تكتسب الكائنات الحية مجموعةً كاملةً من المعلومات أو المعرفة التي يعالجها الجهاز العصبي ويخزنها، حتى ذهب البعض إلى أنه لا يوجد إدراك أو ذكاء من دون ذاكرة، فبفضل الذاكرة، يوجه الماضي تصورنا للحاضر ويسمح لنا بالتوقع والتكيف، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، تتطور لدى الكائنات الحية ردود فعل الخوف...
بقلم دينا درويش
تكتسب الكائنات الحية مجموعةً كاملةً من المعلومات أو المعرفة التي يعالجها الجهاز العصبي ويخزنها، حتى ذهب البعض إلى أنه "لا يوجد إدراك أو ذكاء من دون ذاكرة"، فبفضل الذاكرة، "يوجه الماضي تصورنا للحاضر ويسمح لنا بالتوقع والتكيف"، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، تتطور لدى الكائنات الحية ردود فعل الخوف تجاه المواقف الخطرة، لكن كيف نخاف؟
يستخدم الدماغ في الواقع آلياتٍ مميزةً لتخزين ذكريات الخوف التي حدثت منذ زمن قريب أو تلك التي حدثت منذ زمن بعيد، ورغم ما كشفه العلماء من أن الحُصين -منطقة الدماغ الواقعة في الفص الصدغي- يؤدي دورًا رئيسيًّا في تكوين ذاكرتنا، إلا أن قيام الدماغ بتعزيز ذكريات الخوف بعيدة المدى غير مفهومٍ إلى حدٍّ كبير؛ إذ تشير دراسة سابقة إلى أنه "في حين أن التكوين الأولي لذاكرة الخوف يشمل الحُصين، إلا أنه بمرور الوقت تصبح الذاكرة البعيدة أقل اعتمادًا على الحُصين".
من هنا تأتي أهمية الدراسة الجديدة التي نشرتها دورية "نيتشر نيوروساينس" (Nature Neuroscience)، وأجراها باحثون من جامعة "كاليفورنيا-ريفرسايد" على مجموعة من فئران التجارب؛ إذ توصلت الدراسة إلى الآليات الأساسية التي يعمل بها الدماغ على تعزيز الذاكرة السياقية المرتبطة بذكريات الخوف بعيدة المدى، مشيرةً إلى أن "ذكريات الخوف التي تشكلت في الماضي البعيد يتم تخزينها بشكل دائم في المشابك العصبية المعنية بالذاكرة بقشرة الفص الجبهي، ويشار إلى المشابك العصبية بأنها "الوصلات الواقعة بين الخلايا العصبية التي تحدث بها عملية إصدار الإشارات".
والذاكرة السياقية هي عملية أساسية في الذاكرة طويلة المدى، تشير إلى القدرة على تذكُّر الظروف الاجتماعية والمكانية والزمانية والعاطفية المصاحبة لحدثٍ ما، أي أنها القدرة التي تتيح لنا تذكُّر الجوانب المختلفة التي جاءت مصاحبةً لحدثٍ ما.
يوضح جون-هيونج تشو -الأستاذ المساعد في قسم علم الأحياء الجزيئي وبيولوجيا الخلية بجامعة "كاليفورنيا-ريفرسايد" والباحث الرئيسي في الدراسة- أن "الدوائر الخاصة بالذاكرة في الفص الجبهي هي التي يتم تعزيزها تدريجيًّا بعد الأحداث الصادمة، ويؤدي هذا التعزيز دورًا مهمًّا في كيفية نضوج ذكريات الخوف بهدف الوصول إلى أشكال مستقرة في القشرة الدماغية تساعد على تخزينها بشكل دائم".
يقول "تشو" في تصريحات لـ"للعلم": تقدم الدراسة نظرة ثاقبة فيما يتعلق بتطوير إستراتيجيات علاجية لقمع الخوف المزمن لدى مرضى اضطراب ما بعد الصدمة أو غيرها من الاضطرابات الأخرى من خلال فهم الكيفية التي يحدث بها تضمين ذكريات الماضي المخيفة التي تم استرجاعها من الذاكرة البعيدة.
