إنسانيات - حقوق

انعدام الاحكام استثناءٌ اقره العرف القضائي ولا يجوز التوسع فيه

قراءة في ضوء اجتهاد محكمة التمييز الاتحادية

ولأهمية ما ورد في الاجتهاد القضائي، ولكثرة استخدام وسيلة اعدام الاحكام القضائية في الفترة الاخيرة، فضلاً عن النص في قرار محكمة التمييز الاتحادية على انها استحدثت مبدأ جديداً، مما دعاها الى عرض الطعن امام الهيئة المدنية الموسعة، كان لابد من قراءة ما ورد في قرار محكمة التمييز الاتحادية...

أصدرت محكمة التمييز الاتحادية الموقرة قرارها العدد 74/الهيئة المدنية الموسعة/2025 في 18/2/2025 الذي جاء في حيثياته مبدأ يتعلق باعتبار قرار محكمة القضاء الإداري الذي قضى بإلغاء إجازة استثمار احد المشاريع الاستثمارية بمثابة الحكم المعدوم، لان الاجازة اصبحت من مقتضيات عقد الاستثمار ومن ثم تخضع الى ولاية القضاء العادي (محكمة البداءة) وليس القضاء الإداري، وهذا ليس بالقرار الأول الذي اتجه اليه اجتهاد محكمة التمييز الاتحادية، وانما سبقته قرارات متعددة بعضها يتعلق بالقضاء العادي وأخرى وفي اكثر من مناسبة يتعلق بقرارات القضاء الدستوري، كما لوحظ ان المحكمة الاتحادية العليا (القضاء الدستوري)، ايضاً، كانت قد اصدرت اكثر من قرار يتعلق باعتبار قرار محكمة القضاء الإداري معدوماً وفي قرار آخر اعدمت قرارها الذي أصدرته وكان الحكم في بداية تشكيلها عام 2005.

وحيث ان اعتبار الحكم معدوم هو نقض لحجية الاحكام القضائية والتي اكدتها المواد (105 و 106) من قانون الاثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979 المعدل[1]، فضلاً عن كونه مبدأ مستقر في جميع البلدان، كذلك ما ورد في الدستور العراقي لسنة 2005 فيما يتعلق بقرارات المحكمة الاتحادية العليا باعتبارها باتة وملزمة للسلطات كافة وعلى وفق احكام المادة (94) من الدستور[2].

وحيث ان اعتبار الاحكام القضائية معدومة هو اجتهاد تعارف عليه العمل القضائي دون ان يكون له سند في القانون او وجود نص قانوني واضح وصريح، لكن كان للفقه وشراح القانون دور في تعزيز فكرة انعدام الاحكام، الا انه اعتبرها استثناء، والقاعدة العرفية القضائية تجعل من هذا الاتجاه استثناء لا يجوز التوسع فيه.

 ولأهمية ما ورد في الاجتهاد القضائي، ولكثرة استخدام وسيلة اعدام الاحكام القضائية في الفترة الاخيرة، فضلاً عن النص في قرار محكمة التمييز الاتحادية على انها استحدثت مبدأ جديداً، مما دعاها الى عرض الطعن امام الهيئة المدنية الموسعة، كان لابد من قراءة ما ورد في قرار محكمة التمييز الاتحادية، من اجل الاطلاع على ماهية المبدأ الجديد وتحليل أسبابه، لغايات علمية تتعلق بعلم القانون وفن القضاء، وهذا ما اكرره في كل مناسبة قراءة او تعليق على حكم قضائي، حيث لا يستطيع احد ان يفهم القاعدة القانونية فهماً جيداً ولا ان يعرف مدى خطورتها ما لم يتحقق من القرارات والاحكام القضائية التي تصدر بمناسبة تطبيقها، الا من خلال تحليلها وابداء الملاحظة تجاه الفقرة الحكمية واسبابها، وهذا ما أشار اليه الفقيه الفرنسي الكبير هنري كابيتان "Henri Capitant"، الذي يرى بان الواجب الملقى على رجال القانون من الفقهاء يتجلى في مهمة تحليل الاحكام القضائية، ويرى كابيتان بان الفقيه لا يستطيع ان يفخر بمعرفة القانون، الا اذا اكمل وأحيا دراسة النصوص من خلال دراسة احكام القضاء، ويقول ايضاً، بان الدراسات النقدية المستندة الى حكم العقل، تعد قطاعاً جوهرياً من قطاعات التربية القانونية[3]، وانطلاقاً مما تقدم سأعرض لهذه القراءة على وفق الآتي:

أولاً: نص قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 74/الهيئة المدنية الموسعة/2025 في 18/2/2025

تشكلت الهيئة الموسعة المدنية في محكمة التمييز الاتحادية بتاريخ ١٨/2/2025م برئاسة نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية السيد زيدون سعدون بشــــار وعضوية نائبي الرئيس السيدين كاظم عباس وحسن فؤاد والقضاة السادة صباح رومي وحجاب إبراهيم ومحمد عبد علي وعبد الوهاب عبد الرزاق وعصام عبد الحميد ويحيى خضير المأذونين بالقضاء باسم الشعب وأصدرت القرار الآتي:

المميز/المستأنف/المدعي/م، م/المدير المفوض لشركة..... إضافة لوظيفته وكيله المحامي........

المميز عليهما / المستأنف عليهما / المدعى عليهما / ۱ - رئيس مجلس محافظة الانبار/إضافة لوظيفته ۲ - وزير الداخلية/ إضافة لوظيفته

ادعى المدعي أمام محكمة بداءة بغداد الجديدة بأنه سبق له وان استحصل على الإجازة الاستثمارية المرقمة.... في...... الصادرة من هيئة استثمار الانبار لغرض تنفيذ أعمال مشروع مجمع....... السكني على موقع العقار المرقم.... مقاطعة..... والإجازة صدرت باسم شركة المدعي وقد باشر المدعي بأعمــال المشروع وبتاريخ 20/2/2024 قامت قوة عسكرية تابعة الى المدعى عليه الثاني إضافة بغلق باب المؤدي الى المشروع بناء على أوامر صادرة من المدعى عليه الأول إضافة لوظيفته بدون وجه حق مما تسبب بتوقف اعمال المشروع لذا طلب دعوة المدعى عليهما للمرافعة والحكم معارضتهما له في أعمال المشروع وإلزامهما بتسليم ارض المشروع خالية من الشواغل ولغرض الرسم فانه يقدر قيمة الدعوى بمبلغ خمسين مليون دينار عراقي وتحميلهما الرسوم والمصاريف. قرت محكمة بداءة بغداد الجديدة بتاريخ ٢٠٢٤/٤/٢٢ وبعدد ١٤٤٤ / ب / ٢٠٢٤ إحالة الدعوى الى محكمة بداءة الرمادي للنظر فيها حسب الاختصاص المكاني مع الاحتفاظ بالرسم المدفوع. قررت محكمة بداءة الرمادي بتاريخ 28/5/2024 وبعـــدد....../ ب / ٢٠٢٤ إحالة الدعوى الى محكمة بداءة الرمادي المختصة بنظر الدعاوى التجارية. أصدرت محكمة بداءة الرمادي المختصة بنظر الدعاوى التجارية بتاريخ 3/9/2024 وبعدد...../ تجارية/ ۲۰۲٤ حكماً يقضي برد دعوى المدعي إضافة لوظيفته وتحميله الرسوم والمصاريف والأتعاب طعن وكيلا المدعي بالحكم المذكور استئنافاً بلائحتهما المؤرخة في 3/9/2024. أصدرت محكمة استئناف الانبار بتاريخ 22/12/2024 وبعدد.../س/2٠٢٤ حكماً يقضي بتأييد الحكــــم البــــدائي ورد الطعن الاستئنافي وتحميل المستأنف الرسوم والمصاريف والأتعاب طعن وكيل المميز بقرار الحكم المذكور طالبا تدقيقه تمييزاً ونقضه للأسباب الواردة بلائحته المؤرخة في ٩/1/2025 سجلت الدعوى بعدد ٩٢٤/ الهيئة الاستئنافية عقار / ٢٠٢٥ ولغرض التوسع بالنقاش وللوصول الى مبدأ قانوني جديد فقد تم نظر الدعوى من الهيئة الموسعة المدنية.

القــرار/// لـــدى التدقيق والمداولة من قبل الهيئة الموسعة المدنية في محكمة التمييز الاتحادية لوحظ بأن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونيــة قــرر قبوله شكلاً ولدى عطف النظر على الحكم المميز وجد بأنه صحيح وموافق للقانون من حيث النتيجة، لأن المدعي المدير المفوض..... للتجارة والمقاولات العامــــة إضافة لوظيفته قد أقام دعواه أمام محكمة البداءة ضد المدعى عليهما إضافة لوظيفتهما وأوضح بانه قد استحصل على الإجازة الاستثمارية المرقمة.... في...... الصادرة من هيئة استثمار الانبار لغرض تنفيذ أعمال مشروع مجمع....... السكني على موقع العقار المرقم.... مقاطعة..... وقد باشر بأعمال المشروع بتاريخ ٢٠/2/2024 وبناءً على أوامر صادرة من المدعى عليه الأول رئيس مجلس محافظة الانبار إضافة لوظيفته قامت قوة عسكرية تابعة للمدعى عليه الثاني وزير الداخلية إضافة لوظيفته بغلق الباب المؤدي الى موقع المشروع دون مسوغ قانوني وتسبب ذلك بغلق الطريق المؤدي الى موقع المشروع. لذا طلب المدعي دعوة المدعى عليهما للمرافعة وإلزامهم بمنع معارضتهم من تنفيذ المشروع وتسليم الأرض له. وقد أصدرت محكمة بداءة الرمادي المختصة بالدعاوى التجارية حكمها برد دعوى المدعي والذي تم تأييده بموجب الحكم المميز، ولأن الثابت من أوراق الدعوى ومستنداتها بأن شركة المدعي سبق لها وأن استحصلت على الاجازة الاستثمارية المرقمة.... في...... الصادرة من هيئة استثمار الانبار لغرض تنفيذ أعمال مشروع مجمع....... السكني على موقع العقار المرقم.... مقاطعة..... وتنفيذاً لهذه الإجازة الاستثمارية تم إبرام العقد الاستثماري بالعدد /٥٩ في 6/8/2023 بين الطرف الأول/هيئة استثمار الانبار والطرف الثاني المستثمر / شركة...... للتجارة والمقاولات وتضمن العقد التزام الطرف الثاني إنشاء المشروع الاستثماري (مجمع...... السكني بواقع ١٧٤٠ وحدة سكنية أفقية). ولأن هيئة الاستثمار في الانبار قررت إلغاء الإجازة الاستثمارية بتاريخ ٢٠/5/2024 تنفيذاً لقرار مجلس محافظة الانبار المرقم ١٦ في 4/3/2024 وبهذا فليس من حق المدعي المستثمر/ طلب منع معارضة المدعى عليهما في تنفيذ أعمال المشروع لان الإجازة الاستثمارية قد تم إلغائها من الجهة التي منحتها للمدعي ولا يمكن الأخذ بما احتج به المدعي إضافة لوظيفته، بصدور قرار من محكمة القضاء الإداري بالدعوى ٣٤٥٤/ق/٢٠٢٤ في 21/10/2024 والذي قضى بإلغاء القرار الصادر من مجلس محافظة الانبار المرقم ١٦ في 4/3/2024 وتمكين المدعي إضافة لوظيفته من المباشرة بالمشروع الاستثماري، لأن محكمة القضاء الإداري ابتداءً غير مختصة وظيفياً بنظر دعوى إلغاء قرار مجلس المحافظة يتعلق بإلغاء إجازة استثمارية لأن موضوع والغاء الإجازة الاستثمارية يرتبط ارتباطاً مصيرياً مع العقد الاستثماري ولا يمكن تجزئته. 

وبهذا يكون القضاء الإداري المشار إليه سواء تم نقضه أم تصديقه من قبل المحكمة الإدارية العليا، وليس لمحكمة القضاء الإداري التصدي لموضوع نزاع يتعلق بمنح أو إلغاء الإجازة الاستثمارية وما يتعلق بها. ولان دعوى منع المعارضة في تنفيذ المشروع الاستثماري تكون محكمة بداءة موقع العقار او المشروع هي المختص نوعياً ووظيفياً في نظرها والتصدي لموضوعها وليس محكمة البداءة المختصة بالدعاوى التجارية او محكمة القضاء الإداري. ولان المدعي إضافة لوظيفته قد أقام دعواه أمام محكمة البداءة المختصة بالدعاوى التجارية في الرمادي والتي أصدرت حكمها المستأنف برد دعوى المدعي موضوعاً رغم عدم اختصاصها النوعي. ولأنه يتعذر الإحالة لعدم الاختصاص النوعي في المرحلة الاستئنافية وذلك لاختلاف درجات التقاضي مما كان على محكمة استئناف الانبار تأييدها الحكـم بـرد دعوى المدعي من حيث النتيجة لعدم الاختصاص النوعي لمحكمة البداءة المختصة بالدعاوى التجاريــة فـي الرمادي ولأنها أصدرت حكمها بتأييد الحكم البدائي بالرد من الناحية الموضوعية فيكون بما انتهى إليه متفقا وأحكام القانون وتأسيساً على ما تقدم قررت المحكمة تصديق الحكم الاستئنافي المميز من حيث النتيجة ورد عريضة الطعن التمييزي مع تحميل المميز رسم التمييز وصدر القرار بالاتفاق في 18/2/2025

ثانياً: هل محكمة القضاء الإداري مختصة بالنظر في الطعن بقرارات مجلس المحافظة المتعلقة باجازة الاستثمار؟

ان المبدأ الذي قضى به قرار محكمة التمييز محل القراءة انصب على ان (محكمة القضاء الإداري غير مختصة وظيفياً بنظر دعوى إلغاء قرار مجلس المحافظة يتعلق بإلغاء إجازة استثمارية لأن موضوع والغاء الإجازة الاستثمارية يرتبط ارتباطاً مصيرياً مع العقد الاستثماري ولا يمكن تجزئته)، وهذا السبب الذي تبنته محكمة التمييز الاتحادية في اعتبار الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري معدوم. ولمعرفة الاختصاص الوظيفي لمحكمة القضاء الإداري اعرض الآتي:

1. ان محكمة القضاء الإداري أصبحت تختص بالفصل في صحة الاوامر والقرارات الادارية الفردية والتنظيمية التي تصدر عن الموظفين والهيئات في الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والقطاع العام التي لم يعين مرجع للطعن فيها بناءً على طلب من ذي مصلحة معلومة وحالة ممكنة، وعلى وفق احكام المادة (7/رابعاً) من قانون مجلس شورى الدولة (مجلس الدولة) رقم 65 لسنة 1979 المعدل.

2. من خلال النص أعلاه فان القرارات والاوامر الإدارية التي تخضع لها هي التي تصدر من الإدارات الرسمية (الحكومية) فقط وليس من الافراد، وكذلك التي لم يقرر القانون لها طريق للطعن، والتي سكت عنها، وعند العودة الى قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008، نجد ان القانون لم يحدد أي جهة تنظر في صحة القرارات التي يصدرها مجلس المحافظة، باستثناء التي تتعلق بإقالة المحافظة وأعضاء ورئيس المجلس وحل المجلس وعلى وفق ما ورد في المواد (6/ثالثاً)[4] و (7/ثامناً)[5] و (20/ثالثاً)[6]،

3. اما بقية القرارات التي يتخذها مجلس المحافظة لم يرد نص في القانون يبين الجهة التي يطعن لديها بتلك القرارات، وحيث ان أي قرار يصدر فهو غير محصن من الطعن امام القضاء وعلى وفق احكام المادة (100) من الدستور التي جاء فيها (يحظر النص في القوانين على تحصين اي عمل أو قرار اداري من الطعن)، وبما ان مجلس المحافظة هو هيئة رسمية وقراراته ذات صبغة إدارية، فلا يجوز تحصينه، واذا لم يذكر في قانونه او أي قانون اخر على تحديد جهة معينة للطعن فيه، فإننا نعود الى القواعد العامة،

4. حيث ان الأصل بان أي نزاع او طعن يكون خاضع للاختصاص القضائي لمحكمة البداءة بحكم الولاية العامة وعلى وفق احكام المادة (29) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل التي جاء فيها (تسري ولاية المحاكم المدنية على جميع الأشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة وتختص بالفصل في كافة المنازعات إلا ما استثنى بنص خاص).

وحيث ان قانون مجلس شورى الدولة (مجلس الدولة) رقم 65 لسنة 1979 المعدل قد ورد فيه نص خاص وعلى وفق ما ورد في المادة (7) من القانون على منح القضاء الإداري صلاحية الاختصاص النوعي بالنظر في الطعون المتعلقة بصحة القرارات والاوامر الإدارية التي تصدر عن الجهات الرسمية ولم يحدد لها طريق للطعن، فيكون هذا القانون هو القانون الخاص الذي يخرج النظر بصحة القرارات الإدارية من القضاء المدني (محكمة البداءة) وجعله لمحكمة القضاء الإداري، حيث ان العبارة الأخيرة من المادة (29) مرافعات قد أوضحت بان الاختصاص لا ينعقد للمحاكم المدنية في حال وجود نص قانوني خاص وعلى وفق الاتي (إلا ما استثنى بنص خاص)، وبذلك فان الاختصاص منعقد لمحكمة القضاء الإداري في النظر بصحة أي قرارا يصدر عن مجالس المحافظات ولها الاختصاص النوعي القضائي الحصري، وليس لغيرها ان تنظر في ذلك اطلاقاً وعلى وفق النصوص التي تقدم ذكرها.

5. وتعزيزاً لقولنا في أعلاه فان قرار محكمة التمييز الاتحادية محل القراءة قد أكد ذلك، لأنه أشار الى اختصاص محكمة القضاء الإداري بالنظر في صحة مجالس المحافظات، لكنه استثنى القرار الذي يتعلق بإجازة الاستثمار، حيث اعتبرها أصبحت من صميم اختصاص القضاء الاعتيادي لان القرار محل الطعن يرتبط ارتباطاً مصيرياً مع العقد الاستثماري ولا يمكن تجزئته،

6. ومن خلال ما تقدم أرى بان محكمة القضاء الإداري مختصة نوعياً ووظيفياً بالنظر في صحة القرارات التي تصدرها مجالس المحافظات بشكل عام.

ثالثاً: هل قرار منح إجازة الاستثمار جزء من العقد؟

جاء في سبب اعتبار محكمة التمييز الاتحادية قرار محكمة القضاء الإداري معدوماً، بان قرار منح إجازة الاستثمار (اصبح مرتبط مصيرياً مع العقد الاستثماري)، ولابد من الوقوف على ماهية عقد الاستثمار ولو بشكل موجز، فهل هو عقد ذو طبيعة خاصة ام انه من العقود العامة التي تخضع للقواعد العامة لنظرية العقد، وسأعرض له على وفق الاتي:

1. ان عقد الاستثمار هو عقد رضائي بطبيعته، ولا يحتاج الى شكلية معينة، مثلما عليه عقد بيع العقار او المركبات، فأنها تعد باطلة ما لم تسجل لدى دوائر التسجيل العقاري او دوائر المرور، حيث لم يرد في قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 المعدل أي نص يشير الى وجود شرط يتعلق بالشكلية التي تصبح ركناً من اركان العقد وتكون سبباً في صحته، وانما ورد في المادة (10/ثانياً/ب) من قانون الاستثمار نص يشير الى ان عقد الاستثمار هو عقد رضائي ولا يتميز باي ميزة عن غيره في ما يتعلق بشروط الانعقاد وعلى وفق النص الاتي (يتم أبرام عقد المشروع الاستثماري مع الجهة القطاعية المنظمة للنشاط او مع الهيئة مانحة الإجازة على أن يبرم العقد الخاص بالعقار مع الجهة المالكة).

2. ان إجازة الاستثمار هي شرط وليس ركن من اركان العقد، حيث ان المادة (86/2) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل لم تجعل من الشروط ركن للانعقاد وانما اعتبرت العقد منعقد طالما تم الاتفاق على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا ان العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم[7]، كما ان المادة (133/1) من القانون المدني قد اكدت بان العقد يكون صحيحاً وملزما اذا كان مشروع ذاتاً ووصفاً وصادر من اطراف يملكون أهلية التعاقد[8]، وافاض شراح القانون المدني كثيرا بهذا العنوان من العقد وبإمكان القارئ الكريم العودة الى أي مصدر يتعلق بنظرية العقد للاطلاع على المزيد تفصيلاً.

3. لكن قد يكون شرط الحصول على إجازة الاستثمار سبباً لانعقاد عقد الاستثمار، فان هذا الشرط هو سابق على مرحلة التعاقد، حيث ان الاجازة تصدر من هيئة الاستثمار بينما العقد يكون مع الجهة المالكة للعقار محل الاستثمار، وعلى وفق العبارة الأخيرة من المادة (10/ثانياً/ب) من قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 التي جاء فيها (على أن يبرم العقد الخاص بالعقار مع الجهة المالكة ) وبذلك فان اطراف عقد الاستثمار بالنسبة للعقار هم المستثمر والجهة المالكة وليس هيئة الاستثمار، مما يجعلها خارج اطار التعاقد وانها شخص اجنبي عن العقد، ومن ثم فان شرط منح الاجازة لا يعد جزء من العقد او من اركانه التي يتوقف عليها صحة الانعقاد.

4. لكن قد يرى البعض بان العقد هو مرحلة تالية لمرحلة منح الاجازة، وهذا القول سليم جداً، لكن طالما تم العقد ونفذ اصبح لازما وملزما لجميع الأطراف وعلى وفق احكام المادة (146/1) مدني ولا يجوز انحلال هذا العقد الا بالطرق التي رسمها القانون وهي (1- الفسخ 2- الإقالة) حيث يجوز فسخ العقد الملزم للجانبين عن طريق القضاء اذا اخل احد الأطراف بالتزاماته وعلى وفق التفصيل الوارد في المواد (177-180) مدني، ويكون عبر دعوى تقام لدى محكمة البداءة ولا ينحل العقد الا بصدور حكم قضائي بالفسخ، وهو ما يسمى بانحلال العقد قضاءً، او يكون عبر الإقالة، وهي اتفاق طرفي العقد على انهاء العقد برضاهما وعلى وفق احكام المادة (182) من القانون المدني، وبذلك فان ان انحلال العقد بعد انعقاده صحيحاً لا يكون الا عبر هذين الطريقين، او بحكم القانون عندما يصدر قانون يقضي بانحلال عقد بعينه، وليس بشكل عام.

5. في الواقعة محل نظر القضاء في قرار محكمة التمييز الاتحادية، فان الغاء شرط منح الاجازة اذا ما صدر بعد انعقاد العقد فانه لا يرتب أي اثر، الا اذا تم اللجوء الى القضاء لطلب فسخ عقد الاستثمار المبرم بين المستثمر والجهة المالكة، ويكون لطرفي العقد حصراً حق إقامة تلك الدعوى التي يكون نظرها من اختصاص محكمة البداءة وليس من اختصاص القضاء الإداري.

6. لذلك فان القول بان محكمة القضاء الإداري غير مختصة في نظر بصحة قرار منح الاجازة قول فيه وجهة نظر اختلف معها، لان مثلما تم عرضه فان محكمة القضاء الإداري نظرت قرار مجلس المحافظة بحكم اختصاصها الذي اشير اليه انفاً، ولم تتصدى تلك المحكمة الى العقد الاستثماري اطلاقاً، ومن ثم فإنها قد مارست اختصاصها النوعي والوظيفي القضائي، ولم تتعدى صلاحياتها، ومن ثم فان قراراها كان صحيحاً وبموجب اختصاصها القضائي.

