التعليم الخاص والأهلي في العراق لم يبنى على إستراتيجية متكاملة لغرض تحوله إلى ساند حقيقي لنظيره الحكومي وموفر لفرص حقيقية للتعليم وترسيخ المبادئ الديمقراطية بدل من تحوله إلى مشاريع استثمارية بعيدة كل البعد عن الهدف المرسوم للتعليم كحق يضمن الاندماج الحقيقي للفرد مع المجتمع ويمنع استغلال الفرد...
لعل المعنى المعروف للأمية بأنها تعني عدم القدرة على القراءة والكتابة، ومحوها يعني تمكين جميع الأشخاص من القراءة والكتابة، ولكن الواقع ان المفهوم المتقدم قد تغير ليكون شاملاً للقدرة على استخدام اللغات الأجنبية المستخدمة في الطرقات والتطبيقات الإليكترونية والبرامج، أو على الأقل معرفة الأرقام والصور والوسائل والرموز الثقافية الأخرى التي تسهل عملية الفهم والقدرة على التعامل مع الآخر، ومحو الأمية الآن أصبح شاملاً لمحو أمية الحاسوب والإنترنيت أيضاً لتمكين الأفراد من الإطلاع على المعلومات والبيانات التي من شأنها ان تجعلهم مؤثرين في الوسط الذي يعيشون فيه وقادرين على التأثير في الشأن العام، بعبارة أخرى ان المعنى الحقيقي لمحو الأمية هو:
أ- إن التعليم سلسلة متصلة لا تتوقف على المستوى الأساسي أو الابتدائي فحسب كما يفهم بعض السياسيين ويكرسون نصوصاً دستورية تجعل التعليم إلزامي في المرحلة الابتدائية فحسب، بل الواجب أن تكون أجهزة الدولة ووزاراتها القطاعية كوزارة التربية والتعليم هادفة بشكل مستمر إلى تطوير الكفاءة والمهارات الفردية في القراءة والكتابة وقواعد العلوم الأساسية عبر التدريب المتواصل واستحداث المدارس أو المعاهد اللازمة لذلك، وان تأخذ وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة التخطيط دورها الحقيقي في التدريب المهني للجميع لاسيما من العاملين في القطاع الخاص أو لحسابهم الشخصي.
ب- ينبغي تركيز المنظمات لا سيما غير الحكومية والأحزاب وغيرها من الجهات المؤثرة على أهمية ترسيخ مفاهيم تعليمية مستحدثة ومحو عدم معرفة الأفراد بها، ومنها ((آليات التأثير بالسلطات العامة، تكوين الرأي العام، المهارات الإعلامية، التعلم من أجل الديمقراطية والتنمية، تكريس مفهوم المواطنة على المستوى الوطني والعالمي)).
وان الحق في محو الأمية هو جزء لا يتجزأ من الحق في التعليم، ومدخل لابد منه لضمان الحصول على بقية الحقوق والحريات لا سيما الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية، بل يعد التعلم الوسيلة المثلى للتدريب والتنشئة الاجتماعية للفرد ليكون فرداً نافعاً ومؤثراً في مجتمعه وأسرته ومحل عمله، وعلى العكس سيكون الفرد غير المتعلم عرضة للضغوط والتأثر بالإشاعات والخرافات وأكثر تعرضاً للخداع بدءً من المستوى السياسي ووصولاً إلى المستوى الثقافي، لهذا كرس المشرع الدستوري العراقي الحق في التعليم بالمادة (34) والتي تضمنت ان "التعليم عامل أساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة محو الأمية" وبالفعل صدر قانون محو الأمية في العراق رقم (23) لسنة 2011 إلا أنه لم يحقق الآمال العريضة التي كانت تبنى عليه بغية القضاء على الأمية الثقافية وليس فقط الأمية المتعلقة بالقراءة والكتابة، فلمحو الأمية العديد من الفوائد منها على سبيل المثال:
1- انه يمكن المجتمع والدولة من تحقيق التنمية البشرية الشاملة بشكل حقيقي.
2- أن التعلم يلعب دوراً حاسماً في صون كرامة الإنسان المتأصلة في كيانه.
3- للتعلم لاسيما الجيد أهمية في تحقيق غاية المساواة بين المواطنين على الصعيد التعليمي، ووسيلة للوصول للتدريب على المطالبة بالمساواة التامة على جميع الأصعدة ووسيلة لابد منها لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
4- يوفر التعليم فرصة للنهوض بواقع النساء لاسيما في بعض المدن والقرى التي لا تزال تتأثر أوضاعهن بالعادات والأعراف القبلية التي تحد بقدر كبير من مساواتهن مع نظيرهن الرجل في شتى مناحي الحياة.
ولقد أحدث التقدم التقني والتكنولوجي الحديث تحولات أدت لنشوء حاجة حقيقية إلى محو الأمية في ميدان الاتصالات والإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي التي أصبحت جزء من بيئة العمل على أقل تقدير في مجال التسويق واجتذاب الزبائن، وبات من اللازم الإلمام بأساسيات لغات البرمجة وامتلاك الحد الأدنى من المعرفة بهذا المجال، فيبرز إلى الواجهة تساؤل عن دور وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وضرورة إيجاد مراكز تدريبية في كل المحافظات والأقضية والنواحي لتمكين الشباب.
