبد الرجل برأيه عميت عليه المراشد(18) والاستبداد هنا هو عدم مشاركة الجماعة في صناعة الرأي. وقد نظر العرب الى هذا السلوك المستبد بأنه مخاطرة بالمصير فقالوا: من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه وقالوا: لان تسأل وتسلم خير من أن تستبد وتندم وقالوا: تعوذ من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة(19) ولازلنا نلحظ لسلوكهم الاستشاري هذا حضورا في بقايا ارثهم القبلي في ايامنا هذه لكن بحدود تنظيمهم القبلي الاجتماعي دون تنظيمهم السياسي سواء دولهم أو أحزابهم.وقد حفظت العرب الشروط في المشورة عن حكمائها في الجاهلية ومنها وصية قس بن ساعدة الايادي وعامر بن الضرب وأكثم بن صيفي(20)، وهي شروط تنم عن الخبرة الشخصية والاجتماعية في الحياة الجاهلية لهؤلاء الحكماء خاصة والعرب عامة.
ونقل النويري عن العرب أنها كانت " تحمد أراء الشيوخ لتقدمها في السن...ولما مر عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور " وينقل قول علي ابن أبي طالب عليه السلام "رأي الشيخ خير من مشهد الغلام" ونقل قول بعض حكماء العرب "عليك بمشورة من حلب أَشُطر دهره ومرت عليه ضروب خيره وشروره وبلغ من العمر أشدّه وأورت التجربة زنده "، ويبدو أنه لم يكن هناك اجماع على مشورة ذوي السن وكبار القوم عند العرب، فقد وردت اشارات الى تفضيل بعض العرب لمشورة الشباب وقالوا كما نقل النويري " بل رأي الشباب هو الرأي الصائب وفهمهم الفهم الثاقب... وان عقولهم سليمة من العوارض وأذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض " ونسب النويري القول الى الحكماء في هذا، وهو ما يكشف عن رسوخه ولو جزئيا في ثقافة العرب التقليدية فـ " قالت الحكماء: عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبان فان لهم أذهانا تفُل القواصل– السيف – وتحُطّم الذوابل"(21).
وكانت العرب تنظر الى الاستبداد في تضاده مع الشورى وتأبى الاستبداد ولا تقبله، لكن النويري ينسب القول بالاستبداد وتفضيله في الرأي الى جزء من ثقافة العرب، لكن الاقوال التي يذكرها وعلى طريقة الحكمة في القول تعود الى حياة العرب بعد قيام دولتهم وظهور امبراطوريتهم وهو ما يؤكد تاريخيا ايمان العرب بالشورى في حياتهم القبلية والتخلي عنها في سياسة دولتهم، فقد ذكر تحت عنوان – ذكر ما قيل في الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الاشارة – قوله " ومن الناس من آثر الاستبداد برأيه وكره أن يستشير " ومنهم عبد الملك بن صالح الذي يقول " ماعزّ سلطان لم يُغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصحائه، فإياك والمشورة وان ضاقت عليك المذاهب واستبهمت اليك المسالك " ونقل عن ابي جعفر المنصور في أيام دولته وحكمه أنه كان يستشير أهل بيته حتى ذكّره الشاعر ابن هرمة بفضل الراي المستبد بقوله:
يزُرن امرأ لا يصلح القومُ أمره.....ولا يَنتَجي الأدنيين فيما يحاول
وانتجاه: اذا أفضى اليه أمره وخصه به..... وهي المشورة مع الأدنى له
فلما سمعه المنصور استوى جالسا وقال: أصبت والله.. واستعاده... أي استعاد سماع هذا البيت من الشعر لتأثره الكبير به...، وما استشار بعدها(22) ونسب أحد جلساء هارون الرشيد الى نفسه قتل جعفر بن يحيى البرمكي حين ذكّر الرشيد بفضل الاستبداد وأهميته في الملك وكان قد رأى الرشيد يتنفس نفسا منكرا فأنشده:
واستبدّت مرّة واحدة.....انما العاجز من لا يستبد... هكذا في الاصل...(23) فعمد الرشيد بعد سماعه بفضل الاستبداد في الملك الى قتل جعفرا وزيره وصديقه وكان قبل ذلك مترددا في قتله..
ويبدو ان الاستبداد بالرأي قد صار له رواجا بين العرب في أيام دولتهم...فقالوا: وعلى المستبد أن يتروى في رأيه، فكل رأي لم تمخض فيه الفكرة ليلة فهو مولود لغير تمام... ويصنف صاحب " نهاية الأرب في فنون الأدب " شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي سنة 732 هـ أولئك المستبدين بانهم من ذوي الرأي فيقول: ومما مُدح به ذوي الرأي...ثم يروي ما قيل من الشعر في مدحهم ومنها بيت في وصف المستبد حيث يقول:
بديهته وفكرته سواء.....اذا ما نابه الخطب الخطير
وأحزم مايكون الدهر يوما.....اذا عجز المشاور والمشير
ويقول آخر:
كأنه وزمام الدهر في يده.....يرى عواقب ما يأتي وما يذر
وآخر يقول:
يرى العواقب في أثناء فكرته.....كأن أفكاره بالغيب كهان
ويقول البحتري في سليمان بن عبد الله
كأن آراءه والحزم يتبعها.....تريه كل خفيّ وهو إعلان
ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه.....وإن تنم عينه فالقلب يقظان(24).
وهكذا ترجم شعراء العرب روح الاستبداد في ثقافة الدولة والسلطة العربية وتخلي العرب عن الشورى في السلطة كمبدأ اساسي في تنظيمهم القبلي الاجتماعي القديم، فالسلطة هي من تبعث الاستبداد وتشجعه في ثقافة العرب السياسية والإدارية ولازالت تشكل السلطة أداة ومنتجة للاستبداد في تاريخ العرب الحديث بينما لازلنا نجد غياب الاستبداد وبقاء الشورى في النظام الاجتماعي للعشيرة العربية وهي من ملاحظاتنا الخاصة في نظام العشيرة العربية في العراق.
وكانت الجزيرة العربية لم تألف أي نوع من أنواع السلطات سوى سلطة العرف وتقاليد الآباء، وغياب السلطة فيها جعل قبائلها وأفرادها لا يعرفون معنى الطاعة، فالحرية غير المقننة في الصحراء لأنها حرية البداهة والوجود وهي عقيدة الصحراء المقدسة كما يقول لورنس، نتج عنها لدى العرب ظاهرة تحلل السلطة وغياب الطاعة في ضمير الفرد العربي، وقد كانت الشورى واحدة من بدائل الطاعة في النظام الاجتماعي القبلي العربي الجاهلي التي فرضها نظام تحلل السلطة في حياة العرب، فقد كان الفرد العربي يعمل وفق ما تمليه الشورى الجماعية في القبيلة وليس وفق السلطة الفوقية التي لا يؤمن بها الفرد العربي وتبرير ذلك عنده أن الرأي العام في القبيلة الذي تمثله الشورى تعبير عن الروح القبلية العامة التي يجد فيها هويته وانتمائه الوجودي.
حتى اذا جاء الاسلام وجاءت معه سلطة الوحي تطور لدى الانسان العربي نزوع الطاعة بفعل الايمان الذي دخل الى نفسه بالله ووحيه ونبيه ودينه، وفيه نستدل على قيمة التأثير الذي احدثه الاسلام في حياة أولئك العرب الصحراويين، الذين أصمت قلوبهم الصحراء عن كل نداء، وكانت الطاعة تشكل لهم تحديا وجوديا وثقافيا – تاريخيا فكيف تطيع العرب انسانا فردا وهي طليقة اليد واللسان والسيف ومشيئة العرف هذه فيهم، لكنهم أخيرا جلبوا وجبلوا على الطاعة بلا إكراه وبلا وطأة سيف وعنت ملك أو سلطان لكنها النبوة كما قال العباس بن عبد المطلب لابي سفيان حين قال حسدا لقد أصبح ملك أبن اخيك عظيما فقال له العباس: انها النبوة وليس الملك، ولم يكن للملك طواعية في نفوس العرب في كل تجربتهم التاريخية، ولكن النبوة هي التي غرست في نفوسهم الطاعة أو علمتهم ذلك المنحى الديني في الطاعة، لكنهم كانوا أيضا يفرقون بين طاعة النبوة وطاعة الزعامة وكانوا يفرقون أحيانا بين محمد النبي ومحمد الزعيم القرشي العربي وهنا يكون موضع الشورى في علاقتهم بسلطة النبي. فقد سأل حباب بن المنذر النبي عن المنزل الذي نزله في معركة بدر هل أنزله الله ذلك المنزل أم أنها المكيدة والحرب فقال له النبي أنها المكيدة والحرب ولم يأت في ذلك الوحي فاقترح عليه الحباب منزلا آخر فقبله النبي وقال "أشرت بالراي" وفعل ما اشار به الحباب(25) ومنذ معركة بدر وما سبقها من استشارة النبي أصحابه من المهاجرين والانصار في الخروج الى مشركي قريش في بدر كانت اللحظة الأولى لتأسيس مفهوم الشورى في الاسلام والذي اقتصر دوره في حياة النبي محمد "ص" على أمور الحرب والادارة دون أمور التشريع والقضاء والامارة والدين التي لم يكن يشارك أحدا فيها الوحي.
تاريخ الشورى في الاسلام
الاصطلاح اللغوي والشرعي
وفق المنهجية التقليدية والراسخة في التفكير أو الفكر الاسلامي فإن اللغة ومعاجمها هي المصدر الأول والأساسي في التزود بالمعنى الذي يكشف عنه او يحمله اللفظ في القرآن الكريم، ولذلك دأب المفسرون المسلمون القدامى والاسلاميون من الكتاب المتأخرين الذين تناولوا فكرة الشورى وتفسير آياتها على الرجوع الى مصادر اللغة في تأصيل المعنى للفظ الشورى الوارد في القرآن الكريم.
وقد تم تأصيل لفظ الشورى في أصلين أو مصدرين لفظيين هما "شور وشار" وذهب ابن منظور الى أصلها في " شور " فيقول " وأشار إليه وشوّر: أومأ يكون ذلك بالكف والعين والحاجب... وشوّر إليه بيده بمعنى أشار إليه - وتأخذ عنده صيغتان هما الشورى والمشُورة، بضم الشين -... ومنه شاورته في الأمر واستشرته... وشاوره مشاورة وشوارا واستشارة... طلب منه المشورة – لسان العرب، ابن منظور، دار احياء التراث العربي، ج 7 ص 235، مادة شور – وإشارة الكف والعين والحاجب تحمل دلالة الإيحاء الى الفكرة بواسطة اشارتها وهي حركة جارحة معبرة عن الفكرة ثم الإشارة إليها بإزاء الآخر الذي تصدر منه حركة الجارحة، وهو ما جعل ابن منظور يضع الشورى في اشتقاقها اللفظي في هذا الموضع من مواضع التأصيل لديه للفظ أو مادة شور، لكن أغلب المعنى لغويا في لفظ شور يذهب الى جني العسل فيقال شرت العسل واشترته و اشرته أو تذهب الى المعنى في اللبس الحسن والهيئة الحسنة أو الى معنى غرض الدابة وركوبها أو الى فحل الناقة اذا نظر الى الناقة فأشتارها أو تذهب لفظة شور الى معنى الجمال الرائع او الخجل.(26) لكنها لاتصل الى المعنى في الشورى بمعنى مشاورة الرأي او المشورة فيه، الا انها وبكلها معاني تستحضر الآخر وتوجده بالنسبة الى الفرد من الطائر – النحل أو الحيوان – الدابة أو الانسان – الجميل أو الخجول أو الآخر المشار إليه بالكف والعين والحاجب وهو ما يتضمنه معنى " شور " الاقرب الى اصل لفظ الشورى فيه وهو ما ينتهي إليه ابن منظور دون ان يصرح بهذا التأصيل أو يقربه إليه من بين كل المعاني المتقدمة، فهو ينتهي بالقول الى " استشاره: طلب منه المشورة...وتقول: شاورته في الأمر، واستشرته وفلان خير شيّر، أي يصلح للمشاورة وشاوره مشاورة وشورا: طلب منه المشورة...وأشار عليه بالرأي وأشار يُشير اذا ما وجّه الرأي "(27).
وإما عند الفيروزآبادي في القاموس المحيط فان اصل الشورى في " شار " وهي ذات المعنى في استخراج العسل وحسن وزينة الهيأة الى آخره من المعاني المتقدمة عند ابن منظور، لكن الفيروزآبادي يؤصل " أشار " في أومأ إليه ويكون بالكف والعين والحاجب ثم يقول وبلا تأصيل في اللفظ مباشر " وأشار إليه بكذا أمره وهي الشورى والمشورة... واستشاره طلب منه المشورة "(28) وهكذا نجد تردد الاصل اللغوي للفظ الشورى في لغة العرب بين " شور وشار " واشتقاقه الاسلامي المتأخر من أحد هذين اللفظين فلم يكن اشتقاقا لغويا - عربيا معهودا قبل الاسلام ولعلنا نجد ذلك واضحا في معنى شور عند الراغب الاصفهاني الخبير بمفردات وألفاظ القرآن فقد جاء في قاموسه المفردات
الشُّوَارُ: ما يبدو من المتاع، ويكنّى به عن الفرج، كما يكنّى به عن المتاع، وشَوَّرْتُ به:
فعلت به ما خجّلته، كأنّك أظهرت شَوْرَهُ، أي: فرجه،(29) وهو بعيد عن معنى الشورى في اصطلاحها الاسلامي.
