حملة الحكومة لاستبدال التكنولوجيا الغربية بمنصات محلية تحت شعار "الاكتفاء الذاتي" و"إنهاء الاستعمار الرقمي" قد انحرفت عن مسارها التحرري لتصبح أداة لترسيخ السيطرة السياسية. حكومة "مودي" ذات النزعة القومية الهندوسية توظف هذه التكنولوجيا الوطنية، مدعومة بتشريعات فضفاضة للرقابة وجمع البيانات، من أجل الهيمنة على السردية العامة، ومراقبة المواطنين، وقمع...
يسلط هذا المقال الذي نشرته مجلة فورين بوليسي، الضوء على المفارقة الخطيرة الكامنة في مسعى الهند نحو تحقيق "السيادة الرقمية"، حيث يرى الكاتب محسن بوثان بوراييل، وهو أستاذ مساعد في كلية مانيبال للحقوق في بنغالورو، أن حملة الحكومة لاستبدال التكنولوجيا الغربية بمنصات محلية تحت شعار "الاكتفاء الذاتي" و"إنهاء الاستعمار الرقمي" قد انحرفت عن مسارها التحرري لتصبح أداة لترسيخ السيطرة السياسية. ويجادل النص بأن حكومة "مودي" ذات النزعة القومية الهندوسية توظف هذه التكنولوجيا الوطنية، مدعومة بتشريعات فضفاضة للرقابة وجمع البيانات، من أجل الهيمنة على السردية العامة، ومراقبة المواطنين، وقمع الأصوات المعارضة والأقليات بعيداً عن معايير المنصات العالمية. ويخلص إلى أن الهند تسير على خطى أنظمة مثل الصين وروسيا في تأسيس "انعزالية رقمية" تُخضع الفضاء الإلكتروني لسلطة الدولة المطلقة، مما يجعل المواطن الهندي ضحية لمقايضة خاسرة يتنازل فيها عن حريته السياسية وخصوصيته مقابل شعارات وطنية يتم استغلالها لخدمة السلطة.
وفيما يلي ترجمة المقال:
تقوم الحكومة الهندية بدفعة قوية ورفيعة المستوى لتحويل حلم البلاد المعروف بـ "سوادشي" (Swadeshi) – أو الاكتفاء الذاتي – في مجال التكنولوجيا إلى واقع ملموس. في أكتوبر، أعلن وزير الداخلية أميت شاه أنه ينتقل لاستخدام "زوهو ميل" (Zoho Mail)، وهي خدمة بريد إلكتروني تابعة لشركة "زوهو كورب" التي يقع مقرها في تشيناي. وبذلك انضم إلى وزير الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات أشويني فايشناو، ووزير التعليم دارميندرا برادهان، و1.2 مليون موظف حكومي على هذه المنصة.
لقد صاغت الحكومة مسعاها المتجدد نحو التكنولوجيا "محلية الصنع" كجزء من حملة أوسع ضد نظام رقمي عالمي لا يزال خاضعاً لهيمنة الولايات المتحدة بشكل ساحق. في الماضي، روجت الحكومة بجدية للمنصات الرقمية "المحلية" مثل "كو" (Koo) - كبديل لتويتر، الذي أصبح الآن X - و"سانديس" (Sandes) -كبديل لواتساب- وذلك باسم "أتمانيربهار بهارات" (Atmanirbhar Bharat)، أي الهند المعتمدة على نفسها.
إن "إنهاء الاستعمار الرقمي" هدف نبيل. لكن حملة الدولة تنطوي على مفارقة مثيرة للقلق: نفس الآليات التي تهدف إلى تمكين أمة من المواطنين يمكن أن توسع بسهولة نطاق سيطرة الدولة إلى مناطق خطرة. إن الخط الفاصل بين التحرر الرقمي والسيطرة رفيع للغاية، خاصة في ظل حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي القومية الهندوسية ذات النزعة الأغلبية.
في بلد يتمتع بتاريخ طويل من النضال ضد الاستعمار، يكن الجمهور تقديراً عميقاً للاكتفاء الذاتي الوطني والاستقلالية الاستراتيجية. وعلى هذا النحو، فإن المواطنين الهنود مهيأون لتبني حتمية "الفك الرقمي" (digital decoupling). ولكن للأسف، تعاملت جهود الحكومة حتى الآن مع السيادة الرقمية باعتبارها أداة رمزية للسياسة القومية أكثر من كونها مثلاً أخلاقياً للتحرر التكنولوجي.