الاستجابة للخوف
من أجل التوصل إلى هذه الدراسة، استخدم الباحثون الهندسة الوراثية للحصول على فئران لديها خلايا عصبية يمكن التعرف عليها بسهولة في أثناء عملية الاستجابة للخوف، جنبًا إلى جنب مع مزيج من الفيروسات (عبارة عن مادة وراثية موجودة داخل جسيم عضوي يغزو الخلايا الحية ويستخدم عمليات التمثيل الغذائي لمضيفه من أجل إنتاج جيل جديد من الجزيئات الفيروسية) التي تقطع مساراتٍ عصبيةً مهمةً يُعتقد أنها معنية بتقوية الذاكرة، أو تساعد في تحديد الروابط الرئيسية بين الخلايا العصبية.
في بداية التجربة، عرَّض الباحثون الحيوانات (الفئران المعدلة وراثيًّا) لموقفٍ مخيف عبر إعطائها صدمة كهربائية كي تحتفظ بها في الذاكرة البعيدة، وبعد مرور شهر، وضع الباحثون الفئران مرةً أخرى في المكان ذاته فلاحظوا أنها قد تجمدت، مما يشير إلى أن "ذكريات الخوف بعيد المدى المخزنة في مكانٍ ما في الدماغ قد جرت استعادتها بالفعل".
أظهر البحث عن كثب في عينات الدماغ المختلفة تعزيزًا ثابتًا للوصلات داخل مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية للذاكرة فيما يُعرف باسم قشرة الفص الجبهي، وهي منطقة مسؤولة عن اتخاذ القرار والسلوك المعرفي وتؤدي دورًا حيويًّا في كيفية نضوج هذه الذكريات في القشرة الدماغية، لتصبح في النهاية جزءًا من الذاكرة الدائمة.
المنبهات الخارجية
يقول "تشو": عندما تم قطع هذه الخلايا العصبية الخاصة بالذاكرة، لم تتمكن الفئران من تذكُّر المخاوف بعيدة المدى، في حين احتفظت بذكريات الأحداث المخيفة التي وقعت في وقتٍ قريب، بعبارة أخرى، تشكل روابط الخلايا العصبية للذاكرة في قشرة الفص الجبهي الهياكل المادية لذكريات الخوف بعيدة المدى أو ما يسمى "الإنجرام"، وهي الوسيلة التي يتم من خلالها تخزين الذكريات كتغيرات فيزيائية أو كيميائية حيوية في الدماغ استجابةً للمنبهات الخارجية.
يضيف "تشو": عندما قمنا بتثبيط خلايا الذاكرة العصبية بشكل انتقائي في قشرة الفص الجبهي، منعنا الفئران من تدعيم ذاكرة الخوف البعيدة، وليس تلك الحديثة، مما يشير إلى الدور الحاسم الذي تؤديه الخلايا العصبية للذاكرة في قشرة الفص الجبهي في استدعاء ذكريات الخوف بعيد المدى؛ إذ تتم تقوية دوائر الذاكرة بالفص الجبهي تدريجيًّا بعد الأحداث الصادمة، ويؤدي هذا التعزيز دورًا مهمًّا في كيفية نضج ذكريات الخوف إلى الأشكال المستقرة في القشرة الدماغية للتخزين الدائم.
ويتابع: باستخدام آلية مماثلة، يمكن أيضًا تخزين الذكريات البعيدة الأخرى الخالية من تجارب الخوف بشكل دائم في الروابط الموجودة بين الخلايا العصبية والمعنية بالذاكرة في الفص الجبهي.
ذاكرة بعيدة المدى
ووفق دراسة سابقة أجراها باحثون من قسم علم الأحياء والدماغ والعلوم المعرفية في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" ونشرتها دورية "ساينس"، فإن "الذكريات تتشكل في الحُصين ثم تنتقل إلى القشرة المخية الحديثة -التي تدعم الأداء الحسي- لتخزينها على المدى الطويل".