الخلاصة: ومما تقدم أرى الاتي:

1. ان قرار محكمة القضاء الإداري كان قد صدر على وفق اختصاصها الذي قرره نص المادة (7/رابعاً) من قانون مجلس شورى الدولة (مجلس الدولة) رقم 65 لسنة 1979 المعدل.

2. ان قرار محكمة القضاء الإداري لم يكن معدوماً لان انعدام الاحكام وكما أوضحت سلفاً عرف قضائي اقره الاجتهاد القضائي وافاض في شرحه فقهاء القانون، ومن اهم شروط اعتبار القرار معدوم ان يكون قد صدر من محكمة غير مختصة نوعياً، وهذا ما لم يثبت، بل على العكس فان محكمة القضاء الإداري كانت هي صاحبة الاختصاص الحصري في النظر بصحة قرار مجلس المحافظة، بمعنى ان المحكمة التي أصدرته لها سلطة قضائية خولها المشرع ولاية حسم المنازعات التي تعرض عليه، بل ان احد الكتاب المصريين (المستشار أنور طلبة) يقول بان المحكمة متى كانت لها الولاية القضائية وصلاحية الفصل في الخصومات، وكان لطرفي الخصومة وجود قانوني، فان الاحكام تكون قد استوفت مقومات وجودها ولو كانت هذه الجهة غير مختصة نوعياً او ولائياً بإصدارها، ولكنها باطلة وليس معدومة[9].

والفرق كبير بين البطلان والانعدام، لان البطلان يجعل من الحكم قائماً وموجوداً لكن فيه خلل ويعالج عبر الطعن فيه لدى جهات الطعن، بينما الحكم المعدوم هو الذي لا وجود له ولا تلحقه الحصانة القضائية، ويشير الدكتور احمد أبو الوفاء تاكيداً لذلك الى ان الحكم الصادر من محكمة غير مختصة نوعياً او مكانيا يتمتع بكامل حجيته، وتسري كافة اثاره، ويجوز الطعن فيه بطرق الطعن المناسب وفي ميعاده، ومتى انقضت مواعيد الطعن اصبح باتاً[10]

3. ان انعدام الاحكام هو عرف قضائي، وليس له نص في القانون يسنده، لذلك تجد القضاء سواء في العراق او في الوطن العربي مازال متغير تجاه كيفية اعدام الحكم، تارة يكون عبر دعوى مستقلة يطلب فيها صاحب المصلحة من محكمة البداءة اعدام حكم معين، وهذا الاتجاه قد اعتمدته محكمة التمييز في تسعينيات القرن الماضي، ثم تغير الاتجاه الى عدم جواز إقامة دعوى وانما يكون عبر طعن يوجه الى جهة الطعن الأعلى، على اعتبار ان الحكم لا وجود له وانما تقرر المحكمة المختصة الكشف عن انعدامه، وفي اتجاه لمحكمة التمييز الاتحادية قد اعتبرت انعدام الاحكام يكون عبر المحكمة التي أصدرته، فهي التي تقرر الكشف عن انعدامه وليس الحكم بإعدامه، وجاء قرارها العدد 229/الهيئة الموسعة المدنية/ 2021 في 16/6/2021 الذي ورد فيه الاتي (لا يجوز قانوناً إقامة الدعوى بطلب الكشف عن انعدام الاحكام القضائية إذ ان ذلك من تختص به المحكمة التي تتصدى لنظر الطعن المقدم امامها بشأنه باعتبارها محكمة تدقيق للأحكام والقرارات) وفي قرار اخر اعتبرت المحكمة التي أصدرته هي المختصة بالكشف عن انعدامه وعلى وفق ما ورد في قرارها العدد 4351- 4179/ الهيئة استئنافية عقار/ 2024 الذي جاء فيه (والكشف عن انعدامه يقع على عاتق المحكمة التي اصدرته أو محكمة اعلى وازاء هذا الواقع لا خيار لمحكمة البداءة الا ان تصدر حكمها باعتبار الحكم المعترض عليه (البدائي) معدوماً والكشف عنه).