وبهذا فانه اشتقاقا قرآنيا ومصطلحا اسلاميا خالصا لم تعهده لغة العرب على مستوى اللفظ والمعنى، لكنه مشتق من ألفاظ أخرى في هذه اللغة، فالشورى لفظ ومعنى مولّد اسلامي ودليلنا أن معاجم اللغة لم تحتو هذا اللفظ الا اشتقاقا، وقد يذهب بعض الباحثين في الأصول الاسلامية الأولى الى تأصيل تلك الألفاظ والمعاني في اللغات السامية اذا لم يجدوا لها أصلا في لغة العرب أو البحث عن جذورها في الديانات اليهودية والمسيحية وفي كتبها التوراة والإنجيل، لكنها في هذا الموضع يعوزها الدليل والاستدلال في تجذير أصل الشورى لفظا ومعنى في تلك الأصول المفترضة، الا ان الخليل يقول " المشوار: ما أبقت الدابة من علفها، وقد نشور تنشوارا... قال الخليل سألت أبا الدّقيش عنه قلت: نشوار أو مشوار؟ فقال: نشوار وزعم أنه فارسي "(30) ويبدو أن الخليل لم يكن مقتنعا بما ذهب إليه أبا الدقيش هذا اضافة الى انه يذهب في هذا اللفظ " نشوار " الى غير ما يذهب إليه المعنى في الشورى، وفي مقارنته لألفاظ القرآن الكريم باللغات القديمة في المنطقة يرى د. خالد اسماعيل علي أستاذ كلية اللغات في جامعة بغداد أن مادة " ش و ر " كما رودت في القرآن وهيئتها أشار: أومأ - مريم آية 29، شاور: طلب الرأي - آل عمران آية 159، شورى: التشاور – الشورى آية 38، تشاور: تبادل الرأي - البقرة آية 233 - يرى انها اختصت بالعربية بهذا الأصل والمعنى فيه دون اللغات الأخرى القديمة في المنطقة(31) لكن العربية لا تذهب الى هذا الحد في ابتكار وابتداع كلمة " الشورى " انما جاء الاشتقاق القرآني لها من أصول الألفاظ العربية فهي كلمة مولدة اسلامية وقرآنية خالصة في لفظها المبتكر والمقترح اسلاميا، فقد جاءت صريحة بهذا اللفظ في قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " الشورى، آية 38 -.
وبعد هذا التأصيل لها في اللغة انتقلت الى مستوى الاصطلاح الشرعي الذي أكسبها أيضا الاصطلاح اللغوي وهي من الالفاظ التي جاء اصطلاحها اللغوي متولدا عن اصطلاحها اصطلاحها الشرعي على عكس الكثير من المصطلحات الاسلامية التي تبدأ اصطلاحا لغويا ثم تتحول الى اصطلاح شرعي، وقد جاء تعريفها الاصطلاحي لدى فقهاء الاسلام دون مقدمات في المعنى اللغوي لها في لغة أو معاجم لغة العرب الا على سبيل الاستعارة من معاني شير العسل وما تقدم من معانيها الاخرى وهي بعيدة عن المعنى اللغوي والشرعي الذي حدده لها فقهاء الاسلام وهو لا يلتقي الا بعيدا في استخراج الشيء سواء في شير العسل - استخراجه أو في الشورى في الرأي وبها يكون استخراج الرأي وهي مطابقة أو تأصيل متكلف يعود بالبعيد على البعيد، فالأصل في اللفظ والمعنى هو القرآن وهو الذي أنتج اصطلاحها لغة وشرعا.
وفي اصطلاح الشورى
قال الراغب الاصفهاني: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض الى البعض قال تعالى "وشاورهم في الأمر" والشورى الأمر الذي يتشاور فيه قال تعالى " وأمرهم شورى بينهم " ويقول شرت العسل اذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه – المفردات م س ص 470 -واستخراج الرأي بالشورى إحالة ضمنية الى استخراج العسل في لفظ شور أو شير والمطابقة هنا الفعل – استخراج – وليس في مضمون الفعل الذي هو الرأي في الشورى فهو بحد استعارة اللفظ دون المعنى. والفعل في شير أو شور يعود للإنسان المستخرج للعسل وليس للنحل الذي يعمل بشكل جماعي فيقارب مضمون فعله أو شكله مضمون أو شكل الشورى في جماعية الرأي، ولدى محمد بن جرير الطبري "وأمرهم شورى بينهم" اذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم(32) فهو يذهب في المعنى منه مباشرة الى القرآن دون اللغة وهو أصوب في التأصيل واستخراج المصطلح.
أما ابن العربي فان الشورى لديه هي "المشاورة وهي الاجماع على الأمر ليشير كل واحد منهم صاحبه ويستخرج ما عنده "(33) وهو يستحضر فكرة الاجماع الفقهية التي تنتهي بالواجب الشرعي في التمسك بالرأي وفرضه وهو ماسيثير مسألة فقهية خلافية حول وجوب العمل بالشورى أو عدم وجوبه، ولم يشترط الألوسي هذا الاجماع فقد اكتفى بتعريفها اصطلاحا: استخراج الرأي بمراجعة البعض الى البعض، لكن تظل ضرورة الاتفاق الذي يقارب الاجماع في تعريف الألوسي فهو يحدد الاستخراج بالرأي الواحد ولذلك ذكره بصيغة المفرد دون العدد من الآراء التي توضع أمام ولي الامر وفي تعريفه بانها: المفاوضة في الكلام ليظهر الحق به (34)، لكن الصواب هو شرط الشورى أو الغاية منها أما الحق فانه أصل الشورى في الإسلام وهو حق المسلمين في إدارة شؤونهم كون الشورى صفة ملازمة للمؤمنين وهو ما أجمعت عليه أسباب النزول في آية الشورى.
ويتعقد مصطلح الشورى عند الطاهر بن عاشور، فالشورى لديه تعبير عن فعل مباشر يقوم به المعني بالمشورة وليس مجرد فكرة يصوغها في تعريفه فيقول: هي ان قاصد عمل يطلب ممن يظن فيه صواب الرأي والتدبير أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوة من عمله، وهو تعريف لا يرتقي الى تعريفات المصطلحات الأصولية والفقهية في متانة العبارة وضبط التعريف مما يفقدها البعد الشرعي في الاصطلاح الفقهي.
وتظل كل التعريفات الإسلامية للشورى بهذا القدر من البساطة والتبسيط مما يدعها في مدى الجدل حول أصولها الإسلامية الأصولية والفقهية، ولذلك لم تدخل في قاموس أو قائمة المصطلحات الأصولية والفقهية، لاسيما التعريفات الحديثة للشورى بواسطة فقهاء وأساتذة إسلاميين وهي تعريفات تفتقد الى معايير الاصطلاح الاصولي والفقهي(35)
واذا كان شاغل اللغويين هو معنى الشورى فان شاغل المفسرين هو أمر الشورى لمن ومع من، والغاية أو الباعث على الشورى مع التسليم بالنبوة والوحي، واما شاغل الفقهاء في الشورى فهو دلالتها الفقهية بين الوجوب والتخيير.
الشورى في رأي التابعين والمفسرين
واذا كان خلاصة المصدر الأول في جدل الشورى في الاسلام هو الاصل اللغوي لها وما قدمته معاجم اللغة في هذا الشأن التفسيري الاسلامي المهم، فأن المصدر الثاني والمؤسس لهذا الجدل العقائدي هو القرآن الكريم وفي موردين أساسين من كتاب الله عزّ وجلّ وهما قوله تعالى "والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم" الشورى آية 38 وقوله تعالى "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" آل عمران آية 159
وسورة الشورى سورة مكية على قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر(36) وفي الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت حم عسق – وهي سورة الشورى – بمكة وكذلك عن ابن مردويه عن ابن الزبير قال نزلت بمكة حم عسق(37) وأما سورة آل عمران فإنها مدنية ولذا فان سورة الشورى تكون قد نزلت في جماعة المؤمنين في مكة الذين سيطلق عليهم لاحقا اسم المهاجرين لاسيما وأن الآية تتحدث عن الاستجابة المبكرة للدعوة واقامة الصلاة وتكشف عن جانب مهم في حياتهم الاجتماعية وهي ممارسة الشورى التي يبدو أنهم ورثوها عن سلوك اجتماعي قديم في مجتمعاتهم الحضرية لان هؤلاء المؤمنين الاوائل يكاد ان يكون كلهم من أهل الحضر وليس من بدو العرب، فكانت المشورة تقليد اجتماعي بينهم كما بينّا في ما تقدم من البحث، فجاء الوحي ليعزز من ذلك السلوك الاجتماعي ويشجع عليه باعتباره تعبيرا عن الآصرة الأخوية الجديدة والمتولدة عن تأسيس الايمان لها، وتمتاز كل الاخويات الدينية في تاريخها الاجتماعي بآصرة التعاون والتكافل في صناعة الرؤية والموقف بعد ان تتحقق بينهم نوعا من المساواة المعنوية –الانسانية والمادية– المعيشية في حياة هذه الاخويات الدينية وهي المساواة الكاملة التي تنتجها أديان الله حصرا دون أديان البشر.
لكن الكثير من المفسرين المسلمين القدامى يذهبون الى أن هذه الآية نزلت في اهل المدينة من الانصار، ويبدو ان مرجعهم في ذلك قول ابن عباس وقتادة في أن الشورى مكية إلا أربع آيات أنزلت في المدينة واحدة منها هي آية الشورى(38) ويدرك من كلام هؤلاء المفسرين أن الشورى كانت من تقاليد مجتمع المدينة وأنهم كانوا على هذا المنوال الاجتماعي قبل السلام وقبل مقدم النبي "صلى الله عليه وأله وسلم" الى المدينة يقول المفسر القرطبي "فكانت الانصار قبل قدوم النبي "صلى الله عليه وأله وسلم" اذا أرادوا امرا تشاورا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله تعالى به "(39) ونسب الى الضحاك قوله "تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء عليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي ايوب على الايمان به والنصرة له "(40) لكن المفسر الرازي لا يذكر في من نزلت هل في الانصار أم في غيرهم بل يكتفي بقوله "فقيل كان اذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاورا فأثنى الله عليهم أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لايقدمون عليه"(41) وهو الكلام الذي قيل في الأنصار من أهل المدينة لدى المفسرين الآخرين، وكذلك نجد قريبا منه لدى المفسر ابن كثير دون التصريح بانها نزلت في الانصار بل التلميح بنزولها فيهم فهو يقول في تفسيرها "أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاورا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال - وشاورهم في الأمر - ولهذا كان صلى الله عليه واله سلم يشاورهم في الحروب ونحوها "(42).
ولم تكن المشاورة في الحروب في مكة بل كانت في المدينة بعد قيام دولة الاسلام بعد الهجرة من مكة وبهذا فأبن كثير يرى أنها نزلت في الأنصار ووصف حالهم قبل قدوم النبي اليهم لكن المفسر الثعالبي ينقل عن ابن زيد قوله "قوله تعالى والذين استجابوا لربهم الآية نزلت في الأنصار... وهل حصل الأنصار في هذه الصفة الا بعد سبق المهاجرين اليها"(43) مما يعيد القول في الشورى الى جماعة المؤمنين في مكة وقبل الهجرة ثم يلحق بهم الانصار بناء على توصيف أهل الايمان من الانصار والمهاجرين وفي قوله "والظاهر ان الله مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان"(44) توكيد من جانبه على تعميم الآية دون تخصيصها بالأنصار. وأما ابن الجوزي في زاد المسير فانه ينقل القول عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور بانها مكية على اطلاقها لكنه يروي: وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا إلا أربع آيات نزلن بالمدينة أولها لا أسألكم عليه أجرا وعن مقاتل فيها من المدني قوله " الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا... آية " 23 " الى قوله الصدور..آية " 24 " وقوله اذا أصابهم البغي..آية " 39 " الى قوله سبيل...آية " 41 "(45).
وفي الشورى فانه يقول " أجابوه فيما دعاهم اليه عن شورى بينهم "(46) دون أن يحدد من هم الانصار أو غيرهم من مؤمني مكة لكنه ينقل عن زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله " صلى الله عليه واله سلم فرقتين بمكة فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين وفرقة كانت تؤذى فتنتصر فأثنى الله عليهم جميعا(47) " وقد تناولت آية الشورى فئة من المؤمنين كانت تتصف بإقامة الصلاة والشورى وتنتصر على من بغى عليها لكن بعضا منهم يعفو ويصلح، ووفق زيد بن أسلم فان هذه الفئة كانت بمكة مما يؤكد لديه بأن آية الشورى مكية وليست مدنية، ويذهب هذا المذهب في نزولها في مؤمني مكة ابن زيد في قوله: ذكر المهاجرين وكانوا صنفين صنفا عفا وصنفا انتصر(48) لكنه ينسب الآية " الذين استجابوا لربهم... الى قوله... ومما رزقناهم ينفقون " الى الانصار.(49) وهي الآيات التي تتضمن آية الشورى ويلجا ابن زيد الى تكلف متعمد في تقسيم آلايات 38 و39 و40 بين الانصار والمهاجرين وتقسيمها بين المدني والمكي وهي الآيات التي أختلف فيها المفسرون بين مكيتها ومدنيتها.
