ورغم ان آينشتاين لايتفق مع التشابك الكوانتمي، لكن رغبته للتأمل في الكيفية التي نتعلم بها أشياء جديدة من الادراك الحسي للحيوان يشير الى انه كان مسرورا بالطريقة التي وسّعت بها البحوث المتصلة بهجرة الطيور حدود فهمنا للفيزياء. في الحقيقة، ان رسالة اينشتاين لديفس هي دليل...
منذ بداية عصر الالكترون، اصبح من السهل للباحثين الانخراط مع عامة الناس في الوصول الى المصادر الثمينة للمعلومات والتي لم تكن متاحة بطريقة اخرى. هذا يتضح في ما نشره موقع (المحادثة) اخيرا من رسالة لم تكن معروفة كُتبت عام 1949 من قبل اينشتاين، ناقش فيها الرياضي والفيزيائي الألماني المولد قضية النحل والطيور وما اذا كانت مبادئ الفيزياء الجديدة يمكن صياغتها عبر دراسة حواس الحيوان.
عثر الناشر (The conversation) على الرسالة ولأول مرة عام 2019، بعد ان قرأت المتقاعدة جودي ديفس Judith Davys التي تعيش في بريطانيا مقالة نشرها الموقع حول القدرات الرياضية للنحل. هي اتصلت بالناشر للحديث عن الرسالة التي عمرها 72 سنة، وهي الرسالة التي وجّهها اينشتاين لزوجها كلاين ديفس Glyn Davys. التحقيق في هذه الوثيقة الثمينة استغرق سنة كاملة.
لقاء رئيسي
كان آينشتاين واحدا من أعظم المفكرين في القرن العشرين، بالاضافة الى كونه متحدث ممتاز. خياله ساعده في صياغة العديد من التكنلوجيات التي تطبع عصر المعلومات اليوم. فمثلا، نظرية اينشتاين في النسبية العامة تحكم البناء الواسع النطاق للكون، والتي بدورها تساعد في إجراء تصحيحات في نظام الـ GPS المُستخدم في التلفونات الذكية. في عام 1921، مُنح اينشتاين جائزة نوبل لدراسته حول "التأثير الكهروضوئي". هذا التأثير يصف كيف يستطيع الضوء ازالة الالكترونات من الذرات، وهو المبدأ الذي تعتمد عليه اليوم عمليات الخلايا الشمسية.
في عام 1933، ترك آينشتاين المانيا ليعمل في جامعة برنستون الامريكية. وهنا في ابريل من عام 1949 التقى مع العالم كارل فون فرش Karl Von Frisch اثناء محاضرة. كان فون فرش زائرا لبرنستون ليعرض بحثه الجديد عن كيفية انتقال النحل بفاعلية اكبر مستخدما نماذج استقطاب للضوء المتناثر من السماء. هو استخدم هذه المعلومات في ترجمة لغة الرقص الشهيرة للنحل، والتي بسببها استلم في النهاية جائزة نوبل. وبعد يوم من حضور اينشتاين لمحاضرة فريش، اجتمع الباحثان في لقاء خاص. ورغم ان هذا الاجتماع لم يُوثق رسميا، لكن الرسالة المكتشفة اخيرا من اينشتاين تعطي افكارا حول الاشياء التي جرت مناقشتها.
سلوك الحيوان من منظور فيزيائي
من المحتمل ان رسالة اينشتاين كانت جوابا لإستفسار تسلّمه من غلاين ديفيس. وفي عام 1942، ومع اشتداد الحرب العالمية الثانية، التحق ديفس بالبحرية الملكية البريطانية. حيث تدرّب كمهندس وبحث في مواضيع تتضمن الاستعمال المبكر للرادار لإكتشاف السفن والطائرات. هذه التكنلوجيا الوليدة بقيت سرا في ذلك الوقت. وبالمصادفة التامة، وفي نفس الوقت تم اكتشاف استشعار السونار الحيوي في الخفاش، وهو ما أثار انتباه الناس الى ان الحيوان ربما لديه حواس مختلفة عن الانسان. ومع فقدان أي مراسلات سابقة بين ديفس واينشتاين، لكن ما يثير الاهتمام هو الشيء الذي حفزه للكتابة الى الفيزيائي الشهير.
