q
فعلى الصعيد الميداني، دخلت وقتها الطائرات الإسرائيلية الى الأجواء العراقية مستفيدة من بقعة فضائية صغيرة تدعى (البقعة العمياء) خارجة عن تغطية منظومة الدفاع الجوي العراقية عند الحدود العراقية السعودية، واستطاعت الهيمنة على الفضاء العراقي وامتلاك الوقت الكافي لتدمير المفاعل النووي من دون علم وإزعاج من منظومة الدفاع الجوية العراقية...

اضطرب اداء اجهزة الطرد المركزية فجأة، في مفاعل “نانتيز” الايراني، خلال احد ايام العام 2010، وتزايدت سرعة دورانها بمعدلات جنونية؛ الامر الذي أدى الى خرابها وتعطيل البرنامج النووي الإيراني لفترة تقدر بعامين؛ جراء فايروس يسمى “ستوكسنيت” تم إدخاله بشكل مقصود في منظومة الادارة الالكترونية للمفاعل.

وعلى الرغم من صعوبة تحديد الجهات الفاعلة من النواحي الفنية والقانونية، الا ان أصابع الاتهام توجهت حينها لأميركا وإسرائيل؛ بسبب الخصومة التقليدية.

وقبل ذلك بسنوات.. أي العام 1998، تعطلت أنظمة الدفاعات الخاصة بالطائرات في سيبيريا؛ إثر اختراق تخريبي، بواسطة فايروس الكتروني اتهمت الولايات المتحدة الأميركية بتنفيذه.

وفي سياق هذه الهجمات الالكترونية، تعرضت المواقع الحكومية الاسبانية، في العام 2007 لهجوم شل مفاصلها بشكل خطير وتوجهت الاتهامات الى روسيا، في هذا الحدث، واتهامات مماثلة تخص اختراق روسيا لأنظمة الانتخابات في اكثر من بلد غربي.

وفي العام 2012 تعطلت تماماً المنظومة الإلكترونية لادارة شركة أرامكو السعودية للنفط بواسطة فيروس سبب لها خسائر فادحة.

تندرج تلك العمليات في إطار ما يسمى بـ “حروب الجيل السادس 6GW “ وهو مصطلح يشير الى النهج المتبع خلال الفترة الحالية في الخصومات بين الدول والمؤسسات المتضمن إحداث أقصى درجات الأذى في صفوف الخصوم عن بعد، وهو مصطلح أطلقه لأول مرة الجنرال الروسي فلاديمير سليبتشينك، عبر فيه عن استخدام الدول لأنظمة تسليح عالية الدقة، كما حدث في الحرب على العراق العام 1991وحروب يوغسلافيا وأفغانستان، ولكنه تطور بعد ذلك بسرعة، مع تطور التقنيات الرقمية، ليتعدى استهداف الجيوش الى استهداف المنظومات الإدارية للعدو، المتعلقة بجوانب حياة أفراده ومؤسساته اليومية.

وهي حروب يُدار الكثير منها عن بُعد، بأساليب عدة، تنتج عنها أضرار اقتصادية او نووية او صناعية او خدمية او معلوماتية جسيمة، تستهدف مجموعات أو أشخاصاً، وهذا ما يُطلَق عليه مصطلح( No contact warfare).

“حروب الجيل السادس” ويأتي في سياق تطور الحروب بصورة عامة، حيث مثل الجيل الاول منها الحروب التقليدية بين جيوش نظامية اعتمدت المواجهة المباشرة على أرض المعركة بالأسلحة التقليدية، ومثل الجيل الثاني منها الحروب التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، وتغيير النظام الدولي وظهور الثنائية القطبية وحالة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، حيث برزت التكنولوجيا بشكل متطور على الساحة، وأصبحت هناك أسلحة نارية تقتل عن بعد بشكل بالغ القوة والدقة والخطورة، متميزة بتنوع الساحات كستراتيجية قتالية للقطبين من خلال حروب الوكالة تجنباً للاشتباك المباشر الذي يقود الى الدمار الكبير. وجاء الجيل الثالث منها بهيئة الحرب الاستباقية أو الوقائية، كما بينتها ستراتيجية الردع الوقائي الأميركية خلال العقد الاول من القرن الحالي، والتي نصت على إمكانية تنفيذ ضربات على الأهداف استباقياً في أكثر من دولة؛ لتحقيق مصالح محددة بالتعاون مع الحلفاء، تلى ذلك ظهور الجيل الرابع من الحروب المسماة بـ “الحروب غير المتماثلة” بعد الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تكبدها الاقتصاد الأميركي نتيجة الحرب على الإرهاب في العالم وغزو العراق وأفغانستان، وهي حروب تتم بأقل التكاليف وأقصى الأرباح، متميزة بعدم المركزية بين أسس أو عناصر الدول المتحاربة من قِبل دول أخرى، وتعتمد أركانها على: الحرب بالإكراه وإفشال الدولة وزعزعة استقرار الدولة ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح المبتغاة.

