الجيوسياسية الكلاسيكية. وتركز على العلاقات المتبادلة بين المصالح الإقليمية وسلطة الدولة والبيئات الجغرافية. ومن الشائع أن يرى الكُتاب ورجال الدولة الجغرافيا عنصرًا ثابتًا وحتميًّا، يُشكل بقوةٍ الخيارات السياسية للزعماء. الجيوسياسية النقدية، التي تميل إلى التركيز أكثر على دور الخطاب والأيديولوجية. ومن ثَم، بدلًا من تصور الجغرافيا على أنها حتمية...

تنطوي الجيوسياسية (وأحيانًا يُطلق عليها الجيوبوليتيكا) على ثلاث سمات.

 أولًا: تهتم الجيوسياسية بمسائل متعلقة بفرض النفوذ والسلطة على حيز جغرافي وأرض إقليمية.

 ثانيًا: تستعين بأُطر جغرافية لفهم الشئون العالمية. وتشمل القوالب الجغرافية الشائعة مصطلحات مثل: «مجال النفوذ»، و«التكتلات»، و«الفناء الخلفي»، و«المنطقة المجاورة/الجوار»، و«الخارج القريب».

 ثالثًا: تتسم الجيوسياسية بأنها ذات وجهة مستقبلية. فهي تُقدم رؤًى متعمقة حول السلوك المحتمل للدول لأن مصالحها لا تشهد أي تغيير جوهري. تحتاج الدول إلى تأمين الموارد، وحماية أراضيها الإقليمية، بما في ذلك المناطق الحدودية، وإدارة شئون سكانها. ومن شأن الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأمريكي ترامب أن يجدا الجيوسياسية قضيةً مثيرة للاهتمام. ولكنهما ليسا الوحيدَين في هذا الصدد. فقد اجتذبت سمة الوضوح التي تتصف بها الجيوسياسية كلًّا من الشعبويين والأيديولوجيين والثوريين والمفكرين المناهضين للديمقراطية.

وهذه السمات الثلاث قابلة للنقاش والجدال. فربما يكون لدينا أفكار متضاربة حول ماهية المصالح الاستراتيجية للدول، وقد نختلف على الأطر الجغرافية، وقد نتجادل بشأن المستقبل الجيوسياسي، بل إننا نفعل ذلك بالفعل. وربما يتطلع من يجادلون بشأن المستقبل السياسي إلى الماضي ويتوقون إليه بشدة؛ متلهفين إلى أمجاد الماضي وانتصاراته.

سأعرض هنا مسارَين أساسيَّين لفهم مصطلح الجيوسياسية بغرض مساعدتنا في الاسترشاد عبر المتاهة الجيوسياسية.

أولًا: هناك الجيوسياسية الكلاسيكية. وتركز على العلاقات المتبادلة بين المصالح الإقليمية وسلطة الدولة والبيئات الجغرافية. ومن الشائع أن يرى الكُتاب ورجال الدولة الجغرافيا عنصرًا ثابتًا وحتميًّا، يُشكل بقوةٍ الخيارات السياسية للزعماء. وقد تحدَّث الرئيس الفرنسي، شارل ديجول، نفسه عن «القوة الحاكمة للجغرافيا».

المسار الثاني هو الجيوسياسية النقدية، التي تميل إلى التركيز أكثر على دور الخطاب والأيديولوجية. ومن ثَم، بدلًا من تصور الجغرافيا على أنها حتمية، يُنظر إلى الجغرافيا على أنها أكثر مرونة وعُرضة للتأويل والتفسير. فإذا كانت الجيوسياسية الكلاسيكية تركز على الأراضي الإقليمية والموارد والموقع، فالمناهج النقدية تركز على كيفية التفاعلات بين البشر والنواتج المادية ﻟ «الجيوسياسية».

أكدت الأعمال الأخيرة في المسلك النقدي على أكثر السمات حميمية للجيوسياسية، وأوضحت أن الجيوسياسية ليست حكرًا على الدول والحكومات. ونقطة الالتقاء بين المسارين النقدي والكلاسيكي هي أن كلًّا منهما يتفق على أن للجغرافيا دورًا مهمًّا؛ أما ما يختلفان عليه فهو مدى أهمية هذا الدور ومكانه وسبب أهميته.