وفي تفسير الشوكاني عن ابن عباس وقتادة أن سورة الشورى مكية إلا اربع آيات منها أنزلت منها بالمدينة " قل لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى... الى آخرها(50).
وينقل الشيخ الطوسي في تفسير التبيان قول قتادة ومجاهد أنها مكية وليس فيها ناسخ ومنسوخ(51) ولا يذكر قول من قال في آياتها مدنية فهي مكية كلها ولم يرو نزول أربع من آياتها في الأنصار كما هو في الرواية السنية بل اكتفى في تفسير قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " بقوله: أي لا ينفردون بأمر حتى يتشاوروا عليه لانه قيل ماتشاور قوم إلا وفقوا لأحسن ما يحضرهم(52) وأما المفسر الطبرسي فانه ينقل قول الحسن أنها مكية إلا قوله " والذين استجابوا... والذين أصابهم " الآية 38 و39 الى قوله تعالى "لايحب الظالمين" الآية 40 فانها مدنية والشورى في الآية 38 ضمن آياتها المدنية وهي ثلاث أيات مدنية عند الحسن وليس أربع. وعن ابن عباس وقتادة ينقل قولهما إلا اربع آيات نزلن بالمدينة " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "آية 23 الى قوله تعالى " لهم عذاب شديد " آية 26 053) والآيات الأربع المدنية من آية 23 الى آية 26 ولا تكون آية الشورى 38 ضمن هذه الآيات المدنية في الرواية عن ابن عباس وقتادة. وأما تفسير الطبرسي لآية الشورى فانه يرى الشورى من فعل المشاورة وهي المفاوضة في الكلام ليظهر الحق أي لا ينفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم(54)، وينقل ما روي أنها نزلت في الانصار وأن حالهم في الشورى كانت قبل الاسلام وأنه قد اجتمعوا عند سماعهم بظهور النبي وأجمعوا بعد هذه الشورى في دار أبي ايوب وقدوم النقباء عليهم على الايمان به والنصرة له وقد أثنى الله تعالى عليهم في هذه الآية وهي الرواية عن الضحاك(55) ومصادر الطبرسي في هذه الروية هي مصادر وأحاديث السنة ولم يرو عن امامي أو عن أحاديث الامامية.
لكن المفسر الطبري يرى ان خطاب آية المودة هي خطاب الى مشركي قوم النبي فيقول: قل يامحمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم الى ما ادعوكم اليه من الحق......" إلا المودة في القربى "(56) وقد كان مشركو قوم النبي في مكة فهي اذا آية مكية، لكن الطبري لم يصرح بمكيتها ولعله لم يقنع بمكيتها روائيا فساقها مساق الحديث العام في كلامه، ويبدو هذا واضحا في إرتباك الروايات التي يرويها في معنى الآية وما لمقصود بالقربى. إذ يروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهم من رواة السير والاحاديث انها في قريش وأنه كان للنبي قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال لهم "ياقوم اذا أبيتم أن تبايعوني فأحفظوا قرابتي فيكم، وفي رواية أخرى كان يقول "إلا ان تودّوني لقرابتي منكم وتحفظوني" وفي رواية أخرى يقول "أحفظوني في قرابتي" ويذهب الطبري هذا المذهب في انها في قريش وأن النبي كان يقول " يا معشر قريش... إلا ان تودوني في قرابتي منكم وتصلوا رحمي حتى بينكم وبني"(57) وكونها في قريش فإنها مكية بالنتيجة، فقد كان الخطاب مباشر بين النبي وقريش في روايات الطبري وقريش في مكة، لكن التكلف والصنعة بادية في هذه الروايات اضافة الى تناقضها في المتن والمعنى وتناقضها في سبب النزول، فقد روى أيضا أنها نزلت في الانصار لما تفاخروا بما قدموا للنبي والاسلام فعاتبهم النبي فنزل قوله تعالى "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى"(58).
لكن ما يستفاد من قول الطبري ورواياته أن سورة الشورى مكية بتمامها وكلها وليست مدنية حتى في بعض آياتها مما يحيل الى أن فكرة الشورى وآياتها كانت مكية وليست مدنية وهو الاقوى والارجح، وأنها كانت في جماعة المؤمنين في مكة.
وعلى خلاف ما ذهب اليه المفسرون المسلمون القدامى وتبعهم عدد من الكتاب المتأخرين في هذا العصر الذين استندوا اليها في بناء تصوراتهم عن نظام الحكم السياسي الاسلامي فهي نزلت في مكة وقبل قيام الدولة الاسلامية-النبوية في المدينة، وهي بهذا لا تشكل مبدأ اساسيا في نظام الحكم في الدولة، بل هي صيغة اجتماعية وموروث ثقافي قبلي عربي استوعبه الاسلام وضمه الى سلوك المسلمين الاجتماعي وأثنى عليه في وحدة الجماعة المؤمنة.
واما المورد الآخر من القرآن في الشورى وهو اساس فكرة الشورى في وجوبها لدى من قال بوجوبها فهو قوله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " آل عمران آية 159 وسورة آل عمران سورة مدنية عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعن جميع المفسرين هذا القول(59).
ورغم ان التطور الدلالي للشورى المدنية ظل على ماهو عليه في الشورى المكية الا ان المستوى التداولي لها شهد تطورا هاما بانتقالها من حالة الموروث الاجتماعي والثقافي المكي الذي اثنى القرآن عليه الى التأسيس الرسمي والديني لها عند المفسرين المتقدمين ومن ثم برمجة النظام السياسي الاسلامي فيها وفق ما ذهب اليه بعض المتأخرين. وموضوع الآية هو المعاملة فالدين هو المعاملة، وفيها حديث الرحمة ولين الجانب وسوء فظاظة الخلق وغلظة القلب وحديث العفو والمغفرة والشورى والعزم والتوكل على الله، وهو ما يطبع الآية بمضامين أخلاقية لدى أكثر المفسرين إن لم يكن كلهم، وبملاحظة نزولها في المدينة وفي رسم العلاقة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجتمع المدينة فأن الشورى تدخل في ذلك المنحى الأخلاقي الذي كان سائدا في علاقة النبي بمجتمع المدينة، وهو ما فهمه المفسرون المسلمون بذلك المضمون التفسيري لآية الشورى في سورة آل عمران.
فقد ابتدأ المفسر الرازي بقوله: اعلم أن لينه مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم(60) ثم يقول في تفسير العفو والمغفرة والشورى في هذه الآية: أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى قال عليه السلام: تخلقوا بأخلاق الله(61) وفي مجمع البيان يقول المفسر الطبرسي: بيّن سبحانه أن مساهلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق(62) وفي تلك الرحمة الاخلاقية يستقر في ذهنية المفسرين إنتماء الشورى اليها وهي الرحمة التي اختص بها الله تعالى نبيه، وقد نسب أولئك المفسرون تلك الرحمة الى الله تعالى مباشرة فقال المفسر القرطبي: أنه عليه السلام والصلاة لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بيّن الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه(63) ويقول المفسر الطبري: حدثنا... عن قتادة في قوله "فبما رحمة من الله لنت لهم" يقول: فبرحمة من الله لنت لهم(64) وقد فهمت الشورى لدى هؤلاء المفسرين على أنها تطييب لقلوب الأنصار وائتلاف لهم وأنه يسمع منهم ويستعين بهم وهو قول اهل التأويل كما ينص على ذلك المفسر الطبري(65) ونقل المفسر الطوسي عن قتادة والربيع وابن اسحاق أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم والتأليف لهم والرفع من أقدارهم(66) ونقل هذا القول أيضا المفسر الطبرسي(67) وهو ما يذهب اليه المفسر الرازي ويشدد عليه بقوله: ولو لم يفعل ذلك... من الشورى... لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة(68) واكثر هذا القول في تطييب النفوس وائتلاف القلوب بالشورى وتضمين المنحى الاخلاقي في تشريعها وهو ايضا سبب تشريعها وفق هذا القول ومصدره لدى المفسرين هم قتادة والربيع وابن اسحاق(69).
إلا إننا نجد تطورا في مستوى التداول الإسلامي والدلالي - التفسيري لفكرة الشورى، فقد انخرطت الشورى في قواعد الشريعة وعزائم الأحكام وصارت حكما واجبا وقاعدة في الفقه السياسي الإسلامي، وخرجت عن إطارها المحدود في رفع الأقدار برفع المشقة عن نفوس سادات العرب اذا لم يشاوروا وهو قول مقاتل وقتادة والربيع (70) وهنا مكمن دلالتها الاجتماعية والعرفية والتي عول عليها المفسرون القدامى في تعليل الشورى مما يعكس وجهة النظر التفسيرية القديمة التي تستبطن التفريق بين الشورى والسياسة بإلحاقها بالمجال الاجتماعي والعرفي التقليدي، وهو يقصيها ضمنا عن ادخالها في منحى السياسة وقواعد الحكم السياسي في الاسلام.
الشورى في الفقه السني
لكن ابن عطية نقلها من حيز الدلالة الاجتماعية الى حيز الدلالة الفقهية والدينية السياسية، فقد اعتبر الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الاحكام ورأى أن لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم(71)، ويعني به ولاة الأمور من الحكام والخلفاء المسلمين، ويعد هذا القول المؤسس الأول في ادخال الشورى في نظام الحكم الاسلامي، وهو ما سيقود الى تأسيس الفكرة الاساسية في السياسة الشرعية وهي فكرة " أهل الحل والعقد " التي نستطيع تلمس قاعدتها في التخصص والخبرة بمجال خاص، وهو ما ستشهده فكرة الشورى في السياسة الشرعية أو شروطها في ظل التطوير الفقهي - الاسلامي لها مع ابن خُويزمنداد. فقد رأى وجوب الشورى على الولاة في ما لا يعلمون وما أشكل عليهم من أمور الدين، وتكون المشورة في هذا مع العلماء، وفي ما يتعلق بالحرب فان المشورة مع وجوه الجيش، وفي ما يتعلق بالمصالح فالمشورة مع وجوه الناس، وفي ما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها فأن المشورة مع الكتاب والوزراء(72) وسيكون بإمكان هؤلاء إجراءات الحل والعقد وتخصصهم بهذه الوظيفة واللقب في أحكام الفقه السياسي الاسلامي وقواعد السياسة الشرعية.
ونجد في أصل هذا القول منحى السياسة في الشورى وأنها ستتطور وفق هذا القول الى عدها من قواعد الحكم والسياسة في الاسلام، فقد خرجت بهذا القول عن مجرد تطييب النفوس وائتلاف القلوب الى ضرورة المشاورة الواجبة دينيا وشرعيا.
يقول المفسر الرازي: ظاهر الأمر للوجوب فقوله " وشاورهم في الأمر " يقتضي الوجوب وحمل الشافعي ذلك على الندب(73) بينما اكتفى آخرون بأنه أمر من الله بالمشورة وهو المروي عن قتادة والربيع وعن الضحاك(74) وأما المفسر القرطبي فانه رأى في الامر جواز الاجتهاد والأخذ بالظن مع امكان الوحي بالنسبة الى النبي فان الله قد أذن له في ذلك كما يقول نصا(75) واذا كانت الشورى أمر لم تتحدد هويته في الوجوب كما عند المفسر الطبري فهو أمر على اي حال أو كان واجبا كما يقول الرازي، أو ندبا كما يقول الشافعي، أو كان اجتهادا مع امكان الوحي كما يذهب الى ذلك القرطبي، فأنه خطاب في حيثياته الأربع موجه الى النبي محمد " ص " لكن بعض من التابعين وبعض من المفسرين رأوا أنه من باب أولى يكون المخاطب به المؤمنون ليتأسوا ويتمثلوا بالنبي محمد " ص " وهو قول سفيان بن عيينه قال: هي للمؤمنين أن يتشاورا فيما لم يأتهم عن النبي " ص " فيه أثر(76) ونسب المفسر الرازي قريبا من هذا الراي الى سفيان بن عيينه والحسن فقال: قال الحسن وسفيان بن عيينه انما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته(77) وروي عن الحسن البصري والضحاك قالا: انما اراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ولتقتدي به أمته من بعده(78).
ومن الجدير بالذكر فانه لم يروى عن الصحابة أو المهاجرين والأنصار شيء من ذلك القول في توجيه الخطاب الى المؤمنين وأمة الإسلام، وانما هو قول التابعين وتبعهم في ذلك المفسرون والفقهاء، وكانت حجة هؤلاء التابعين في عدم اختصاص خطاب الشورى بالنبي محمد " ص " حصرا هو ان الوحي كان يغنيه عن الحاجة الى أراء الناس واهل الحل والعقد، فهو نبي مسدد من الله ومؤيد بروح القدس، وكانوا يردون في قولهم هذا على إشكالية مفترضة في الفكر الاسلامي القديم اذا كان النبي يأتيه الوحي فما الحاجة الى أراء الناس؟ فقد روي عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي " كان الله قد أغناه عن رأيهم بوحيه " وما الشورى إلا تطيبا لأنفسهم ورفعا لأقدارهم(79) ونص المفسر الطبرسي على " استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد " ذاكرا أقوال أو تبريرات قتادة والربيع وابن إسحاق وسفيان بن عيينه المتقدمة في الشورى بالنسبة الى النبي محمد " ص "(80) وأنكر المفسر الرازي في بعض وجوه مناقشته للشورى أن يكون النبي محمد " ص " يستفيد منهم رأيا أو علما لكن ليعلم أقدار عقولهم و حبهم وإخلاصهم له "ص" فيتميز لديه الفاضل من المفضول بينهم، وفي وجه أخر يرى أنه لا حاجة له في رأيهم وانما لأجل اجتماع الرأي بينهم وفيهم فيكون حصولهم على أصلح الوجوه في الشورى(81).