حروب الجيل الخامس تدعى “الحروب الهجينة” وفيها يتم دمج أنماط القتال المعروفة، بما في ذلك: القدرات التقليدية، والتكتيكات والتشكيلات غير المنظمة واستخدام الجماعات من خلال السيطرة على العقول قبل الأرض.

وفي هذا النمط من الحروب توظف صراعات الجماعات العقائدية المسلحة وغيرها، من أجل استنزاف الخصم وتسهيل مهمة تحقيق الأهداف. وفي حروب الجيل السادس لا تلجأ بالضرورة الأطراف المتحاربة لطائرات وصواريخ وقنابل، كما كانت تفعل خلال الحروب السابقة لاستهداف منشآت العدو، بفضل ما توفره التقنيات الحديثة من إمكانات اختراقية لمنظومات الأطراف المعادية، وتخريب منشآتها وبناها التحتية، مثل شبكات توزيع المياه او الكهرباء او المصارف وغيرها، من اي مكان في العالم وفي اي وقت. حروب الجيل السادس هذه، ليست جديدة على العراق والمنطقة العربية، فقد عرف العراق ملامحها مبكراً في العملية الشهيرة المسماة (أوبيرا) التي نفذها الطيران الاسرائيلي في ضرب مفاعل تموز العام 1981، حين تركزت فكرة التنفيذ حول سيطرة سلاح الجو الاسرائيلي، على عاملي (الفضاء والوقت) بآن واحد خلال فترة الهجوم.

فعلى الصعيد الميداني، دخلت وقتها الطائرات الإسرائيلية الى الأجواء العراقية مستفيدة من بقعة فضائية صغيرة تدعى (البقعة العمياء) خارجة عن تغطية منظومة الدفاع الجوي العراقية عند الحدود العراقية السعودية، واستطاعت الهيمنة على الفضاء العراقي وامتلاك الوقت الكافي لتدمير المفاعل النووي من دون علم وإزعاج من منظومة الدفاع الجوية العراقية.

وفي السياق ذاته نفذ الطيران الاسرائيلي في أيلول 2007، عملية مماثلة اطلق عليها (اورجارد) استهدفت تدمير المفاعل النووي السوري في منطقة دير الزور من خلال استخدام تقنيات (الذكاء الالكتروني ELINT) لاختراق منظومة الدفاع الجوي السورية والهيمنة على الفضاء السوري.

حروب الجيل السادس وأضرارها الكارثية دفعت دول العالم الى استحداث وحدات وطنية للدفاع الالكتروني؛ لحماية مصالحها الحيوية وضمان أمن وسلامة شعوبها.

تلتقي عقيدة حروب الجيل السادس مع قاعدة الحرب الصينية التي وضعها “سون تروز” قبل اكثر من عشرين قرناً في كتابه (فن الحرب) والتي تنص: “الحروب تستند الى الخذلان، فعندما نكون جاهزين للهجوم؛ يتوجب علينا ان نبدوا على خلاف ذلك، وعندما نستخدم القوة يجب ان نتصرف بخمول، وعندما نهم بالاقتراب من الخصم يجب ان نظهر وكأننا بعيدون عنه وعندما نبتعد عنه علينا ان نقنعه بأننا

قريبون. وفي ظل تراجع أهمية الأسلحة التقليدية التي تعتمد على القوى البشرية، امام تقدم التقنيات الرقمية الحديثة التي تعتمد على نسب الذكاء العالية والمهارات العقلية للأفراد، تسعى الدول الى رعاية الأذكياء والموهوبين، وتوظيف إبداعاتهم في مجال تعزيز منظومات أمنها الوطني، والحفاظ على وتيرة التنمية من خلال انشاء مراكز متخصصة للدفاع الالكتروني، كما حدث في اميركا وفرنسا والصين وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل وغيرها، الامر الذي يدفعنا الى التساؤل عن موقع العراق في ساحات حروب الجيل السادس ومشاريعه المستقبلية في هذا

المجال.

* أستاذ في كلية الهندسة بجامعة الكوفة

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق