ظل الباحثون حتى وقتنا هذا ينظرون إلى الأحياء الدقيقة على أنها كائنات جديرة بالدراسة، أو على أنها مصادر للتلوث على متن محطات الفضاء؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن لتلك الكائنات المساعدة في إطالة أمد الرحلات الفضائية؟...
ظل الباحثون حتى وقتنا هذا ينظرون إلى الأحياء الدقيقة على أنها كائنات جديرة بالدراسة، أو على أنها مصادر للتلوث على متن محطات الفضاء؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن لتلك الكائنات المساعدة في إطالة أمد الرحلات الفضائية؟
في الخامس والعشرين من يوليو عام 2019، انطلقت رحلة فضائية تحمل على متنها كائنات حية دقيقة من قاعدة كيب كانافيرال بولاية فلوريدا الأمريكية، في طريقها إلى محطة الفضاء الدولية على ارتفاع نحو أربعمائة كيلومتر من الأرض. وكانت المهمة المسندة إلى تلك الكائنات جريئة، ألا وهي: استخراج البازلت في مدار أرضي منخفض لم يسبق لأية كائنات حية الذهاب إليه لإجراء مهام تعدينية.
وبعد خمسة أيام من إقلاع الرحلة الفضائية، تولى رائد الفضاء لوكا بارميتانو مهمة تفريغ عبوات الخراطيش المحملة بالميكروبات وتثبيتها في حاضنة. وُضعت البكتيريا في وسط نمو سائل، إضافة إلى صخور البازلت الأيسلندي التي يأمل القائمون على التجربة من مواقعهم في المحطات الأرضية أن تتمكن تلك الأحياء الدقيقة من استخراج عناصر أرضية نادرة ثمينة منها1.
كان الشغل الشاغل لبارميتانو، رائد الفضاء بمقر وكالة الفضاء الأوروبية في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، عند التفكير في تلك الميكروبات هو الضرر الذي يمكن أن يصيبه بسببها وكيف يمكنه الحيلولة دون قيامها بتلويث بيئات خالية من أية صورة من صور الحياة، مثل القمر. إذ يرى علماء، مع إقدام وكالات فضاء على استكشاف نقاط أبعد من المدار الأرضي المنخفض لمحطة الفضاء، أن تلك الميكروبات ستكون جاهزة ومهيئة للاضطلاع بأدوار ومسئوليات جديدة ومفيدة، من بينها، على سبيل المثال، استخراج عناصر معدنية نافعة، وصناعة مواد غذائية وأدوية، ووضع اللبنات الأساسية لإنشاء موائل في الفضاء.
فتقول اختصاصية علم الأحياء الدقيقة الفلكي روزا سانتومارتينو، المديرة المشاركة لمركز المملكة المتحدة للبيولوجيا الفلكية في جامعة إدنبرة، والتي شاركت في تنظيم الدراسة التي أُرسلت الميكروبات في إطارها إلى الفضاء في عام 2019: "يمكن لتلك الكائنات المجهرية أداء مهام عديدة ومختلفة لصالح البشر. ولا شك أنها بالأخص ستحظى بأهمية بالغة في سياق التجارب الفضائية طويلة الأمد التي تُجرى على مسافات بعيدة من الأرض".
يرجع السبب في ذلك إلى أنه كلما سافر رواد الفضاء لمسافات أطول وأبعد، أصبح شحن جميع الإمدادات التي سيحتاجون إليها أشد صعوبة وأكثر تكلفة. وجدير بالذكر أن محطة الفضاء الدولية ستغلق أبوابها في عام 2030؛ إلا أن محطة الفضاء المعروفة باسم «لونار جيتواي» Lunar Gateway، التي يُعتزم أن تتخذ مدارًا حول القمر، ستفتح أبوابها في عام 2028 أو نحو ذلك. كذلك تلوح في الأفق احتمالية إرسال محطات مشابهة إلى المريخ، وربما إلى كويكبات. ولذا، يبحث مخططو تلك الرحلات حاليًا عن طرق ووسائل لصنع احتياجاتهم باستخدام المواد المتاحة بالفعل في الوجهات التي سيذهبون إليها، وكذلك عن طريق إعادة تدوير النفايات.