ويذكر وجوه وتعليلات أخرى في الشورى تؤكد مذهبه في عدم واقعية الشورى بالنسبة الى النبي محمد "ص" وإنما وضعت لاعتبارات أخرى تتعلق بعوامل أو أسباب وحدة الأمة لاسيما العامل النفسي من وجهة نظر التابعين والمفسرين القدامى الذي تتحرك فيه الشورى ودورها في إرساء الشعور بالانتماء الى هذه الأمة، وهو المقصود بقولهم تطييب نفوسهم وائتلاف قلوبهم، والائتلاف هنا هو غرس الانتماء في نفوسهم. وروي عن مقاتل وقتادة والربيع قولهم: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا شق عليهم فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يشاورهم في الأمر فان ذلك أعطف لهم عليه(82) وعبارة اعطف لهم عليه أي على النبي محمد " ص " تعني غرس الانتماء الى النبي والى أمته بواسطة الشورى، لكن الجصاص يذهب الى رأي مغاير تماما فهو يقول: وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمة به في مثله(83).
لكن الفقهاء رأوا في الشورى في حالة استغناء النبي عنها انها توجب استمرار العمل بها فتلك حجة اقوى في وجوبها على الأمة بعد استغناء النبي عنها، وظاهر الوجوب في قوله تعالى " وشاورهم في الأمر " وقد استثنوا من ذلك أحكام الشريعة وواجبات الدين ومحرماته، وانما هي تجري في تدبير الامور العامة مما يجري فيها المشاورة معهم(84) وقال سفيان بن عيينه في هذه الشورى وحدودها في العمل بها: هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي " ص " فيه أمر(85) وروي عن الحسن البصري والضحاك أن ذلك فيما لم يأتيه فيه وحي(86) وأتفق التابعون والمفسرون والفقهاء على " ان كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الامة " فالنص بالإجماع يبطل الرأي والقياس(87) لكن المفسر الرازي يطرح سؤالا كان يشغل الفقهاء هو حول جواز أو إمكانية الشورى في جميع ما لم ينزل فيه نص أم في بعض ما لم ينزل فيه نص؟ وهل الشورى تختص بأمور دون أخرى بالنسبة الى النبي(88) وهو ما يترتب عليه سؤلا أخر من وجهة نظرنا هل تكون الشورى بالنسبة للمسلمين بعد النبي وعصر الوحي في جميع الأمور التي لم ينزل فيها نص أم أنها تجري مجرى ما كانت عليه في عصر الوحي بالنسبة الى النبي في البعض منها لاسيما وان ابن عباس قد قرأ في رواية عنه "وشاورهم في بعض الأمر"(89).
وقد أجاب الكلبي وكثير من العلماء القدامى أن الشورى مخصوصة بأمور الحرب، وأنه لا تجوز الشورى فيما نزل فيه وحي وأن الألف واللام في لفظ الأمر في آية الشورى ليسا للاستغراق وإنما هذا الأمر هو ما تحدثت عنه الآية وهو الحرب(90) فاختص أمر الشورى بالحرب دون غيرها من الامور حتى فيما لم يأت فيه وحي وانما أمره الى النبي محمد "ص" وهو ما يستشعر من قول هؤلاء العلماء، بينما قال آخرون ان اللفظ عام خص ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي من غير أمور الحرب وحجتهم في ذلك أن الله تعالى خاطب أولي الأبصار بالاعتبار فقال " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر آية -2- وان النبي سيد أولي الأبصار وأن الله مدح المستنبطين او المجتهدين فقال "لعلمه الذين يستنبطونه منكم" وكان النبي أكثر الناس عقلا وذكاء.
وينصص المفسر الرازي على أن النبي كان مأمورا بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي، والاجتهاد يقتضي البحث والمناظرة وهي ما تقتضي المشورة والرأي، ومن هنا يرى المفسر الرازي أن النبي كان مأمورا بالشورى(91) فيما يعرض له من اجتهاد فيما ليس فيه نص، وبهذا فالشورى لا تختص بأمر الحرب بل كانت في كل أمر يعرض للنبي " ص " مما ليس فيه نص وأن النص عام في آية الشورى لا يخصص بالقياس كما يذهب الى ذلك الرازي(92) وأما أبي علي الجبائي فانه يرى أن ذلك في أمور الدنيا عامة و مكائد الحروب ولقاء العدو ويرى جواز الاستعانة بآراء المسلمين من جانب النبي "ص"(93)، ويعقد الجصاص مقارنة مستمرة ووثيقة بين الشورى والاجتهاد فينقل آراء من تقدمه من العلماء القائلين بإدراج الشورى بالاجتهاد فيما لا نص فيه ولا يرون ان يكون الاجتهاد في أمور الدين وانما هو خاص بأمور الدنيا، فالشورى بالنسبة الى النبي هي اجتهاد في أمور الدنيا خاصة وجائز أن يستعين بآراء الناس ومشورتهم في أمور الدنيا، وهؤلاء يقولون بالجواز على النبي في الشورى بينما ينقل قول آخرين يرون ان النبي كان مأمورا بالشورى وضمنا بالاجتهاد في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها من الله تعالى وأمور الدنيا مما طريقه الرأي وغالب الظن، ويرى الجصاص ان النبي كان يحقق فائدة في " إعلام الناس.أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن.... وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده "(94)، وينقل ابن حجر العسقلاني عن آخرين ان اللفظ عام والمراد به الخصوص للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام لكن هذا الاطلاق من وجهة نظر ابن حجر فيه نظر واستدلال على نفي الاطلاق بما روى الترمذي عن علي قال: لما نزلت " يا أيها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول...الآية قال لي النبي ماترى؟ دينار قلت: لايطيقونه قال: فنصف دينار؟ قلت: لايطيقونه قال: فكم؟ قلت: شعيرة فنزلت أأشفقتم قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. ويعلق ابن حجر على هذا الحديث أن فيه المشاورة في بعض الأحكام(95) ونقل محمد بن محمد بن مفلح المقدسي عن القاضي أبي يعلي قولان في أمر النبي بمشاورتهم أحدهما: أمر الدنيا والثاني أمر الدين والدنيا ويعلق المقدسي على الثاني أنه الأصح(96).
لكن المفسرين القدامى لم يذهبوا بعيدا في تعميم الشورى على كل مجالات الدنيا والدين بل خصصوا الشورى بالنسبة للنبي بالحرب ومكايدة العدو، فيقول أبو جعفر الطبري: وأولى الاقوال بالصواب في ذلك أن يقال: أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه(97) – لكن المفسر القرطبي ذكر في ثالث وجوه قوله " وشاورهم في الأمر " دليل جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع امكان الوحي فان الله أذن لرسوله في ذلك...لكن هل هو عام في كل الامور...هنا يستدرك القرطبي ليقول اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر نبيه صلى الله عليه واله وسلم أن يشاور فيه اصحابه ولم يتطرق فيه الى الاجتهاد وذكر قول طائفة من أهل التأويل أن ذلك خاص بمكائد الحرب وعند لقاء العدو(98).
ولم يروى في هذا عن التابعين شيء في ذلك من عموم الشورى أو خصوصها فضلا عن الصحابة وانما هي أقوال المفسرين والفقهاء، وهو ما جعل الشورى تدخل في مجال الفقه السياسي الاسلامي وتخضع الى منطق الاجتهاد الذي تأسس عليه تاريخيا هذا الفقه من الأحكام، وفي اقتران الشورى بالاجتهاد قال سفيان: والمشاورة هاهنا لاستخراج الادلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز ان يقلد غيره ويحكم بقول سواه(99) ويعني به الحاكم بعد ان يستشير " أهل التقوى وأهل الامانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليتبين له الحق "(100) وهذا قول الشافعي وأبو يوسف ومحمد، ويقول ابو حنيفة: اذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده اذا صار اليه فهو ضرب من الاجتهاد(101) وهو الشورى في الحكم بعد أن يعمل الحاكم برأي مجتهد أفقه منه وكأنه يستشيره في تقليده وهو ضرب من إدراج الشورى في الاجتهاد عند الفقهاء، وقد كان أغلب التابعين والمفسرين القدامى يقولون باختصاص الشورى بأمر الحرب وهو المتخصص بمعنى الأمر في قوله تعالى " وشاورهم في الأمر " وبهذا لم يكن مجالا للاجتهاد مع النص، واختلف فقهاء السنة في الشورى بين الندب والوجوب وذهب الحسن البصري في رواية والضحاك بن مزاحم وبعض الشافعية الى حكم الوجوب في الشورى بالنسبة الى النبي وذهب آخرون الى انها واجبة في حق النبي وحق غيره من الحكام ورجح النووي الوجوب(102) والوجوب هو قول ابن عطية وابن خويزمنداد كما تقدم، لكن الشوكاني يذهب الى عدم وجوبها على النبي وانما وجوبها على غيره من الحكام فهو يقول: والاستدلال بالآية على الوجوب انما يتم بعد التسليم انها غير خاصة برسول الله صلى الله عليه واله وسلم أو بعد التسليم أن الخطاب الخاص به يعم الأمة والأئمة وذلك مختلف فيه عند أهل الأصول(103) ويقول في آية الشورى "وأمرهم شورى بينهم" لا دلالة فيها البتة على الوجوب وعنده لا تدل الروايات في السنة على الوجوب وهي روايات مشاورة النبي لأصحابه(104).
وممن ذهب الى الندب وليس الوجوب الشافعي وأحمد وروي عنه قوله ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينظرون. وقال بن قدامة ولا مخالف في استحباب ذلك وصرح ابن القيم بالاستحباب قال: استحباب مشاورة الامام رعيته وجيشه... امتثالا لأمر الرب " وشاورهم في الأمر "،وهو ما ذهب اليه الماوردي وأبي يعلي ولم يذكروا في واجبات الأئمة الشورى بل ذكراه في وظائف أمير الحرب. وقال بالاستحباب ابن حجر العسقلاني والبيهقي أبو نصر القشيري– وحكى النووي الاجماع على استحبابها قال: التشاور في الأمور لاسيما المهمة وذلك مستحب في حق الأمة بإجماع العلماء،وقال ابن قدامة وهو يتحدث عن الحاكم اذا اضطر الى الاجتهاد لعدم وجود الحكم في الكتاب والستة " وان احتاج الى الاجتهاد استحب ان يتشاور لقول الله تعالى " وشاورهم في الامر " وقد استدل بسنة رسول الله في رواية الحسن أن رسول الله كان لغنيا عن مشاورتهم وانما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، واستدل بمشاورة النبي أصحابه في أسرى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر وغيرها من مشورات كان يقوم بها النبي مع الصحابة وفق الرواية السنية(105) –وهي تعد مدخلا أولا في تأسيس الحكم الاسلامي على الشورى لدى الفقهاء، لكن أغلب فقهاء السنة ناقشوا الشورى في وظيفة القاضي وليس في وظائف الامام – الشورى وأحكامها في نظام الحكم الاسلامي.
ويلاحظ على كل تلك الاقوال أنها لم تنظّر بقوة الاجتهاد الاصولي والتوسع الفقهي في أحكام الشورى وتحولها فعلا الى نظرية حكم في الاسلام، وهذا يعود الى طبيعة الولاية والبيعة التي يصير بموجبها المسلم طائعا تابعا للسلطان لا حق له في التدخل في شؤون وأحكام السلطان وانما عليه السمع والطاعة، وهو ما يناقض مبدأ الشورى لاسيما في تعليله الاسلامي القديم في تطييب النفوس وائتلاف القلوب وان العرب كان يشق عليها أن لا يأخذ رأيهم في الأمور في زمن النبي محمد " ص " وقد تم تغييب الشورى بشكل متعمد في تاريخ الاسلام السياسي ولم يجد له في الواقع ذلك الصدى الذي انشغلت به سجالات ومناظرات الفقهاء والمفسرين وما روي عن التابعين وهو ما اورث سلوك الاستبداد في سياسات الحكام المسلمين ولم يكن هناك الا دورا شكليا ورمزيا لما عرف بأهل الحل والعقد في الفقه السني ولم تتطور فكرته من صيغ التنظير الى صيغ التنظيم وهو ما أدى الى إلغاء دوره في الحياة السياسية الاسلامية.
ولم ينتج الفقه السني فكرا سياسيا ذي تأثير واقعي في نظام الحكم الاسلامي في تنظيراته حول الشورى، علما انه كان فقه الدولة وفقه نظام الحكم فيها، ونجد غيابا كاملا للتنظير الفقهي في الشورى عند الشيعة لا سيما الامامية بحكم ذلك التباين والاختلاف بينهم وبين الدولة في تاريخ الاسلام، لكننا نجد اهتماما متأخرا بدأ عند الشيعة الامامية حول الشورى بعد ان ضاقت المسافة الفاصلة بين الشيعة والدولة والقناعة الشيعية المتأخرة بضرورة اقتحام مجالات وأنظمة الدولة على أثر المتغيرات التاريخية والسياسية الدولية والاقليمية الحادة في الجغرافيا الاسلامية.
الشورى والفقه الامامي
لقد كان مدخل الفقه السياسي عند الشيعة الامامية هو القضاء، وكانت نظريات الفقهاء الأوائل في مدرسة بغداد وعلى يد الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد تـ 413 هـ تنقل بعض صلاحيات الامام المعصوم في القضاء بما دون الدماء الى الفقيه الجامع للشرائط لتكون مدخلا الى العمل مع السلطان في مجريات القضاء عند الشريف المرتضى تـ 436 هـ، ولم تكن الشورى مسألة عارضة أمام القضاء في هذا الفقه الامامي، وفي المبحث الامامي الكلامي في الامامة تشهد الشورى نقدا وتفنيدا كلاميا دقيقا ومستمرا في القدرة على الانتخاب البشري لمنصب الامامة وفشل الاختيار فيه، فمنصب الامامة لا يكون الا بالنص، وظلت واقعة السقيفة وشورى الستة تحمل رمزية انحراف الشورى في تاريخ الاسلام من وجهة نظر الشيعة وحساسية القناعة بها من الناحية الدينية مع وجود النص في الامامة ووجود الامام بذاته كنص يبطل معه الاجتهاد، ولا مجال للعمل بالشورى مع رأي المعصوم وهذا على أيسر وجه من الناحية النظرية والبنائية في العقيدة الامامية، وقد خلت المباحث الفقهية والكلامية الامامية من مصطلح الشورى، بل خلت منها كل المباحث الكلامية السنية والمعتزلية والخارجية كما يبدو من مراجعة كتاب مقالات الاسلاميين، لأبي الحسن الأشعري الذي يعد مصدرا مهما في هذا الحقل الاسلامي، وبهذا لم تحظى الشورى بذلك الجدل الاسلامي في قضايا علم الكلام وأحكام السياسة الشرعية، ولم تكن من صلب اهتمام أو تناول أهل الحل والعقد في شؤون البيعة للخلفاء، فلم تكن الشورى وسيلة لاختيار أو انتخاب الحاكم في تاريخ الاسلام السياسي، ولم تكن من شروط الخلافة في الفقه السني، وبهذا لم يكن الفقه الامامي منفردا بهذا الموقف تجاه الشورى واقصائها عن السياسة والحكم.
لكن التطورات اللاحقة والمتأخرة في تاريخ الامامية السياسي هو الذي أحيا جدلا غير متوقع في الفقه الامامي، وهو علاقة الفقيه بالحاكم والسلطان في ظل دولة تريد إضفاء الشرعية الدينية والسياسية عليها من خلال مذهب الامامة، وتامين الوكالة والنيابة في منصب الامامة العظمى لها عن طريق وكلاء او نواب الائمة من فقهاء الامامية هو ما يعد تطورا تاريخيا غير مسبوق في تاريخ الشيعة الامامية السياسي، وقد تسببت تلك الرغبة في تأمين الشرعية والقبول الديني لنظام الحكم في هذه الدولة في الانقياد الأخير للدولة الصفوية لفقهاء الامامية منذ عصر شيخ الاسلام علي بن عبد العال الكركي تـ 940 هـ الذي نسب الاتفاق الى الامامية أو ما عبر عنه بكلمة أصحابنا " على ان الفقيه العدل الامامي الجامع لشراط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الاحكام الشرعية نائب من قبل ائمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل...فيجب التحاكم اليه والانقياد الى حكمه "(106) ولم يحدد الافراد أو الجهة التي يجب انقيادها والتحاكم منها الى الفقيه المجتهد فشملت كل الافراد والجهات بما فيها السلطان والحاكم، وبناء على هذا الحكم الشرعي أصدر الشاه طهماسب الصفوي بيانا أعتبر الفقيه المحقق الكركي بموجبه أكبر مسؤول في الدولة الصفوية بعد الشاه استنادا الى ما روي من حديث عن الامام جعفر بن محمد الصادق بالرضا بالفقيه حاكما(107) وقال له أنت أحق بالملك لأنك النائب عن الامام وانما أكون من عمالك أقوم بأوامرك ونواهيك(108) وهذا يرفع الفقيه الامامي الى درجة المسؤول الاول في الدولة الصفوية، حتى اذا جاء زمن الشيخ محمد باقر المجلسي تـ 111هـ مارس هذه المسؤولية باستحقاق الفقيه المجتهد فأجلس السلطان حسين الصفوي على العرش بنيابته الفقهية عن الامام المعصوم، وكتب أول رسالة في الفقه الامامي – السياسي تتعلق بسلوك الحاكم وهي رسالة مستقلة بعنوان " آداب سلوك الحاكم مع الرعية "(109) وهي ترجمة المعاني المتضمنة في رسالة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الاشتر.
لكن الشورى لم تكن حاضرة في رسائل أو احكام الفقه لدى أولئك الفقهاء الاماميين من مراجع وقادة البلاد الدينيين رغم أنهم توسعوا في مباحث الفقه السياسي ونظام الملك في ظل تلك الدولة الشيعية والامامية المذهب في الفقه حتى تحدث عنها المحقق محمد باقر السبزواري تـ 1090 هـ وكان يشغل منصب شيخ الاسلام في عصر شاه عباس ثاني الصفوي 1078هـ وقد وضع كتابا أسماه " روضة أنوار عباسي " اشتمل القسم الثاني منه سياسة الملوك وسياسة الدولة وفيه جاء الحديث عن الشورى وأن استشارة الملك ترشده لا محالة الى الصواب، وذكر فوائد الشورى في معرفة الصواب وائتلاف رؤساء الجيش والاعيان ومضاعفة جهود الامراء ومعرفة أحوال المقربين من الملك وزيادة عزمهم وتوفير المعلومات عن العدو، ويتحدث عن شروط المستشارين واختصاصاتهم وأساليب الشورى الواجب اتباعها في استشارتهم على انفراد أو مجتمعين واصغاء الملك اليهم حتى كأنه لا يملك رأيا(110).
لكننا لا نجد بعد ذلك اهتماما فقهيا اماميا بالشورى بعد المحقق السبزواري بل انصرف اهتمام الفقهاء الاصوليون الى منصب المجتهد ونيابته للإمام المعصوم وهي النقطة المفصلية في تكريس سلطة وهيمنة ونفوذ فقهاء الامامية في المجتمع الايراني والدولة القاجارية لاسيما ما قام به الشيخ جعفر الكبير صاحب كاشف الغطاء تـ 1228هـ في ترسيخ أهمية منصب المجتهد ودوره في التصدي للنيابة عن الامام المعصوم، واستطاع الشيخ الكبير الذي تلقب أخيرا بكاشف الغطاء - وهو يكشف عن دلالة وحجم التأثير الكبير الذي تركه كتابه الأصولي "كشف الغطاء" في أوساط المدرسة الاصولية الامامية - أن يقصي الفقيه الاخباري عن الحياة السياسية في الدولة القاجارية مما فسح المجال واسعا أمام هؤلاء الفقهاء الاصوليين ان يدخلوا حيز السياسة ويدخل معهم الفقه الامامي جدل السياسة والحكم بعد ان كان الفقيه الاخباري لا يؤمن بنظرية الاجتهاد ولا بنيابة الفقيه عن الامام المعصوم ولا يبيح للفقيه أن يدخل في السياسة والحكم لأنها غصب للمقام الاعظم وهو مقام الامامة، وقد ترتب على أثر إقصائه هذا أن تصدر الفقهاء الاصوليون من فقهاء الامامية الرأي والافتاء السياسي بعد ان كانت حدودهم في الافتاء القضائي بنيابتهم عن الامام المعصوم وفق نظرية النيابة عن الامام المعصوم في تلك الحدود حصرا وظهرت فكرة ولاية الفقيه على يد الشيخ احمد بن محمد مهدي النراقي تـ 1245هـ.
وقد كان هذا العصر منذ القرن العاشر الهجري وحتى ظهور الوحيد البهبهاني تـ 1205 هـ والشيخ جعفر الكبير تـ 1228هـ والشيخ مرتضى الانصاري تـ 1281هـ هو عصر الفقهاء الاصوليون الذين قننوا فقهيا مبدأ النيابة العامة بما يكفل للمجتهد الفقيه الجامع للشرائط ممارسة دورا قياديا وسياسيا كبيرا في المجتمع الشيعي - الامامي، وقد تناولت كتب اساطين الاصوليين هؤلاء افكار ومصطلحات السياسة الشرعية أو الفقه السياسي، ونلاحظ تناول السياسة على صعيد الفقه فيما كتبه فقهاء هذا العصر الاصولي ومنهم النراقي تـ 1245هـ في كتابه عوائد الايام ومحمد حسن النجفي تـ 1226هـ في كتابه جواهر الكلام والشيخ الانصاري تـ 1281هـ في كتابه المكاسب ثم اراء الشيخ الآخوند الخراساني تـ 1329هـ والشيخ محمد حسين النائيني تـ 1355هـ في كتابه تنبيه الامة وتنزيه الملة، وهي مباحث مقيدة في دائرة الفقه(111).
لكننا لا نجد الشورى في مباحث هؤلاء الفقهاء الذين شكلوا مرجعيات الفقه الاصولي – الامامي الحديث وأرسوا علاقة الفقيه المجتهد بالسلطة في المجتمع بنيابته عن الامام المعصوم في عصر الغيبة، لكننا نجد في أواخر هذا العصر وهو عصر الأخوند الخراساني والشيخ النائيني ظهور عبارات تشهد على تحول خطير في الفكر الاصولي الامامي نحو السياسة بشكل أكثر نضجا وأهم نتاجا فقهيا مثل " المشروطية و مجلس الامة والمجلس النيابي والدستور والحرية والمساواة والحقوق ورقي الامة وولاية العهد الدستورية ومصالح الشعب والقانون الاساس والاستبداد والمصرف الوطني "(112).
ويبدو ان المشروطية أو الدستورية كانت تؤدي وظيفة لفظ ومفهوم الشورى الاسلامي وتقوم مقامها، لكنها أي الشورى لم تكن بذلك الظهور المستقل لها الا مع أفكار وكتاب الشيخ النائيني "تنبيه الامة وتنزيه الملة" وكانت تظهر الى جانبها أفكار وكلمات غير مألوفة في أوساط الفقهاء بل وأوساط المسلمين عامة مثل المساواة بين المحكومين والحاكم وأن السلطة العليا هي وظيفة وليس امتياز، وأن الحاكم مسؤول مثل بقية أفراد الشعب، وأن الحاكم والمسؤول لا يحق له أن يتجاوز وظيفته المحددة بالقانون والدستور الى مجالات لا يسمح له بالدخول اليها دستوريا، وأن السلطة العليا للبلد تكون لهيئة من العلماء الذين لهم خبرة بالشؤون الحديثة السياسية والدولية، وهي كلها تدخل ضمن نطاق الشورى المؤسساتية التي نظر وأسس لها العلامة النائيني، وقد شهد مفهوم الشورى لديه تطورا مؤسساتيا طارئا على الفكر السياسي الاسلامي وجديدا على الفقه السياسي الاسلامي ولم تالفه نظريات وكتب السياسة الشرعية الاسلامية على طول عصورها، وهي نقطة التحول التي احدثها النائيني على مسارات الفكر السياسي الاسلامي في العقد الاول من القرن العشرين الميلادي.
وبالقدر الذي كانت تتفاعل في هذا العقد الاول من القرن العشرين قضية الدستورية أو ما أطلق عليها المشروطة في الشرق الاسلامي ويتعاظم تأثيرها السياسي تحت قيادة الفقهاء المتأخرين من الامامية، وكان مبناها الفقهي وأصلها الشرعي يقوم على مبدأ أو فكرة الشورى، كان الغرب يشهد بنفس الوقت أو قبله بقليل في القرن التاسع عشر الميلادي لاسيما في العقدين الأخيرين منه والعقد الاول من القرن العشرين تلك التحولات الديمقراطية التي أوحت الى المراقبين في العام 1900م أن القرن العشرين سيكون عصر الديمقراطية وفق ما ينقله مارسيل غوشيه(113) وقد بدت هذه الموجة من الديمقراطية على صعيد الفكر والثقافة في اوربا في القرن التاسع عشر غير طارئة على الساحة الاوربية بل هي نتاج تطور فكري وتحول ثقافي على الصعيد العملي بعد الثورة الفرنسية وتشكيل النظام الجمهوري الفرنسي الذي كان فاتحة لسقوط الانظمة الملكية أو تحويل مساراتها باتجاه الملكية الدستورية تحت ضغط الحركة الديمقراطية في ذلك العصر الذي كانت تتنامى فيه أفكار التقدم والتطور وتنامى فيه الحديث الاوربي عن السعادة التي يوفرها التقدم الذي ينجزه العلم ويدعمه المال المتنامي بتطورات الثورة الصناعية الثانية وتشكلات الرأسمال الحديث، مما أكسب قناعة لدى الاوربيين بالمقارنة المستمرة في القرن التاسع عشر بين الديمقراطية وكل هذا التحول الاقتصادي والثقافي، بل طرأ تحول جدير بالملاحظة على مفهوم الديمقراطية هو اقترانها بالتقدم والتطور، وهو ما لم يعهده المفهوم الاغريقي للديمقراطية، مما جعل هذا التحول يمس جوهريا مضامين ومعايير الديمقراطية الحديثة وتحولها الى ثقافة مجتمع يجسّر من خلالها علاقته بالدولة(114).