إذا كانت الجيوسياسية تُقدم بالفعل طريقةً مغريةً لرؤية العالم، فهذا غالبًا لأنها تعتمد على التبسيط والترميز المادي. وتلعب الخرائط دورها في ذلك. وتلعب المفاهيم التأطيرية الرائجة، مثل «نظرية قلب العالم» و«المحور»، و«القوس الجيوسياسي»، و«المناطق الحدودية»، دورها أيضًا. وسرعان ما يُقال لنا إننا لسنا بحاجة إلا إلى عدد قليل من الخرائط أو الأطر المفاهيمية لفهم العالم من حولنا. ويُروَّج للجيوسياسية باعتبارها دليلًا موثوقًا به للمشهد العالمي، ومع ذلك تستعين بأوصاف واستعارات ونماذج جغرافية معبرة، كتلك المذكورة آنفًا، والكثير غيرها من المصطلحات المستخدمة على مدى عقود مثل «الستار الحديدي»، و«العالم الثالث»، و«الدولة المارقة» أو أيٍّ منها.

ويتسم كل مصطلح من هذه المصطلحات بكونه جغرافيًّا بطبيعته بمعنى أن الأماكن (وليس الحيز الجغرافي/المجال الجغرافي) محددة ومُصنفة على هذا النحو. ومن ثَم، يساعد ذلك في إنشاء نموذج بسيط للعالم، يمكن استخدامه لتقديم النصح والمشورة عند وضع السياسات الخارجية والأمنية، وللإسهام في المناقشات العامة حول المسائل الجيوسياسية. من المُتصوَّر أن الجغرافيا سلسلة من المواقع التي تتكشف فيها الأحداث البشرية ببساطة. ويصير هذا الأمر ملحوظًا أكثر في لحظات تكون فيها وتيرة التغيير سريعة ومكثفة. غير أن الجغرافيا ليست ثلاثية الأبعاد فحسب، بحيث تكون الأهمية للعمق والارتفاع بقدر ما تكون للسعة أيضًا، وإنما تشتمل أيضًا على العلاقات والنطاقات. فالمناطق الجغرافية لا توجد في عزلة تامة.

الجغرافيا: أكثر من مجرد «تخطيط للأرض»

ثَمة مصطلح آخر يصعب فهمه بعض الشيء، وهو «الجغرافيا». في الكتاب الأكثر مبيعًا «أسلحة وجراثيم وفولاذ» (١٩٩٧)، يذكر جاريد دايموند أن التفوق الاستعماري الأوروبي، بدايةً من القرن الخامس عشر فصاعدًا، كان قائمًا على الأسلحة ونقل الأمراض إلى مجتمعات محلية لم تكن تتمتع بأي شكل من أشكال المناعة، وإحلال السفن الحربية المدرعة والطائرات والسيارات والقطارات محل السفن الخشبية. كذلك ترسخت الهيمنة الاستعمارية من خلال التقدم المُحرز على صعيد طب المناطق الحارَّة، والبنية التحتية، والشبكات التجارية التي تتيح الاستعمار الطويل الأمد. ولاقى الكتاب استحسانًا كبيرًا إلا أنه أيضًا تعرَّض للنقد بسبب تعميماته الكاسحة ولتهميشه لدور الشعوب، التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار، في تشكيل تاريخها. ومع ذلك، كان للاستعمار الأوروبي تأثير حاسم في إحداث تغيير إيكولوجي واقتصادي-سياسي عالمي. ويعزو سايمون لويس ومارك ماسلين إلى هذا الاحتكاك الاستعماري المساعدة في الإيذان ﺑ «كوكب إنساني» مميز، وربما بدء حقبة الأنثروبوسين (أو حقبة التأثير البشري) في حد ذاتها؛ أي اللحظة التي بدأ فيها التأثير الجمعي للنشاط الإنساني في تغيير مناخ كوكب الأرض.

ما يؤكد عليه الجغرافيون هو العلاقة الديناميكية بين الإنسان والبيئة؛ بحيث لا يُختزَل دور الجغرافيا في الطقس والبيئة فحسْب (مثل الرياح الاستوائية والرياح التجارية) اللذين استغلهما الأوروبيون/الأمريكيون كجزء من مغامراتهم الاستعمارية. وكذلك لا يُعَد دور الجغرافيا أمرًا مُسلَّمًا به كأنه مشهد خلفية ثابت على مسرح الأنشطة البشرية. لقد ظل مناخ الأرض مستقرًّا للغاية خلال العشرة آلاف سنة الماضية، وإن لم يكن على وتيرةٍ واحدة. ومن ثَم، يتمثل جزء من التحدي الماثل أمامنا، عندما نفكر في الجانب الجغرافي من مصطلح الجيوسياسية، في التفكير في الطرق المتنوعة التي تتدخل بها الجغرافيا في شئون البشر، دون أن يُستنتَج ببساطة أن الأحداث لا بد أن تقع دومًا في مكان ما.