لقد بدأ الناشر رحلة البحث عبر الاون لاين في أرشيف الأخبار المنشورة في انجلترا عام 1949. ومن خلال البحث وجد ان استنتاجات فون فرش عن حركة النحل كانت سلفا اخبارا هامة في تموز من تلك السنة، وجرت تغطيتها ايضا من قبل صحيفة الغارديان في لندن.
الأخبار ناقشت تحديدا كيف يستعمل النحل ضوءاً مستقطبا للحركة. وهكذا يُحتمل ان هذا هو ما حفز ديفس ليكتب الى اينشتاين. من المحتمل ايضا ان رسالة ديفس الاولى لاينشتاين ذكرت خصيصا النحل وان اينشتاين أجاب: "انا مطّلع جيدا على التحقيقات الرائعة للسيد فرش".
يبدو ان افكار فون فرش حول الادراك الحسي للنحل بقيت ضمن افكار اينشتاين منذ ان التقى العالمان صدفة في برينستون. في رسالته لديفس، يقترح اينشتاين ايضا ان النحل لكي يوسع معرفتنا بالفيزياء، سنحتاج لملاحظة انواع جديدة من السلوك. ومن اللافت، انه من الواضح خلال كتابته بان اينشتاين تصور ان اكتشافات جديدة قد تظهر من دراسة سلوك الحيوانات. كتب اينشتاين:
من المتوقع ان التحقيقات في سلوك الطيور المهاجرة والحمام الزاجل ربما تقود في يوم ما الى فهم بعض العمليات الفيزيائية التي لم تُعرف بعد.
افكار اينشتاين تبدو صحيحة، مرة اخرى
الآن، وبعد اكثر من 70 سنة منذ ان ارسل اينشتاين رسالته، تكشف البحوث اسرار الكيفية التي تتحرك بها الطيور المهاجرة اثناء الطيران لآلاف الكيلومترات لتصل وبدقة لوجهتها المقصودة. في عام 2008، اُجري بحث عن الطائر المغرد thrushes الذي رُبط بجهاز إرسال لاسلكي كشف ولأول مرة، ان هذه الطيور تستخدم شكلا من البوصلة المغناطيسية كمرشد أساسي لها اثناء الطيران. احدى النظريات عن أصل الاحساس المغناطيسي في الطيور هي في استعمال العشوائية والتشابك الكوانتمي quantum randomness&entanglement(1).
كلا هذين المفهومين الفيزيائيين اقترحهما اينشتاين اول مرة، لكن رغم ان اينشتاين كان احد مؤسسي فيزياء الكوانتم، فهو كان غير مرتاح لنتائجها. وكما ذكر مرة في عبارته الشهيرة "الله لايلعب بالنرد" وهو ما يوضح معارضته للعشوائية الكامنة في قلب ميكانيكا الكوانتم. وفي ورقة هامة عام 1935، أدخل اينشتاين ومؤلفين آخرين هما بورس بولوسكي و ناثان روزن مفهوم التشابك الكوانتمي. ومن الملفت، ان المفهوم اُدخل كفشل مفاهيمي لميكانيكا الكوانتم، بدلا من ان يكون احد الاجزاء المركزية المميزة لها. ربما من المفارقة، ان احدى النظريات الرائدة عن أصل الحس المغناطيسي في الطيور هو استعمال العشوائية والتشابك الكوانتمي. هذه النظرية تقترح ان التفاعلات الكيميائية الزوجية الجوهرية في الكريبتوكروميس التي تشير الى البروتينات الموجودة في نباتات وحيوانات معينة انما تتأثر بمجال المغناطيسية الأرضي، وهكذا تشكل الأساس للبوصلة المغناطيسية البايولوجية للطيور.
ورغم ان آينشتاين لايتفق مع التشابك الكوانتمي، لكن رغبته للتأمل في الكيفية التي نتعلم بها أشياء جديدة من الادراك الحسي للحيوان يشير الى انه كان مسرورا بالطريقة التي وسّعت بها البحوث المتصلة بهجرة الطيور حدود فهمنا للفيزياء. في الحقيقة، ان رسالة اينشتاين لديفس هي دليل لمدى انفتاحه للامكانات الجديدة لحقل الفيزياء المُلاحظ في الطبيعة. انها توضح، مرة اخرى، كم هو كان واعيا بما يمكن ان يكتشفه المرء لو يتخذ رؤية مختلفة عن العالم.
اضف تعليق