تدرك القوى العظمى أن قدرتها في تعزيز مكانتها الدولية وتحسينها انما يرتبط في أحد أوجهه بقدرتها تعزيز نفوذها في المناطق المختلفة من العالم، ولا سيما المهمة منها التي تتميز بأهمية موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية، فضلاً عن أهميتها السياسية والإستراتيجية.
وتُعد منطقة الشرق الأوسط إحدى أهم المناطق في العالم بما تتميز به من موقع جغرافي وموارد طبيعية وأهميتها السياسية والإستراتيجية. إذ تتوافر منطقة الشرق الأوسط على الكثير من الموارد وفي مقدمتها النفط والغاز، وهو ما جعلها تحظى بأهمية كبيرة وأولوية متقدمة في إستراتيجيات القوى العظمى والكبرى. إذ أنها تتوافر على كميات كبيرة من إحتياطي النفط والغاز، فضلاً عن نسبة ما تنتجه منهما. وتمتلك الدول العربية من إحتياطي النفط للعام 2015 ما يزيد على نصف الإحتياطي العالمي من النفط، ويبلغ مقدار ما تنتجه الدول العربية من النفط نحو ثلث الإنتاج العالمي. أما إحتياطي الدول العربية من الغاز للعام 2015 فهي تزيد قليلاً عن ربع الإحتياطي العالمي.
ولهذا فإن التنافس على النفوذ في المنطقة بين تلك القوى لا زال قائماً وبقوة. وتمثل فترة الحرب الباردة الصورة الأوضح للتنافس على النفوذ في المنطقة بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة كل طرف الإستحواذ على أكبر قدر ممكن من النفوذ في المنطقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا زالت تعمل لتكون صاحبة النفوذ الأكبر وربما الأوحد في المنطقة، وعدتها منطقة مصالح حيوية لها. وفي سبيل ذلك تعمل على منع أية دولة تطمح بأن يكون لها نفوذ في المنطقة، ومن هذه الدول وفي مقدمتها روسيا.
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية كل محاولة من قبل روسيا للتدخل في قضايا المنطقة مساساً بمصالحها وتقويضاً للترتيبات التي وضعتها في المنطقة، وهو ما يعني تراجع الدور الأمريكي في المنطقة. وهو ما عبر عنه هنري كيسنجر في مقال له بعنوان "السبيل لتجنب إنهيار الشرق الأوسط" في صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 16 تشرين الأول 2015، إذ اعتبر التدخل الروسي في سوريا أدى إلى فوضى بالمنطقة، كما أنه يرى أن البنية الجيوسياسية للمنطقة إنهارت نتيجة للتدخل العسكري الروسي في سوريا، وهو ما يعده مؤشراً على "تفكك الدور الأمريكي في تحقيق الإستقرار للنظام الشرق أوسطي"، الذي تشكل بعد الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1973. بل أن كيسنجر يصف التدخل العسكري الروسي في سوريا بأنه أبرز تحدي واجهته السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط منذ سبعينات القرن الماضي.
روسيا من جانبها ترى في الضربة العسكرية الأمريكية للقاعدة الجوية السورية بأنها تصعيد غير مبرر. إذ عبر رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف عن موقف روسيا من هذه الضربة التي عدها إنتهاك للقانون الدولي، معتبراً أنها كادت تؤدي إلى الإشتباك بين الولايات والجيش الروسي، إذ عبر عن ذلك بالقول أنها "وضعت واشنطن على شفا الإشتباك مع الجيش الروسي".
ويمكن أن نتصور من خلال ما سبق ذكره، من رؤية أمريكية لتدخل روسيا في سوريا ورؤية روسيا للضربة الأمريكية لسورية، كيف ينظر كل طرف إلى السياسات والخطوات التي يتخذها الطرف الأخر في سوريا لتغير الأوضاع الميدانية لصالحه، ومن خلالها يمكن معرفة كيف يؤثر ذلك على علاقة الطرفين التنافسية في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة كل منهما أن يكون له الدور الأبرز في قضايا لمنطقة وتحديد مساراتها.
