الحريات أبداً لن تكون مطلقة وإلا كانت مفسدة مطلقة ففي الوقت الذي أحتفظ فيه بحرية التعبير يحتفظ الغير بالحق في الكرامة وعدم المساس باعتباره، بحجة حرية التعبير عن الرأي لذا أشار الدستور العراقي إلى ان أهم القيود التي ترد على حرية التعبير هي "النظام العام والآداب العامة...
لاشك ان السلطات العامة في البلاد هي المسؤول عن ملف صيانة الحقوق والحريات، وتعد حرية التعبير من أقدس الحريات وأعلاها منزلة حيث ينبغي ان يحترم الحق الفردي بالولوج إلى الشبكة العالمية للأنترنيت للبحث عن المعلومة أو للتعبير عن الرأي، وهو ما نظمه الدستور العراقي في العديد من المواطن، فقد أشارت المادة (37) إلى أن "تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني"، كما تضمنت المادة (38) الإشارة الصريحة لحرية الرأي وبينت أن "تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون"، ولكن بالوقت ذاته نلاحظ الآتي:
1- ان الحريات أبداً لن تكون مطلقة وإلا كانت مفسدة مطلقة ففي الوقت الذي أحتفظ فيه بحرية التعبير يحتفظ الغير بالحق في الكرامة وعدم المساس باعتباره، بحجة حرية التعبير عن الرأي لذا أشار الدستور العراقي إلى ان أهم القيود التي ترد على حرية التعبير هي "النظام العام والآداب العامة".
2- ان حرية التعبير لا تعني الإساءة لقيم المجتمع والاعتبارات المقدسة التي يقوم عليها وتوارثها جيلاً بعد جيل لذا أشار الدستور العراقي في المادة (29) أن من أخص واجبات الدولة الحفاظ على الأسرة بالنص على أنه "الأسرة أساس المجتمع، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية".
فمن مقتضى الواجب على أجهزة الدولة التصدي لأصحاب المحتوى الإعلامي الهابط وغير الهادف، إلا لإفساد الأخلاق العامة والإساءة للذوق العام، كما ان المشرع العراقي عالج ما تقدم منذ وقت مبكر إذ أشار قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل إلى تجريم مثل هذه السلوكيات التي تعد وبحق مقدمة لجرائم أخطر وأشد فتكاً بالمجتمع، حيث أشارت المادة (401) منه إلى "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين من أتى علانية عملا مخلاً بالحياء"، والمادة المتقدمة ظاهرة العلة فحماية الأخلاق والذوق العام مصلحة جديرة بالرعاية التشريعية ويقع واجباً على السلطتين التنفيذية والقضائية التصدي لمثل هذه الأفعال، لاسيما وان خطر ارتكابها على وسائل التواصل الاجتماعي مضاعف بسبب ان جل مرتادي ومستعملي هذه المواقع هم من الفئة الشابة والمراهقين منهم بالخصوص ممن يسهل الإيقاع والتغرير بهم، بل وان جلهم قد ينساق خلف الرغبة بالتقليد فتشيع الظواهر الشاذة ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى الذي يقول في محكم كتابه العزيز "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".
كما ان قانون العقوبات العراقي التفت إلى أمر بغاية بالأهمية طالما تكرر ارتكابه على وسائل التواصل بداعي طلب الشهرة فقد أشارت المادة (403) إلى أن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع، أو استورد، أو صدر، أو حاز، أو أحرز، أو نقل بقصد الاستغلال، أو التوزيع كتابا، أو مطبوعات، أو كتابات أخرى، أو رسوما، أو صورا، أو أفلاما، أو رموزا، أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء، أو الآداب العامة، ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك، أو عرضه على أنظار الجمهور، أو باعه، أو أجره، أو عرضه للبيع، أو الإيجار ولو في غير علانية، وكل من وزعه، أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعتبر ظرفا مشددا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق"، إذ قد يقود ما تقدم البعض إلى احتراف الفسق والفجور حيث أشارت المادة (399) من قانون العقوبات العراقي إلى "يعاقب بالحبس كل من حرض ذكرا، أو أنثى لم يبلغ عمر أحدهما ثماني عشرة سنة كاملة على الفجور، أو اتخاذ الفسق حرفة، أو سهل لهما سبيل ذلك" فكما تقدم منا القول ان الأحداث غير البالغين قد يتأثروا بهذا المحتوى المصطنع وينحرفوا عن جادة الصواب نحو ارتكاب أفعال لا تمت إلى قيم مجتمعنا الإسلامي والعراقي بصلة.
بل ان المشرع ورغبة منه في حماية الأخلاق العامة جرم حتى الجهر في محل عام بقول فاحش وهو ما أشارت إليه المادة (404) من قانون العقوبات بالنص على "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائة دينار كل من جهر بأغان، أو أقوال فاحشة، أو مخلة بالحياء بنفسه، أو بواسطة جهاز آلي وكان ذلك في محل عام"، وتعد وسائل التواصل الاجتماعي من الوسائل التي تحقق العلانية لعدم محدودية من يطلع عليها، فقد تمكنت التكنولوجيا الرقمية من إحداث ثورة في عالم التواصل واختصرت الوقت والجهد وحتى المال في التواصل.