يزعم حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) بزعامة مودي أنه ينقذ البلاد من هياكل القوة غير المتكافئة وغير المواتية للنظام الرقمي الذي يهيمن عليه الغرب. "لن نسمح لكم بالعمل مثل شركة الهند الشرقية"، هكذا حذر وزير الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات آنذاك، رافي شانكار براساد، شركة تويتر في عام 2021. وقد قامت الحكومة التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا بتدوين هذا الموقف لأول مرة في عام 2018، من خلال "سياسة الاتصالات الرقمية الوطنية"، التي سعت لضمان أن "التقنيات الجديدة متاحة للجميع بشكل عادل وبأسعار معقولة". وفي العام التالي، كشفت الحكومة عن مسودة لسياسة التجارة الإلكترونية نصت على أن المواطنين يمتلكون حقاً سيادياً على بياناتهم.
ولكن بقدر ما بدت هذه الأهداف جديرة بالثناء، فقد فشلت في مواجهة أسئلة أعمق حول "الانتماء" في الهند - أو تقديم رؤية محددة لمجتمع بديل قائم على حياة سياسية كريمة للأفراد داخل الفضاء الرقمي. إن السيادة الرقمية تتطلب، في جوهرها، سياقاً سياسياً مشتركاً يمكنها العمل من خلاله. تقع فكرة "الشعب" في قلب هذا المفهوم، ولكن في الهند، كما هو الحال في أماكن أخرى، فإن كيفية تصور "الشعب" هي مسألة شائكة ومحفوفة بالمخاطر.
وبينما تتخيل النضالات المناهضة للاستعمار دائماً مجتمعاً سيادياً جديداً، فشلت الحكومة الهندية الحالية في صياغة شعور بالوحدة، أو شعور بالوجود الجماعي. وهذا الفشل يشكل جوهر معضلة إنهاء الاستعمار الرقمي في الهند.
منذ صعودها إلى السلطة في عام 2014، تسببت القومية الهندوسية ذات النزعة الأغلبية لحزب بهاراتيا جاناتا في تعميق الانقسامات الداخلية، وهو ما تجسد في تزايد المشاعر المعادية للمسلمين وتصاعد الهجمات على الأقليات والمنتقدين والتشكيك في ولاءات تلك المجموعات. وقد كان لذلك بدوره تأثير واسع النطاق على المجال الرقمي، الذي أصبح مترسخاً بشكل متزايد في فن الحكم والإدارة. أصبح التوظيف السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي الآن سمة منتظمة للسياسة الهندية، حيث تعمل جميع الأحزاب الكبرى على تنمية وجودها عبر الإنترنت لتشكيل التصور العام.
ومع ذلك، لا يقترب أي حزب من قدرة حزب بهاراتيا جاناتا على الهيمنة على السرديات الرقمية وإعادة صياغة أفكار الهوية والانتماء وسلطة الدولة. وفي الواقع، منذ أول "انتخابات عبر وسائل التواصل الاجتماعي" في الهند في عام 2014، كان حزب بهاراتيا جاناتا في طليعة السياسة القائمة على الوساطة الرقمية. فقد وسع بشكل كبير جهازه الرقمي، بما في ذلك ما يقدر بنحو 5 ملايين مجموعة "واتساب" لنشر معلومات الحزب، وعزز ميزته في المشهد الرقمي من خلال انتصارات متتالية في الانتخابات العامة لعامي 2019 و2024.
والأكثر إثارة للقلق هو أن هذا التسييس الرقمي قد تزامن مع تضخيم السرديات الموالية للحكومة، والهجمات على وسائل الإعلام المستقلة، وعرقلة معارضة المجتمع المدني من خلال مراقبة المعارضة والتنسيق الخوارزمي، وكل ذلك مع تهميش المعايير الديمقراطية.
لقد قدمت حكومة مودي جهوداً قانونية وتنظيمية مختلفة لزيادة سيطرتها على الفضاءات الرقمية. وفي هذه العملية، دخلت في صراع مع شركات التكنولوجيا الكبرى مثل X وفيسبوك وواتساب بعد مطالبة هذه المنصات بمشاركة بيانات المستخدمين ورسائلهم عند الطلب، حتى لو كان ذلك يعني التحايل على التشفير من طرف إلى طرف (end-to-end encryption). وتشير تقارير موثوقة كذلك إلى أن الحكومة استخدمت التدابير القانونية بشكل انتقائي واستغلت مكانة الهند كواحدة من أكبر أسواق التكنولوجيا في العالم للتأثير على كيفية قيام المنصات بتعديل المحتوى السياسي.
