إن الفصل بين الذات والموضوع لا يوجد تقريبا في العلوم الإنسانية والاجتماعية وغالبا ما يجري الانتصار للذات في هذه العلوم بناء على وجود وجهات نظر إنسانية مختلفة، في حين أن فصلا كهذا معدومٌ تقريبا في العلوم المادية؛ فالحديد يتمدد بالحرارة عند المؤمن والملحد على السواء وهو بهذا المعنى لا يقبل بأكثر من وجهة نظر واحدة...
هناك متشددون يستكثرون إطلاق كلمة "علم" على العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، ومن هؤلاء لاسيما بعض الأطباء من لا يطاوعه لسانه على مخاطبة حامل شهادة الدكتوراه في العلوم آنفة الذكر بعبارة: "يا دكتور" وغالبا ما يستعيض عنها بـ "يا أستاذ"، وفي هذا السياق ثمة "يوتيوبر" نال شهرة أو " طشة" واسعة جدًا بين العراقيين بسبب تبنيه لفكرة: أن العلوم الإنسانية وكذا العلوم الاجتماعية إنما هي مؤامرة استعمارية يجب مقاومتها! والكشف عن ظلاميتها!
لا شك في أنّ التعامل مع العلوم الإنسانية وحاملي شهاداتها العليا بالطريقة التي نقلنا شطرًا من مواصفاتها يدخل ضمن الأعمال شديدة التعسف التي تُمارس للأسف الشديد من طرف بعض المحسوبين على العلم والعلماء خاصّة في مجال العلوم التطبيقية أو العلوم الصرفة؛ ونظرة الاستعلاء بين أصحاب التخصصات العلمية بعضهم ضد بعضهم الآخر يتوجب أن تنتهي إلى الأبد إذا ما كان الغرض هو بلوغ عتبة متقدمة أكاديميًا.
أمّا النظر إلى العلوم الإنسانية بوصفها مؤامرة غربية ضد العالم العربي أو الإسلامي كما يتبنى ذلك " اليوتيوبر" العجيب الذي أشرنا لها سابقًا ولا نودّ التصريح باسمه "احترامًا" لجمهوره فهذه سفسطة بدائية لا ترقى " شبهتها" إلى أي سند منطقي؛ ذلك أن العلوم الإنسانية تضم طيفا واسعا من التخصصات اللازمة للوجود البشري.
وفي مقدمة تلك العلوم كما هو معلوم: التاريخ، والفلسفة، وعلما النفس والاجتماع، والانثروبولوجيا، واللغويات والآداب، والفنون، والجغرافيا البشرية، وكذلك العلوم السياسية والقانونية. ومكمن الفرق بين العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة، والعلوم الطبيعية من جهة أخرى يتمثل في أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تركز على الإنسان كـ (كائن ثقافي وروحي وأخلاقي) في حين تركز العلوم الطبيعية على قوانين الطبيعة، والمادة، على أن العلوم الطبيعية في جملتها ذات أثر تواصلي محدود في حين أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تمتد على رقعة تواصلية هائلة للغاية، لاسيما في سياق فهم الثقافات والهويات للأمم والمجتمعات، ومعرفة كيفية تطورها عبر الزمان والمكان، وهي بذلك تعزز التفاهم الإنساني من ناحيتي التعاون والتفاعل ومن ثم تحقيق مآرب التعايش السلمي العالمي، وتحفيز الإبداع والفنون بنحو عام تجاه تشكيل الحياة الثقافية، فضلا عن صيانتها للتراث البشري وإثراء الوعي الجمعي الخاص بفهم الماضي وتفهمه...
وفي الدول المتقدمة ثمة تقاليد راسخة هناك تُبقي على العلاقة الحميمة بين التخصصات العلمية المختلفة؛ إذ يثابرون باستمرار على بناء فرق بحثية من خلفيات علمية مختلفة للعمل معًا في مشروعات كبرى، من ذلك دراسة تغير المناخ، وتصميم السياسات العامة المتعلقة بالصحة أو التعليم أو الطاقة حيث اجتماع علماء الفيزياء والطب مع مختصين في علم الاجتماع أو الاقتصاد أو الفلسفة الأخلاقية...الخ.
وأبرز الأمثلة على هذا التوجه التعاون الجاري حاليا بين لغويين وعلماء حاسوب لتحسين التواصل اللغوي بين الإنسان والآلة، وبخلاف الحال لدينا فعادة ما يجري التعاون على أوسع نطاق في جامعات الغرب المتقدم بين التخصصات العلمية المختلفة كما في جامعتي ستانفورد، وأكسفورد؛ إذ بإمكان طالب في علم النفس مثلا أن يعمل مع فيزيائي أو مبرمج على مشروع واحد!
وعلى نحو الإجمال يتميّز التعاون بين اللغويين وسائر المتخصصين في علم النفس، والاجتماع، والسياسة، وطب الأعصاب في الدول المتقدمة بالطابع التداخلي التخصصي (Interdisciplinary) قصد تحقيق فهم أعمق وشامل للغة بوصفها ظاهرة معقّدة، وانعكاس هذه الظاهرة على أبعاد الإنسان الأخرى اجتماعيةً وسياسيةً ونفسيةً وعصبية، وبقدر ما يتعلق الأمر بعلم اللغة السياسي فإنه معني في المقام الأول بتحليل الخطاب السياسي، وآليات الإقناع الإعلامي بما يكشف عن أثر اللغة في نطاق السلطة والإطار الآيدلوجي.
أمّا علم اللغة العصبي فيبحث في العلاقة بين اللغة والدماغ مشخصًّا الاضطرابات اللغوية العصبية كالحبسة مثلا مما يفيد في إيجاد وسائل مبتكرة غير تقليدية لعلاج المرضى وإعادة تأهيلهم...
على أن القواسم المشتركة التي تجمع التخصصات العلمية كافة لا تعني نفي خصوصية كل علم من تلك العلوم المختلفة، ولتوضيح هذه النقطة فإن الفصل بين الذات والموضوع لا يوجد تقريبا في العلوم الإنسانية والاجتماعية وغالبا ما يجري الانتصار للذات في هذه العلوم بناء على وجود وجهات نظر إنسانية مختلفة، في حين أن فصلا كهذا معدومٌ تقريبا في العلوم المادية؛ فالحديد يتمدد بالحرارة عند المؤمن والملحد على السواء وهو بهذا المعنى لا يقبل بأكثر من وجهة نظر واحدة!
اضف تعليق