ومن الممكن أن تشكل الميكروبات، التي أفضى بها التطور على سطح كوكبنا الأرضي إلى تمتعها بالقدرة على إجراء جميع أنواع العمليات الكيميائية التحويلية، أوراقًا رابحة بالغة الأهمية في أبحاث كتلك. بيد أننا ما زلنا نجهل الكثير حول الكيفية التي ستتفاعل بها تلك الميكروبات مع الظروف القائمة في الفضاء بل إن حتى التجارب البسيطة في هذا الإطار قد يصعب إجراؤها.
تقول شيريل نيكرسون، عالمة الأحياء الدقيقة من جامعة ولاية أريزونا في مدينة تيمبي الأمريكية: "ما زلنا بحاجة لبذل كثير من الجهود للوقوف على السلوك الذي ستنهجه الميكروبات في الفضاء، وعلى ما ستعجز عن القيام به، وعلى الكيفية التي يمكننا بها أن نستحثها على فعل ما نريده منها".
ميكروبات متعددة الوظائف
يتوقع الباحثون أن تنهض الميكروبات المحمولة على متن البعثات الفضائية بعدد لا يحصى من مهام هذه البعثات. وتشمل هذه المهام، ضمن جملة أمور أخرى، إنتاج الأكسجين الصالح للتنفس وتنقية المياه الصالحة للشرب وتوفير العناصر المغذية لإنبات المحاصيل. من هنا، تدرس لين روتشيلد، عالمة البيولوجيا التخليقية بمركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا، ومقره موفيت فيلد بولاية كاليفورنيا الأمريكية، نوعًا من أنواع بكتيريا التربة يُعرف باسم العصوية الرقيقة Bacillus subtilis. وتتميز العصوية الرقيقة، وهي من الميكروبات القوية القادرة على تكوين جراثيم طويلة الأمد، بأنها تستطيع البقاء على قيد الحياة في ظروف السفر الشاقة إلى الفضاء. وتأمل روتشيلد في هندسة ذلك النوع من البكتيريا بحيث يمكنه معالجة المركبات السامة المسماة بالبيركلورات التي توجد بشكل طبيعي في مصادر المياه الموجودة على كوكب المريخ، إلى جانب استغلالها في إنتاج الأدوية.
ومن المرجح أن يحتاج رواد الفضاء إلى أكبر عدد ممكن من الأدوية أثناء بعثتهم إلى المريخ التي قد تستغرق ما يقرب من ثلاث سنوات، منها 18 شهرًا تستغرقها الرحلة إلى الكوكب الأحمر، إلى جانب الوقت الذي سيمضيه رواد الفضاء على سطح الكوكب في العمل وفي انتظار اصطفاف الكواكب تمهيدًا لرحلة العودة إلى الأرض. على سبيل المثال، ربما تصبح الأدوية التي من شأنها تعويض الضرر الذي يلحق بعظامهم من الإشعاع الشمسي في متناول أيديهم بتلك الطريقة. فتقول روتشيلد: "لا يمكن أن تأخذ معك صيدلية بأكملها على متن المركبة الفضائية؛ وحتى لو استطعت، فستنتهي مدة صلاحية الأدوية مع طول الرحلة". وتأمل روتشيلد وغيرها من العلماء والباحثين في هندسة ذلك النوع من البكتيريا لإنتاج أية أدوية يحتاجها رواد الفضاء، بحسب الطلب وعلى امتداد الرحلة بأكملها.
وفي حين تتوقع روتشيلد اصطحاب رواد الفضاء لمجموعة متنوعة من جراثيم العصوية الرقيقة المجففة التي ستكون جاهزة ومهيأة لإعادة إحيائها لتنتج الأدوية، يدرس العلماء بجامعة كاليفورنيا في بيركلي حاليًا مجموعة أخرى من الميكروبات تسمى البكتيريا الزرقاء. وبإمكان هذا النوع من الكائنات الدقيقة النهوض بعملية التمثيل الضوئي؛ ومن ثمَّ فإنها ستستخدم ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون الموجودين بالفعل في الغلاف الجوي للمريخ، لتنتج من خلال عملية التمثيل الضوئي عنصرًا آخر سيحتاجه رواد الفضاء، ألا وهو الأكسجين.
وقد نجح اختصاصي الهندسة البيولوجية آدم أركين من جامعة بيركلي مع فريقه البحثي في هندسة نوع من البكتيريا الزرقاء Arthrospira platensis، المعروفة بشكل شائع باسم «السبيرولينا» spirulina، بحيث يمكنها تصنيع مسكنات الألم من نوع الباراسيتامول (الأسيتامينوفين)2. ولا تتطلب هندسة هذا النوع سوى إضافة اثنين من الجينات، أحدهما مأخوذ من بكتيريا والآخر من فطر، لكي تصبح السبيرولينا قادرة على تحويل حمض التيروزين الأميني إلى دواء. ويتكهن أركين بأنه إذا تمكن العلماء من جعل الميكروبات تنتج ما يكفي من تلك الأدوية، فسيصبح بمقدور رواد الفضاء الاستغناء عن عملية التنقية الكيميائية وتناول الميكروبات مباشرة - في كوب عصير، كما يشير أركين – بهدف تسكين آلام الصداع. إلا أن الباحث يقر بوجود عقبة كؤود ذات صلة بالتذوق. يقول عن ذلك: "ستتناول حينذاك كميات كبيرة من السبيرولينا. وأؤكد لك أنه لا يوجد من يريد تناول الكثير من السبيرولينا؛ فهي كريهة المذاق بصورة لا مثيل لها".
الإسمنت القمري
يمكن للميكروبات أيضًا إنتاج مواد البناء، بل والموائل ذاتها. على سبيل المثال، تسعى روتشيلد إلى استخدام الفطريات في مجال بناء المساكن، أو ما يطلق عليه فريقها البحثي الهندسة المعمارية الفطرية3. إذ يمكن للفطريات تحويل المواد الخام، مثل الرقائق الخشبية أو حتى أي نوع من الهيدروجيل المغذي، إلى خيوط طويلة تسمى الخيوط الفطرية. وسيكون لهذه المادة مزايا متعددة، من بينها حجب الإشعاع والضوضاء والمقاومة النسبية للحرائق. وتفيد روتشيلد بأن هذه المادة تمنح أيضا شعورا "بالدفء"، على غرار ألواح الخشب المضغوط التي تستخدم في تغطية أرضيات الغرف، كما أنها تخلق أجواء منزلية أكثر من الجدران الفولاذية على سبيل المثال. وتفترض روتشيلد وفريقها البحثي على سبيل التخيل إمكان إرسال موائل إلى الفضاء في صورة قوالب مطاطية مزروعة مسبقًا بالفطريات وغذائها؛ فلا يتطلب الأمر سوى إضافة الماء والأكسجين، ومن ثم تضطلع الفطريات ببقية الأعمال.
ويفكر ألوك كومار، المهندس الميكانيكي من المعهد الهندي للعلوم في بنجالور، في استخدام مادة بناء تقليدية بدرجة أكبر، ألا وهي الطوب. إذ لاحظ أن الحطام الصخري، وهو مصطلح يشير إلى الصخور السائبة والغبار اللذين يعلوان الطبقة الصخرية لكوكب المريخ والقمر، يتشكل في أغلبه من رمال وليس من طين، بل إنه لا يوجد طين على الإطلاق على سطح القمر. من ثمَّ، فإننا بحاجة إلى المساعدة لكي يمكن لصق قوالب الطوب بعضها ببعض، كما هو الحال في عملية البناء التقليدية. من هذا المنطلق قدم كومار مقترحا يتلخص في الحصول على المساعدة المطلوبة من نوع من البكتيريا العصوية يسمى Sporosarcina pasteurii. يوجد هذا النوع من البكتيريا في مياه الصرف الصحي وفي أنواع مختلفة من التربة وبإمكانه تحويل اليوريا الموجودة في التربة إلى أيونات الكربونات. وقد استخدم المهندسون على سطح الأرض هذا الكائن الحي في إصلاح الضرر الذي يلحق بالتربة وكذلك في إنتاج الحجر الجيري اللازم لصناعة الإسمنت الحيوي من خلال المزج بين الكربونات وأيونات الكالسيوم.
أجرى الفريق البحثي الذي يقوده كومار تجربة تتضمن المزج بين ذلك النوع من الميكروبات وملح الكالسيوم وبين عينات محاكية للحطام الصخري الذي يغطي تربة القمر أو المريخ4 تتوفر لدى وكالات الفضاء الحكومية والموردين التجاريين. وبعد خمسة أيام من بدء التجربة، نجحت الميكروبات في صناعة الطوب، وإن لم يكن متقن الصنع بما يكفي. إذ يقول كومار: "وجدت أنه بإمكاني تفتيت هذا الطوب بين أصابع يدي".
