تشير تطورات أخيرة إلى تحول أوسع في العلاقة الصينية الأميركية نحو التراجع عن العولمة، والتفتت الاقتصادي والمالي، وتفكيك سلاسل الإمداد والعرض. تنظر استراتيجية الأمن الوطني للبيت الأبيض لعام 2017 واستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية لعام 2018 إلى الصين باعتبارها \"منافسا استراتيجيا\" يجب احتواؤه. وتختمر التوترات...
بقلم: نورييل روبيني
نيويورك ــ ابتهجت الأسواق المالية مؤخرا بالأنباء حول توصل الولايات المتحدة والصين إلى اتفاق "المرحلة الأولى" لمنع المزيد من التصعيد في حربهما التجارية الثنائية. لكن ليس في الأمر ما يستحق الابتهاج والتهليل حقا. ففي مقابل التزام الصين المبدئي بشراء المزيد من السلع الزراعية الأميركية (وبعض السلع الأخرى)، والتنازلات المتواضعة بشأن حقوق الملكية الفكرية والرنمينبي، وافقت الولايات المتحدة على الامتناع عن فرض التعريفات على ما قيمته 160 مليار دولار أخرى من الصادرات الصينية، والتراجع عن بعض التعريفات التي فرضتها في الأول من سبتمبر/أيلول.
الخبر السار للمستثمرين هو أن الاتفاق تجنب جولة جديدة من التعريفات التي كانت لتدفع الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي إلى الركود وتتسبب في انهيار أسواق الأسهم العالمية. أما النبأ السيئ فهو أن الاتفاق يمثل مجرد هدنة مؤقتة أخرى وسط تنافس استراتيجي أكبر كثيرا يشمل قضايا التجارة، والتكنولوجيا، والاستثمار، والعملة، وقضايا أخرى جيوسياسية. وسوف تظل تعريفات واسعة النطاق سارية، وربما يُـستأنَف التصعيد إذا تهرب أي من الجانبين من التزاماته.
من المحتمل، نتيجة لهذا، أن تزداد حدة الانفصال الصيني الأميركي بمرور الوقت، وهو أمر مؤكد بشكل خاص في قطاع التكنولوجيا. إن الولايات المتحدة تنظر إلى سعي الصين إلى تحقيق الاستقلال ثم التفوق في إنتاج التكنولوجيات المتطورة ــ بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس من الاتصالات، والروبوتات، والأتمتة (التشغيل الآلي)، والتكنولوجيا الحيوية، والمركبات الذاتية القيادة ــ باعتباره تهديدا لاقتصادها وأمنها الوطني. وفي أعقاب إدراج شركة هواوي (الرائدة في مجال الجيل الخامس من الاتصالات) وغيرها من شركات التكنولوجيا الصينية على القائمة السوداء، ستواصل الولايات المتحدة محاولة احتواء نمو صناعة التكنولوجيا في الصين.
سوف تكون تدفقات البيانات والمعلومات عبر الحدود مقيدة أيضا، مما يثير المخاوف بشأن "انقسام شبكة الإنترنت" بين الولايات المتحدة والصين. ونظرا لزيادة التدقيق من جانب الولايات المتحدة، فإن الاستثمار المباشر الأجنبي الصيني في أميركا انهار بنحو 80% بالفعل عن المستوى الذي بلغه في عام 2017. والآن تهدد مقترحات تشريعية جديدة بمنع صناديق التقاعد العامة في الولايات المتحدة من الاستثمار في الشركات الصينية، وتقييد استثمارات المشاريع الرأسمالية الصينية في الولايات المتحدة، وإجبار بعض الشركات الصينية على الخروج من أسواق البورصات الأميركية بالكامل.
كما أصبحت الولايات المتحدة أكثر تشككا في الطلاب والباحثين الصينيين المقيمين في الولايات المتحدة الذين ربما يسمح لهم وضعهم بسرقة الدراية التكنولوجية الأميركية أو الانخراط في عمليات تجسس صريحة. ومن جانبها، ستسعى الصين على نحو متزايد إلى التحايل على النظام المالي الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وحماية ذاتها من استخدام الدولار كسلاح من جانب أميركا. لتحقيق هذه الغاية، ربما تخطط الصين لإطلاق عملة رقمية ذات سيادة، أو إيجاد بديل لجمعية الاتصالات المالية العالمية (SWIFT) التي تتولى نظام الدفع عبر الحدود والتي يسيطر عليها الغرب. ربما تحاول الصين أيضا تدويل الدور الذي تلعبه منصة Alipay ومنصة WeChat Pay، المنصتان المتطورتان للمدفوعات الرقمية اللتان حلتا بالفعل محل أغلب المعاملات النقدية داخل الصين.