تعني كلمة جغرافيا بالإنجليزية geography، من منظور اشتقاقي، «تخطيط الأرض». وهو نشاط يُبرِز قدرة الكيانات الفاعلة والمنظمات على وصف الحيز الجغرافي، وشغله، وتنظيمه، وإنشاء أماكن تعج برؤًى ومشروعات معينة. كانت الجغرافيا ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من بناء الأمم وإنشاء الدول الإقليمية الحديثة. إلا أن المعالم الجغرافية للأرض، حتى في العصر الحديث، لم تكن على الإطلاق مستقرةً وثابتةً تمامًا. فقد شهدنا، على أي حال، «عصرًا جليديًّا صغيرًا» بين عامَي ١٥٠٠ و١٨٥٠.

الجغرافيا قادرة على التغير، وذلك مع التغيرات الطارئة على العلاقات بين الإنسان والبيئة. ويُعَد استثمار الصين في الجزر الصناعية ببحر الصين الجنوبي مثالًا جيدًا على كيف تُتخذ عمليات التجريف البحرية واستصلاح الأراضي من أجل تحقيق الهدف المُعلن المتمثل في الاحتلال وتوطيد الوجود الوطني دون وضع الآخرين في الاعتبار. فجغرافيا المنطقة يُعاد تصميمها من جديد. وتُصر الفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام على أن الصين تتصرف على نحوٍ غير قانوني وليس لها الحق في أن تفعل ما تفعله. كما أعربت دول أخرى مثل الولايات المتحدة عن مخاوفها بشأن حرية الملاحة في هذه المنطقة البحرية. ولكن النتيجة النهائية هي أن الصين تعيد تشكيل الجغرافيا الطبيعية والبشرية لبحر الصين الجنوبي.

وعندما نتحدث عن العناصر الجغرافية الديناميكية، وليس الثابتة، يمكننا أن نشير أيضًا في معرض حديثنا إلى تأثير التغير المناخي، الذي يتسم بأنه مستمر. فمع استمرار ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، ستتغير أيضًا المعالم الجغرافية المادية والبشرية على حدٍّ سواء؛ نظرًا لأن تغير مستوى سطح البحر يجعل بعض المناطق من العالم غير صالحة للسُّكنى، ويفرض ارتفاع أعداد السكان المزيد من المتطلبات على موارد الأرض. وسيتمثل أحد التحديات الأساسية التي تواجهها الجيوسياسية في كيفية فهم التغيرات الطارئة على الكوكب، والمطالبات باستغلال المناطق الحدودية الجديدة والناشئة في المحيطات والمناطق القطبية، بل حتى على المريخ والقمر. ومن المرجح أن تتعرض الموارد الغذائية والطاقة وغيرها من الموارد مثل المياه إلى ضغوط أكبر من أي وقت مضى. ستخضع قدرة الأرض على توفير مقوِّمات الحياة، ناهيك عن المزيد من التطورات المستقبلية على الصعيد الجيوسياسي، للمزيد من التدقيق. إذن، دعونا نرحب بالجيوسياسية الأنثروبوسينية (أي الجيوسياسية في حقبة التأثير البشري).

تتسم الجغرافيا أيضًا بكونها متشابكةً ومتدرجة، حيث ترتبط الجهات والأماكن والأشياء والعمليات فيما بينها عبر أبعاد محلية، ووطنية، وإقليمية، وعالمية. وتُشبِّه سوزان سميث ورايتشل باين هذا الترابط المحبوك بلولب مزدوج. وقد تكون الجغرافيا أشبه بشريط مطاطي. يمكن التأثير عليه ليتمدد وينكمش. فقد يتقارب الأشخاص والأشياء زمانيًّا ومكانيًّا بأشكال مختلفة من التقارب، وقد ينفصلون ويتباعدون أيضًا.

لقد استغل الجغرافيون، على مر السنين، التحولات التي طرأت على شبكات الاتصال والنقل لإثبات هذه النقطة الأساسية المتمثلة في أن ثَمة علاقات ديناميكية بين التدفقات والأماكن. تحدثت عالمة الجغرافيا دورين ماسي عن «هندسة القوة» لإيضاح أن الأماكن والأشخاص تُصنع ويُعاد صنعها بطرق متفاوتة ومتواصلة. وعند تطبيق ذلك على العولمة، زعمت ماسي أن الأماكن كانت تتداول التدفقات العالمية للأموال والأفراد والتكنولوجيا عبر مجموعة متنوعة من الشبكات والعلاقات الرقمية والمادية. لم تُلغَ الجغرافيا، وإنما تشكلت الأماكن من خلال العلاقات المكانية المتباعدة والمسارات المختلفة للأنشطة. وتستمر تقنيات الإنترنت في الربط بين المجالات الجغرافية والأماكن والشعوب المختلفة من خلال مجموعة من الأنشطة، بما في ذلك الحرب الإلكترونية ومجموعات العمل المدني والتجارة عبر الإنترنت.

