هذا التشكيك هو ليس وليد اليوم ولا يقتصر على بلد ومجتمع دون غيره، فهذا ديدن الجميع وعلى مر العصور وتروي لنا الكتب السماوية والمرويات عن امثلة كثيرة بهذا الصدد، ولان البعض يتمشدق بالديمقراطية التي يبتعد عنها في عمله اليومي، وانه يحتكم الى الدستور، الا ان احتكامه انتقائي...
اعلن مجلس النواب عن جدول اعماله ليوم الاحد الموافق 27/10/2024 وتضمن عدة فقرات منها (التصويت على قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية والثاني تعديل قانون العفو العام)، وما تسرب من اخبار عن وجود صفقة بين الكتل السياسية في تمرير هذين القانونين، فان الأسباب الموجبة لهما المعلنة لنا وليس المستتر المخفي تشير الى انصاف المحكومين او الموقوفين ممن صدرت بحقهم احكام قضائية وهم أبرياء، والفريق الاخر يرى بان احواله الشخصية يجب ان يمارسها هو وعن جهاته الدينية وليس عن طريق القضاء، لان الاحكام النافذة للأحوال الشخصية لم تنصف بعض مؤيدي هذا التشريع.
وعند الوقوف على الدوافع لتشريع هذين القانونين نجد انها تشير الى التطبيق للنصوص النافذة وليس الى أصل التشريع، كما انها تمثل طعنا بصحة الاحكام القضائية التي أصدرها القضاء بمحاكمات أعلن عنها على وفق النصوص النافذة والسلطة التقديرية الممنوحة للقضاة في تطبيق النصوص القانونية وإصدار الاحكام، وهو بمثابة التشكيك بصحة تلك الاحكام.
والجدير بالذكر فان هذا التشكيك هو ليس وليد اليوم ولا يقتصر على بلد ومجتمع دون غيره، فهذا ديدن الجميع وعلى مر العصور وتروي لنا الكتب السماوية والمرويات عن امثلة كثيرة بهذا الصدد، ولان البعض يتمشدق بالديمقراطية التي يبتعد عنها في عمله اليومي، وانه يحتكم الى الدستور، الا ان احتكامه انتقائي، ويضرب مثلا لما عليه الأنظمة الديمقراطية في الغرب، فان هذا المثال التي يحتذى به سواء من يستأنس بأمثلة المرويات التاريخية او الديمقراطية الحديثة، فان تلك المجتمعات ايضاً كانت تشكك في عملية تطبيق القانون وانقل في هذا الصدد الصفحتين (172و 173) من كتاب الفيلسوف والطبيب الفرنسي غوستاف لوبون المولود عام 1841م الموسوم (سيكولوجية الجماهير منشورات دار الساقي طبعة بيروت عام 1991) وعلى وفق الآتي:
(لقد حارب كتاب كبار في الفترة الأخيرة وبشدة وجود هيئة المحلفين، هذا على الرغم من أنها تمثل الحماية الوحيدة ضد الأخطاء التي كثيراً ما ترتكبها زمرة لا رقابة عليها فبعض هؤلاء الكتاب يريدون هيئة محلفين مؤلفة فقط من أعضاء ينتمون إلى الطبقات المستنيرة. ولكننا كنا قد برهنا سابقا على أنه حتى في هذه الحالة فإن الأحكام الصادرة ستكون مماثلة للأحكام الصادرة حالياً.
وهناك كتـاب آخرون يحتجون بالأخطاء التي ترتكبها هيئات المحلفين ويخلصون إلى القول بضرورة إلغائها وإحلال القضاة محلها. ولكن كيف يمكنهم نسيان أن الأخطاء التي يتهمون المحلفين بها مرتكبة أولاً وبشكل دائم من قبل القضاة أنفسهم؟ وذلك لأن المتهم المحول للعدالة، عدالة المحلفين، كان قد اعتبر مذنباً من قبل العديد من القضاة، كقاضي التحقيق، ونائب الجمهورية، ومجلس الاتهام.
ثم ألا يرون أنه إذا ما حوكم نهائياً من قبل القضاة بدلاً من المحلفين فإن المتهم يفقد حظه الوحيد في الاعتراف به كبريء؟ إن اخطاء المحلفين كانت دائماً أخطاء القضاة أولاً. وبالتالي فينبغي لوم هؤلاء الأخيرين عندما نلاحظ وجود أخطاء قضائية فاحشة فعلا كتلك الإدانة التي حصلت للدكتور (س)... فقد لاحقه قاضي التحقيق بطريقة عنيدة وغبية فقط لأن فتاة نصف مجنونة اتهمت الدكتور بأنه قد أجهضها مقابل ثلاثين فرنكاً. وكان سيرسل إلى السجن لولا انفجار الغضب العام الذي ساهم في إصدار العفو عنه مباشرة من قبل رئيس الدولة. إن شرف المتهم وبراءته قد أجمع عليهما كل مواطنيه وأثبتا بالتالي فداحة الخطأ وبما أني أعرف نفسية الزمر ونفسية الفئات الأخرى من الجماهير فإني لا أعرف أي حالة أكون فيها شخصياً متهماً عن خطأ بارتكاب جريمة ما إلا وأفضل أن أحاكم من قبل المحلفين لا من قبل القضاة. فمع الأولين سيكون حظي أكبر من الاعتراف ببراءتي، وسيكون حظي أقل بكثير مع الأخيرين، لنخشى إذن جبروت الجماهير ولكن لنخشى أكثر جبروت بعض الزمر وتحكمها فينا فالبعض قد يمكن إقناعهم وأما الآخرون فلا يحيدون عن موقفهم أبداً).
ويلاحظ ان لوبون يستعرض نظام المحاكمة الجنائية في اوربا التي تعتمد على نظام المحلفين ويقول ان هذا النظام لم يكن بمستوى ثقة الناس الا ان البعض يرى فيه منفذاً لبراءة المتهم افضل مما لوترك الامر للقضاة لان المحلفين يمتازون بالمرونة والاقتناع، اما القضاة فانهم لا يحيد عن آرائهم وان النقابية فيما بينهم تكون اشد من سواها.
وهذا ما يدفع الى معالجة الحالات المستهدفة في تشريع قوانين العفو او الأحوال الشخصية الى معالجة الخلل التنظيمي وليس الموضوعي وان نجد الآليات التي تعزز الثقة بالقانون والأحكام التي تصدر بموجبه، دون الولوج في حالات تتكرر كثيراً.
حيث ان قانون العفو قد صدر لأكثر من مرة خلال العقدين الماضيين ومع ذلك تظهر حالات التشكيك بالأحكام القضائية ومثله قانون الأحوال الشخصية حيث خضع لأكثر من تعديل خلال فترة نفاذه وما زال التشكيك في الاحكام المطبقة له قائمة.
اضف تعليق