فكر كومار في أنه ربما يكون من المفيد إضافة مادة طبيعية إلى ذلك المزيج؛ ومن ثمَّ، استقر عزم الفريق على إضافة صمغ الجُوار، وهو عبارة عن مادة رابطة تضفي سمكًا تُستخدم في تطبيقات عديدة مثل المنسوجات ومستحضرات التجميل. وأدت إضافة ذلك النوع من الصمغ بنسبة 1% إلى إنتاج نوعية أكثر صلابة من "الطوب الفضائي" كما أسماه فريق البحث. وبحسب وجهة نظر كومار فإن إضافة ذلك الصمغ إلى الحطام الصخري الذي يتميز بقوام رملي جعلته أكثر ملاءمة للعيش بالنسبة إلى تلك الميكروبات التي تتغذى عليه على الأرجح.
وإلى جانب التطبيقات والاستخدامات ذات الصلة بالهياكل والبني التركيبية، تأمل سانتومارتينو وفريقها البحثي في استخراج المعادن من الحطام الصخري باستخدام الميكروبات كذلك. إذ تُستخدم هذه الكائنات بالفعل على سطح كوكب الأرض لأجل استخلاص معادن مثل النحاس والذهب من الخام، ويعكف الفريق البحثي حاليًا على تقييم الإمكانات التي تتمتع بها تلك الكائنات المجهرية في استخلاص المعادن الأرضية النادرة التي تعد ضرورية ولازمة للتقنيات الحديثة مثل الهواتف المحمولة وتوربينات الرياح. كان السؤال الرئيس الذي واجه الفريق في تجربته، التي دشنتها محطة الفضاء الدولية في عام 2019، وتُعرف باسم «بيو روك» BioRock، هو ما إذا كانت الجاذبية الصغرى ستؤثر في قدرة بكتيريا التربة المعروفة باسم Sphingomonas desiccabilis على استخراج العناصر النادرة والفاناديوم من الصخور. من هنا، قارن الباحثون بين مستنبتات البكتيريا الموجودة على متن محطة الفضاء ذات الجاذبية المنخفضة وبين نظيرتها على سطح الأرض. كذلك استخدم بارميتانو أجهزة الطرد المركزي لمحاكاة الجاذبية على الأرض وعلى المريخ، إذ تبلغ جاذبية الكوكب الأحمر نحو ثلاثة أثمان جاذبية الأرض.
نجحت الميكروبات على مدى ثلاثة أسابيع قضتها في المستنبتات في استخراج كميات صغيرة من العناصر الأرضية النادرة من الصخور، على الأقل بما يكفي لإثبات صحة النظرية. إلا أن ما أثار دهشة الباحثين كان اكتشافهم أن الجاذبية لم يكن لها تأثير جوهري بالنسبة إلى بكتيريا Sphingomonas desiccabilis1. كان الباحثون قد توقعوا أنه في ظل انعدام الجاذبية، ستقل قدرة هذه الميكروبات على الامتزاج بوسائط النمو، الأمر الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى معاناة البكتيريا من سوء التغذية؛ إلا أنه على ما يبدو فإن تلك الكائنات الدقيقة قد استوفت احتياجاتها الغذائية بطريقتها الخاصة. بيد أن الباحثين يلفتون النظر إلى أنهم قد استخدموا خمسة ملليلترات فقط من المستنبت؛ ومن ثمَّ ربما تختلف الأوضاع والنتائج إذا أُجريت التجربة على نطاق أوسع.
على صعيد آخر يشير بعض الباحثين إلى أن الميكروبات بإمكانها أيضا إنتاج المواد الخام اللازمة لصنع الأدوات. على سبيل المثال، استخدم بنجامين لينر، مدير مركز الطاقة البحرية الهولندي الذي يقع مقره في لاهاي بهولندا، الميكروبات لاستخراج الحديد من عينات محاكية للحطام الصخري أثناء دراسته للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة دلفت للتكنولوجيا في هولندا. اعتمد لينر في دراساته على نوع قوي من الميكروبات يسمى Shewanella oneidensis، وهو ميكروب يعيش في التربة وفي أعماق البحار ولا يحتاج إلى الأكسجين، كما يتمتع بقدرة طبيعية على تقليل أيونات المعادن لصنع معدن نقي. وعندما تمكنت الميكروبات من معالجة الحديد الموجود في عينات الحطام الصخري، حصل لينر على المعدن المستخرج باستخدام مغناطيس. فيما بعد أدخل الباحث الحديد الذي أنتجته البكتيريا في طابعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج أسطوانات، لوحظ أنها كانت أقوى بأربع مرات من النسخ المصنوعة دون مساعدة الميكروبات5، كما يقول لينر؛ وربما يعود السبب في ذلك إلى أن المادة التي استخرجتها الميكروبات احتوت على كميات أعلى من الحديد ومستويات أقل من السيليكون.