وأوضح الباحثون أنه "في وقتٍ مبكر من التعلم، يتم إنتاج الخلايا العصبية للذاكرة المرتبطة بالخوف بسرعة في قشرة الفص الجبهي، وتعتمد هذه العملية على نشاط وارد من الحصين واللوزة، وبمرور الوقت، تعزز الخلايا العصبية بالفص الجبهي دورها في التعبير عن الذاكرة، وفي المقابل، تفقد الخلايا العصبية في الحُصين هذه الوظيفة ببطء".
من جهته، يرى محمد الحمادي -أستاذ الطب النفسي بكلية الطب في جامعة بنها- أن "الدراسة تشرح الكيفية التي يحدث بها تكوين الذاكرة الخاصة بالخوف في اضطراب ما بعد الصدمة، وهو اضطراب ينتج عن التعرض لأحداث مخيفة أو مرعبة أو التعرض لضغط نفسي غير نمطي، مثل الجرائم أو الحرائق أو الزلازل وخلافه".
يقول "الحمادي" في تصريحات لـ"للعلم": تفتح دراسات كهذه الأفق لفهمٍ أفضل للجهاز العصبي وكيفية عمله والتغيُّرات البيولوجية التي تحدث به في حالة الإصابة بالأمراض، وقد تكون نتائج البحث مفيدةً في معالجة بعض الاضطرابات المادية الناجمة عن التعرض لخوف شديد مثل اضطراب ما بعد الصدمة، وهو اضطراب غالبًا ما يستعيد الشخص المصاب به الحدث الصادم من خلال الكوابيس وذكريات الماضي التي تجعله يعاني من الأرق والقلق الشديد وصعوبة التركيز والعزلة والشعور بالذنب أحيانًا، وقد يعوق الشخص عن أداء مهمات حياته اليومية، إن نتائج هذا البحث قد تعبِّد الطريق لاكتشاف مسارات علاجية جديدة لهؤلاء المرضى بعد تجريبها على الحيوانات.
مخاوف مشروعة
بدورها، تؤكد هالة حماد -استشاري الطب النفسي وزميل الكلية الملكية البريطانية للطب النفسي- أن "الذكريات تكون أقوى عندما ترتبط أكثر بمشاعر مثل الخوف والحزن والقلق والفرح، على خلاف المشاعر اليومية المعتادة التي يمكن أن ينساها الشخص بسهولة".
تقول "حماد" في تصريحات لـ"للعلم": القلق والخوف من أوائل المشاعر التي تتكون لدى الإنسان في سنٍّ مبكرة تبدأ من عمر شهرين، فعندما يتعرض الطفل الصغير لشيء مخيف عبر مواقف مقلقة، يسعى إلى التعايُش عن طريق قمع هذه الذكرى في العقل الباطن، لكن هناك أشياء محفزة قد تساعد على استرجاع الذكرى وبالتالي مشاعر القلق والخوف، وفي اضطراب ما بعد الصدمة، قد يحدث استرجاع الذكرى المخيفة للحدث الصادم رغمًا عن إرادة الإنسان وكأن هذه الذكرى تهاجمه.
تضيف "حماد": أرى أن نتائج البحث ممتازة؛ لأنها تشرح لنا أين يتم دفن هذه الذكريات المقلقة في الدماغ، وهل من الممكن إيجاد علاج لتهدئة هذه الذكريات، ويجب أن يكون ذلك الخطوة المستقبلية للباحثين، لكن هناك مخاوف مشروعة في الوقت ذاته، أهمها التأكد من عدم تعرُّض الذاكرة العادية -التي لا ترتبط بأي صدمات- للضرر من جرَّاء مثل هذا العلاج أو التلاعب الانتقائي بالوصلات بين الخلايا العصبية بالفص الجبهي.
يعلق "تشو": نسعى بالفعل إلى إيجاد علاج لتهدئة هذه الذكريات مستقبلًا، وهناك عمل كبير يتعين القيام به لفحص الآليات الخاصة بتخزين الذكريات على المدى البعيد عن كثب، ونخطط لمعرفة ما إذا كان الإضعاف الانتقائي لدائرة الذاكرة في الفص الجبهي سيثبط استدعاء ذاكرة الخوف بعيدة المدى التي يمكن أن تفيد العلاج عند الأشخاص أم لا.
اضف تعليق