أو تأمل في سيطرة الحكومة المتطورة على وسائل الإعلام الوطنية من خلال علاقاتها الوثيقة بمجموعات الأعمال الكبرى في الهند. على سبيل المثال، يمتلك مؤسس شركة "زوهو"، سريدهار فيمبو، ميلاً معروفاً للحزب الحاكم ولـ "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" (RSS)، وهي أكبر منظمة هندوسية يمينية متطرفة في الهند، والتي تستخدم أشكالاً متشددة من القومية الثقافية للدفع نحو هند لا مفر من هويتها الهندوسية.
حتى الوعد بحماية البيانات للأفراد -وهو ضمانة ديمقراطية حاسمة ضد قوى الدولة القسرية- أصبح وهمياً. فعلى الرغم من كل مزاعمه بتمكين المواطنين من خلال حماية الخصوصية الفردية، فإن "قانون حماية البيانات الشخصية الرقمية" لعام 2023 (والقواعد الإدارية اللاحقة له) يقصر كثيراً عن تحقيق هذا الهدف. ووفقاً لـ "مؤسسة حرية الإنترنت" (Internet Freedom Foundation)، فإن القانون وقواعده يوسعان بدلاً من ذلك المجال أمام وكالات الدولة لجمع البيانات الشخصية مع "رقابة ضئيلة، مما يرسخ سيطرة الدولة".
وبالتالي، تخيم سحابة مشؤومة على مسعى الحكومة نحو السيادة الرقمية، والذي يهدد بأن يصبح شكلاً جديداً من السيطرة السياسية والسياسات الإقصائية.
هذه الديناميكية المقلقة ليست بلا سابقة. ففي الصين، على سبيل المثال، تتميز السيادة الرقمية بمراقبة الدولة، والعقوبات، والرقابة ضد الخصوم السياسيين. يتم الحفاظ على سيطرة الدولة من خلال تدابير مثل "جدار الحماية العظيم"، والرقابة السياسية، وحتمية "قانون الأمن السيبراني" لإبقاء البيانات موطّنة داخل الصين.
وبالمثل، تتذرع تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان بالسيادة الرقمية كذريعة للقمع الواسع للمعارضة السياسية، ونشر السرديات الموالية للحكومة، والتنظيم الصارم لمنصات التواصل الاجتماعي الغربية. كما تتجلى ممارسات مماثلة في روسيا، حيث تصور حكومة الرئيس فلاديمير بوتين السيادة الرقمية كجهد لحماية الدولة من النفوذ الأجنبي عبر الإنترنت. لكن في الواقع، فإنها تشدد سيطرة الدولة على شبكات المعلومات، مما يسهل الانتقال إلى الانعزالية الرقمية مثل الصين.
في جميع هذه الأمثلة، يعمل كل من: ترويج البدائل التكنولوجية المحلية، والحث القسري على الرقابة الذاتية العامة، والتوسع المستمر في الأساس القانوني للقيود التي تفرضها الدولة، كاستراتيجيات متكررة ومعززة لبعضها البعض.
ويبدو أن الهند تسير في الاتجاه نفسه. فقد فرضت المبادئ التوجيهية الرقمية التي تم تقديمها في عام 2021 إمكانية التتبع وسلطة تنفيذية واسعة النطاق لإزالة المحتوى عبر الإنترنت. ويمنح "قانون الاتصالات" لعام 2023 الدولة صلاحيات واسعة للاعتراض والمراقبة بموجب استثناءات الأمن القومي الفضفاضة. كما يركز مشروع قانون تنظيم البث المقترح الرقابة في هيئات معينة من قبل الحكومة ويعتمد على فئات غامضة لتقييد المحتوى. تجسد كل هذه التدابير نفس منطق المركزية. وهي تظهر، عند أخذها مجتمعة، دولة ترسخ سلطاتها تحت غطاء إنهاء الاستعمار الرقمي.
إن النضال من أجل تقرير المصير الرقمي يظل أمراً حيوياً. لكن حركة "سوادشي" الحالية في الهند اختطفت هذا الهدف النبيل لتعزيز السيطرة على المجال الرقمي. وبينما يحتفي خطاب السيادة الرقمية بالتمكين، فإنه في الواقع قد همش الأقليات وقمع منتقدي الحكومة.
ونتيجة لذلك، حُرم المواطنون الهنود من حقهم في "إنهاء الاستعمار الرقمي" الحقيقي. فالأشخاص الذين يعارضون حقاً الإمبريالية التكنولوجية ويرغبون في دعم سعي بلادهم للسيادة الرقمية بنشاط، يجدون أنفسهم الآن مجبرين على دعم منصات محلية عرضة للسيطرة السياسية. وكما حدث في كثير من الأحيان في النضال العالمي من أجل إنهاء الاستعمار، تأتي القومية والولاء على حساب الحرية السياسية، وتعمل لغة القوة والسيادة والنزاهة على خنق المعارضة والتنوع.



اضف تعليق