بحر العلم لا ينفد
يطرح أركين والمهندسون المتخصصون في دراسة الأحياء الدقيقة في الفضاء فكرة الربط بين المفاعلات الحيوية لإنشاء ما يسمى بأنظمة "الدورة المغلقة"، حيث تصب النفايات الناتجة عن أحد المفاعلات الحيوية في المفاعل التالي لزراعة الغذاء وإنتاج الهواء الصالح للتنفس وأداء مهام أخرى عديدة فيما يشبه حلًا شاملًا يقوم على مبدأ تلبية جميع الحاجات في محطة واحدة.
بيد أن العلماء بحاجة أولاً إلى أن يدركوا أنه ما زال يتعين عليهم تعلم المزيد عن نمو الميكروبات ونشاطها خارج كوكب الأرض. وعلى الرغم من أنه من المقرر إيقاف تشغيل محطة الفضاء الدولية وخروجها من الخدمة قريبًا، فإن هناك شركات تجارية مثل «فويجر سبيس» Voyager Space و«إيرباص» Airbus و«أكسيوم سبيس» Axiom Spaceستتيح فرصًا لإطلاق مركبات في المدار الأرضي المنخفض، وهي المنطقة المليئة بالأقمار الصناعية على بعد يتراوح تقريبًا بين 160 و1600 كيلومتر فوق سطح الأرض. إلا أنه حتى على هذا الارتفاع القريب نسبيًا من كوكبنا الأرضي، يواجه الباحثون كثيرا من التحديات. تقول نيكرسون: "لا شك أن إجراء أبحاث علم الأحياء الدقيقة في الفضاء مختلف تمامًا عنه على الأرض؛ بل إنه حتى ليس قريب الشبه به".
يمثل انعدام الجاذبية التحدي الرئيس الذي يواجه الباحثين في المدار الأرضي المنخفض؛ ومن ثم عادةً ما يدخل هؤلاء الباحثون إلى تجاربهم الفضائية عناصر (متغيرات) قائمة على المقارنة بكوكب الأرض. ويمكن أن تؤثر الجاذبية الصغرى على الميكروبات بأشكال غير متوقعة. على سبيل المثال، في التجارب المبكرة التي أجرتها نيكرسون، تسببت السالمونيلا التيفية Salmonella typhimurium التي كانت موجودة على متن محطة الفضاء في إصابة الفئران بالمرض بدرجة أكبر مما حدث مع المستنبتات البكتيرية الموجودة على الأرض6. وتقول نيكرسون إنه من المحتمل أن الميكروبات لا تشعر بانعدام الجاذبية في حد ذاته، ولكنها تستشعر انخفاضا في قدرتها على الامتزاج بالوسط السائل المحيط بها. ووجدت نيكرسون أن أثر السائل المحيط بالميكروبات المنقولة للفضاء يبدو كما لو أنه يحاكي الظروف الموجودة داخل أمعاء الحيوانات، وهو المكان الذي تتمكن أنواع السالمونيلا داخله من تنشيط قدراتها على إحداث العدوى بشكل طبيعي.
توضح نيكول كابلين، العالمة المتخصصة في استكشاف الفضاء العميق بالمركز الأوروبي لأبحاث وتكنولوجيا الفضاء في نوردفيك بهولندا، أن عملية الإطلاق ذاتها تشكل أيضًا مصدرًا لضغوط كبيرة. لذا تنصح كابلين بشحن المستنبتات في صورة جافة وجامدة حتى لا يصدر عنها أي رد فعل تجاه عملية الإطلاق؛ وعوضًا عن ذلك، يمكن للعلماء استخدام أجهزة الطرد المركزي أو الألواح الاهتزازية لمحاكاة تأثيرات عملية الإطلاق على المجموعات الضابطة على سطح الأرض.