وتصر الولايات المتحدة الأمريكية في موقفها من القضية السورية على عدم تأييدها بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، وأنها تؤيد نظاماً سياسياً يتبنى الديمقراطية، وفق إدعائها. غير أن موقفها بهذا الخصوص تميز بعدم الثبات، إذ أنها تراجعت عن شرط رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، وهو الموقف الذي عبرت عنه ممثلة الولايات المتحدة الأمريكية في منظمة الأمم المتحدة نيكي هيلي بقولها "إن رحيل الرئيس بشار الأسد لا يشكل أولوية لدى واشنطن". لتعود مرة أخرى لتتحدث عن عدم إمكانية تحقيق التسوية السياسية في سوريا مع وجود الرئيس بشار الأسد في السلطة.
وفيما يتعلق بالموقف الروسي من القضية السورية فإنه يستند إلى ما تمثله سوريا من مصالح بالغة الأهمية لروسيا، ولهذا فإن خيار التدخل الروسي في سوريا لصالح النظام الحاكم والدولة السورية هو خيار إستراتيجي تمليه مصالح روسيا كقوة كبرى وتسعى لإستعادة مكانتها كقوة عظمى على المستوى الدولي. إذ أن سوريا حليفاً قوياً لروسيا في المنطقة والحفاظ عليها بنظامها الحاكم يساعد كثيراً في تحقيق هدف التوازن مع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، كما أنه يعزز ويقوي موقف روسيا التفاوضي في قضايا أخرى في مناطق أخرى مهمة لروسيا، كما في القضية الأوكرانية.
فروسيا تدرك أن نجاحها في الحضور بقضايا إقليمية وقدرتها في فرض رؤيتها للحل، ومن ثم التأثير في التوازنات الإقليمية، من شأنه تعزيز فرصها في إستعادة مكانتها الدولية. إذ أن القوى العظمى والكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وغيرهم، لا يقبلون طواعية التعامل مع روسيا كقوة عظمى إلا إذا فرضت روسيا عليهم هذا الدور بقدرتها في التأثير بالتوازنات الإقليمية والدولية.
كما أن التدخل الروسي في سوريا بهدف تمكين نظام بشار الأسد والدولة السورية من مقاومة الإرهاب والقضاء عليه يأتي في إطار تحقيق هدف مشترك وهو القضاء على الإرهاب. إذ أن بقاء النظام والدولة السورية قوية ضمان لعدم إنتشار الفوضى في سوريا، فمثل هذه الفوضى يمكن أن تشكل خطراً على روسيا من جهة تمكن الإرهاب من الوصول إلى بعض المناطق القريبة من الحدود الروسية.
وقد نجحت روسيا في تحقيق أهداف إستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، فهي نجحت في تأكيد حضورها في قضايا المنطقة، وكذلك نجحت في تحقيق مقبولية لدورها في المنطقة من قبل أغلب دول المنطقة، إن لم يكن جميعها باستثناء الذين أحبطت مشاريعهم بفعل التدخل الروسي.
ومن المؤشرات على النجاح الروسي في المنطقة هو تمكنها من تعزيز علاقاتها مع عدد من دول المنطقة، كما في علاقتها مع سوريا وإيران، وكذلك مع مصر، وعلاقتها مع العراق وإبداء إستعدادها لدعم العراق، وغيرها من دول المنطقة. ولعل آخرها ما جاء في خطاب أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني في تموز 2017 الذي أشار فيه إلى تبني بلاده رؤية إقتصادية جديدة وتقوية الشراكة مع عدد من الدول أهمها روسيا، والتي ستكون من أهم الشركاء الإقتصاديين لقطر في المرحلة المقبلة. وهو ما انعكس بشكل إيجابي على وضع روسيا في المنطقة.
كل ذلك كان لصالح تعزيز نفوذ روسيا في المنطقة، لاسيما بعد نجاحها في مساعدة سوريا في حربها ضد الجماعات الإرهابية، وكذلك لصدق موقفها في القضاء على الإرهاب.
ومما لا شك فيه أن تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة وأدائها دوراً محوريا في بعض قضايا المنطقة من شأنه أن يؤثر في تراجع الدور الأمريكي في المنطقة.
اضف تعليق