والحال ذاته في القضاء المصري حيث يقول المستشار أنور طلبه بان يجوز ان يكون طلب انعدام الحكم بدعوى مستقلة او بدفع يقدم عند نظر دعوى معينة، ويشير الى قرار محكمة النقض المصرية العدد المؤرخ في 14/2/1984 طعن رق44 سنة 46 قضائية[11]

4. وحيث ان انعدام الاحكام هو طريق استثنائي قرره العرف القضائي، فان القاعدة الفقهية والعرفية ايضاً تنص على عدم جواز التوسع فيه، لكن ما عليه واقع الحال نجد ان هذا السبيل العرفي قد توسعت اغلب المحاكم باتباعه، وعلى وجهة الخصوص محكمة التمييز الاتحادية ومن بعدها المحكمة الاتحادية العليا، حيث لم يتم اتباعه في الاحكام التي تصدر من المحاكم التي تخضع لولايتها بل تعدى الى اعتبار قرارات محاكم أخرى مستقلة عنها دستوريا معدومة، وبشكل ملفت للنظر وهذا ما لا يتفق والمنطق القانوني والقضائي، بعدم جواز الوسع في الاستثناء، فضلا عن كونه يمثل نقض لحجية الاحكام التي تصدر من المحاكم التي شكلها القانون ويمثل مخالفة لنص المواد (105 و 106) من قانون الاثبات.

* قاضٍ متقاعد

.....................................................

[1] نص المادة (105) من قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل (للأحكام الصادرة من المحاكم العراقية التي حازت درجة البتات تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق اذا اتحد اطراف الدعوى ولم تتغير صفاتهم وتعلق النزاع بذات الحق محلا وسببا) ونص المادة (106) من قانون الاثبات (لا يجوز قبول دليل ينقض حجية الاحكام الباتة)

[2] نص المادة (94) من الدستور العراقي لسنة 2005 (قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة).

[3] نقلاً عن الدكتور عباس حسن الصراف ـ ترجمة مقدمة كتاب الاحكام الكبرى في القضاء المدني للفقيه الفرنسي هنري كابيتان “Henri Capitant” ـ مقال منشور في مجلة القضاء العدد الثاني في اذار عام 1957 ـ السنة الخامسة عشر ـ ص 214

[4] نص المادة (6/ثالثاً) من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل (عضو المجلس الطعن بقرار إنهاء عضويته لدى محكمة القضاء الإداري خلال (١٥) خمسة عشر يوماً من تاريخ تبلغه به، وتبت المحكمة بالطعـن خلال مدة (٣٠) ثلاثين يوماً من تاريخ استلامها الطعن ويكون قرارها باتاً)

[5] نص المادة (7/ثامناً من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل (للمحافظ إن يطعن بقرار الإقالة لدى محكمة القضاء الإداري خلال (١٥) خمسة عشر يوماً من تاريخ تبلغه به، وتبت المحكمة بالطعـن خلال مدة (٣٠) ثلاثين يوماً من تاريخ استلامها الطعن , وعليه أن يقوم بتصريف أعمال المحافظة خلالها.)

[6] نص المادة (20/ثالثاً) من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل (لثلث اعضاء المجلس المنحل او العضو المقال ان يعترض على قرار الحل امام محكمة القضاء الاداري خلال (١٥) خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره)

[7] نص المادة (86/2) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 المعدل (اذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا ان العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم، واذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فان المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة الموضوع ولأحكام القانون والعرف والعدالة.)

[8] نص المادة (133/1) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل (العقد الصحيح هو العقد المشروع ذاتاً ووصفاً بان يكون صادراً من اهله الى محل قابل لحكمه وله سبب مشروع واوصافه صحيحة سالمة من الخلل.)

[9] للمزيد انظر المستشار أنور طلبة ـ بطلان الاحكام وانعدامها ـ منشورات المكتب الجامعي في الإسكندرية ـ طبعة عامن 2006 ـ ص 594

[10] الدكتور احمد أبو الوفا ـ نظرية الاحكام في قانون المرافعات المدنية ـ منشورات دار المطبوعات الجامعية في الإسكندرية ـ طبعة عام 2007 ـ ص 340

[11] للمزيد انظر المستشار أنور طلبة ـ مرجع سابق ـ ص 612

اضف تعليق