وتلفت سارة والاس، عالمة الأحياء الدقيقة من مركز جونسون للفضاء في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، إلى أنه عند التخطيط للتجارب الفضائية تأتي سلامة الطاقم في المقام الأول. وعلى الرغم من أنه من الممكن إجراء تجارب على بعض الميكروبات المسببة للعدوى، فإن ذلك يتطلب مستويات متعددة من تدابير الاحتواء، من بينها صندوق القفازات، على سبيل المثال. كذلك يجب التأكد من أمان الكواشف المعدة للبيئات الواقعة خارج كوكب الأرض. على سبيل المثال، يحظر في الفضاء استخدام الكحول الذي يُستعمل لتنقية الحمض النووي على الأرض؛ ليس فقط لأنه قابل للاشتعال، وإنما أيضا لأنه يمكن أن يتبخر ويؤثر في معدات دعم الحياة. لهذين السببين استعاضت والاس وفريقها البحثي عن الكحول بمحلول عازل من البولي إيثيلين جليكول عالي الملوحة.
ويقول عالم الأحياء الدقيقة تشارلز كوكيل، المدير المشارك لمركز المملكة المتحدة للبيولوجيا الفلكية في جامعة إدنبرة، والذي ابتكر دراسة «بيو روك»: "إن تصميم تجربة لمحطة فضاء أمر بالغ التعقيد ومصدر لمعاناة طويلة الأمد". وفي تقديره، كان بإمكانه إعداد التجارب وإجراؤها على سطح كوكب الأرض في نحو أربعة أيام، إلا أن تصميم المعدات اللازمة للفضاء وبنائها استغرق عقدًا من الزمن7.
وبحسب ما تفيد به سانتومارتينو، "كان التحدي الأكبر يتمثل في إيجاد حل وسط يراعي القيود الهندسية والإشكاليات البيولوجية، مع الأخذ في الحسبان النواحي العلمية بشكل جيد". على سبيل المثال، كان على الفريق اختيار مثبت كيميائي يمكنه إيقاف التجربة بأمان دون إلحاق أي ضرر بالطاقم، كما تعين على الفريق أيضا ضمان عدم تلوث العينات.
ينصح بارميتانو رواد الفضاء بأن "يتعاملوا مع الأمور ببساطة قدر الإمكان"؛ لا سيما أن معظمهم، كما لاحظ، ليسوا علماء مدربين. ويقول إن الجزء الأصعب في تجربة «بيو روك» كان يتمثل في تصوير الخراطيش في بداية التجربة وعند نهايتها. فدون مجهر، لم يتضح ما إذا كانت المستنبتات في بؤرة الصورة أم لا؛ كما تعين على رائد الفضاء أن يضمن عدم انعكاس الضوء بعيدًا عن الجدران الشفافة للخراطيش. تولى بارميتانو أيضًا مهمة ربط جميع المعدات وتثبيتها حتى لا تطفو بعيدًا ووضع مصراع الكاميرا في وضع التشغيل عن بعد لأن مجرد الضغط على زر من شأنه أن يفسد التركيز على عناصر الصورة.
لحسن الحظ، كان كوكيل وفريقه البحثي قد فكروا مليًا في تلك المسألة وقدموا نصائح بشأن استخدام العدسة المناسبة ومراعاة المسافة البؤرية التي من الأفضل بدء التصوير منها. ويقول بارميتانو: "إن تصميم التجربة يمكن أن يصنع الفارق بين النجاح والفشل".
ويستخدم لويس زيا، عالم الأحياء الدقيقة المتخصص في أمور الجاذبية ومؤسس شركة الاستشارات «جاجوار سبيس» Space Jaguar التي يقع مقرها في بولدر بولاية كولورادو، خبرته في هندسة الطيران لمساعدة العلماء في الوصول إلى الفضاء؛ كما لا يبخل عليهم ببعض النصائح. في البداية ينصح زيا بتقليل الحاجة إلى أوقات اجتماع الطاقم. فتشير البيانات التي نشرتها وكالة ناسا في عام 2019 إلى أن كل ساعة يُستقطع فيها انتباه رواد الفضاء وتركيزهم تكلف نحو 130 ألف دولار أمريكي. ومن المؤكد أن العلماء ليسوا ملزمين بتحمل هذه التكلفة، إلا أن ذلك يؤكد أنهم يكونون محظوظين بشدة عندما يتمكنون من اقتناص بضع دقائق لإجراء تجاربهم. وتشير نيكرسون إلى أن كيفية التعامل مع هذه التكاليف فيما يخص التجارب التابعة للقطاع التجاري ليست واضحة المعالم حتى الآن، لكننا نخلص مما سبق إلى أن أفضل السبل تتمثل في الأتمتة والحد من الاجتماعات ووضع آليات للضغط على المفاتيح.
