فالادعاء العام هو حامي الشرعية في الدولة ولابد من تمتعه بالاستقلال التام، وعدم الارتباط بأي سلطة من سلطات الدولة؛ ليمارس دوره بموضوعية وحياد تام، وهذا لا يتحقق مالم يعلن جهاز الادعاء كمؤسسة مستقلة وفك ارتباطه بالسلطة القضائية من حيث التبعية المالية والادارية، على خلاف ما ذهبت اليه المحكمة الاتحادية...
بعد صدور دستور جمهورية العراق لعام 2005، يعد جهاز الادعاء العام قطبا من اقطاب السلطة القضائية الاتحادية، وهذا ما يفهم من صريح نص الدستور، فهو القطب الثاني من اقطاب العدالة، والتي يعد القضاة قطبها الاول، كون عمل جهاز الادعاء العام عمل تكاملي مع عمل القضاء، فهو يراقب المشروعية ويعمل على احترامها وتطبيقها من خلال التزام حكم القانون، وقد يقوم في حالات محدودة مقام قاضي التحقيق وبنص صريح القانون.
وهذا الامر لايقتصر على نوع من الدعاوى دون غيرها، بل ان دوره يتجسد امام المحاكم المدنية أو الادارية او الجزائية، ولكنه اكثر وضوحا وجلاء اما المحاكم الجزائية، سواء كانت محاكم جنح ام جنايات، او محاكم مختصة، سعياً منه في الوصول الى العدالة الجنائية المنشودة من خلال تكامل الادوار والمحافظة على الشرعية القانونية.
وجهاز الادعاء العام هو أحد مكونات السلطة القضائية بنص صريح في المادة (89) من دستور جمهورية العراق لعام (2005) والتي جاء فيها مانصه (تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام....)، وهذا الترتيب جاء على سبيل التعداد لتلك المكونات لتلك السلطة، وهو ما اكدته احكام المحكمة الاتحادية العليا، دون تفاضل لمكون على اخر من خلال اسبقية الورود والذكر في تلك المادة الدستورية، في حين هناك من يرى خلاف ذلك مراعاة للأسبقية في الورود في الصياغة القانونية التي من المفترض ان لاتأتي عبثا بل قصدا.
وهذا ما اكدته المادة الاولى من قانون الادعاء العام النافذ رقم (49) لسنة 2017 بقولها "يؤسس جهاز يسمى جهاز الادعاء العام ويعد من مكونات السلطة القضائية الاتحادية...."
ان ما يقوم به الادعاء العام من دور مهم ومؤثر من اجل حماية نظام الدولة وامنها، والحرص والحفاظ على المصالح العليا للشعب، والحفاظ على اموال الدولة والقطاع العام، واحترام المشروعية واحترام تطبيق القانون، والاسهام مع القضاء والجهات المختصة في الكشف السريع عن الافعال الجرمية، والعمل على سرعة حسم القضايا، والوصول الى العدالة الجنائية المنشودة، يتمثل بما يقوم به من دور مؤثر وفعال في جميع مراحل الدعوى الجزائية وغيرها من أنواع الدعاوى القانونية كالدعاوى المدنية والادارية والانضباطية، يجعلنا نتساءل عن تلك الطبيعة القانونية لهذا الجهاز؟
وفقاً لما ورد في دستور جمهورية العراق فإن جهاز الادعاء العام هو احد مكونات وأجهزة السلطة القضائية الاتحادية، فهو جزء من تلك السلطة، الامر الذي يجعل منه تابعاً وخاضعاً لرئيس هذه السلطة، من حيث التبعية الادارية والفنية والوظيفية، في حين كان حرياً بالمشرع أن يجعل من هذه الجهاز جهازاً مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة القضائية، او احدى مكوناتها- مجلس القضاء الاعلى-، لأن دوره ليس بالدور القضائي الصرف او التام، أي الفصل في النزاعات وإصدار الأحكام بين المتخاصمين، بل دوره رقابي للالتزام بحكم القانون والشرعية القانونية.
فهو كمركز قانوني في الدعوى الجزائية يعد طرفا موضوعيا ومحايدا في الدعوى الجزائية، لا يريد سوى تطبيق حكم القانون، وفقاً لقناعته القانونية التي تكونت لديه من خلال وقائع الدعوى الجزائية وإجراءاتها والأدلة الواردة فيها تحريا وتحقيقا ابتدائيا وقضائيا ومحاكمة، حتى وان جاز الشكوى منه او تنحيه او رده في بعض الحالات.
وتختلف هذه الطبيعة القانونية في بقية التشريعات في عموم دول العالم باختلاف موقف التشريعات من ذلك الجهاز وارتباطه فهو أحد أجهزة السلطة التنفيذية إذا ما كان ارتباطه بوزارة العدل، والتي تعد احدى وزارات السلطة التنفيذية، ورئيسها جزء من الكابينة الوزارية، أو هو جهاز ذو طبيعة مزدوجة إذا ما كان مرتبطاً بوزارة العدل وبالسلطة القضائية وهذا ما كان عليه الحال قبل عام 2003 لدينا في العراق.
في حين تنظر إليه بعض التشريعات كمؤسسة أو جهاز ذو طبيعة خاصة مستقلة، وهذا ما نميل إليه، ونرجحه وندعو اليه، فالادعاء العام هو حامي الشرعية في الدولة ولابد من تمتعه بالاستقلال التام، وعدم الارتباط بأي سلطة من سلطات الدولة؛ ليمارس دوره بموضوعية وحياد تام، وهذا لا يتحقق مالم يعلن جهاز الادعاء كمؤسسة مستقلة وفك ارتباطه بالسلطة القضائية من حيث التبعية المالية والادارية، على خلاف ما ذهبت اليه المحكمة الاتحادية العليا في قرارها بخصوص ذلك، وكذلك الارتباط الوظيفي الفني والعملي وبمختلف اشكاله وتبعاته وعدم تبعيته لاحد مكونات السلطة القضائية –مجلس القضاء الاعلى- وذلك من خلال وجود رئيس للسلطة القضائية من خارج تلك المكونات او الاجهزة وهو ما ندعو اليه ونفضل لدينا في النظام القضائي العراقي.
اضف تعليق