تمكَّن فريقٌ من العلماء من ابتكار نوعٍ جديد من الثلج يُضاهي كثافة الماء وبِنيته، ولعل هذا يفتح آفاقًا أمام دراسة الخواص المُلغِزة للماء، يقول المتخصصون قد يكون ماءً سائلًا تعرَّض للتجمُّد بمرور الوقت، وربما يُعدُّ هذا أمرًا بالغ الأهمية، وهذه المادة بأنها ثلجٌ لابلوري متوسط الكثافة...
بقلم: جوناثان أوكالاجان
تمكَّن فريقٌ من العلماء من ابتكار نوعٍ جديد من الثلج يُضاهي كثافة الماء وبِنيته، ولعل هذا يفتح آفاقًا أمام دراسة الخواص المُلغِزة للماء، يقول مارتن تشابلن، المتخصص في بِنية الماء بجامعة لندن ساوث بانك والذي لم يشارك في هذا الجهد البحثي: "قد يكون ماءً سائلًا تعرَّض للتجمُّد بمرور الوقت، وربما يُعدُّ هذا أمرًا بالغ الأهمية".
وصف العلماء هذه المادة بأنها ثلجٌ لابلوري متوسط الكثافة، وقد قاد ألكسندر روسو-فينسن -الباحث بجامعة كوليدج لندن- الفريق البحثي الذي نجح في تحضير هذه المادة، رجَّ الفريق الثلج العادي في حاويةٍ صغيرة تحتوي على كُرياتٍ من الصُلب المقاوم للصدأ -عرض الكُرية سنتيمتر واحد- وذلك في درجة حرارة -200 مئوية لإنتاج هذا النوع من الثلج الذي لم يُكتَشف من قبل، وبدا الثلج كمسحوقٍ أبيض اللون حُبيبي القوام ملتصقٍ بالكُريات المعدنية، نشرت دورية «ساينس» Science هذه النتائج في الثاني من فبراير.
جزيئات عشوائية
في الوضع الطبيعي، عندما يتجمد الماء فإنه يتبلور وتنتظم جزيئاته في بنيةٍ صلبة سداسية مألوفة نُطلق عليها الثلج، ويُعدُّ الثلج أقل كثافةً من صورته السائلة، وتلك خاصيةٌ غير معتادة في المواد البلورية، وبناءً على ظروفٍ معينة مثل الضغط وسرعة التجمُّد، يمكن أن يتحول الماء أيضًا إلى الحالة الصلبة في بِنيةٍ منتظمة من بنىً كثيرة يبلغ عددها 24 بِنية، لكن الثلج اللابلوري مختلفٌ إذ لا يوجد ترتيب محدد لجزيئاته، يقول تشابلن: "ثمة الكثيرُ من الجزيئات التي ترتبط معًا بشكلٍ عشوائي".
هذا، وقد نجح العلماء سابقًا في اكتشاف نوعين من الثلج اللابلوري، وكلاهما اكتُشف في القرن العشرين، ينتُج الثلج اللابلوري "منخفض الكثافة" من تجمُّد بخار الماء على سطح شديد البرودة في درجات حرارة أقل من -150 مئوية، أما الثلج اللابلوري "عالي الكثافة" فيتشكَّل عن طريق كبس الثلج العادي في درجات حرارة مماثلة تحت ضغطٍ عالٍ، وكلا النوعين غير شائعٍ على كوكب الأرض، ولكنهما يُوجدان بكثافةٍ في الفضاء، يقول كريستوف سالزمان، الكيميائي بجامعة لندن كوليدج وأحد الباحثين المشاركين في الدراسة المُشار إليها: "المذنباتُ عبارة عن كتلٍ ضخمة من الثلج اللابلوري منخفض الكثافة".
استخدم الفريق مطحنة الكُرات من أجل طن الثلج المُتبلور، ومطحنة الكُرات هي أداةٌ تُستخدم عادةً في طحن المواد أو مزجها خلال معالجة المعادن، وباستخدام حاوية فيها كُرات معدنية، رجَّ الفريق كميةً صغيرةً من الثلج نحو 20 مرةً في الثانية، أنتجت الكُرات المعدنية "قوة قص" حوَّلت الثلج إلى مسحوق أبيض، وفق ما يقول سالزمان.