ويعد انتشار الهواتف الذكية والانترنيت بأسعار مناسبة في العراق إلى إقبال غير مسبوق من كافة الشرائح بالولوج في عالم افتراضي وجد البعض من المنحرفون ضالتهم فيه فقاموا بصنع مجد غير مسبوق والتأسيس لإمبراطورية وهمية من المتابعين والمعلقين فتسببوا ولو بشكل غير مباشر بمشاكل اجتماعية وأسهموا في التفكك الأسري في العديد من التطبيقات، بل كانوا سبباً لصراعات اجتماعية وبالنتيجة كان سلوكهم مقدمة لارتكاب فضائع بحق العديد من أفراد المجتمع فبدل ان تكون تلك المنصات بوابة لنشر العلم والفضيلة ولتسامح دأب بعض المدونين على الترويج لسلوكيات غريبة عن المجتمع العراقي وتتعارض مع الآداب العامة فقد أشار الشاعر العربي احمد شوقي إلى ما تقدم بقوله "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، إذ اعتاد هؤلاء على استخدم عبارات أو ملابس أو حركات تحمل إيحاءات جنسية أو غير أخلاقية من شأنها ان تشيع الفاحشة بين الناس بل وتدعو إلى الميوعة وتعاطي المخدرات وما شاكل، ويعد عملهم بمثابة الجريمة المتلبس بها لوضوح الأدلة وعدم القدرة على إنكارها، وقد أشارت محكمة التمييز الاتحادية العراقية في أحد قراراتها إلى اعتبار وسائل التواصل من وسائل العلانية كما أسلفنا ويمثل ذلك ظرفاً مشدداً يوجب تغليظ العقاب على الجاني حيث ورد في حكم المحكمة بتاريخ 29/12/2014 "لدى التدقيق والمداولة وجد إن الطعن التميزي مقدم ضمن المدة القانونية قرر قبوله شكلا ولدى عطف النظر على الحكم المميز وجد انه صحيح وموافق للقانون لان الأدلة المتحصلة في وقائع الدعوى تكفي للإدانة على وفق حكم المادة ( 433) عقوبات والمتمثلة بثبوت قيام المدان بنشر عبارات تشكل قذفا بحق المميزة المشتكية، وذلك بإسناده وقائع معينة لها لو صحت من شانها ان توجب العقاب والتحقير في وسطها المهني والاجتماعي، لذلك قرر تصديق حكم الإدانة، إلا أن العقوبة المفروضة وجد إنها لا تتناسب والفعل المرتكب لان نشر عبارات القذف عبر وسائل الإعلام يعد ظرفاً مشددا على وفق حكم المادة (433/ا) عقوبات والنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) يعد من وسائل الإعلام لأنه متاح للجميع ويصل إلى الجميع ويوفر عنصر العلانية في الفعل وعلى وفق حكم المادة ( 19/3) عقوبات".
وواضح من النصوص المتقدمة واجتهاد القضاء العراقي المساواة بين الجريمة التي ترتكب في الواقع ونظيرتها التي ترتكب في العالم الافتراضي، وبهذا يؤشر لدينا تماهل السلطات العامة ولسنوات طويلة إزاء السلوكيات المتقدمة غير السوية الأمر الذي أثار حفيظة البعض واعتبر ان قيام الجهات التنفيذية والقضائية بمعاقبة البعض من مرتكبي الجرائم المتقدمة مصدر خطر يتهدد حرية التعبير والجواب ان ما قامت به السلطات يقع تحت سلطتها وواجب عليها والتهاون فيه من شأنه الإساءة للمجتمع والانغماس بشكل أكبر في الجريمة التي تهدد نسيج الأسرة والمجتمع العراقي.
أضف لما تقدم ان تحليل السلوك الصادر من هؤلاء يتضمن الأركان الرئيسة لجريمة من الجرائم الخطيرة فركنها المادي يتمثل بارتكاب فعل يخدش الحياء بمعنى يخدش الشعور ومشاعر الأفراد الأسوياء غير الراغبين بالإطلاع على مظاهر أو صور أو كتابات غير مناسبة، وارتكاب الجاني لفعل منافي للقانون بنحو من العلانية يعني قيام مسؤوليته الجزائية، ولا يشترط في مثل هذه الجرائم وقوع ضرر بالمجنى عليه فالضرر مفترض كونها تمس المصلحة الاجتماعية بتهديدها لأسس البناء الأخلاقي للمجتمع، والمصلحة الفردية لمساسها بالشعور، حيث يمكن ان تؤدي هذه الجرائم إلى تقليدها من المراهقين فتتسبب بمخاطر اجتماعية غير محسوبة العواقب، أضف لما تقدم قيام الركن المعنوي عند الجاني الذي ارتكب الفعل الفاضح وهو بمحض حريته واختياره وإدراكه للعواقب بل تعمد ارتكاب الجريمة ما يعني توافر القصد الجرمي حيث انه علم بوقوع النتيجة الجرمية المتمثلة بالإفساد في المجتمع ورحب بها بل لم يعبأ بوقوعها وتحمس لوقوعها على أي حال.
أخيراً نشير لأهمية تضافر دور الأجهزة التنفيذية ممثلة بوزارة الاتصالات ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية لصياغة استراتيجية وقائية، فوقاية الفرد من الوقوع في براثن الجريمة أولى من ملاحقة مرتكبي الجريمة وإنزال العقاب بهم.
اضف تعليق