يقول زيا إن ثمة عاملًا آخر تنبغي مراعاته، ألا وهو ما إذا كانت هناك حاجة إلى إعادة المستنبتات من محطة الفضاء إلى الأرض؛ إذ إن تكلفة رحلة العودة بتلك المستنبتات يُتوقع أن تفوق تكلفة حرقها في صورة نفايات. وهكذا فإن العائد الأفضل الذي نجنيه من تلك الرحلات يتمثل في البيانات التي نبثها إلى محطاتنا الأرضية.
كذلك من بين الأمور التي تزيد من صعوبة المسألة وتعقيدها الكيفية التي تُصمَّم بها التجارب المخصصة للقمر أو المريخ. تقع محطة الفضاء أسفل أحزمة فان ألين الإشعاعية التي تُحتجز فيها الجسيمات الكونية؛ ومن ثم لا تشكل الإشعاعات مصدر قلق كبير في تلك المنطقة، إلا أنها ستثير المشاكل إذا أُجريت التجارب على مسافة أبعد من ذلك. وتضيف كابلين أن التجارب المثلى بالنسبة لمحطة الفضاء «لونار جيتواي» لن تتطلب الضغط على أية مفاتيح على الإطلاق؛ وذلك لأن المحطة ربما لا تظل مأهولة بشكل مستمر. كذلك سيتعين على الباحثين فوق سطح المريخ النظر فيما إذا كانت الفوائد التي سيجنونها من استنبات الميكروبات الأرضية تفوق المخاطر الناتجة عن تلويث هذا الكوكب، وهو ما قد يعكر صفو الجهود الرامية إلى استكشاف ما إذا كان الكوكب الأحمر يحتضن من الأصل حياة على سطحه.
أما الباحثون الذين يتعذر على أبحاثهم الوصول إلى الفضاء فيمكنهم الاكتفاء بالبدائل المتاحة على الأرض فيما يخص بعض جوانب البحث؛ بيد أن من رأى ليس كمن سمع. فمثلًا يمكن للطيران في مسار إهليلجي على متن طائرة – يُشار إليها عندئذ باسم "مذنب القيء" - محاكاة الجاذبية الصغرى، ولكن لثوانٍ معدودة فحسب؛ إلا أن تلك الفترة لا تكون عادةً طويلة بما يكفي للحصول على رد فعل من الميكروبات. عوضًا عن ذلك، يمكن باستخدام آلة لتوزيع مواقع العينات بصورة عشوائية تدوير العينات بصفة مستمرة للحصول على متوسط للجاذبية الصفرية لتلك العينات. بيد أنه على الرغم من أن هذا النوع من المعدات يمكن أن يساعد العلماء في التخطيط لارتياد الفضاء، كما يقول زيا، إلا أنه غير قادر بأي حال من الأحوال على خلق جاذبية صغرى حقيقية.
ما تؤكده كابلين قائلة إن الميكروبات تستجيب لتوزيع مواقعها عشوائيًا بشكل مختلف عن استجابتها للجاذبية الصغرى. وتسوق مثالًا على ذلك قائلة إن الحيوانات المجهرية التي تسمى الروتيفير تتخذ شكلًا غريبًا يشبه الخطاف في آلة توزيع مواقع العينات عشوائيًا، إلا أنها لا تتخذ الشكل ذاته على متن محطة الفضاء الدولية.
ويمكن للعلماء أيضًا قصف العينات بجسيمات مشعة على سطح الأرض بغرض محاكاة ما يحدث فيما وراء أحزمة فان ألين الإشعاعية. إلا أن هذا الإجراء لا يحقق محاكاة تامة، كما يقول كوكيل؛ فالرياح الشمسية والأشعة الكونية التي تضرب سطح القمر تنتج أيونات ثانوية وبيئة إشعاعية معقدة يصعب محاكاتها.
من ثم، يقول كوكيل: "أرى أنه لا يتعين علينا سوى الذهاب إلى هناك وإجراء التجارب؛ ففي اعتقادي أنه لا سبيل إلى معرفة ما سيحدث على سطح القمر إلا بالذهاب إلى الجرم نفسه".
اضف تعليق