وقد تنبه الشيخ النائيني الى تلك المقارنة في تطور الغرب ونكوص الشرق فقال "ان حسن ممارسة الأوربيين لهذه المبادئ وجودة استنباطهم واستخراجهم لها وبالمقابل السير القهقرائي للمسلمين ووقوعهم تحت تأثير الاستعباد والذل وتحولهم الى أسرى بيد طواغيت الامة المعرضين عن الكتاب والسنة هو الذي آل بالطرفين الى ما نشاهده اليوم "(115) ويعزو النائيني هذا النكوص مباشرة الى تمكين نفوس المسلمين لعبودية السلطة واسترقاق الحاكم حتى شاعت ثقافة الاستعباد في مجتمع الاسلام وتكونت فكرة فيه بأنها من وحي الاسلام، ويعزوها ضمنا الى غياب الشورى ودورها في تمثيل الافراد في المشاركة في السلطة ودورها في الرقابة في سياسات الدولة ونظام الحكم وهو ما يخلص اليه في نظريته في الشورى، ويؤشر الشيخ النائيني مسألة تاريخية مهمة وهي أن علماء وفقهاء الإسلام في عصره في القرن التاسع عشر الميلادي – القرن الثالث عشر الهجري قد فتحوا أبواب معرفة الحرية والحقوق المشروعة والمساواة وحق المشاركة في السلطة أمام المسلمين وأن صدور الاحكام فيما يتعلق بالدستورية "المشروطة" من علماء الإسلام في النجف الاشرف والتي تنص على تحقيق هذا المشروع المقدس...والكلام له...وتعقيب مشيخة الإسلام في إسطنبول بفتوى تنص على براءة الساحة المقدسة للدين – الإسلام من الحكم الجائر – المستبد المخالف لضرورة العقل المستقل لحجة ظاهرة، فيما ذهب اليه الفقهاء من وجوب الدستورية الضامنة والكافلة للحريات والحقوق والمساواة، وبذلك يكون فقهاء الإسلام في هذا العصر قد أنجزوا هذا المشروع الاجتماعي في ترويج مبادئ الحرية والمساواة وأفكار المشاركة مع الحكام في جميع الامور وهي الحقوق الأساسية الحديثة والتي أطلق عليها النائيني اسم الحقوق المشروعة،رغم أنهم عجزوا في المشروع السياسي على مستوى الدولة ونظام الحكم، ويؤشر النائيني صراحة الدور الذي " نهض به العلماء الربانيون والفقهاء الروحانيون رؤساء المذهب الجعفري... في انقاذ الحرية المغتصبة والحقوق المسلوبة للمسلمين... تبعا للسيرة المقدسة وطبقا للمبدأ مالا يدرك كله لا يترك جله "(116) وقد أطلق الشيخ النائيني على هذا العصر اسم عصر التمدن والسعادة وعصر التنور واليقظة.
وقد دخل هؤلاء الفقهاء الاصوليون في المجال السياسي بعد ان أسسوا لنظرية نيابة الفقيه المجتهد الجامع للشرائط للإمام المعصوم ووجوب التحاكم والتقاضي اليه في عصر الغيبة، ويتساوى بهذا الحكم وبهذا الأصل الفقهي كل أفراد الامة بمن فيهم السلطان أو الحاكم، وأما في الدولة ونظام الحكم وهي خارجة عن حدود الافراد ولها كيان معنوي ومستقل عن الافراد بمن فيهم السلطان فان الشورى هي المنفذ الشرعي الوحيد لتنظيم العلاقة من وجهة نظر أصولية لهؤلاء الفقهاء، فالسلطة عند النائيني تنبني على الولاية على مجريات سياسة الامة ومعرفة حدود هذه الولاية ومقوماتها وتنتج هذه الولاية أو السلطة عن مشاركة جميع أفراد الشعب فيها وهي أصل في نظره مسلّم به(117)،فإدارة أمور الأمة وشؤونها من الوظائف الحسبية وتدخل في باب الولاية، والقيام بها من اختصاص النواب العامين والمجتهدين العدول، وعدم تمكنهم منها تصبح من وظيفة المؤمنين العدول ومع عدم تمكنهم منها فإنها تفوض الى عموم الناس بل تصل الى فساق المسلمين بإجماع فقهاء الأمامية كما يقول النائيني، وما ينتج عن هذه المشاركة في إدارة أمور الأمة وشؤونها وهي المشاركة في أصل السلطة هو المشاركة في صنع القرار ولذلك فان هذه السلطة وبهذا الفهم الاصولي لها يقول النائيني " تكرس مبدأ التشاور مع عقلاء السلطة وهو ما يسمى بالشورى الشعبية "(118) ويستدل بالآية "وشاورهم بالأمر" آل عمران 159- فهي في رأيه تحمل دلالة واضحة على هذا المعنى في الشورى الشعبية العامة كما يسميها، ويرى النائيني ان انصراف الآية الى المهاجرين والأنصار قاطبة إلا ان تخصيصها بالعقلاء وأرباب الحل والعقد تستنبط وفق قوله من دلالة القرينة على المقام وافادتها العموم رغم خصوص السبب في النزول، وتنحصر المشاورة من وجهة نظره في الأمور السياسية دون الأحكام الإلهية فإنها لا تدخل في باب العموم في هذه المسألة وخروجها من باب التخصيص لا التخصص،ويعضد رأيه في أهمية وجوب الشورى بالحوادث المروية في السنة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الأوائل رغم مصدريتها السنية. وتشكل رسالة الإمام علي الى مالك الأشتر مصدريته الأمامية الثالثة في تكريس مبدأ الشورى والحرية والمساواة بالنسبة للحكومة الشرعية القائمة من وجهة نظره على أساس الولاية ويعمد في تسميتها تلك للاحتراز من تشبهها بالحكومات المستبدة والطاغوتية،وهو ما يشكل مدخلا شرعيا للتخلص من أزمة مغصوبية السلطة او غصب منصب الإمامة العظمى، وما يخلص اليه النائيني أن مبدأ الشورى الذي نص عليه الكتاب والسنة المقدسة يقوم قدر الإمكان مع وجود التنصيب الشرعي للسلطان برقابة واشراف الفقيه المجتهد النائب عن الإمام المعصوم، وهو ما يستشف من أفكار ونظرية النائيني ومع وجود الهيئة المنتخبة أو المسددة كما يسميها النائيني والتي تنص عليها فكرة أو مبدأ الدستورية " المشروطة " ومع هذين التنصيبين الشرعيين تقوم الشورى مقام القوة العاصمة الإلهية ويعني بها العصمة المشروطة في الإمامة من وجهة نظر مذهب الإمامية.
وهناك مدخل أخر للنائيني في أحقية مبدأ الشورى فهو يرى أولا ان أفراد الشعب لهم الحق في الاشراف والمراقبة باعتبار دفعهم للضريبة وهو ما يمنحهم حق المشاركة في إدارة البلاد، كما أن أصل الشورى يقتضي تلك المشاركة في رأي صريح للنائيني(119) - ويبرر المشاركة ثانيا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثالثا يصل الى نتيجة أن الشعب لا يمكنه ممارسة هذا الحق الا بانتخاب الممثلين له في مجلس النواب، أو ما يطلق عليه النائيني "مجلس شورى وطني" والهدف من عقد مجلس الشورى " هو النظر فيما يصدر عن ولاة الأمور واقامة الوظائف الراجعة الى انتظام أمور البلاد وحفظها وسياسة امور الامة واحقاقها "ويكون الشيخ النائيني أول فقيه إمامي يرى أن الشورى "أساس الحكم الاسلامي بنص الكتاب والسنة "(120).
أما آخر أراء فقهاء الامامية التي قيلت في الشورى هي أراء الشيخ محمد مهدي شمس الدين وقد جاءت في اعقاب تجربة سياسية إقليمية ومحلية وتجربة حوزوية خلص فيها الى تأطير مفهوم للولاية راعى فيها التأثيرات الحديثة على ثقافته الدينية والفقهية، حيث يقوم مفهوم الولاية والسلطة لديه على مبدأ عدم مشروعية ولاية احد على احد ولا لأحد على جماعة أو مجتمع، والأصل الاولي العقلي والنقلي في السلطة الا ما كان مقيدا لهذا الأصل بحكم العقل والنقل وهي ولاية الله تعالى وحده على البشر تكوينا وتشريعا ولا يمكن الخروج على هذا الأصل في الولاية والسلطة الا بدليل قاطع وهو الكتاب – القرآن الكريم وقد نص الكتاب العظيم على هذه الولاية للنبي في قوله تعالى "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" الأحزاب آية 6. وعلى الولاية للإمام المعصوم في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم " النساء آية 59. وهكذا ثبتت الولاية المطلقة لهم بالدليل من القرآن الكريم المقيد للأصل الاولي في عدم ولاية احد على أحد –نظام الحكم والإدارة في الإسلام (121).
ويبدو استنتاجا عن شمس الدين أن هذا الأصل في الولاية يعود جزئيا الى الافراد والآحاد من الأمة في عصر الغيبة، فلا يجوز مصادرة هذه الولاية منهم في بعض شؤون الدولة والأمة وهو ما يبيح لهم أو لعله يوجب لهم المشاركة بواسطة الشورى أو المشورة معهم في إدارة الدولة والأمة، فالقاعدة المستنبطة لدى شمس الدين في الأصل الاولي في السلطة وعدم ولاية احد على أحد هو " عدم تعيين رجال الإدارة وهيئات الإدارة من قبل الحكومة وانما يقتضي أن يكون اختيار الموظفين الإداريين من اشخاص أو هيئات بالانتخاب "(122) والانتخاب يكفل او يضمن عدم ممارسة الولاية والسلطة على الأفراد والآحاد من قبل أفراد آخرين أو جهات واطراف أخرى بل يكفل ويضمن ممارسة الافراد والآحاد الولاية والسلطة على ذواتهم واشخاصهم دون الآخرين، ويكون الانتخاب وفق شمس الدين عن طريق " مجالس الشورى " أو عن طريق الانتخاب المباشر من الناس، وبذلك يماهي شمس الدين بين مضمون الانتخابات ومضمون الشورى الى حد التطابق.
واذا كان شمس الدين ينطلق من أصل اجتماعي – طبيعي وانساني عام في تأصيل الشورى في عدم الولاية لأحد إلا ما كان مقيدا بالشرع، فإن السيد مرتضى الشيرازي ينطلق في تأصيل مبدأ الشورى في الاسلام من منطلقين اساسيين وكليين هما العقل والنقل - الشرع ويقدم دليل العقل في بحثه ويعضّده بدليل النقل – الشرع استنادا الى ذلك التماهي في رأيه بين العقل والشرع في موضوعة العقل فـ " العقل شرع من داخل والشرع عقل من خارج " وحجية هذا المبدأ هي مما ارساها الامام علي أبن ابي طالب فهذا القول هو المأثور عنه، ويكمل دليله في تماهي العقل والشرع بالحجية بورود الروايات – النقل عن الائمة من أهل البيت في الكشف عن حجتين لله تعالى هما حجة ظاهرة هم الانبياء وحجة باطنة هي العقل(123) لكن العقل الذي يستند اليه الشيرازي كفقيه امامي في حجيته ليس العقل الأرسطي او الفلسفي – الحكمي بل العقل الذي يدخل في الرؤية الدينية والتقليدية الاسلامية من حيث مماهاته ضرورة بالصحة والصواب.
فمنطق العقل وفق الشيرازي هو الضرورة في الشورى أولا وأهمية الأكثرية ثانيا، لكن الأكثرية لا تشكل شرطا في الصحة والصواب وفق الرؤية التقليدية للعقل الاسلامي ولذلك فان ما يخلص اليه الشيرازي ضمنا ان الحقيقة التي هي موضوعة العقل تكشف عنها الاكثرية إمكانا وليس حتما، لكن الرأي الواحد يظل بالضرورة بحاجة الى الأكثرية في الكشف عن الحقيقة، وهو ما يخلص اليه الشيرازي ظاهرا اذا كان العقل موضوعته الحقيقة فان مهمته وفق الشيرازي هي دفع الضرر المحتمل وهو ما توفره المشورة مع الآخرين وليس استبداد الفرد برأيه فهو ينتهي الى الخطر ويسند الشيرازي قوله هذا بما يرويه عن الامام علي ابن ابي طالب " قد خاطر من استغنى برايه ".
وحجية الشورى في العقل تقود الى القول بالمساواة بين الناس، فالمساواة بين الناس في أصل العقل الذي هو قسمة مشتركة ومتساوية بين الانسان، ورغم أن الشيرازي لم يشر الى تلك النقطة في تأصيل المساواة بين الناس إلا أنه يعتمد القرآن الكريم – الشرع في تقرير المساواة في الثروات والقدرات والحقوق والواجبات بين الناس ويستدل بقوله تعالى " خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة: 29. ويلاحظ في كلمة (لكم) شمولها بنحو متساو للعالم والجاهل والحاكم والمحكوم والصغير والكبير والرجل والمرأة كما تشمل الأجيال الصاعدة أيضاً وفق قوله، ويعتمد الحديث النبوي – الشرع في تقرير هذه المساواة أيضا فقوله صلى الله عليه وآله وسلم " المسلمون سواسية كأسنان المشط " يشدد على تلك المساواة في الأمة، لكن الاستبداد وفق ما يذهب اليه الشيرازي يخرق تلك المساواة ويصادر حقوق الآخرين وعليه فالشورى هي الطريق الأمثل لحفظ هذه الحقوق ومساواة الناس فيها وبالقدر الممكن.