وفي سياق الأزمة العالمية الناشئة عن تفشي وباء كورونا أغلقت أغلب المدارس والجامعات أبوابها واتجهت إلى التعليم الإليكتروني ما انعكس سلباً على كبار السن ممن انخرط في محو أمية القراءة والكتابة بسبب عدم اعتيادهم على استخدام تقنيات متطورة توفرها الهواتف الذكية والحواسيب كما كشفت الأزمة الفجوة الكبيرة بين الوعود السياسية التي تتغنى بالحقوق والحريات والواقع المرير الذي يشهد على غياب أبسط مقومات التعلم عن بعد في سياق الاستجابة لخطط الإغلاق.
أضف لما تقدم ان الأمية قد تتسبب بفقدان العديد من الأشخاص لحياتهم بسبب الجائحة لجهلهم بطرق الوقاية أو العلاج ولعل السبب فيما تقدم هو عدم استفادتهم من المعلومات التي تتيحها تكنلوجيا المعلومات، وفي السياق ذاته توقفت أغلب الأنشطة والممارسات الديمقراطية في العراق بسبب الجائحة حيث تأثرت حركات الاحتجاج واقتصرت على الاليكترونية منها إلى حد كبير، وتأخرت الكثير من الاستحقاقات الانتخابية ومنها الانتخابات المبكرة، والتي تعد ثقافة لا يزال العديد من أفراد الشعب يجهلها لذا أقتضى محو أميتها.
يضاف إلى ما تقدم ان الوضع الأمني غير المستقر في العراق يعد سبباً أخر لتفشي الأمية بسبب اضطرار العديد من الأسر إلى الهجرة بعيداً عن موطنها الأصلي طلباً للأمن ما اضطرهم إلى عدم إرسال الأطفال لاسيما من الإناث إلى المدارس لمواصلة تعليمهم وبالخصوص ان علمنا ان البعض من الأقليات تحرص على تعليم أولادهم باللغة الأصلية التي تختلف عن اللغة الرسمية للدولة حيث تعد كل من العربية والكردية لغة رسمية بموجب المادة (4) من الدستور في حين يمكن للأقليات استنادا للمادة (4) "أولاً: اللغة العربية والكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق العراقيين بتعليم أبناءهم باللغة الأم كالتركمانية والسريانية والأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية وفقاً للضوابط التربوية، أو بأية لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة.، رابعاً: اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية...".
أضف إلى ما تقدم ان التعليم الخاص والأهلي في العراق لم يبنى على إستراتيجية متكاملة لغرض تحوله إلى ساند حقيقي لنظيره الحكومي وموفر لفرص حقيقية للتعليم وترسيخ المبادئ الديمقراطية بدل من تحوله إلى مشاريع استثمارية بعيدة كل البعد عن الهدف المرسوم للتعليم كحق يضمن الاندماج الحقيقي للفرد مع المجتمع ويمنع استغلال الفرد من قبل بعض الأحزاب المتحكمة بالسلطة عبر بث بعض الأفكار التي تداعب مشاعر الفرد البسيط قومياً أو دينياً أو طائفياً فيتأثر بها وينساق ورائها وتتحدد خياراته السياسية في ضوئها في الوقت الذي لا تؤثر هذه الأساليب بالمثقف الواعي الذي تسلح بالعلم للخروج من حومة الجهل والتبعية في التفكير.
لذا نحن نحتاج إلى بناء مشروع وطني عنوانه التعلم لترسيخ المبدأ الديمقراطي من خلال ما يلي:
1- تضمين مناهج الدراسة على المستويات كافة موضوعات حقوق الإنسان والديمقراطية بشرح أهم مصادرها وتطبيقاتها على ان تتلاءم مع المستوى العمري والثقافي للفرد المستهدف.
2- أن يكون الغاية من الزج بموضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان في المناهج التعلم عن طريق التدريب والتنشئة وليس التلقين، بتشجيع الطلبة على حسن الاختيار القائم على تحكيم المعايير الموضوعية بعيداً عن الأسباب والبواعث الشخصية.
3- مبادرة منظمات المجتمع المدني بالتأسيس لدور ومعاهد تدريبية ترسخ ثقافة حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية في المستوى الاجتماعي الأول "الأسرة" بزج النساء لا سيما المتزوجات بدورات تثقيفية أساسية تزود المشتركات بالتعليم اللازم لقيام المرأة بدورها المنشود في تنشئة جيل جديد يؤمن بالديمقراطية كمنهج حياة.
4- العمل على تغيير أنماط التفكير التقليدية في إن الديمقراطية هي حكم الأغلبية أو ما شاكل من الأفكار التي يستغلها بعض الأفراد النمطيين للإساءة لهذه المفاهيم بالتأكيد على ان الديمقراطية ليست قالباً أساسياً أو جاهزاً، بل هي مفاهيم اقتصادية واجتماعية وثقافية تشمل كل نواحي الحياة فهي مبادئ تؤسس لحياة كريمة فحسب وكل تطبيق لا يتفق مع ما تقدم فهو بعيد عن المبدأ الديمقراطي.
5- دعم وإسناد المعلمين مادياً ومعنوياً وإنهاء الحالة الشاذة المسماة بـ"المحاضرين المجانيين" للمساهمة في بناء جيل يؤمن بان التعليم هو الباب المؤدي إلى مجتمع صالح وديمقراطي يضمن العيش الكريم للمتعلمين.
6- أهمية دعم حرية التعبير بكل تجلياتها وصورها لما لها من دور حاسم في تنشئة جيل قادر على التأثير بالمجتمع والإسهام في اتخاذ القرارات العامة أو مساءلة صانعي القرار العام، وبالتالي الوصول إلى المواطنة الصالحة التي تتمثل في التأثير الإيجابي في الحياة العامة.
اضف تعليق