في كل هذه الأبعاد، تشير تطورات أخيرة إلى تحول أوسع في العلاقة الصينية الأميركية نحو التراجع عن العولمة، والتفتت الاقتصادي والمالي، وتفكيك سلاسل الإمداد والعرض. تنظر استراتيجية الأمن الوطني للبيت الأبيض لعام 2017 واستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية لعام 2018 إلى الصين باعتبارها "منافسا استراتيجيا" يجب احتواؤه. وتختمر التوترات الأمنية بين القوتين في مختلف أنحاء آسيا، من هونج كونج وتايوان إلى بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. وتخشى الولايات المتحدة أن يكون الرئيس الصيني شي جين بينج، بعد أن تخلى عن نصيحة سلفه دنج شياو بينج "بإخفاء القوة وانتظار الوقت المناسب"، قد شرع في انتهاج استراتيجية تقوم على التوسع العدواني. من ناحية أخرى، تخشى الصين أن تحاول الولايات المتحدة احتواء صعودها وإنكار مخاوفها الأمنية المشروعة في آسيا.
يتبقى لنا أن نرى كيف سيتطور هذا التنافس. يكاد يكون من المؤكد أن المنافسة الاستراتيجية غير المقيدة من شأنها أن تعمل في نهاية المطاف على تحويل الحرب الباردة المتصاعدة إلى حرب ساخنة، في ظل تداعيات كارثية على العالم. الأمر الواضح هو أن الإجماع الغربي القديم، الذي تخيل أن ضم الصين إلى منظمة التجارة العالمية واستيعاب نهضتها من شأنه أن يرغمها على أن تصبح مجتمعا أكثر انفتاحا واقتصادا أكثر حرية وعدالة، كان مجرد تصور أجوف. ولكن في عهد شي جين بينج، أنشأت الصين دولة مراقبة أشبه برواية جورج أورويل، وضاعفت جهودها في ترسيخ شكل من أشكال رأسمالية الدولة التي لا تتفق مع مبادئ التجارة الحرة النزيهة. وهي الآن تستخدم ثروتها المتنامية لاستعراض عضلاتها العسكرية وفرض نفوذها في مختلف أنحاء آسيا وحول العالم.
السؤال إذن هو ما إذا كانت هناك بدائل معقولة للحرب الباردة المتصاعدة. يدعو بعض المعلقين الغربيين، مثل رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفين رود إلى "منافسة استراتيجية موجهة". ويتحدث آخرون عن علاقة صينية أميركية مبنية على مزيج من "المنافسة والتعاون". على نحو مماثل، يوصي فريد زكريا من "سي إن إن" الولايات المتحدة بالسعي إلى كل من المشاركة والردع في التعامل مع الصين. هذه جميعها تنويعات على ذات الفكرة: يجب أن تتضمن العلاقة الصينية الأميركية التعاون في بعض المجالات ــ وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمنافع العامة العالمية مثل المناخ والتجارة والتمويل ــ مع قبول واقع المنافسة البنّاءة في مجالات أخرى.
تكمن المشكلة بطبيعة الحال في الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يبدو من الواضح أنه لا يفهم أن "المنافسة الاستراتيجية الموجهة" مع الصين تتطلب المشاركة والتعاون من منطلق حسن النوايا مع الدول الأخرى. ولتحقيق النجاح، تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل عن كثب مع حلفائها وشركائها لجلب نموذج المجتمع المفتوح والاقتصاد المفتوح إلى القرن الحادي والعشرين. قد لا يعجب الغرب برأسمالية الدولة الاستبدادية في الصين، ولكن ينبغي له أن يعكف على ترتيب أموره في الداخل أولا. ويتعين على الدول الغربية أن تسن الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتضييق فجوات التفاوت ومنع الأزمات المالية الضارة، فضلا عن الإصلاحات السياسية الضرورية لاحتواء ردة الفعل الشعبوية العنيفة ضد العولمة، في حين تظل متمسكة بسيادة القانون.
من المؤسف أن الإدارة الأميركية الحالية تفتقر إلى أي رؤية استراتيجية من هذا القبيل. ومن الواضح أن ترمب نصير سياسات الحماية، الأحادي القرار، وعدو الليبرالية يفضل استعداء أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها، مما يجعل الغرب منقسما وغير مجهز للدفاع عن النظام العالمي الليبرالي الذي أنشأه، أو إصلاحه. وربما يفضل الصينيون أن يعاد انتخاب ترمب في عام 2020. فربما يكون مصدر إزعاج في الأمد القريب، لكنه إذا قضى الوقت الكافي في منصبه، فسوف يدمر التحالف الاستراتيجي الذي يشكل الأساس الذي تقوم عليه القوة الأميركية الناعمة والصارمة. ومثله كمثل شخصية "المرشح المنشوري" في الحياة الحقيقية، فإن ترمب سوف "يجعل الصين عظيمة مرة أخرى".
اضف تعليق