واذا كان هذا مدخل الشيرازي في تقرير المساواة في القرآن الكريم والحديث الشريف – الشرع فأن مدخله في تقرير حجية الشورى هي في القرآن الكريم – الشرع أيضا ويجد في التداخل الموضوعي بين أربع آيات يختارها في مواضع مختلفة من القرآن الكريم موضوعها هو العلاقات الانسانية والاجتماعية، واستنادا الى منهجية تفسير القرآن بالقرآن المتبعة في تفسير القرآن الكريم فإن الشيرازي يؤشر الحالة الفردية – الطبيعية في قوله تعالى " قل كل يعمل على شاكلته " ويؤشر الحالة الاجتماعية – الطبيعية في قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائلا لتعارفوا " وفيها يؤشر التعددية الطبيعية في الحياة البشرية، وأما الغاية من هذا التعارف في هذه الآية فان الشيرازي يجدها في قوله تعالى " تعاونوا على البر والتقوى " لكن بأي صيغة يكون هذا التعاون؟ هنا يلجأ الشيرازي الى القرآن الكريم – الشرع في تقرير مبدأ الشورى بشكل نهائي في صياغة هذا التعاون وتحديد هويته الدينية – الاسلامية في قوله تعالى " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ".
لكن هل يظل هذا التعاون الذي يأخذ صيغة الشورى في الامة بين المسلمين باعتبارهم هم أفراد الأمة وهم المخاطبين بالقرآن الكريم أم أنه يشمل الآخرين من غير المسلمين؟ هنا يذهب الشيرازي الى استنباط الجواب واستظهاره من القرآن الكريم مباشرة في قوله تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" الممتحنة آية 8 – م ن - وبهذا يخلص الشيرازي الى تقرير الشورى كأهم صيغة مندوبة أو ملزمة في العلاقات الانسانية من شرع القرآن الكريم – والنقل بعد شرع العقل.
واذا كان بحث فقهاء الامامية المتأخرين في الشورى أخذ ذلك المنحى في المشاركة في ادارة وسياسة الدولة والحق الذي كفله الاسلام والشرع في نظرية الحقوق والواجبات الاسلامية التي بدت متأثرة الى حد كبير بالتطورات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم الحديث فانه برزت في سياقات هذا البحث الفقهي والأصولي مسالة شورى الفقهاء كأبرز صيغة اسلامية وفقهية في مبدأ الشورى الاسلامي ذي المنحى الديني والسياسي.
شورى الفقهاء
بعد فشل المشروع السياسي لفقهاء الامامية في الشورى في العقدين الاول والثاني من القرن العشرين، وقد عرف هذا المشروع باسم الحركة الدستورية أو بالاسم الشائع عنها "المشروطة " وتراجعه في التنفيذ على المستوى العملي في صياغته الاسلامية التطبيقية في ادارة شؤون الدولة والمجتمع، فان فقهاء الأمامية رأوا أهمية الشورى بين الفقهاء في أمور ذات جوهرية دينية خالصة ولم يقصروها على السياسية وادارة أمور البلاد في نظام سياسي واضح الابعاد ومحدد الاهداف، وهو ما كانت تصبو وتهدف اليه الحركة الدستورية " المشروطة " وان أمكن ذلك فان الدولة والسياسة تكون بمتناول هذه الشورى، لكن تقتضي في الغالب بالنسبة لفقهاء الامامية ادارة أمور المسلمين من خارج اطار الدولة والنظام السياسي فيها مما يمنح التعامل بالشورى بين الفقهاء أهمية وخصوصية دينية واجتماعية باعتبارهم نواب ووكلاء للإمام المعصوم في عصر الغيبة ومهمتهم الدينية والفقهية هي المرجعية وقيادة المجتمع الشيعي – الامامي، وبذلك فهذا النوع من الشورى الخاص بالفقهاء وفق القائلين بها لا تشترط اقامة دولة اسلامية بل تسعى الى تنظيم اجتماعي – ديني واحيانا سياسي من داخل المجتمع الاسلامي، وطرفا المحور في هذا النظام الاجتماعي - الديني هما مراجع التقليد من فقهاء الامامية وجماعات المقلدين من العامة الامامية او المقلدين غير الحائزين على درجة الاجتهاد والاحتياط مما يتوجب فقهيا – اماميا عملهم بالتقليد للفقهاء المجتهدين، وهنا يكون المجتمع المقصود في هذا التنظيم الاجتماعي - الديني عمليا هو المجتمع الشيعي – الامامي ونظريا هو المجتمع الاسلامي العام في مقاصد التنظير الفقهي لهؤلاء الفقهاء من مراجع التقليد وأما أطراف الشورى فهم الفقهاء، وفي ذلك التطور الفقهي ظهر مصطلح أو مفهوم "شورى الفقهاء".
وتعتمد الشورى في مفهومها الإسلامي على تعدد الآراء واستخلاص النتائج المتوقعة من اختلاف الأفكار، وتعتمد أيضا في مفهومها الاجتماعي – الإسلامي على عدم قدرة العقل الواحد على بلوغ كامل النتائج أو صوابها انما هي قدرة وإمكانية العقول مجتمعة ومتعددة، فتكون النتائج كفيلة بتصحيح الرؤية وتقويم وإنتاج الموقف الصحيح شرعا وعقلا.
وقد تخطت تلك الفكرة في التأليف بين اراء متعددة وأفكار مختلفة الى مجال عمل الفقه الامامي مما يعد تطورا فقهيا في حقل الاجتهاد، فالاجتهاد في تكوينه الفقهي والتاريخي اعتمد صيغة المجتهد – الفرد وهو التقليد الذي اعتمدته المدرسة الأصولية الامامية فالمجتهد يعمل برأيه ومقلده لا يتعدى العمل بفتوى ورأي المجتهد الذي يقلده باعتباره نائبا أو وكيلا للإمام المعصوم في عصر الغيبة.
لكن حدث ان بعض فقهاء الامامية من المتأخرين وهو آية الله عبد الكريم الحائري تـ 1937م والذي يعرف دائما بأنه مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم وهي المدينة الثانية بعد النجف الاشرف في اشتمالها على المدرسة العلمية والاصولية لدى الشيعة الامامية، وفيه يتبين أهمية قوله ورأيه الفقهي. فهو يقول بتقسيم أبواب الفقه وإيجاد اختصاصات الفقهاء بعد اجتماعهم ومشورتهم وتنسيقهم(124) وتقليد المجتهد الفقيه على ضوء أو ضمن اختصاصه وبذلك تخطى الفقه الامامي ضرورة أو وجوب تقليد المجتهد الواحد الى تبعيض الاجتهاد وتعدد مراجع التقليد بالنسبة للمقلد العامي وحجة آية اله الحائري " أن الولاية لم تثبت في الشريعة الإسلامية لفقيه معين بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط... كي يتدخل البعض في الأمور التي يتناولها البعض الأخر ويعصم بعضهم البعض عن الخطأ وينقض حكمه حينما تقتضي المصلحة النقض "(125).
وقد كان آية الله محمد حسين البروجردي كبير فقهاء الامامية المتأخرين في عصره يرى أن قيادة المجتمع والدولة يجب أن يتولاها بشكل جماعي " زعماء السياسة والدين الذين يمتازون بالخبرة الدينية والحنكة السياسية "(126) وكان التبرير الفقهي – الاصولي في هذه الولاية الجماعية للفقهاء الذي وضعه آية الله البروجردي هو " ان الولاية لا تقتصر على الفقيه الواحد بما أن الفقهاء جميعا نواب الأئمة المعصومين" – م ن، نقلا عن البلد الزاهر،آية الله محمد حسين البروجردي. وقد اعتبرت عملية فكرية تسير بموازاة الشورى من ناحية الأخذ بالآراء المتعددة وصولا الى الرأي الصحيح شرعا، وهي من ناحية أخرى تطبيق واقعي لمبدأ الشورى في عمل الفقهاء.
وقد اقترح بعض الفقهاء تكوين لجنة الإفتاء التي تتكون من فقهاء مجتهدين يرشحون الفقيه المجتهد الاعلم من بينهم لإدارة جلسات هذه اللجنة وتنظيم الحوار فيها والحيلولة دون حدوث الفوضى فيها – م ن، نقلا عن الحكومة الإسلامية، الروحاني ص بلا – واذا كان تقليد المجتهد الاعلم هو الرأي الراجح لدى فقهاء الامامية المتأخرين فان دوره في هذه اللجنة لا يتخطى إدارة الجدل الفقهي وتنظيم الحوار فيه من أجل الخروج بالرأي أو الفتوى الواجب العمل بها باتفاق أو اجماع أو أكثرية أراء الفقهاء المجتهدين في هذه اللجنة دون أن يكون رأي الاعلم هو الشرط، وقد أطلق على هذه اللجنة في هذا المقترح الفقهي والعملي اسم " لجنة الافتاء أو مجلس شورى الفقهاء " – م ن، نقلا عن الحكومة الإسلامية، الروحاني – وذهب الى هذا القول السيد محمود الطالقاني فقال" لا بد من تشكيل شورى تضم مجموعة من الفقهاء والمراجع تسمى بـ(لجنة الإفتاء) مهمتها بالمصطلح الفقهي بـ(الحوادث الواقعة) لغرض الحصول على الرأي الأوفق والأصوب الذي تقضي به آراء الأكثرية الساحقة من المراجع، ولتحديد المسؤوليات في المجتمع الإسلامي كما كان يحدث بالضبط بعد الغيبة الكبرى مباشرة "(127).
ووجدت فكرة أو وظيفة " مجلس الفقهاء " تأييدا وتبنيا فقهيا من قبل آية الله الامام الراحل السيد محمد مهدي الشيرازي مشددا على استعمال مصطلح "شورى الفقهاء" بحيث برز مصطلحا فقهيا متداولا في الوسط العلمائي والفقهائي. ويرى آية الله الشيرازي أن المرجعية الجماعية للفقهاء العدول التي تجسدها وظيفة شورى الفقهاء يمكن استنباطها من قول الامام المعصوم "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم "فالإشارة واضحة في هذا الحديث المروي عن الامام المعصوم الى مجموعة أو جماعة الرواة للحديث عن الأئمة مما يفيد المرجعية الجماعية للفقهاء، وهي التي تستوجب أو يستنبط منها ضرورة أو وجوب شورى الفقهاء وفق ما تقتضيه صيغة أو طريقة عمل المرجعية الجماعية للفقهاء. ويرى آية الله الشيرازي أن إدارة الدولة والمجتمع تكون بصيغتين أو طريقتين استنبطت عن هذا الحديث والأمة لها الخيار في العمل بأحدهما أو كليهما، وأولهما هو أن يكون الفقيه العادل والجامع للشرائط رئيسا للدولة ومرجعا للأمة، وأما الخيار الثاني فإن جماعة من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط أن يكونوا رؤساء للدولة ومراجع للأمة وتكون الشورى بينهم هي الوسيلة للإدارة والعمل المرجعي للأمة وسياسة الدولة، ويرى آية الله الشيرازي أن الخيار الثاني هو الأقرب الى روح الإسلام، حيث أن نظام الحكم في الإسلام هو استشاري بامتياز لقوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " وقوله تعالى " وشاورهم في الأمر " ويستدل بإطلاق الآيتين أن الحكم في الإسلام لا يصح الا بالشورى الا فيما خرج منها بنص فانه لا مجال للشورى مع النص لاسيما في الاحكام(128).
وفي تقرير شورى الفقهاء يرى السيد مرتضى الشيرازي – الابن، أن ادلة التقليد تقتضي اتباع الخبير من الفقهاء وأدلة الحكومة تقتضي اتباع الحاكم لا مطلق الخبير – الفقيه في شؤون الحكم وأدلة الشورى ناطقة بأن على الحاكم أن يستشير ويتبع الأكثرية، فالحكومة في الروايات عن الأئمة في الحض على التحاكم والتقاضي الى الفقهاء من اتباع أئمة أهل البيت من وجهة نظر الشيرازي – الابن هي لكل الفقهاء لا لأحدهم واذا كانت لأحدهم فان امضائها أي حكومة هذا الفقيه مشروطة بإمضاء الأكثرية لها(129) وفي دليل العقل فان أمضى الاتباع عند التعارض ولم يحكم بالتساقط فان العقل يحكم باتباع الاكثرية وهذه الاكثرية هي حصرا من الفقهاء في هذا الموضع من البحث والتي تكون لها الولاية والنيابة والحاكمية وليس لأحدهم دون بقية الفقهاء عند الشيرازي – الابن، ويترتب على ذلك إمكانية أو ضرورة شرعية في القيادة الجماعية أو المرجعية العامة للفقهاء التي يجب أن تستند لدى الشيرازي - الابن الى الشورى بناء على الآيات الدالة على وجوب الشورى والروايات عن أئمة أهل البيت المصرحة بالشورى وجوبا واهمية، وفي الجمع بين تلك الأدلة من العقل والنقل – الشرع يتشكل أساس فكرة شورى الفقهاء او قاعدتها الفقهية عند السيد مرتضى الشيرازي(130)
لكن الشورى التي تطورت في الفقه بحثيا وعلميا لم تتطور في التاريخ الاسلامي أوفي التراث الاسلامي الى مستوى التأسيس المؤسساتي لها أو التطبيق العملي في الحياة الاسلامية وهو ما احالها الى حقل النسيان في النظام السياسي والاجتماعي الإسلامي.