تمكَّن الفريقُ من التعرُّف على بِنية المادة عن طريق تعريض المسحوق للأشعة السينية وقياسها عند ارتدادها، وهي عملية تُعرف باسم حيود الأشعة السينية، وكان الثلج يتسم بكثافةٍ جزيئيةٍ مشابهةٍ لتلك التي يمتاز بها الماء السائل، دون ظهور بِنيةٍ منتظمةٍ للجزيئات، ويُستدل من هذا على أن الخاصية البلورية قد "تلاشت"، يقول سالزمان: "صارت بِنيةُ المادة تفتقر إلى أي نوعٍ من الانتظام".
من جانبه يصف ماريوس ميلوت -الفيزيائي بمختبر لورانس ليفرمور الوطني في ولاية كاليفورنيا الأمريكية- النتائج بأنها "مُقنعة للغاية"، ويقول: "ما تحقَّق يُعدُّ مثالًا رائعًا على أن الماء لا يزال يُخفي الكثير من الأسرار التي نحن بحاجةٍ إلى الكشف عنها".
وجاءت النتائج مطابقةً للنماذج الحاسوبية التي أعدَّها بعض علماء الفريق البحثي بجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، إذ تنبأوا بما يمكن أن يحدث للثلج العادي إذا جرى تفتيته بهذه الطريقة، لكن الغموض لا يزال يحيط بمسألة ما إذا كان المسحوق الناتج عن العملية يُضاهي بحقٍّ الماء السائل في خواصه، إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه تعرَّض للتجمُّد سابقًا باعتباره ثلجًا مُتبلورًا، ودراسةُ هذا الأمر ستحتاج إلى مزيدٍ من الجهود البحثية.
تداعياتٌ كبيرة
في حال تأكَّدت مُضاهاة المسحوق الناتج عن العملية للماء السائل في خواصه، فإن هذا الشكل الجديد من الثلج من شأنه أن يُتيح دراسة خواص الماء بطرقٍ لم تكن ممكنةً من قبل، وعن ذلك يقول تشابلن: "الماءُ السائل مادةٌ عجيبة! فلا نزال نجهل أشياءً عنه أكثر مما نتوقع"، فمثلًا، ثمة اعتقادٌ شائع بأن الماء يتخذ شكلين فقط هما الماء منخفض الكثافة والماء عالي الكثافة، وهو ما يتوافق مع نوعي الثلج اللابلوري المعروفين سابقًا، لكن اكتشاف نوعٍ لابلوري متوسط الكثافة من الثلج يمكن أن يُزعزع تلك الفكرة الراسخة.
يقول سالزمان مُعقبًا: "إذا كان الثلج اللابلوري متوسط الكثافة مرتبطًا فعليًّا بالماء السائل، فهذا سيعني ضمنًا أن هذا النموذج غير صحيح، وهو ما من شأنه أن يفتح أُفقًا جديدًا في أبحاث الثلج".
كذلك فإن هذه الدراسة قد يكون لها دورٌ كبير في فهمنا لعوالم أخرى؛ فبعض الأقمار الدائرة في نظامنا الشمسي -مثل قمر «أوروبا» الذي يدور حول كوكب المشتري، وقمر «إنسيلادوس» الذي يدور حول كوكب زحل- تتسم بأسطحٍ ثلجية، وإذا حدث احتكاكٌ بين منطقتين ثلجيتين على أحد هذه الأقمار نتيجة قوى المد والجزر، فمن الممكن أن يُسفِر ذلك عن تكوُّن ثلجٍ لابلوري متوسط الكثافة بينهما من خلال عملية القص ذاتها التي استعان بها الباحثون.
والزيادة التي تحدث في الكثافة يمكن أن تصنع فجواتٍ في السطح، مما يؤدي إلى حدوث اضطراباتٍ على أسطح هذه الأقمار مع تصدع الثلوج، عن هذا يقول سالزمان: "قد يحدث انهيارٌ هائل للثلج، وهو ما قد يكون له تأثيراتٌ بالغة على الخواص الجيوفيزيائية للأقمار الثلجية".
وهذا بدوره قد ينعكس على مدى إمكانية وجود حياة في محيطات الماء السائل القابعة أسفل الأسطح الثلجية لهذه الأقمار، يقول ميلوت: "أحد الأسئلة المحورية المطروحة بشأن هذه الأقمار يتعلق بما إذا كان ممكنًا وجود سطحٍ بيني بين الماء السائل والصخور؛ فذلك هو الحيز الذي يمكن أن تنشأ فيه الحياة، وربما يضطلع الثلج اللابلوري بدورٍ نحن بحاجةٍ إلى فهمه".
اضف تعليق