والتغير الجيوسياسي والتكنولوجي ليس موضع ترحيب على الدوام. فقد يرغب المرء في التمسك بالأطر الجغرافية والتاريخية السابقة. وقد يلعب الروتين البيروقراطي دورًا في إعادة إنتاج الخرائط والرؤى الجيوسياسية. ففي كوريا الجنوبية، وعلى مدى السبعين سنةً الماضية، حافظت الحكومة على سلسلة من التعيينات للمسئولين الذين يشغلون منصب حكَّام خمس مقاطعات، بما في ذلك مقاطعة هامجيونج الشمالية. الغريب في أمر هذه التعيينات هو أن هذه المقاطعات في الواقع تقع في كوريا الشمالية، ولم يسبق لأيٍّ من الحكَّام أن زار تلك المناطق المعنية. ومع ذلك، فالحكَّام الخمسة كلهم جزء من لجنة المقاطعات الشمالية الخمسة. وبسبب رفضها لقبول شرعية حكومة كوريا الشمالية، فقد حافظت كوريا الجنوبية على هيكل بيروقراطي في حالة تغيير خط الهدنة الفاصل منذ عام ١٩٥٣ لصالح سول. ومن المثير للدهشة أن هناك مائة عمدة من عُمَد المدن وما يقرب من ألف موظف حكومي تابعين للجنة. وجميعهم يعملون في وظائف مدفوعة الأجر. وهذا يُكلِّف دافعي الضرائب في كوريا الجنوبية نحو ٥ ملايين جنيه إسترليني سنويًّا. وتؤدي اللجنة مهامَّ ثقافيةً وإحصائية؛ ولكن يُحظَر عليها الاتصال مباشرةً بحكومة كوريا الشمالية.

أخيرًا، تزخر الجغرافيا بعوامل بشرية وغير بشرية تلعب دورها في تشكيل التجارب الجيوسياسية. وتُعَد الموارد المتنقلة، مثل الأرصدة السمكية، تذكِرةً مفيدة للكيفية التي يُسبِّب بها مورد متنقل، لا يرتبط بأي حيز مكاني ثابت، مجموعةً من الضغوط على أولئك الساعين إلى إدارته. وفي حالة الشعوب الأصلية في القطب الشمالي، تُعَد قدرتهم على اصطياد الفقمات والدببة القطبية والحيتان وأيائل الرنة والحيتان وجمعها واستخدامها جزءًا لا يتجزأ من رفاهية المجتمع، وأي تدخُّل من قِبل الدول والشركات هو تدخُّل مُجحِف في حق المجتمع المحلي. ويُعَد الجليد البحري والتربة الصقيعية بنيةً تحتية حيوية. 

من الممكن أن تتدخل القرارات السياسية والاستراتيجية المجردة في حياة الأفراد اليومية بطرق غير متوقعة وشخصية للغاية عندما تتداخل مشروعات البنية التحتية للطاقة أو برامج الاستثمار العسكري مع حصاد محاصيل الكفاف التقليدية. وعندما تنخرط الدول والحكومات بالفعل في مشروعات عسكرية وأمنية، فإن أثرها يتباين ليس فقط عبر الحيز الجغرافي، بل أيضًا في طريقة تأثيرها على الأفراد. نحن لا نشعر ولا نعايش «الجيوسياسية» بطرق مشابهة؛ ومن هنا جاء مفهوم ماسي بشأن أشكال هندسة القوة الخاصة بالمكان.

وهناك أشكال لهندسة القوة خاصة بالجيوسياسية الأنثروبوسينية، تجعلها محسوسةً في الغلاف الجوي والغلاف الحيوي والغلاف الصخري للأرض والغلاف المائي. ومع استمرار ارتفاع درجة حرارة العالم وخضوعه لمزيد من التغيرات المناخية والبيئية، فمن المعقول أن نستنتج أنه سيكون هناك مزيد من الضغوط للعيش في بيئات يمكن أن تتحملها الحياة البشرية. ربما يصير الحفاظ على البرودة والجفاف حافزًا جيوسياسيًّا مهمًّا في المستقبل.

* مقتطف من كتاب: الجيوسياسية: مقدمة قصيرة جدًّا، كلاوس دودز، نشر مؤسسة هنداوي.

اضف تعليق