الشورى إحالة الى حقل النسيان
تفتقد الشورى الى التأصيل المؤسساتي المبكر لها في الفكر السياسي والإسلامي، ولا نملك في حقل دلالة التأصيل ما يشجعنا على القول بأصل دلالة الشورى في الحياة الإسلامية على مستوى التاريخ والفقه، ويظل التأصيل لها في القرآن الكريم مفارقا حقيقيا للتاريخ الاسلامي والفقه الاسلامي المبكر.
وقد تم مبكرا إخلاء الشورى من المعنى الذي نزل به الوحي على يد المفسرين القدامى من المسلمين، فقد ذكر المفسر فخر الدين محمد بن عمر الرازي ت604 هـ في التفسير المهم "التفسيرالكبير مفاتيح الغيب" وجوها في هذه الآية منها انها مشاورة لغرض علو الشأن ورفعة الدرجة. ونقل عن الحسن وسفيان بن عيينه انما كان ذلك ليقتدى به غيره وتصير المشورة سنة في أمته، ومنها انها مداراة لما وقع في احد بعد ان فشلت مشورتهم في هذه المعركة، ومنها مشاورتهم لا ليستفيد منهم النبي علما او رأيا(131) ووجوه أخرى لا تصب في تفعيل مبدأ الشورى كقاعدة شرعية ومن عزائم الاحكام مثلما يقول ابن عطية في رأيه في الشورى الذي ينقله عنه المفسر ابي عبد الله محمد بن احمد القرطبي ت 671 هـ في تفسيره الجامع لأحكام القران، لكنه يقصر الشورى على اهل العلم والدين بل يوجب عزل الخليفة الذي لا يشاور هذه الطبقة من المسلمين(132) وينقل اختلاف العلماء في المعنى الذي أمر الله تعالى فيه بالمشورة.
وهو يعكس ارتباك الامة في تلقي الشورى التي أمر الله تعالى نبيه بها بهذه الشروط والخطط التي وضعها الفقهاء والعلماء القدامى، وقد أدى هذا الارباك الى تغييب الشورى في حقل دلالتها الإسلامية من القرآن نصا صريحا، وفي دلالة التأصيل لها في المشروع النبوي الإلهي انما كانت تنزل في سورة مدنية تحمل دلالة التحول في مسار الدعوة الإسلامية نحو الدولة والمدينة التي سعى الى تأسيسها النبي محمد (ص) وتهميش القبليات المستبدة في الجاهلية بالفرد والجماعة ونوع من اشراك الجماعة الإسلامية في تحديد ورسم مصيرها شريكا حقيقيا ينمي الحس بالمسؤولية الجماعية الذي يشترطه مجتمع حديث يتأسس وفق مفهوم الجماعة المؤمنة التي ازاحت الجماعة القبلية او حاولت ذلك، والشورى هي التمهيد الى غرس المسؤولية تجاه أوفي تركيبة هذه الجماعة الجديدة، لذلك لم يكن النبي محمد "ص" مجرد مجامل او راغب في ائتلافهم كما يذهب الى ذلك المفسرون القدامى فالنص لا يتنزل مجاملة او ائتلافا للقوم، انه نص الله تعالى فهو الحقيقة في نطقه ونصه، لكن التغييب للشورى كان متعمدا في الفكر السياسي الإسلامي القديم لأنه فكر يؤمن بالسلطة والسلطة لا تنزع عن الشورى بتضادها معها وسنلاحظ مدى تغييب الشورى في التاريخ والفقه الإسلامي.
افتقدت الشورى الى التطبيق والتنفيذ الحقيقي لها في تاريخ الإسلام، وغضت عنها كتب الفقه السياسي نظرها فلم ترشح لأولوية مهمة في النظرية السياسية الاسلامية، وقبل ذلك لم يرشح لأمر الخلافة أحد بالشورى بل هي بالإكراه في خلافة ابي بكر، وبالنص البشري في خلافة عمر، وبشورى شكلية غير واقعية في خلافة عثمان، وباكراه علي (عليه السلام) من بعض امصار المسلمين وهو غير راض وكاره للأمر، ثم الغيت الشورى تماما بولاية العهد مع دهاء معاوية ومنحه الخلافة بولاية العهد الى يزيد ولم يعرف الإسلام بعد ذلك في كل امر من الشورى شيئا.
ولم نجد ذلك التناظر والمقارنة بين النص والشورى في تراث الاقدمين من الفقهاء والمتكلمين بل كان حديث هؤلاء الاقدمين عن الخلاف بين المسلمين في النص على الامامة والإجماع عليه، ولم يتطرقوا الى مناظرة النص بالشورى بل مناظرة النص بالإجماع وقد اطلقوا عليه أحيانا الاتفاق والاختيار، ولا يمكن ان يكون الاجماع تعبيرا عن الشورى، لان الاجماع الإسلامي في اغلبه نظري ولم يتحقق بشكل عملي مثلما لم تتحقق الشورى أيضا، فقد ذكر الاشعري ان اول خلاف بين المسلمين كان في الامامة وبعد ان يسرد وقائع وحوادث جرت بعد وفاة الرسول (ص) في امر السقيفة ثم يقول (ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على امامته واتفقوا على خلافته) -مقالات الإسلاميين، أبي الحسن الاشعري- ولم يتطرق الاشعري ت 310 هـ وهو امام اهل السنة والجماعة في العقائد الى مبدأ الشورى والحديث عنه في هذه الواقعة، وحين يتحدث عبد الكريم بن محمد الشهرستاني ت548 هـ عن الاختلاف والتنازع في الملة الإسلامية وهي في رأيه قد بدأت منذ مرض النبي محمد (ص) واستمرت بين أصحابه وهي اختلافات اجتهادية في زعمه فان خامس هذه الخلافات هي الامامة ويقول فيها "انها اعظم خلاف بين الامة وانه ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على امامة في كل زمان"(133) فانه ينقل عن الأنصار انهم اتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة وينقل عن عمر قولا" ان بيعة ابي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فأيما رجل بايع رجلا من غير مشاورة من المسلمين فانه تغرة(134).
هكذا لم تكن الشورى لها محل في السقيفة وانما كانت اتفاقا في وصف أصحاب كتب المقالات، وغياب اللفظ في النص الاسلامي – الأدبي والعلمي انما يعكس الغياب المعنوي والتطبيقي لها في حياة وتاريخ المسلمين.
وحينما يتحدث أبو الحسن محمد بن علي الماوردي ت45 هـ عن الامامة وانها موضع لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعن وجوب عقدها لمن يقوم بها بالإجماع وعن اختلاف المسلمين في وجوبها شرعا او عقلا اذ ثبت وجوبها فان فرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم فان لم يقم بها احد من الناس فانه والحال هذا لا بد من فريقين في زعمه، وهو يقسمهما الى فريق اهل الاختيار حتى يختاروا اماما للامة وفريق اهل الامامة حتى ينصب احدهم للإمامة وليس على الامة من حرج او اثم اذا تأخر احد هذين الفريقين، وفي رايه فان الامامة تنعقد بوجهين احدهما باختيار اهل الحل والعقد والثاني بعهد الامام من قبل(135).
ولأهمية الماوردي الفقهية في الفكر السياسي السني فهو صاحب نظرية الخلافة في تأطيرها الديني وتأصيلها الفقهي فان خلو نصوصه من مسالة الشورى كأولية في كونها عقيدة تشريعية سواء في دلالتها السياسية – التاريخية او دلالتها الفقهية فإنها تعكس غيابا ملحوظا لفكرة الشورى في الايديولوجية السياسية السنية، وانها لا تملك ذلك الرصيد الذي يؤهلها ان تكون مرجعا مفهوميا او فكريا للعقيدة السنية في الخلافة والسياسة ناهيك عن العقيدة الشيعية بعمومها.
فالماوردي تحدث عن الاجماع على الامامة في السياق النظري الفقهي السياسي، وتحدث عن الاختيار والعقد وانعقاد الامامة بعد اختيار اهل الحل والعقد واهل الامامة، ويعني بهم البيوت التي توارثت فيها الخلافة تاريخيا في اختيار احدهم لهذا المنصب وتداول القول في عدد من تنعقد بهم الامامة، وقد اختلف الفقهاء السنة في هذا العدد حتى يكاد ان يغيب الاجماع او غاب فعلا في اختلاف اقوال أولئك الفقهاء، ورغم احصاء القول وتفصيله الذي قام به الماوردي إلا انه لم يكن للشورى ذكر او أهمية تكاد ان تذكر.
وتتبيأ طريقة اهل الحل والعقد وفق ما يرويه الماوردي في اختيار الامام او الخليفة عن مصادرة حق الامة في اختيار امامها او خليفتها، فقد تحدث عن اجماع اهل الحل والعقد واقصى عدد لهم هو خمسة استدلالا في اختيار ابي بكر من قبل خمسة من الصحابة او اقل منهم وعددهم ثلاثة في رأي اكثر فقهاء ومتكلمي السنة من اهل البصرة وخالفهم في ذلك فقهاء اهل السنة من اهل الكوفة في قولهم بانعقادها بثلاثة احدهم حاكما والاخرين شاهدين استدلالا بصحة عقد النكاح بولي وشاهدين، بل قالت طائفة أخرى من الفقهاء السنة انها تنعقد بواحد استدلالا بقول العباس بن عبد المطلب الى علي بن ابي طالب " امدد يدك ابايعك" –م ن،ص7- وهكذا ينوب الفقهاء بهذا العدد القليل عن رأي وحكم الامة الذي يضمنه او يتضمنه افتراضا قول الشورى، وفي اجتماع اهل الحل والعقد ومع قلة عددهم فانهم يتصفحون أحوال الامة (فاذا تعين لهم من بين الجماعة من اداهم الاجتهاد الى اختياره عرضوها عليه).
وهكذا يكون الاجتهاد في قبالة النص في اختيار الامام (عند من يقول بالنص على الامامة) وليس الشورى، لا سيما وان الاجتهاد ذو صيغة فردية وليس جماعية كما هو القول في الشورى ضمناً وافتراضا، بل ان الشورى تغيب في حال التكافؤ بين المتنازعين في الترشيح للخلافة، فقد رأت طائفة من الفقهاء السنة بان يقرع بينهما ويقدم من قرع منهما، وقال آخرون من اهل السنة ان أهل الاختيار هم بالخيار في بيعة أيهما شاءوا من غير قرعة.
بل ان من انعقدت ولايته او خلافته بغير عقد او اختيار فان فقهاء العراق من السنة رأوا ثبوت ولايته وانعقاد امامته وحمل الامة على طاعته ان لم يعقدها اهل الاختيار، وذهب جمهور فقهائهم الى ان امامته لا تنعقد إلإ برضاه لكنهم شرطوا على اهل الاختيار عقد الامامة له - م.ن.ص9- وهو تناقض ظاهر بين شرط الرضا ضمنا في الشورى وشرطهم على اهل الاختيار امضاء عقد الامامة له وهو اكراه لا محال وهو ينضاف الى تناقض العقد والقرعة في الامامة لان القرعة لا مدخل لها من العقود وهو قول الماوردي، فالإمامة عقد في نظر فقهاء السنة كما يشير الى ذلك الماوردي.
ولم يكن الماوردي وهو المنظر الفقهي للفكر السياسي السني يرى في ما روته مصادر المسلمين في ما اسموه اهل الشورى الذين اختارهم الخليفة عمر بن الخطاب وهم الستة من الصحابة الذين عهد اليهم انتخاب خليفة له من بينهم، لم ير الماوردي شيئا من الشورى او وسيلتها في انتخاب خليفة، فهو يرى من حيث جوهرها وحقيقتها بانها انعقاد الامامة بعهد من قبله أي الخليفة الذي قبله ويضيفه الى الاجماع بقوله (فهو ما انعقد الاجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته).
فلم تكن الشورى حاضرة في الجماعة التي كلفها عمر بن الخطاب في انتخاب الخليفة من بعده بل هي انعقاد للإمام أو الخليفة بعهد من الامام او الخليفة قبله، وهي تعبير عن استمرار النص في الامامة – الخلافة لكنه نص بشري في قبالة النص الإلهي على الامامة عند الشيعة، ونكتشف في سياق متابعة الماوردي الفقهية في جواز انعقاد الامامة بعهد من قبله انها كانت مبدأ او بداية تأصيل ديني وفقهي ثم هو تاريخي في ولاية العهد ووراثة الحكم في الخلافة وراثة أسرية في انتقالته مباشرة وبصلة واضحة من عهد الخليفة الثاني الى الستة من اهل الشورى وجواز الامامة بعهد من قبله الى ولاية الولد او الوالد بعهد من قبله ويذكر الماوردي اقوالا ثلاثة في ذلك:
احدهما: عدم جواز انفراده بعقد البيعة لولد ولا والد حتى يشاور اهل الاختيار فيرونه اهلا لكنه مسبقا تم تطويق مبدأ الشورى باختيار ولي للعهد.
والمذهب الثاني: يجوز بانفراد عقدها لولد او والد لأنه امير الامة نافذ الامر فيهم وعليهم وهو نص على خلاف الشورى.
والمذهب الثالث: يجوز انفراده بعقدها لوالده دون ولده لان الطبع ينبعث على ممايلة الولد أكثر مما ينبعث على ممايلة الوالد وهو نص ثان على خلاف الشورى.
والفقهاء هؤلاء كانوا يهدفون الى تبرير خلافة الامويين والعباسيين وشرعية مبدأ ولاية العهد بإطار إسلامي يلغي الشورى تماما ويحيلها الى حقل النسيان في الذاكرة الإسلامية السياسية.
اضف تعليق